الأربعاء، 30 نوفمبر 2016

قصة قصيرة- عادل كامل

 قصة قصيرة


بانتظار من يعيد القراءة

[ يا لها من سخرية...، أنا أتحدث إلى أصم، وهو يعرف إنني أعمى، فأقول له: مادمت تعرف إنني اعرف انك لا تسمع، وأنا اعرف إنني لا أراك...، فما ـ هي ـ الحكمة ـ من هذا التواصل....؟ ]


عادل كامل
     لم يخطر بباله أن يتوقف عن الكتابة، مع انه لم يحولها إلى وظيفة، ليجني منها ربحا ً، فلم ينقطع عن مراسلة كل من عرفهم، وزاملهم، واشتغل معهم، طوال عقود، قبل أن يجد نفسه وحيدا ً، وقبل أن تصبح عزلته تامة.
     بيد أن أحدا ً .. لم يرد، ولم يصله جواب يؤكد وصول رسائله أو عدم وصولها. فراح يخترع الأعذار، غير مكترث للأمر...، بسبب أخطاء البريد، أو عدم دقة العناوين، أو بسبب الخدمات...، أو لأخطاء ارتكبها بسبب معرفته المحدودة باستخدام الحاسوب....، الأمر الذي لم يمنعه من الانشغال بالمراسلة، حتى بعدم وجود أعذار تبرر عدم الرد، تناسب تصوراته عن نفسه، وتقدير ما كان يكنه من مشاعر حرص أن تكون مرآة لحياة كان يراها تغيب.
   ولم يفكر ـ للحظة ـ أن يكونوا جميعا ً منشغلين بحياتهم حد استحالة توفر لحظات للرد...، رغم ـ دار بخلده ـ مشاق الحياة في المنافي، وما تتركه من اثر في حياتهم الجديدة...، للإجابة على رسائله، حيث لم يكن يطلب أكثر من الاطمئنان، وردم المسافات التي راحت تأخذ بالاتساع...، أسئلة لا تذهب ابعد من السؤال عن الصحة، وما آلت إليه مصائرهم، بعد المغادرة...، فثمة ما يشبه الأطياف طالما مكثت ترفرف لم تدعه إلى محوهم من ذاكرته، رغم إنها لم تعد تعمل إلا بالومضات، عبر لحظات كان يتوهج فيها، فلا يمتلك إلا أن يدع خياله يرمم ما آلت إليه الصدمات.فالحياة كتاب حتى لو محوت كلماته فانه يجد ما لا يحصى من الوسائل كي ينبثق من الظلمات. مرددا ً: حتى الظلمات ذاتها تصبح عاملا ً لمقاومة الغياب، والنسيان.
    وعاد إلى التأويل، في محاولة للعثور على احتمال يماثل ما يعانيه ، هو ـ من علاقات هشة مع من عرفهم، من الأهل، والجيران، أو مع الأصدقاء القدماء، في مدينته، من الخوف أو الحذر أو من مشاغل الحياة المختلفة.
   ولم يسمح لنفسه أن يتخيل إنهم أصبحوا عظماء...، فمن يكون هو...، بعد أن تشبث ـ هو ـ بالبقاء في داره، والقناعة بالراتب التقاعدي الشحيح، والرضا بالقليل، بعد التكيف داخل غرفة شيدها في مطلع حياته، بوصفها مثواه الأخير.  مكررا كلمات جار له هُجّر من بيته عنوة وهو يقول بصوت عميق الحزن: أليست البيوت تشيد كي ندفن فيها! فيبتسم ليخبره: هكذا اختفت أعظم المدن، بسكانها. فيرد الآخر: والآن لا بيت نموت فيه، ولا موتى يسكنون البيوت.

   أتراهم أصبحوا عظماء...، أو فوق العظمة...، حتى لم يعد لديهم الوقت للرد على سؤال يتعلق بما آلت إليه مصائرهم، في المنافي، بعد لوعة الشتات، والتشرد، والبحث عن مكان لا يطردهم، ولا يستلب منهم أحلامهم. لم يدع الشك يساوره بسبب العظمة، فربما إنهم تعرضوا لمتاعب السفر، أو للأمراض التي تسببها الغربة، أو بسبب إنذارات الشيخوخة، وما تسببه الوحدة، أو بسب الهرم، والخرف....، بالرغم من انه اكبر سنا ً منهم، أو يقاربهم بالعمر...، ورغم المتاعب التي كادت تقعده، إلا انه طالما وجد نافذة يطل منها على فضاءات ممتدة حتى لو كانت تأخذه إلى المجهول. فلم يدع الوهن يذهب ابعد من مشاعر يجد ألف عقار لمعالجتها والقناعة بان الدنيا كتاب حتى لو لم يكتب فان كلماته شبيهة بالشهب والكواكب والذرات والمجرات تعمل وفق خطة غير قابلة إلا لاستكمال برنامجها الذي وضعت من اجله. فمن يكون هو كي يخترع أوهاما ً لأسباب غايتها مغايرة لأهدافها، وحكمتها.
   فعاد يكتب...، على أمل للحصول على جواب، فهو لم يطلب منهم مساعدة، أو حتى دعوة للسفر، أو ما يستدعي عدم الرد. فحتى لو كانوا حصلوا على ما كانوا فقدوه، في مدينتهم، وصاروا أسماء لامعة، ولها شهرتها، فان ردا ً لا يستغرق إلا بضع لحظات، لا يعد صعبا ً، أو مستحيلا ً...، فهل بالإمكان محو تضاريس المكان، وأزمنته، وشخصياته، لأي سبب من الأسباب، بيسر، ومن غير استئناف، أو مراجعة...، مادامت الحياة سلسلة مترابطة من الممرات، والجسور...، من العلاقات والمودات، من المصالح والذكريات....؟
   قرب بصره من الشاشة لقراءة ما لفت نظره: خربشات...؛ حروف وأرقام وعلامات وجدها لا تعني شيئا ً، ربما تكون رسالته الأخيرة وصلت إلى عنوان آخر..، كلا...، فالأرقام والإشارات والفواصل تخص إدارة الشبكة، فأهملها. كانت الرسائل، في الماضي غير البعيد، تصل عبر البريد، ويوصلها الساعي، ساعي البريد، إلى باب البيت...، بعد أسابيع، أشهر، وسنوات قليلة، الآن، لا تصل الرسائل أبدا ً. قال لنفسه: اقصد: تصل حتى قبل إرسالها!
   ترك رأسه يميل إلى الأمام، شاعرا ً برغبة للعودة إلى النوم، أو لتناول الفطور...، محدقا ً في الخربشات التي بدت له شبيهة بمعادلة فلكية، رياضية، كيميائية، بل بدت له وكأنها كتبت بلغة مندرسة تتطلب قراءتها خبرة خاصة...
ـ آ ....،  ما معنى هذا أيها الموقر...، الم تتندر من هؤلاء الذين انشغلوا بالحصول على مكان بجوار الرب! لكنك قلت: ما شأني بهم...، فقد وجدوا الحياة ممرا ً لنهاية تتوازن فيها الاحتمالات. أما أنت ....، فاعترفت بان المشكلة لا علاقة لها بالمعرفة، ولا بالفلسفة، وحسمت الأمر باختيارك لقراءات تضاعف رغبتك بالنوم، وإلا سينفجر رأسك، لأن مشكلات العالم باتت خارج نطاق حدود عمل العقل....، ثم أن كل ما أنجزته لا يساوي إلا ما كنت تراه يذهب ابعد من حضوره الوجيز، حتى انك نفسك كنت تندهش برؤية أمر مرة ثانية، وكنت حسبته توارى خارج نطاق رقابتك. فما الذي بإمكانك أن تفعله، وأنت شاهدت سلاسل الإبادات، والفوضى...، وقلت ما هي إلا غيمة صيف...، وليست خطة محكمة تمضي نحو خاتمتها. أنت ـ وهم ـ على مدى عقود، أهملكم الموت، وفلتم من أقسى المصادفات قسوة، حتى إنكم كنتم تقولون: كأننا وجدنا وسيلة لمراضاته، وإخماد أنفاسه، حتى لحين.
   رفع رأسه قليلا ً ليتابع تلاصق الأرقام بالحروف عبر جداول وخطوط يجهل معناها. وسره إنها أحالته إلى سنواته الأولى، عندما رغب أن يتخصص في حقل نادر...، إنما اكتشف انه أوغل في متاهات اللغات القديمة، بطلسماتها، ومخفياتها، وأسرارها، فاستبدل مشروعه بدراسة الجسد...، والبحث عن نشأته، ومكوناته، ومراحل عبوره من سواحل العفن إلى المغارات، ومن الكهوف إلى القرى، ومنها إلى المدن العملاقة...، إنما صدم برائحة الجثث...، رائحة الموتى...، فقد فقد وعيه عند أول مشاهدة للجسد موزعا ً فوق طاولات التشريح، الأصابع منفصلة عن البدن، والرؤوس بدت له محنطة، والثقوب تقلصت، شاحبة، بدت كأنها صنعت على عجل...، شاهد الجسد كما لم يره من قبل، تحول إلى خردة...، كأنه تعرض لانفجار أو للغم، أو لعبوة ناسفة...، ليمكث سنوات يهرب من الرائحة، لكنه كان يجدها أكثر حدة، كلما لامس جسدا ً آخر، حتى كاد يصاب بفوبيا الموتى...
ـ عزيزي....
  وفشل بإضافة كلمة...، فقد أفزعته رائحة الليل، كأنها تنبعث من قبو، أو من مدفن، مصغيا ً بلامبالاة لدوي أصوات تأتيه رتيبة، ممتزجة باستحالة العثور على كلمة يكمل ما كان يدور برأسه.
     شعر بجسده يتقلص، إنما كان بصره يتجول عبر مساحات لمح إنها تفقد حدتها: مدن تتحول إلى بؤر، بحار تصير كأنها قطرات ماء، فيما بدت الصحارى له مثل أوراق متناثرة...، جميعها تتداخل لتبدو بيضاء.
    لا معنى للحديث عن ما إذا كان هذا شغلهم، ودار برؤوسهم، حتى للحظة، فلم يتطرق إلى الأيام التي انهمك فيها بقراءة كل ما تناول موضوعات الهجرات، والشتات، وتفكيك العالم، واللوعة المبرمجة التي غايتها الترويض...، فهي قديمة قدم نشوء جراثيم الخلق البكر...، وجدت كي تتفرق، وتتوزع على بحار، ووديان، وسهول الدنيا، من غير شروط، محكومة بالبحث عن إقامة مستعمرات تقاوم عوامل زوالها...، فلم يجد مسوغا ً بإثارة اختلافات تؤكد عدم وجود قاعدة مشتركة جمعتهم على مدى سنوات، وحتى أحلامهم فإنها جزء من غيوم عابرة إلى البعيد. حروب ومصالحات وسفك دماء استعدادا ً لإقامة الأعياد. لا مسوغ لإثارة مثل هذه الأفكار، فقد كانت مقدماته تمتلك قوة قهر نهاياته، لعقول لا تمتلك أكثر من تتبع ظلالها.
    فهو لم يتطرق إلى كل ما قد يسبب غصة، وحرجا ً، وألما ً غدا مألوفا ً، فالإنسان وحده يمتلك ما لا نهاية لتحمل أقسى الأوزار، والخطايا. كما لم يجد سببا ً للحديث عن عاداته، وحياته الشخصية. فهو كان يود التعرف على ما كان مشتركا ً: صبوات حارة وتوهجات تكمل منطلقاتها البريئة، والانشغال بما كان يثير دهشتهم، جمال الفجر، والسفر عبر البحار، والتحرر من عادات البكاء على ما سيزول، والانشغال بالعثور على عوالم يتم استحداثها بالصبر، والأناة، والمغامرة. هل تراهم تخلوا عن تذكر انشغالاتهم بالبحث عن المدن المستحيلة، الراقدة تحت في أعماق الأرض، أو عن المدن السماوية، في المجرات الأخرى...، والعمل على تأسيس مدن فاضلة خالية من الشر ومن الأشرار....؟ هل تراهم اغفلوا تذكر المجاعات التي كانت تضرب مدينتهم، حد انه تذكر حكاية البنت التي كانت تعلن مبتهجة عن موت شقيقتها، كي تصبح وليمة، أم لم يعد يعنيهم أمر الحروب الأهلية، بين الطوائف، لأسباب مكثت تتكرر، عبر القرون، من غير تأويل أو تفسير واضح...؟ ولم يعد يمر بخاطرهم ما كان يفعله الغزاة، لأنهم، تركوا الماضي ينسحب بعيدا ً عن عالمهم وهو يستكمل برمجته العنيدة...؟ لقد كان منشغلا ً بأمور، وتفصيلات، مغايرة، هي الأخرى، كانت لا تجد من يدعمها، ويعيد قراءتها، كي تكون للمقارنة فائدة ما تذكر.
    لم يخبرهم بتحول الزقاق الذي عاشوا فيه عقودا ً من الزمن، قد تحول إلى ما يمثل بقايا عروض مسرحية لم يبق منها  أكثر من أصداء، ومن هياكل احتلتها الأسر النازحة، المهجرة، السائبة، أو الباحثة عن مأوى يحميها من البرد، ولهب تموز وآب...، فالحديث عن العاطفة يجعل العقل معطلا ً، هذا إذا كان باستطاعته مقاومة وهنه.
ـ فمن الصعب تخيّل إن الحالمين أفاقوا حقا ً للتخلي عن أحلامهم، بعد أن كادت المدينة أن تصبح نسيا ً منسيا. نافيا ً هذا الاحتمال...، حتى لو كانت العاصفة عملت ببرمجتها على جعل الخراب العام حقيقة مدونة وذاهبة نحو نهايتها، إنما ود لو اخبرهم بأنه لم يعد يعرف أين اختفت الشوارع، وعلاماتها، ولكنه لم يكن ليسمح لنفسه بالإسراف....، فالعاطفة لم تعد إلا ولعل تلاميذ لم تصقلهم المدينة بعد..، تلاميذ جاءوا من القرى لكنهم أبدا ً لم يصلوا إليها.
ـ فقد كان كل منا يقول للآخر: أنا آخر من يهاجر، آخر من يفر، وآخر من يبحث عن ملاذ امن له في هذه الدنيا وقد اجتاحها الخراب، والجذام، والفوضى.
   إنما لم يبق من الزقاق، ولا من الشوارع المجاورة، ولا من المدينة، إلا هياكلها، وأشباحها، فحتى واجهات البيوت، والأبواب، والنوافذ تبدلت، وأصبحت الأزقة مكتظة بآخرين، من الصعب معرفة هوياتهم، أو إقامة علاقات معهم...
    حدق في الشاشة: بيضاء. فترك رأسه يبتعد، يتمايل، بحثا ً عن: اثر. كانت بيضاء  وخالية من الخربشات أيضا ً.
   ثم استدرج نفسه لاستعادة قواه. لكنه لم يعد يتذكر انه تطرق للحديث عن الآمال، والصبوات التي كادت تجعل منهم زمرة متجانسة موحدة غير قابلة للتفكيك، والتشتت، بل حدثهم عن أحلام مسبوقة بأشواق آلت إلى نهاياتها، بالمرور، والغفلة، واللامبالاة، مثلما بالصدمات أو بالصمت، موضحا ً أن المشترك بينه وبينهم لا يكمن في تحوله إلى أطياف أو إلى كوابيس، بل إلى ما يماثل خطة وضعت بإحكام لا معنى للاستئناف فيها، كي تصبح خاتمتها أخيرا ً مغايرة لمقدماتها. على انه محا كل إشارة إلى ما يخص الأسباب، إن كانت مستترة أو ظاهرة، ذات صلة بالأرواح الملائكية أو بالأرواح الشريرة، بالمعصية أو بالاجتهاد، فقد عاد ليوضح بأنه لا يتحدث عن آفاق ما غدا الحديث عنها مستحيلا ً، وإنها عمليا ً صعبة المنال، ومن العبث ألتوق لانجازها، بالوضوح ذاته لم يدع نغمة الندم تختلط بمشاعره الوديعة...، فالقضية لا تعدو أن تكون أكثر من سؤال لا يتضمن قط البحث عن جواب عليه، ولا عن استئنافه، بل عن محاولة عفوية لردم فراغات جولتنا إلى شظايا...، والى ذرات آخذة بالانقسام إلى ما لانهاية.
   عاد وترك أصابعه تضرب على الحروف ببصر غائب، فلمح عبارات تكمل لا معناها، وكأن بصره توحد بالحروف، وانه لم يعد ليفكر باستئناف حياة لا وجود لها، قدر انه ترك حياته تتخذ أشكالا ً تكمل بعضها البعض الآخر....، لكن لم يحصل على الذروة فحسب، بل على العزلة ذاتها وقد منحته الشعور بالفراغ المشغول بالفراغات...، ووجد صعوبة برسم ابتسامة أصبحت مستعصية، نادرة، وتساءل: ربما كانوا بلا استثناء جميعهم على صواب!  وحوّم في الفراغ الذي رآه يمتد بعيدا ًعن جدران غرفته. ربما واجهوا في سفرهم ويلات البحر ومحن العبور...، أما أنا فحرصت أن لا أغادر المساحة ذاتها وقد صارت تكفي لحماية جسدي من التحلل، والاندثار.
   بالأحرى شعر باللامبالاة التي راحت تنقر وتطن داخل رأسه: ربما يكون هذا كله شيد على الوهم، فلا أنا جزء منهم، ولا هم كانوا أجزاء تكمل وعدا ً ما...، هم وجدوا فرصة اغتنموها عنوة أو لأي سبب من الأسباب وأنا وجدتها فرصة للغوص في ارض الظلمات.
   أحس انه بلغ النهايات الحرجة: من منا كان ...، السبب، ومن منا عمل على ترك النهايات تذهب ابعد من حدودها؟
   ولكنه لم يسأل أيا منهم هذا السؤال، ولم يخطر بفكره أن يذكرهم إن كانوا امنوا بالخرافات، أم بالعلم...، لم يذكرهم بما كاد يذهب ابعد من الموت...، بل طالما تحدث عن أمل بالسؤال عن أحوالهم، وما يمنح مصائرهم ثمن السكن في المنافي...، هل وجدوا ما يخمد براكين القلب، وزلازل الرأس، ويمهد لحياة مغايرة، بدل التآكل بجداول المنسين، والغائبين...، أنا أيضا ً لم أقع في الأسر، ولم اجرح جرحا ً يخمد الأنفاس، ولكني لم احصل إلا على ما افقدني أية رغبة بالذهاب ابعد من تأمل ما يجري في المجهول. لقد تركت جسدي يرقد بجوار الحائط، ورأسي يواصل هجرته، ما بين الكواكب والنجوم. فلا انتم كنتم تختلفون معي، وعني، ولا أنا كنت اختلفت معكم، وعنكم...، انتم نجوتم من  سنوات المذابح العشوائية، وفق الخطة العليا،  وأنا نجوت أيضا ً لأسباب اجهلها...، فلا أنا اعرف متى غادر كل منكم...، ولا حتى كلف نفسه بوداعي...، لكن هذا لم يشغلني  طالما أنا أيضا ً كنت احتمي بالشرود...، حتى أحيانا ً كنت أستحيل إلى نبات.
   هل حقا ً جميعا ً أسهمنا بترك سفينتنا تغرق...، أم كنا لا نعمل إلا على إغراقها، بإصرار، من غير تردد، بل وبلا حزن، أو ندم؟
     شرد ذهنه تماما ً: فالكل لم يعد يجد شيئا ً ما مشتركا ً...، عدا هذا الفراغ راح يعزلنا عزلا ً حتى لا وقت للاستعادة، أو الاستئناف. فقد صار كل منا لا يريد أن يعرف ماذا جرى، وماذا حصل ...، وكأن القصة وضعت خاتمتها قبل أن تكون لها مثل هذه الفواصل، والشوارد، والعثرات...
 ـ فانتم نجوتم من الحروب، ومن المفترسات...، من الملاحقات، والنبش في مخفيات أعمالكم...، وأنا أمل ذلك ...، إنما كان مفهوم النجاة ـ رفع صوته يخاطب لا احد ـ ذاته قد تجنبناه، واخترنا، عن طيب خاطر، ما وحدنا، أو اعتقدنا انه كان يجمعنا، في سنوات الغيلان.
   لا احد يرد.
   كم كان بوده لو جلس تحت شجرة السد، وتأمل أمواج دجلة عند الغروب...، منذ متى لم يفعل ذلك، ولم يذهب إلى النهر؟ تذكر انه كم ود لو دفن تحت تلك الشجرة، بعد أن يغسل بالماء، ليرقد كأنه لم يخلق ولم ير ما رآه.
  ليجد انه أضاع ساعات أمضاها يحدق قي البياض، شاشة بلا ملامح، تشع عتمة زئبقية، فأفاق بلا شعور: كنت أرى جثماني يتعفن، تنهشه الضواري...، في الزقاق، بجوار آخرين تركوا في العراء...، يتعفنون...
أفاق: لو لم أكن فطنا ً في تلك اللحظة لكانت تلك الكلاب افترستني... ما أشرسها، حتى إنها اعتادت علينا.
    ثم عاد يتنفس بلورات راءها تتطاير  مشبعة برائحة غبار، وبرائحة ورود قديمة، أما رائحة المدينة فقد امتزجت برنين رتيب كاد يفجر رأسه.
   مستبعدا ً لحظات رأى فيها جسده تحول إلى نبات، إلى أوراق، والى أغصان، بقايا شجرة اقتلعت لتصبح حطبا ً...، مستعيدا ً غفوة لم تدم إلا ليرى  جسده تنهشه الأنياب،  أنياب القطط، وربما تسللت بعض ضواري الصحراء ودخلت إلى المدينة...، فالكلاب لم تعد تحرس قطيعها.
   غابت شاشة الحاسوب: لا رسائل، لا ردود، فالبريد صفر. متخيلا ً ـ لبرهة ـ طالما كان يتجنب التصادم، طالما اخترع مجالات تمنحه الشعور بالدعة، والسلام، إلا أن تصوّراته غالبا ً ما كان يراها تذوي...، وتتلاشى، لينبثق على نحو شبيه بانفجار مكظوم، أو بركان، صدمات غير متوقعة، فيستعيد إرادة ظنها خمدت، قوة ما أربكت وهنه، ومنحته قناعة مغايرة للخذلان.
ـ فانا أكاد أدرك أن شيئا ً ما آخر لم يعد له حضوره، يعمل من غير فاعل.
   إنما لم يعد يرى الكلمات، ولا الفواصل، وكأن رسائله لم تصبح إلا تعويضا ً لا ينتج أكثر من افتراضات اتخذت هالة من هالات الفصام.
ـ ذلك الطيف الندي الذي جمعنا...، من غير مقاصد، وغايات، ثم أراه ابتكر وسائله في المحو.
   ترك أصابعه تستقر فوق ورقة تلمس اصفرارها، فانبثقت رائحة أعادته إلى الماضي، ورقة ترجع إلى أكثر من نصف قرن...، لتنبت فيه رغبة سرعان ما قاومها، لقد ود لو عاد وترك جسده يتحلل...، بعيدا ً عنه،  تحت الشجرة، عند ضفاف النهر، بدل أن يرى عالما ً تحاصره الجدران، يتموج بالضوضاء، ومشغول بالعزلة، والخوف العميق.
   أتسع الفراغ...، فلم يعد يتلمس ببصره إلا حافات بدت له شفافة وقد راحت تسحبه إلى فضاء أوسع، يمتد بعيدا ً منسحبا ً معها، بلا إرادة، أو اعتراض، حتى انتابه شعور بغياب الجدران، والحاسوب، والزمن. فدار بخلده أن حياته لم تعد تعنيه...، وكأنها لم تكن أكثر من ظلال تتلاشى بعيدا ً عنه...، أحس إنها عبرت وانفصلت عنه تماما ً، كالذي طالما شعر به وهو يعيد تأمل مخلفات حريق لم يترك سوى رماده.
    بدا له الفراغ شاسعا ً، بلا حدود، خارج نطاق غرفته، وبعيدا ً عما كان يجري داخل رأسه...، وعالمه الذي بدا له معزولا ً عنه تماما ً. مثل من يتأمل ذرة رماد تجمعت فيها أزمنة مدينة غابت عن الوجود.
   وبدت الكلمات تعمل من غير إرادته، تحفر أثرا ً لتمحوه، من ثم تنبثق ليراها تذوب في الفراغات، وقد فقدت أشكالها الدائرية، وصارت كتلة رمادية بلا حافات.
     لأن ـ دار بخلده ـ عدم الرد، مثال لا يثبت إلا ما كان يراه وهو يجلس أمام النهر، أمام دجلة: سماء وافق وسكينة.
    وود لو عثر على تأويل لا يدعه يسرف بإعادة كل ما بدا له بلا زمن، وحركة.
ـ وكأن الحياة برمتها خالية إلا من هذه الظلال... وقد اتخذت موقعها في الدورة، من غير علامات، ولا أصداء.
    ليجد أصابعه تعمل آليا ً:
ـ وكأن جميع المخلوقات، في نهاية المطاف، تتماثل في غيابها، وتتوحد من غير مشاعر محددة.. وتذهب كأنها أكملت برنامجها في الخطة...، فما ظهر،عبر الزمن، توارى بعيدا ً عنه...، حتى الأثر لا وجود له إلا ليبرهن انه  وجد تاما ً، خارج عمل  صخبنا.
    لمح الدخان تحول إلى هالات ضوئية، فتجمد، فثمة أصوات تقترب، وأخرى تتلاشى: انفجارات ودوي وأزيز طائرات...
فكتب:
ـ كأن الدوي الأعظم مازال يستكمل عبوره خارج نطاق وعينا، ووجودنا، وصبواتنا أيضا ً. فالماضي وحده لا يمتلك  إلا أن يواصل ذهابه  بعيدا ًعنا، وقد جرجرنا معه، أحيانا ً، وقذفنا بعيدا ً عنه، أحيانا ً أخرى.
   وكفت أصابعه عن الكتابة: انه طنين أرواح ليس لديها ما تعمله سوى العثور على ممرات للعبور...، تؤدي إلى ممرات أخرى، لا يعنيها سوى المرور ...
فجأة قال انه لا معنى للحديث عن منفاه..، داخل جدران غرفته، ولا عن لا مبالاته وهو يعزل كيانه ويدثره في المناطق القصية، ليس لأنه لم يعد يشكوا منها، بل لأنه توحد معها، مثل مرض عقد صلحا ً تاما ً مع صاحبه، حد الذوبان.  فالذي يولد في الأسى، لا يعيش إلا تحت ضرباته، ولا يأسف إلا أن يموت بعيدا ً عنه. لم يجد ضرورة ليخبرهم برحيل اعز المعارف، أو الأصدقاء، فموتهم شبيه بغيابهم، امتداد في المساحة، وليس فنائها. كان لا يجد ضرورة بالحديث عن هذه الوقائع، وما التي إليه حياة بعضهم، إلى الوهن، والهذيان، والتشرد، أو إلى الفاقة، والنسيان، والعزلة، فقد تكون مكدرة لعواطفهم، أو تبدو مثل وباء كريه فروا منه. بل كان سؤاله المتكرر يخص ما آلت إليه مصائرهم، في المنافي، لا أكثر ولا اقل.
  كما لم يجد مبررا ً ما للحديث عن أمراضه...، هلا وسه، وشرود ذهنه، ولا ضرورة للحديث عن مخاوفه، ووهنه، ولا عن لغز انبثاق كل ما بدا له فقد حضوره.
   بل كرر انه لم يعد بحاجة إلا لاستعادة الأزمنة المشتركة التي أصبحت طي النسيان، ولا معنى لاستعادتها، إلا بوصفها صفحات في كتاب لا وجود له.
   ولم يصب بالإحباط أو بالخيبة، رغم عدم وصول جواب واحد يسمح له بتخيل أن الحياة ليست شبيهة بالموت...، بفراغ يمتد عازلا ً جزيئات ذراته بعضها عن البعض الآخر، فلا هذا يعرف ذاك، ولا ذاك يعرف ما جرى لهذا....، فلم تعد ثمة مصالح مشتركة، ولا صبوات، ولا ذكريات قابلة للاستئناف.
   لكنه سرعان ما ترجع وتخيل انه مازال يئن تحت ضربات موجعة غدت ـ بمرور الوقت ـ الألم  الدائم الأليف للحفاظ على آمال لم يتم محوها كلية. فاستعاد لحظات راح يفترض فيها انه تسلم عشرات الردود، فراح يبوبها، بحسب وصولها، ليعيد قراءتها بنشوة مكتومة، لا مناص إنها تماثل اللحظات التي طالما تمناها وهو يفارق الحياة، من غير أسف، أو ندم، ولكنه وجد أن شيئا ً ما مازال يدّب، يومض، يزحف، وان الضربات ليست سوى تدريبات تقود للحصول على عقل تتوازن قيه ردود الأفعال، بأفعالها. نشوة لا حسية، أو مضطربة، مائعة، ولكنها ليست عقلية خالصة، لتعيد سبك العناصر كي تبدو أكثر صفاء ً.
     لكنه لم يفرط فيها: فمنذ زمان بعيد لم يعد يعّول على كان ما يظهر في المرايا..، فالنشوة محض عبور من فراغ إلى آخر أكثر اتساعا ً، ومتاهة...، مع إنها شبيهة بالممرات التي كان من الصعب تصوّر إنها معزولة عن هذا الذي  مكث يحافظ على نفي بلوغه الذروة.
     بيد انه لم يدع لذّة شعوره بالتقدم أن تنفي وجوده وحيدا ً حتى وهو يرى الجسور تحولت إلى طرق لا نهائية العدد، وقد بدت له مثل خلية دماغية متصلة بالخلايا الأخرى، وان تلك الخلايا بأسرها متصلة معها. فقد راح  يسفه لغز العزلة مثلما لم يعر الصبوات أكثر من مرورها عبر جسورها النائية.
ـ ربما ...
   وشاهد أصواتا ً اتخذت بياض بلوريا ً سرعان ما غدا جسيمات لا مرئية تترك ظلالا ً خفية لحركتها..، والوعي بما كان يتركه من رنين خفيض...، مغايرا ً للثوابت التي كادت تحسم مشاعره بظهور وباء لن يترك بعد انتشاره حتى ما يدل على انجازه عمله بحسب الخطة.
    شاعرا ً بمرارة لاذعة اختلطت بنبضات قلبه. فقال انه لا عودة إلى الجسد...، ليمسك بهالات رآها شبيهة بالأفكار تغوص وتتوارى كي تبزغ، ثم ما أن بدت له ناعمة محاطة بدوائر ومستطيلات حتى تعود وتتلاشى وتصبح صفرا ً. لكنه لم يخبر أحدا ً بالأبعاد التي مازالت بانتظار تكوّن أدوات قادرة على اكتشافها والعبور بها من الظلمات لاستحداث مخبآت ما انفكت تجد من يعرقل تكوّنها.
   وردد، مع نفسه، بصوت وجده يتمايل مشبعا ً برائحة سرعان ما سمحت له بتتبع لون ما كان ينبثق من شاشة الحاسوب...، بدا له مشفرا ً بمرور الوعي عبر اتصال خلايا دماغه بخلايا أدمغة العقول الأخرى...، فالكلمات فائضة إذا ً...، بعد أن تحولت إلى حجابات، وكادت تفسد عليه براءة ظنها غير قابلة للتلف..، أو المس...، مرور راح يقلص المسافات كي تحافظ على ما فيها من أبعاد، لمحها تثير لديه رغبة غامضة ونشوة غامضة بالهدنة:
ـ الهدنة...؟
   إلا انه راح يبحث عن مفردة لا تصبح عثرة، بل تبقى ممرا ً  للحفاظ على كل ما كان يراه يتسرب...، يتفكك، ويتلاشى.
    شعر كأن زمنه بالبحث عن وجود ما لا مناص انه لم يكن فائضا ً...، فالنهايات وحدها تمتد بتراكمات مقدماتها، ولا مجال للاعتراف إلا بهذا الذي مازال يمتلك أبعاداً لم تستحدث بعد...، لأنه لم يصبح غائبا ً بعد أيضا ً...
ـ كنت أود لو عدنا  ـ ببساطة وسلاسة ومن غير عقد ـ نتنزه عند ضفاف النهر، النهر الأتي من الأعالي المار بالحقول وبالبساتين نحو  المدينة، مدينتنا ...
   توقف عن الكتابة، وقال بصوت استنشق عبره رائحة الماء، والصيف، والنخيل:
ـ أمن اجل هذا حصل الذي مازال يطن ويقرع ويدوي.....؟
   صمت. مكتفيا ً بابتسامة تركها ترفرف...، مع رأسه، وقد رآه يحوّم في فضاء الغرفة:
ـ هل أخبرتكم بأنها بالفعل كانت هدنة....، لكنها ليست معكم، بل مع ... هذا الذي صدق انه كان يتمتع بقناعة أن ما من احد يمكن أن يمس ... براءته!
   وامتد الصمت ليجد انه يراقب أصابعه تعمل بمعزل عنه:
ـ  أهذا ـ هو ـ الذي وجد كي يذهب ابعد من غيابه؟
وتساءل بصوت مرتجف:
ـ عزلتكم ام عزلتي...؟ وكأنني صرت ابحث عن مذنب... عن فاعل...
نهض متمتما ً:
ـ يبدو إننا لم نخلق إلا لصناعة هذا العقار الذي عمله يمد الداء بالديمومة...، وبما هو ابعد منا، مني، ومنكم، من زمننا، ومن زمنكم، المرض الذي كنا نبحث عن عقار للقضاء عليه، أو للحد من جبروته، وما يتركه من أسى وخراب...، هو العقار الذي لا وجود له...، البراءة، فلا معنى للهدنة! ولا معنى للرسائل إن كتبت أو لم تكتب، إن أرسلت أو لم ترسل...، فلم تكن إلا هي الأسباب ذاتها التي عملت على استحداث مجالات تنصهر فيها الأسباب المولدة لماضيها، والمولدة لمصيرها المؤجل....
   لا إجابات.
   إنما لم يول الصدمات أكثر من إصراره على استحداث آمال لا مرئية...، فالحياة لا تقبع داخل الكلمات، ولن تسكنها. لكنه لم يصدم، بل كتب:
ـ  فالعزلة أكدت إنها، مهما اتسعت في مساحاتها، فإنها قائمة على ما يدحضها..
   شاعرا ً أن كل خلية، في جسده، ترسل إشارة إلى الجميع...، مثلما أحس عميقا ً انه يمتلك قدرة قراءة ما لا يحصى من الردود، والإجابات. فالحياة لم تمض، لأنها لم تبح إلا بما بدا أطيافا ً للعبور:
ـ  كأنكم وانتم تذهبون إلى أقاصي المنافي، فوق هذا الكوكب الشبيه بمجمع للنفايات، أصبحتم أكثر قناعة بالأمر الواقع، ذلك الذي كنا، في يوم من الأيام، قد منحنا عزيمة على دحضه، أو تعديله، في أسوء الأحوال.
    ولم يجد ثمة ضرورة للنبش في النهايات، مهما تأجلت، فإنها محكومة بنسقها، ونظامها، فهي ليست طليقة إلا بحدود ما ستؤول إليه، وكأنها أنجزت واجبها...
ـ انجاز ماذا ...؟
   تذكر الموضوعات التي صاغت هواجسهم، وحواراتهم، وتجمعاتهم، حتى أثاروا الشبهات...، لكنهم ازدادوا إصرارا ً بان الاختلافات وحدها هي التي كانت تمنحهم الحفر في الظلمات، فالعام لا تحكمه المشاعر المستترة، المطمورة، فهو غير مقيد بمبدأ التجمع، التكتل، والتعارف، وهو لا يقع تحت قبضات أصحاب المال، ولا بفعل المبرمجات القائمة على الخطط الخفية...، ففندوا النظريات وفككوها كي يستخرجوا منها ما سيدخل في تركيب البناءات المحتملة...، واستنتجوا أن الحياة لا تعدو أن تكون أكثر من مسرحية محكومة بازدواجية أضدادها، فالأكثر حكمة ليس وحده من يتحكم بالمصائر، بل برهنت الطبيعة أن قواها تعمل بما لا تركه أعظم العقول...
ـ انجاز ماذا ...؟
   ولأنه لم يعد يجد ما يستند إليه، أكثر من أصداء لأصوات توارت، قال بلامبالاة، لكن بثقة:
ـ هذا هو كل ما في الأمر.
   ولم يفكر أن يجرح أحدا ً، مثلما فعل بنفسه حيث امسك السوط وانهال عليها، يجلدها، ويعذبها، وإلا لكان لو شيّد بيتا ً وجمع ما يدفع عنه الحاجة، بدل المضي بالنبش والجري خلف سراب...، إنما لم يخبرهم بالتمويهات التي اغفلوا أسباب ازدهارها، ولا بالأوهام التي ظنوها عابرة، فلم يسلطوا الضوء على غياب الجهد، وكراهية بذل الحد الأدنى من العمل...، فالثروات التي انهالت على البلاد عززت صخبهم، ومنحت أصواتهم درجاتها القصوى. كانوا ضحايا العاب خديعة، لكنها مضت، فاستحالت إلى ما يتفوق على أي جهد لتفنيدها. فغدا من يجر العربة وحده يتحكم بمسارات الدرب.
ـ فلم نكرس برنامجا ً واضحا ً يمنحنا خطوات تجعلنا لا ناسف إننا أضعنا ما كان علينا أن ننجزه، وندعه يتقدم...
   لم يدوّن كلمة واحدة حول ذلك، فالمشترك لم يذهب ابعد من الأصوات...، والصخب، وحتى هؤلاء الأكثر انشغالا ً بالبرامج الحديثة لم يلفتوا النظر إلى الحقائق...، والى ما كان يجري خلف الواجهات. كانت اللافتات قد بهرتهم.
ـ فحتى الماء أصبحنا نستورده ..، لأن مصائرنا جرجرتها الأصوات..، والمزاعم، وأمراض العظمة.
   لكنه لم يكن راغبا ً بالعودة إلى ما عبره الزمن...، فثمة ما لا يحصى من العلل، لا جدوى من نبشها. فعلى مدى ألف عام لم يكن لدينا ما يقارن بما لا يحصى من اختراعاتهم...، فهم يستحدثون، في كل برهة، ونحن ندفن  كل من يتجرأ بالعمل على وضع ضميره تحت الضوء.
   وجد الهواء ينسحب. فمد أصابعه إلى الأمام، بحثا ً عن نسمات...
ـ فانا أتذكر هؤلاء الذين ماتوا في الصحارى، جفت ابدأنهم، ولم يكن منطقيا ً أن يتساءلوا: أين ذهبت مواردهم...، ولماذا هربوا من بلادهم ... ، ثم ما فائدة سلخ أرواح ضاعت في البراري، والبحار، مثلما كانوا يتوهمون أنهم كانوا على صواب.
   بحث عن أصابعه فوجدها تيبست. فيما لمح رأسه يتمايل، حتى بغياب الهواء.
ـ ربما يكون هذا هو السبب الذي أهملناه، اغفلناه، ولم نحسب له أي حساب، فلم تكن هناك مشتركات حقيقية، صائبة بيننا، مما جعلت النهاية تجري بعناد، وبلا مبالاة...، وقد بلغت ذروتها.
   ودار بخلده انه لم يكن مراقبا ً، ولا قاضيا ً، ولم يكن مخولا ً بإصدار الحكم. الم ْ يتندر من هؤلاء الذين كانوا يذهبون إلى جهنم طواعية، بلا تردد، زاعقين: افتحوا الأبواب! بحجة أنهم سمعوها تقول: هل من مزيد!
   لم يجد قدرة على الضحك:
ـ لأننا كنا نتندر على هؤلاء الأكثر خمولا ً إلا بعمل المستحيلات للحصول على ركن في الأعالي...، بجوار الرب..، لا عمل لديهم إلا كراهيتهم للعمل، وبذل أقاصي الطاعة بسحق كل من كان ينوي أن يبذل جهدا ً ...، أو يتحرش بالأعراف.
   لمح الجدران تتقلص، ليرى جسده تحول إلى بذرة.
ـ كأنني وجدتها!
فرفع صوته قليلا ً:
ـ  لا أبدو أني بصدد السفر إلى العالم الذي لم يرجع منه احد...، صحيح إنني احتضر ولكنني لم أمت بعد.
    ليجد رأسه يصطدم بشاشة الحاسوب:
ـ من أين جئت إذا ً...، من أين خرجت...،  الست مركبا ً من عناصر هذه الأرض، الست جزءا ً من هذا الكون؟
   أليا ً ـ بمشاعر مجمدة ـ نهض ليعد الشاي، ثم يرجع، كاتما لوعة لم تدم إلا برهة:
ـ كنا نجهل البند الأول: من نحن ...؟
    ولم يخبر أحدا ً بأنه استعار منه كتابا ً ولم يرجعه...، ولم يذكرهم انه لا يتذكر أن أحدا ً منهم التزم بموعد...، واظهر ما كان يتستر عليه، ويخفيه..، ولم يتحدث عن الأسباب التي طالما أفقدته أعصابه:
ـ الاستخفاف بالحقائق، وتجنب الصدق!
ـ من نحن...؟
   ووجد في مرارة الشاي لذّة عقاب أليفة..، ليجد صعوبة اكبر في العثور على نسمات تعيد له توازنه. فالدخان غدا كثيفا ً. وربما تكون خلايا الدماغ تعاني من نقص ...، عناصر ديمومتها.
ـ كنا مأخوذين بالحرية....، ولم نجد من يذكرنا بأسسها..، بجوهرها، حتى إننا كنا أما أن نتناول الماء الملوث أو نبحث عن ماء مستورد. كأننا كنا سعداء بالفجيعة.
   تلمس جسده: لا لم يتحول إلى صرصار. وانه لم يفقد انفه، كما لم يبتلعه الحوت...، فقد تذكر حكايات قراءتها منذ زمن بعيد، ورسخت في ذاكرته...، ثم أضاف بسخرية: ولم أصر نباتا ً.
    فجأة، استنشق رائحة الليل، خالية من الدوي، من الغبار، فلم تعد ثمة طائرات، ولا أصوات انفجارات..، ولا مواجهات ...، قال لنفسه، وانه لم يعد يخشى أن تطرق الباب للسؤال إذا ما كان منحدرا ً من عفن المستنقعات أم ولد تام الهيأة...، من أية قبيلة وما هو انتساب أسلافه...، هل هو من اختار معتقده، أم القدر منحه ولعا ً بالهجرة إلى المذنبات النائية...
    تاركا ً أصابعه تمسك بجسده، فقد شاهده تحول إلى كتلة جافة، متصلبة، ركنت عند تل من النفايات،  سمع اصطكاك أسنان مفترسات متوحشة تقترب منه، لم يتحرك، فقد أدرك انه طوق من كافة الجهات...، ورأى السماء تمطر حجارة، لم يسمعها تنفجر، قالوا إنها أسلحة ناعمة، مثل حلوى، هدايا للصغار، لا تؤذي، فيذهب كل من تلامسه إلى العالم الآخر كأنه يعود إلى البيت.
أفاق.
  تلمس الكلمات ممتزجة ببياض جاف، مخلوطة بالدخان، تشتبك معها حبيبات أصداء منحت المزيج لونا ً حلزونيا ً استطال فبدا له شبيها ً بالمرات التي ظن انه تحول فيها إلى أثير:
ـ ها هو المنفى باتساعه غدا بحجم بذرة كلما توغلت فيها دعتك إلى فضائها اللا محدود...، مثلما الكون ذاته لا يكف أن يمحو حافاته...
   تاركا ً أصابعه النحيلة تنقر في الهواء:
ـ  فانتم إذا ً غير آسفين للفرار من منفانا، لاختيار آخر، مثلما أنا لم اعد امتلك حتى رغبة بالأسف إني لم اختر هذا المنفى، أو سواه، مادامت البذرة هي البذرة أينما كان موقعنا فيها.
   ووجد فمه ينطق:
ـ إنما رأيت السماء تمطر حجارة ناعمة، وشاهدت أرواحنا تهيم، فلم ير احدنا الآخر كي يودعه...، وإذا رآها أغفله، كانت الفراغات تدوي بأنغام استحدثناها كي تبلغ بالمحو   ذروتها... ، فكنا نزداد شغفا ً بالفراغات: أصواتنا التي خمدت قبل أن تغادر أفواهنا...، يا للآسف...إننا لم نجد ما نأسف عليه...، حتى عندما كنا نأمل بغير ذلك...؟
    لكن هل حقا ً....؟ وسكت برهة: أن أحدا ً لا يريد أن ينطق...، لا يريد أن يعرف...، ولا يريد أن يغادر منفاه...، كي لا يكرر بعناد لعبة الصياد الأول...، وهزيمة الطريدة الأولى..، وكأن كل منا كسب الرهان، حيث الهزيمة وحدها كانت قد ارتدت قناع الخلود!
   بالأحرى، قال لنفسه، لا جديد يذهب ابعد من تلافي الإعادة، واستنساخ القديم. إلا أن المتاهة كانت قد تجاوزت حدود برامجنا، لأننا ـ ببساطة ـ  كنا لا نمتلك إلا اختيار ما كنا وصفناه بـ: العار، الدناءة، والرذيلة.
   توقف عن الكتابة، وراح يتخيل انه أزاح الجسور التي لمحها قائمة بين الأجزاء، وبين الكيانات..، فلم يعد يرى سوى مكعب خارج المدى، إنما تردد في إكمال المشهد. فأينما ذهبت فالجسور هي التي تمتد نحوي. فلا وجود لي خارج الشروط ذاتها التي جعلتنا في العمق: في العار، وما تحت الرداءة.
   وعاد يتخّيل المشهد: السفينة تغرق...، إنها تهبط إلى القاع...، فمن أغرقها؟ لم يشغلنا هذا السؤال. فقد تحتم على كل منا أن ينجو...، يلوذ بالفرار...، نحو الصحراء، نحو البحر، نحو الجحيم أيضا ً عندما لم تعد هناك نوافذ، وممرات للهزيمة.
ـ أنا تجمّدت...، ُجمدت، وجد نفسي مجمدا ً...،  أراقب تتابع الضربات، أراقب الصدمات، الصواعق، والهالات البلورية ترتفع في السماء...، النار تلتهم الجدران، والموتى يغادرون المدافن، الثكالى ينحن بجوار الأرامل فيما شاهت أطفالا ً يتدلون من أغصان الأشجار، والضربات تتبعها أخرى اشد منها، توهجا ً حتى صارت بلون ما قبل الخليقة. ولشدة قوتها صرنا شظايا، ولم نعد محض ذرات، أو كيانات، ولنا ثقل وأبعاد، صرنا نحدق في اللا مرئيات بعد أن فقدنا كل صلاتنا بما حلمنا في يوم ما أن نراه يانعا ً، وحقيقيا ً...
     ليجد أصابعه راحت تعمل آليا ً: وصار كل منا يبحث عن فجوة للهرب...، لا معنى للحديث عن الهزيمة...، ولا عن من كان السبب، فالحياة ذهبت ابعد منا...، ابعد منها...
ـ وأنا تجمدت، جمدت، ووجدت نفسي مجمدا ً...، فقلت: أنا هو من يغرق، يغطس، يغوص....، وأنا أيضا ً في طريقي للذهاب ابعد من الموت، ومن تمويهات الحياة، ووعودها، من صلابتها وهشاشتها، من أصواتها وصمتها...، أنا اذهب خارج موتي.
  كلا.
متلمسا ً الهواء:
ـ  أنا الآن في كوكب آخر....، حتى بدا لي المشهد معادا ً...، لأنني تخيلت هؤلاء الذين تركونا للحصول على ركن في الأعالي، تخيلتهم يبحثون عن الحوريات، ويبحثون عن العسل، وعن البن، وليس عن الهواء الذي لم يلوث بعد...، هؤلاء أيضا ً كانوا تخلوا عن السفينة، وتركوها تغرق إن لم يكونوا هم أنفسهم من أسهم  باستحالة إنقاذها...، تركونا نتخبط في متاهات الخوف، نرتجف من شدة الذعر، والويلات...، لأن كل منهم كان يلوذ بالنجاة وحيدا ً نحو الأعالي، وآثار أقدامهم مازالت تدك الأرض، ومن عليها.
   وبدأ يقرأ في الشاشة:
ـ ما الاختلاف إذا ً...، هؤلاء بحثوا عن خلاصهم في السماء، وانتم بحثتم عن خلاصكم في منافي الأرض...
ـ أما أنت فكنت تحتمي بالجدار...، كي لا تقتل، وأنت تشاهد فرق الاغتيالات تتجول تبحث عن طريدة..، فلم يرك احد منهم، وظننت انك نجوت..
   هز رأسه: هل أخبركم بماذا كنت أفكر أو بماذا فكرت...، آ ...، لم أفكر، بل صحوت حتى أنني صرت اردد: لم يتركوا لنا إلا أن نخلص أنفسنا، بمعنى: أن يقتل احدنا الآخر. فالخلاص، في النهاية، موتنا.
   متمتما ً: إنما عدت أدرك إنني لم اهزم: فالرب وحده ليس بحاجة إلى إثبات! ليس بحاجة إلى براهين دالة عليه، تتفوه بها مخلوقات غيابها سابق على وجودها. الرب هو وحده علامة وجود كلما ادعينا معرفته إنما نوسع المسافة بيننا وبينه!
    أرتج جسده من الداخل، فمحا الكتابة، حتى فكر أن يتلف الجهاز، فربما يكون قد ارتكب هفوة، أو خطيئة يحاسبه ضميره عليها، قبل أن يجد من ينزل فيه العقاب. إلا انه أدرك فجأة انه لم يقم ـ هو بذلك ـ بل الجهاز ذاته قام بمحوها! ذلك لأنه، في إحدى رسائله، ما أن كان يشرع بإضافة كلمة، إلا ليجد الشاشة تحولت إلى مساحة بياض. فكان كلما عاد واسترد الكلمات، وشرع بإضافة حرف...، وجدها عادت خالية إلا من البياض المشع. لم يجد تفسيرا ً للمعضلة، بعض الكلمات تجعل نظام الحاسوب يقوم بمحوها ذاتيا ً...، رغم إنها لم تكن كلمات خارج السياق المتداول، أو تتنافى مع الأعراف...، في العالم. فالممنوعات يعرفها، حفظها عن ظهر قلب، بل كان يستنشقها، وهل ثمة محرمات...، وهو قد نجا من الموت...، مرات ومرات، إنما وهو يراقب الجثث ترمى فوق أكداس النفايات، مستعيدا ً مشاهد المقابر الجماعية، رماد الموتى الأبيض المائل للاصفرار الممزوج بلون الرماد، عظامهم، ومشاهد إطلاق النار في الرؤوس، ومن الخلف...، القنابل الفسفورية، العنقودية، شاهدها أيام الحرب...، وعبر الوثائق، درسها، حللها، حتى خزنها بجوار ذكريات ترجع إلى ما قبل سبعين عاما ً؛ رائحة التراب عندما تملأ انفه بعد سقوط المطر، ورائحة الحليب، وحرارة  والدته وأنفاسها.
ـ لكني كنت ابحث عن جذور ...
   ووجد صعوبة في العثور على هواء لا يفسد عليه وعيه. كان لا يريد أن يتعرض للنعاس، أو للإغماء...، فقد شعر كأن قوة ما كانت تحفزه باستحالة القبول بما يذهب به ابعد من الهزيمة...، الم يكن يطالب بالبحث عن وسائل غير الأصوات، والزعيق، والهتافات...، وسائل غير الأناشيد، والكلمات، تضع حدا ً للقبول باختيارات كانوا عملوا على دحضها؟
ـ من أنت...؟
   لم يذكر في رسائله انه لم يحتفظ حتى بمرآة للحلاقة، منذ سنوات بعيدة،  فقد كان يتلمس بشرته لذلك..، مثلما لم يبق للانا إلا بحدود عملها في الحفاظ على أداء الضروريات، كالذهاب إلى النوم، أو عدم إغفال تناول الطعام...، وعدم إغفال العقاقير التي لولها لكان قسم ابوقراط فائضا ً، فلم يبق أثرا ً يستفزه للدفاع عن قضايا جديرة بالزوال، والمحو. عدا التمسك ببقايا هذا الوعي بما حدث، ووقع، منذ سنوات، ربما إنها تسبق ولادته، بما كانت تحتويه من غزارة معلومات، وحوادث، ذلك لأنه لم يعد يرى مستقبله أكثر من هذا الملحق بالماضي البعيد...، فلم يعد يعامل جسده، إلا بوصفه فجوة تركها تستكمل تسلسلها، لا أكثر ولا اقل.
   فبدت له حياته منفصلة عن وعيه، بل طالما أحس إنها فائضة أيضا ً عنه، ولكنه وجد نفسه يتمتم معترضا ً:
ـ آ ....، فمن ذا إذا ً يدرك كم مضى من الماضي، وكم ستدور الدورات ضمن برنامجها...، ونحن لا نملك حتى درجة من درجات الصفر؟  مع ذلك...، لم نكن نمتلك إلا أن نزداد عنادا ً، وتمسكا ً بالتمويهات، ودحضها، ثم ـ في نهاية المطاف ـ  لا احد يمتلك إلا أن يتدثر بوهمه.
أفاق ليساءل نفسه بتردد، وبخوف:
ـ هل غابوا جميعا ً...؟
   لو لم يتحسس جسده يرتجف، ويتعرض لنوبات من الارتجاج، من أعلى رأسه إلى أخمص قدميه ـ وقد ضحك للعبارة التي أعادته إلى أيام قديمة خلت ـ لكان اطمأن إلى جواب واحد:
ـ أنا هو من غاب! أنا هو من مات!
    لكنه عاد يكتب منشغلا ً بالبحث عن علة لها علاقة بأحد الأطراف...، أو بما يحصل من تصدعات في  الوجود، أو بما هو ابعد...، من وجود خطة حكيمة ومتقنة ببلاغة ونائية حتمت استحالة ديمومة ثوابت الحياة...
   ليسأل نفسه، بعد أن لمس أعلى رأسه، بهدوء، في عبارة موجزة: ربما أكون أنا الوحيد الذي لم يدرك انه فارق الحياة، وغدا غائبا ً...؟
   مع انه تخيل الأمر بأدق التفاصيل ...، وشاهد موته يحدث مرات ومرات...، إلا انه  لم يعد يصدق انه فارق الدنيا...، تخيل كيف طلب من جاره، أن لا يحشره في قبر ضيق، وناوله مبلغا ً إضافيا ً للعناية بالأبعاد، وان لا يتم حشر جسده حشرا ً عنيفا ً،  لأنه تخيل الألم يطارده حتى بعد توقف عمل الدماغ، وتوقف القلب عن أداء عمله، متخيلا ً السماء تمطر...، والريح تداعب الورود التي دفع ثمنها، على أن تكون ألوانها شبيهة بالمنديل الذي أهدته له أمه قبل أن يتأملها تفارق الحياة، وتخيل انه يسمع البلابل تغرد...، فيخاطبها، ويمضي معها أزمنة استثنائية...، من غير أن يغفل انه أمر بعدم كتابة اسمه فوق الشاخص...، معللا ً أن ذلك قد يكون أمرا ً لا يليق بإنسان عمل من اجل الآخرين، وليس من اجل نفسه...
     هز رأسه، فوجده ثقيلا ً، فشرد ذهنه، وهو لم يكف يكرر بأنه مازال يتنفس الهواء...، بل وانه تناول قطرات من الماء، بعد أن اعد الشاي، كما يفعل بعد الاستيقاظ فجرا ًفي كل يوم، متابعا ً، بإصرار: انه مازال يرى الكلمات، الواحدة بعد الأخرى، كأنها تنسج المنديل الذي طرزه وأهداه لفتاة غابت عن ذاكرته...، مخاطبا ً، من عرفهم، وبرغبة ما وجدها لم تخفت، صديقي: سقراط...، صديقي الجاحظ، صديقي الجنيد، صديقي ابن رشد، صديقي المعري، صديقي اينشتاين، صديقي تشيخوف، صديقي طرفة بن العبد، صديقي دانتي، صديقي غاليلو، صديقي مندل، صديقي ماركس، صديقي دستويفسكي، صديقي الملا عبود الكرخي، صديقي مدني صالح، صديقي اليوت، صديقي عدنان المبارك، صديقي فاضل العزاوي، صديقي علي النجار، صديقي عادل كامل،  صديقي الله!
   وعاد ليجد الشاشة تحولت إلى بياض تام.
19/11/2016
Az4445363@gmail.com

   




السبت، 19 نوفمبر 2016

قصة قصيرة انتفاضة البعوض-عادل كامل



قصة قصيرة

انتفاضة البعوض



عادل كامل
    في الزريبة، وعند بزوغ أولى ومضات الفجر، استغاثت البعوضة بصوت حاد لعل أحدا ً يمد يد العون لها وينقذها، وهي تشاهد إعصارا ً رماديا ً مشبعا ً برائحة أدركت إنها تنتمي إلى المبيدات...، كانت تراه يقترب، فراحت تصرخ بأعلى ما لديها من قوة في الصراخ والزعيق، والاستنجاد...، لكنها لم تجد من يصغي لها، فهتفت:
ـ أين انتم...؟
   كان ذلك سببا ً كافيا ً للطيران بأقصى ما تمتلك من سرعة نحو جناح الأسود، الأقرب لها، بعد جناح الحمير، فلم تجد أحدا ً يكترث لها، ويصغي لتضرعاتها. كانت الأسود تغط في سبات عميق. فضحكت البعوضة ألما ً وقالت لنفسها:
ـ لا عمل لديهم....، لا في الليل، ولا في النهار!
   طارت كي تصل إلى جناح القرود، فاقتربت منه، تأملته، وشاهدت الزعيم يستقبلها باستغراب، اقتربت كثيرا ً منه، وراحت تحدق في محياه:
ـ سيدي الجميل....، إننا نتعرض للإبادة!
ضحك الزعيم:
ـ مع من تتكلمين...؟
ـ معك..
ـ وأين أنا...؟
   أغلقت فمها وطارت تبحث عن من يساعدها، وينقذها، فرأت وحيد القرن عند البركة:
ـ سيدي...، إن لم تساعدني فسأموت..؟
   سمعها وحيد القرن، فانفجر ضاحكا ً، حتى شاهدته يتمرغ في الوحل، وعندما رفع رأسه الكبير، وعاد يتأملها، قالت له:
ـ آسفة ...، فانتم أيضا ً في عداد الهالكين!
  تمتم بصوت متلعثم:
ـ اقتربي مني كي أسمعك.
قالت:
ـ أنا بعوضة حمقاء، أينما ذهبت، لا أجد أحدا ً يكترث بي، كأنني خلقت عدوة للجميع، وكأنني أصبحت فائضة!
أجاب وحيد القرن:
ـ منذ زمن بعيد وأنا اسأل نفسي: ما الفائدة من وجودي، في هذا الركن المعزول، اعلف التبن والعشب ثم اذهب إلى النوم...، حتى أصبحت وحيدا ً لا عمل لدي ّ غير ان أراقب الناس يضحكون علي ّ تارة، واضحك عليهم تارة أخرى...؟
وأضاف وهو يضرط:
ـ حتى أنت ِ تستطيعين السخرية مني، والضحك علي ّ أيضا ً ...، ولكنني أخبرك بضرورة البحث عن مكان بعيد لعلك تفلتين من الإبادة، والاجتثاث، والمحو....، فانا أينما اذهب فموتي وحده هو الذي ينتظرني! وكأن خاتمة اللعبة وضعت قبل مقدماتها!
وقال بصوت حزين:
ـ مع إنني اعرف ان مضارك لا تعد ولا تحصى حتى أكاد اجزم انك بلا نفع، لكن اهربي  وابحثي عن مكان قد يساعدك على البقاء ...! فلا ضرر من وجود بعوضة زائدة في حديقة تنحدر نحو الفناء!
فصاحت غاضبة:
ـ إذا كنت لا تقدر على نجدتي، فلماذا تؤذيني ...، وكأن من خلقك نزع الرحمة منك...؟
ـ أنا لم أجدف...، ولم أتفوه بما يدل على ذلك، بل قلت لك ابحثي عن وطن امن ...، فأنت هنا لا عمل لديك سوى نقل الجراثيم، وبث الرعب فينا، وإنزال العقاب في سكان حديقتنا الآمنة!
   هربت، تلملم هزيمتها معها. وعندما رفعت رأسها قليلا ً صعقت وهي تشاهد الإعصار الرمادي يزحف نحوها، فأسرعت، وكلما ضاعفت سرعتها في الطيران كانت ترى الإعصار يسرع في أثرها، فلم تجد ملاذا ً لها غير قفص الطيور الكبير...، فاختارت جناح الصقور، فحطت فوق منقار صقر شارد النظرات، فخاطبته:
ـ أيها الشامخ الأبي الغيور يا ثعلب السماء، وأسدها!    
ـ من..؟
ـ دعك مني، فانا جئت طالبة حمايتك، وعونك.
ـ من أنت ِ..؟
ـ إن كنت لا تعرف من أكون فكيف ستمد يد العون لي....، فالجميع للأسف يتجاهلون عذابي، وما تعرضت له من قسوة، وظلم...، فانا ولدت في المستنقع، مع أسلافي، وعشنا فيه...، وها هم يلاحقوننا بقرار الإبادة، والمحو...، فهل هذه عدالة...؟
ـ آ .....،  يا ناقلة الجراثيم والأمراض الفتاكة، يا بعوضة الشر، يا غراب المستنقعات!
ـ اقسم لك، أيها الصقر العظيم، لم افعل ذلك بإرادتي! فلماذا افعل الشر إذا كنت استطيع تجنبه؟  ثم ما هذا الذي انقله...، هل رأيته، وهل كنت أنا السبب بجلب الأذى لكم ..؟
   هز رأسه بحيرة ونظراته مازالت شاردة:
ـ وأنا ما الفائدة من وجودي غير قنص المستضعفات من الفئران والأرانب والطيور..؟ فانا ولدت هكذا ...، وها هم يحتجزوني خلف القضبان، بقصد حمايتي، بعد ان تم احتلال بلادي الشاسعة وانتزعوها منا وقد أصبحت غير صالحة لسكننا! الأوغاد قلبوا المعادلة، فحولوا اغتصاب حقوقنا إلى شرعية، بعد ان داسوا علينا، ومنحونا هذه السجون!
  فقالت وهي تفكر:
ـ كأنك تذكرني بناقل الشر غير الشرير!
فقال وقد ظهرت عليه ملامح الغضب:
ـ لا تذهبي ابعد من حدودك...، فلو كان الشرير بريئا ً فلم استخدمه الشر...، ثم لماذا استجاب للأفعال المشينة، والخسيسة، وغير العادلة...؟
ـ أحسنت، يا سيد الهواء، والرمال، والشمس! فانا غير شريرة، ولكن الشر أغواني...، فانا ضحية بلا قصد مسبق...، فلماذا أعاقب وكأنني أنا المسؤولة عن ارتكاب الشر...، فانا أعاقب بالذنب الذي أرغمت على ارتكابه...، فأين هو العدل؟
   صاح غاضبا ً:
ـ أغربي عن وجهي...، فانا أخشى العدوى...، يا ناقلة الكفر! فدعيني، في هذا الفجر الجميل، ابحث عن وليمة!
   فدار بخلدها سؤال أربكها: إذا كانت حياتي لا تنتهي إلا بالموت، وبموت جنسي، فما الفائدة من حياة لا تترك خلفها إلا محوها...؟
فصاحت:
ـ إذا ً فأنت لم تترك لي إلا ان انقل لكم ما حملته أقدامي من الحظائر والزرائب ...
ـ لا...،  أتضرع إليك، يا بعوضة الشر ان لا تنقلي الشر إلينا!
    وابتعدت هاربة كي تختفي عن نظره. فكر الصقر مع نفسه:
ـ إنها ليست ناقلة للشر...، بل هي الشر عينه!
   من ثم راح يبحث عنها في فضاء القفص الكبير، داعيا ً النسور وباقي الطيور للبحث عن بعوضة تسللت إلى القفص، وإنها ربما تكون حاملة لواحدة من افتك الأمراض وقصد بها انفلونزا البرغوث، أو جنون اللقالق، أو جذام البط الوحشي، فهي، قال:
ـ تحمل ما لا يتوقعه العقل، إنها تنقل وباء الهذيان، والموت بشفافية، وفوبيا الزوال!
     ناداه نسر عجوز لم يحرك ساكنا ً:
ـ وماذا يعني القضاء عليها، أيها الصقر الجسور...، هل سيطلقون سراحنا، ويدعونا نرجع إلى برارينا...؟
  صدم الصقر لكلماته، فخاطبه بجدية اكبر:
ـ دعنا نفكر في حدودنا أيها النسر الحكيم، فالقضاء على ناقلي الأمراض خطوة تفضي للقضاء على المرض...، فهذا العمل يماثل التصدي لناقلي الشر بغية القضاء على الشر...، لأن عدم اتخاذ ما يلزم يماثل اشتراكنا فيه، ويماثل تخاذلنا، إن لم اقل غيابنا من الوجود.  وتلك إشكالية تجعل وجود الشر، بحد ذاته، شرعيا ً! وهذا يعني إننا وقعنا في المحضور....!
متابعا ً بصوت أعلى:
ـ وما أدراك ان تكون هذه البعوضة قد أرسلت لنا...، دست دسا ً، لنقل وباء يهلكنا جميعا ً، ويعرض جنسنا للفناء، داخل أقفاصنا الموصدة، ونموت موت الأسماك في أحواضها الآسنة، بدل ان تتمتع بالبحر وطنها السليب!
ـ يبدو لي، أيها الصقر الشهم، انك أصبحت بالحمى، فأنت تعرف ماذا تفعل الحميات  بالعقول...؟
ـ لا، لا تفزعني! فالبعوضة لم تقرصني ولم يختلط دمها بدمي...؟
ـ ها، أنا لم المحّ إلى ممارسة شاذة، بل إلى عدوى تحدث عبر الهواء!
   صمت الصقر برهة وقال:
ـ وهل سمعت شريرا ً باح انه ارتكب الشر بإرادته، أو حبا ً بالشر...، أم تراه يجد له ألف غطاء، وألف تمويه ...، وألف عذر...؟  ثم إنني لم ارتكب الشر، كما لم أقم بنقله...، كل ما قلته هو دعوتك لتشاركنا بالقضاء على هذا العدو....!
     بعد ان طارت البعوضة، وابتعدت عن قفص الطيور، راحت تبحث عن مكان امن تختبئ فيه، فوجدت شقا ً في شجرة، دخلته، فأفضى بها إلى ثقب يطل على البركة، فرأت أمامها ملكة البعوض تحّوم، مثل طائر مصاب بسهم، تائهة، تتخبط بحثا ً عن ملاذ تتوارى فيه. فنادتها:
ـ سيدتي...، سيدتي الملكة ...
   لم تسمعها، فصرخت البعوضة بأعلى ما تمتلك من قوة على الصراخ:
ـ أنا هنا...، في هذا الشق.
    لكن ملكة البعوض ابتعدت وغابت عنها. فدار بخلد البعوضة انه لا معنى للمجازفة ومغادرة الثقب، فتركتها تلقى مصيرها المجهول!
   فكرت وهي تلقي نظرة متفحصة إلى الأشجار، أمامها، ثم نظرت إلى ضفاف البركة، لتشاهد مجموعات من الغزلان، والثيران، والزرافات، والنعاج، والجاموس، وثمة دب يرقص جذب نظرها:
ـ الأحمق لا يعرف ماذا يجري ...؟
ثم قالت لنفسها:
ـ صبرا ً.
   ولكنها صدمت عندما رأت بوما ً يجلس القرفصاء في نهاية الثقب، سمعها، فهمس بصوت ناعم:
ـ سمعتك تصرخين...، وتنادين على ملكتك التائهة...، فقلت مع نفسي: ما شأني، فانا عشت حياتي وحيدة، لا شأن للآخرين بي، فما شأني بهم!
   استعادت أنفاسها، فسألته:
ـ أي إنني وقعت في المصيدة؟
ـ لا ...، أنا هو الذي وقع فيها!
     ذلك لأنها استنشقت رائحة نمل. فأبصرت لترى ان البوم مطوق بسلاسل لا مرئية وان أية حركة سيقوم بها ستكشفها وتعرضها للخطر. تجمدت. وراحت تخاطبه عبر لغة الومضات، فاخبرها ان تزحف بهدوء وتلتحق بملكتها الضائعة، وتهرب بعيدا ً عن الغابة، وبعيدا ً عن البركة، فأومأت له إنها مسرورة ان تجد عونا ً كهذا من لدن بوم يحتضر. ولكنه قال لها:
ـ فهناك، عند المستنقعات، يتجمع البعوض، استعدادا ً للانتفاضة، والتمرد، وإعلان العصيان، ومن ثم الحرب على الظالمين. فاذهبي...، بهدوء، بصمت، ثم اعملي على تحريري من النمل!
ردت بامتنان:
ـ أمرك...، سيدي البوم، فلن نغفل نصحك لنا!
   انفتح الفضاء أمامها. فحلقت، بخط مستقيم، كما اخبرها، بدل الدوران، أو الطيران المتعرج، أو الارتداد والتراجع.
ـ فلا تنشغلي بالثيران، والضباع، والجاموس، فكلها تعمل على هزيمتكم، وسحقكم، ومحو وجودكم ، في هذه الحديقة.
      وتذكرت إنها قالت له ان هذا محال: وإلا لكانت الديناصورات وباقي الزواحف والثدييات قد أفلحت بالقضاء على أسلافي البعوض، والبرغوث، والقمل!  تذكرت انه قال لها ان الزمن تغير، وان أدوات الفتك ما هي إلا جزء من لعبة خاتمتها بانت منذ بدأت إدارة الحديقة بشن الحروب.
     وكاد انشغالها بوصاياه الشبيهة بالمواعظ ان تشل حركتها في الطيران، كي تستمع إلى صوت مجهول المصدر أمرها بتحمل عناء الطيران، للوصول إلى سواحل المستنقعات الخلفية، حيث الظلمات، الريح، البرد، والموت! وان تتجاهل ما مر بها...، فلا احد، في هذه الحديقة، يرجو للآخر إلا الشر، والتنكيل، والقتل..!
ـ آ .....، سيدي، من أنت، فالدنيا مازال فيها شرفاء ؟
ـ أنا هو لا وعيك السحيق، يدربك على التجلد، وتحمل العذاب، للنجاة!
ـ ولِم َ تفعل هذا...، إن لم تفعله للأسباب ذاتها التي دفعت الأشرار إلى إبادتنا...؟
ـ أنا لست هو الشر، ولست الخير أيضا ً، أنا هو الذي يذهب ابعد منهما!
    ارتج جسد البعوضة وكادت تفقد توازنها في مواجهة تيارات الهواء:
ـ إذا كنت لا تقصد فعل الشر، ولا فعل الخير فما الذي تقصده تحديدا ً ....، بمثل هذا الإرشاد، والوعظ، و ...
   لم يدعها تكمل:
ـ أنا في الأصل لا افعل الشر ولا نقيضه، بل افعل الذي لا استطيع إلا ان افعله! فانا هو هذا الذي يكاد عمله ان يكون خارج العمل!
   فسألته بخوف:
ـ ألا تعتقد إنني أصبت بالوباء...، الذي اهرب منه، وإنني أصبحت امثل الوباء نفسه؟
ـ لا امتلك الجواب، ولا ظله! فما قلته لك ِ ليس إلا حاصل شقاء طويل...، ومواجهات حادة، ومكابدات خالية من الرحمة ...، وإذا ما كانت كلماتي لا تدلك على الطريق، فإنها ستفتك بك!
    أسرعت، محفزة أجنحتها البلورية باجتياز مطبات كان يحدثها الإعصار الرمادي، الذي غدا عاصفة هوجاء مشوبة بالظلمات الداكنة...، وما ان رأت قرص الشمس يرتفع خلف الأشجار حتى لمحت مرآة لا حدود لمساحتها فاتجهت نحوها:
ـ آ  ...
   استنشقت رائحة سمحت لها بالطيران على مستويات منخفضة، حتى شاهدت ما لا يحصى من الفيالق، والكتل، والمجموعات الكبيرة من البعوض، تمتد، تغطي الأفق أمامها، فراحت تبتهل، وهي تبحث عن الملكة التائهة، فلم يلتفت لها احد...، ولكنها أدركت إنها تستطيع الطيران بعيدا ً عن الخطر.
ـ إلى أين... أنت ِ...، أيتها المتخاذلة؟
نظرت إلى الخلف، فلم تجد سواها، فقالت:
ـ أنا....؟
     وحدقت في مصدر الصوت، فرأت مجموعة ترتدي لونا موحدا ً لم تميزه،  لشدة توهج أشعة الشمس، فوق المستنقع الكبير، يتتبعون خطاها.
ـ نعم.
ـ منذ زمن بعيد ونحن نبحث عنك...!
فقالت غاضبة:
ـ أنا هي التي كانت تبحث عنكم.
   سمعت آمر المجموعة يخاطب مساعده:
ـ الق بها إلى الجحيم، فقد تكون تعاونت مع العدو...، وقد يكون العدو هو الذي جندها، وأرسلها! فالنفوس المريضة ترتكب أخس الأفعال من اجل مكاسبها الدنيئة!
   فصرخت:
ـ أنا نجوت بمعجزة!
فضحك آمر المجموعة، وهز رأسه:
ـ هكذا يقول الجميع، دفاعا ً عن الخطيئة، وارتكاب المفاسد، والإثم!
ـ أرجوك ...، أصغ إلي ّ أولا ً، ولا تسلك سلوك المهرجين، أصحاب الأصوات الملعلة، خطباء الساحات، أصغي إلي ّ، فانا اعرف ما يجري هناك، في الزرائب، الأجنحة المغلقة، الأقفاص، الحظائر، وما يحدث في السراديب، الجحور، الشقوق، وما يجري تحت في قاع البرك الراكدة...، وعند سواحلها....، حتى ان الإعصار كاد يقضي علي ّ، قبل ان يتحول إلى عاصفة...، لإبادتنا، واجتثاثنا من الوجود!
   لكنها وجدت جسدها الغض مكبلا ً بالسلاسل، والحبال، ولم يسمح لها حتى برؤية ما يحدث، لتجد جسدها داخل قوقعة مظلمة، أدركت ان من يدخلها لن يخرج منها سالما ً، عرفت ذلك، بعد ان أفاقت، فقد وجدت الملكة قد سبقتها، وخاطبتها الملكة: لا جدوى من الصراخ....، ومن العياط، ولا فائدة من طلب الرحمة، والغفران! فلا تنتحبي، ولا تبكي، ولا تتضرعي ...، فقد فعلت ذلك من غير جدوى!
     وجدت صوتها يغيب، مثلما أدركت إنها لم تعد تمتلك قدرة على إجراء حوار مع ذاتها، وان أجهزتها الأخرى بدأت تتخلى عنها، لكنها عادت تصغي إلى الصوت الذي حذرها، عبر طريقها فوق البركة، بان الجميع يستعدون، بعزم، وعناد، وإباء، للقيام بردود أفعال تناسب حملات الإبادة، وليس عليها إلا ان تواصل بذل الجهد الاحتياطي، مع ملكتها، وباقي السجناء، والمحتجزين، لتلافي عقبة الاحتجاز، بدل ان يتحول الدفاع عن النفس منحدرا ً نحو المجهول، ونحو الظلمات.
11/11/2016
Az4445363@gmail.com

الأحد، 13 نوفمبر 2016

قراءة في كتاب ( خصائص الأسلوب في شعر حسين قسام النجفي ) - حامد كعيد الجبوري


                             ( خصائصُ الأسلوب والجهد الجزائري )
قراءة في كتاب ( خصائص الأسلوب في شعر حسين قسام النجفي )
                                                              حامد كعيد الجبوري
    يعزفُ الكتابُ والباحثون والنقادُ الكتابة عن الشعر الشعبي العراقي إلا ما ندر جدا جدا ونضع خطا تحت ما ندر ، وتبرير ذلك برأيي الشخصي أن المعنيين الذين ذكرتهم يعتقدون بدونية الشعر الشعبي العراقي وعدم أهليته للدراسة والبحث ، والكتابة عنه وله يعتبر عندهم ضرباً من الاستخفاف أو عدم الأهمية ، أو لأنهم لا يستطيعون خوض غماره وأمواجه المتلاطمة التي ستغرقهم دون تحقيق أي شئ أو منجز ثقافي يشار له ولهم لاحقا وبالتالي أهملوه ، ناهيك عن المفهوم الطبقي الذي نعتوا به الشعر الشعبي وأسموه ظلما بشعر العامية ،  ولا أخفي أن الموروث الشعبي العراقي كما بقية أبواب الثقافة والفنون عامة فيه من الغث الكثير ، وبالمقابل فيه من السمين أيضا مما يثير شهوة الكتابة عند ال( ما ندر ) جدا كما أشرت إليه أنفا ، لذا نجد في بعض الصحف العراقية موضوعا نقديا من صفحتين أو أكثر لملئ فراغ تلك الصحيفة أو تلك ، وحتى في صحيفة طريق الشعب تعطي للأدب الشعبي صفحة واحدة في الأسبوع ، وأنا أجده قليل جدا هذه المساحة الضيقة ، ومن النادر أن نقرأ فيه موضوعة بحثية متكاملة الأغراض والمفاهيم النقدية ، أو دراسة  تفصيلية رصينة لتراثنا الشعبي الغزير ، وما صدر عن دار الينابيع عام 2010 م ( الثورة النوابية ) لحسين سرمك أجده المنجز الضخم عن ما كتبه الشاعر العراقي الرمز مظفر النواب ، وكنت أرقب دراسات أخرى لنفس الناقد أو غيره عن تجارب عراقية شعرية شعبية لا تقل إبداعا ووطنية وجماهيرية عن تجربة رمزنا النواب ، مع تحفظي عن ذكر أسماء الشعراء كي لا تثار تساؤلات حولها لأني أتعامل مع النص كونه عملا إبداعيا لا غير ، وربما صعوبة توثيق الثقافة الشفاهية الشعبية المتداولة حالت دون التصدي والكتابة عن الموروث الشعبي العراقي  كما قلت .
      أجد أن الخلفية السياسية للصديق مزاحم الجزائري هي التي دفعته صوب الكتابة عن شاعر هزلي أستحوذ على الإعلام الشعبي اللساني حقبة الثلاثينات والأربعينات وبداية خمسينات القرن الماضي ، فخلفية مزاحم الجزائري السياسية تُعنى بالأدب الشعبي عامة والشعر الشعبي خاصة ، بل وتعتبر قصائد البعض من الشعراء منشورات سرية تتداول عند مختلف شرائح المجتمع العراقي ، وقصائد مظفر النواب  مثلا لذلك ، ولليسار العراقي وبخاصة الحزب الشيوعي العراقي يدٌ بيضاء في تسليط الأضواء على بعض من الشعراء الشعبيين  الذين وجد فيهم الحزب الشيوعي العراقي جذوة شعرية يمكن من خلالها تبني تلك الظاهرة المميزة وصقلها وإبرازها بإطار وطنيتها التي تحمل ، ليصبحوا بعد ذلك من أبرز شعراء ستينات وسبعينات القرن الماضي ، ومثال ذلك كراس ( أغاني للوطن والناس ) طبع بعد احتفالية العيد الأربعين للحزب الشيوعي العراقي 1974 م ، وضم بين دفتيه ( 32 ) قصيدة لشعراء لا يزال يشار لهم وليومنا هذا بتجربتهم الفريدة المميزة ، وأسلوبهم الحداثوي ، وتداخلهم بصفوف شعبهم ونقل معاناة الوطن وأهله ، ويُتهم الحزب الشيوعي زورا أنه يخلق الرموز الشعرية منطلقا من شخصنة ذاتية لأسماء بعينها ليبرّزها وتصبح واجهة إعلامية للحزب وقيادته ، وهذا زعم مرفوض  ودليلي أن كل الأسماء التي تعرفون وأعرف من شعراء شعبيين هم منجزٌ إبداعي سبروا أغوار المفردات الشعبية وقدموها على صحن ثقافي شعري ممتع للذائقة الأدبية القارئة ، فأحبَ الناسُ تلك القصائد وحفظوها واستدلوا بها على عظيم تلك التجربة السبعينية حينها .
           و ( خصائص الأسلوب في شعر حسين قسام النجفي ) عمل وجهد ليس بالقليل للباحث والشاعر مزاحم الجزائري ، وقراءة  الجزائري واقعية انطباعية بنيوية لقصائد شاعر ترك لنا ثلاثة دواوين شعرية ( سنجاف الكلام ، قيطان الكلام ، محراث الكلام ) ، وربما يعتقد البعض بمكان ما سهولة الدراسة لقصيدة شعبية مباشرة ، تخلو من الرمزية لتفصح عن مكنوناتها ومعانيها العفوية كما يحلو للقارئ تسميته ، وهذا يخالف حقيقة قصدية الشاعر ورمزية سخريته اللاذعة وإشاراته في ما يقول ، وأستطاع الجزائري أن يناقض ما يدعيه البعض وأخرج لنا رؤيا وحقائق قصائد ( قسام النجفي ) وقصديتها بتسفيه أفكار مجتمعية بالية طبع الكثير من عامة  الناس وجبلوا عليها .
         العربية لا تبدأ بساكن ولا تقف على متحرك ، حقيقة تركها لنا النحويون ، فلا يستطيع أحد منا قراءة أي بيت من الشعر الفصيح دون أن يشكل الحروف – الضمة ، الفتحة ، الكسرة ، السكون ) ، ( حييتُ سفحكِ ظمأناً ألوذُ بهِ / لوذَ الحمائمِ بينَ الماءِ والطينِ ) ، من  يستطع قراءة البيت دون تحريك الحروف في البيت أعلاه ، ومن المؤكد لا يستطيع ،  ومن هنا تأتت جمالية ورفعة اللغة العربية في تحقيق غاياتها ومراميها ، ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ) سورة فاطر ، فلو قلنا اللهُ بدل اللهَ لأختلف المعنى كاملاً ، فالكسرة أو الفتحة تغيير بالمعنى وضياع ما أراد الشاعر أو الناثر ، لذا أنبرى العروضيون وقعدوا القصائد الشعرية الفصحى ، ووضعوا لها ميزانا عروضيا يحتكم إليه ، أما الشعر الشعبي ولعدم قبول الحركة على الحرف الأخير من الكلمة لذا أصبح من الصعوبة بمكان إخضاع القصائد الشعبية للميزان العروضي الفراهيدي -  رأي شخصي -  ، يقول النجفي ( شاربله كونية دوه / وأثلث حكك شربت نوه / ياكل شمس يشرب هوه / من إذنه يطلع دخان ) ، في هذا المقطع وببقية القصائد الشعبية لا نستطيع أن نحرك نهاية المفردة الشعبية ، كما في بقية القصائد الشعبية عامة ، ولو أخضعناها للحركة أضعنا وزن القصيدة واختلفت معانيها على الفهم والتمييز ، وبجهد كبير ودراية عروضية للجزائري أخضع قصائد ( قسام النجفي ) للبحور ( الفراهيدية ) وأشار لوزن تلك القصيدة بما يقابله من الشعر الفصيح ، ومؤكد أن الجزائري ليس الوحيد بهذه التجربة بل سبقه الكثير لتقعيد – الوزن -  القصائد الشعبية ، وهي محل خلاف كبير بين العروضيين ، والطريقة المثلى عند غالبية الشعراء الشعبيين اعتماد وسيلة الأذن الموسيقية ، وأجدها وسيلة خاطئة توقع الشعراء بالخلط بين الأوزان الشعرية المتقاربة بتفعيلاتها العروضية ، إلا إن كان الشاعر الشعبي يمتلك أذنا موسيقية واعية وهذا ما يندر .
      قسم الباحث ( مزاحم  الجزائري ) منجزه ( خصائص الأسلوب في شعر حسين قسام النجفي ) الى ثلاثة فصول غير المقدمة والتمهيد والخاتمة ، الفصل الأول : مضمونية البنية الإيقاعية وفيه مباحث شتى ، الفصل الثاني : مضمونية اللغة والأساليب الفنية وفيه مباحث أخرى ، والفصل الثالث : مضمونية الصورة الشعرية وكذلك يحتوي على مباحث عدة .
     لم يغفل الباحث من إيراد بعض القصائد و( الموالات )  و( الأبوذيات ) و( الهوسات )  الساخرة للشاعر ( النجفي ) مما تضيف متعة للقارئ ، ويجعله مسترسلا لقراءة كل المباحث التي أوردها الجزائري ، ومن طريف ( الهوسات ) يقول النجفي ساخرا ، ( أحنه صدك وأحنه نحرث المحروث / منخلي على وجه الأرض ملغوث / إلنه يوم نهجم بيه على البرغوث / ( والحرمس هد أعله رجاله ) .  
     جهد لا يسعنا إلا أن نشكر الصديق الجزائري الذي فكك قصائد ( حسين قسام النجفي ) وأخضعها لميزانها العروضي ، وأستخرج لنا من قصائد النجفي الجناسات والطباقات بموسيقى القصائد  للشاعر ، ومضامين البنية الإيقاعية ، ومضامين اللغة وأساليبها ، ومضامين الصور الشعرية الفكاهية والساخرة ، ومضامين الصور الشعرية السريالية  ، مبارك للباحث ( الجزائري مزاحم ) هذا العمل والجهد والمثابرة .            

الجمعة، 11 نوفمبر 2016

رفاهية وقصص قصيرة أخرى-عادل كامل

رفاهية وقصص قصيرة أخرى


عادل كامل

إلى نوال السعدون
[1] رفاهية
   في القفص، سألت أنثى الذئب قرينها الهرم:
ـ أتراهم يعطونا لحوم غزلان، أم لحوم كلاب، أم لحوم حمير؟
ضحك الذئب الهرم:
ـ وما الفرق... ؟
قالت بصوت غاضب:
ـ لحوم الغزلان تجعلني احلم، ولحوم الكلاب تضطرني إلى النباح، وأنت تعرف ماذا تفعله لحوم الحمير فينا؟!
ـ يا عزيزتي...، وهل كنا في البرية نختار وجبتانا اليومية بهذا اليسر؟
ـ آسفة، يا عزيزي، لكن هذه الأقفاص لم تعد تجعلك تفكر في ّ، أو حتى تغازلني، وتتحرش بي...، كما كنت تفعل عندما كنا طلقاء في البرية؟
ـ يا عزيزتي...، انتهى زمن الشقاء، والكد، فبعد أن وضعونا في هذه الأقفاص، منحونا الرفاهية، فعلينا أن نتمتع بالحرية التي لا تذكرنا بالعواصف، والأعداء، والمجاعات،  فالموت في الرفاهية لا يدعنا نقع حتى في غوايات الخطيئة!  


[2] زمن المعجزات
   وهي تراقب الفصائل التي استنزفتها ويلات الحرب، سألت الحمامة حمارا ً يستعد للاشتباك:
ـ هل أنت اخترت أن تكون حمارا ً..؟
ـ كلا.
وسألت الذئب المستعد للمنازلة:
ـ أم أنت اخترت أن تكون ذئبا ً؟
ـ كلا.
وسألت الدب:
ـ وأنت؟
ـ   أنا ولدت دبا ً ابن دب وصولا ً إلى جدنا الدب الأعظم.
ـ وأنت ِ أيتها الأفعى..؟
ـ أنا ولدت هكذا ...
ـ وأنت، أيها الضبع، وأنت أيها الخنزير، وأنت أيها الثعلب، وأنت يا تمساح...
ـ الكل وجد انه ولد كما هو عليه...، بأنياب ومخالب وجلد ولون وحجم ودم وذيل لم يختره ...
ـ فما الذي يدعوكم للتباهي بإعلان الحرب، وبسفك الدماء...، مادام الفيل لم يختر أن يولد عصفورا ً، ولا الكوسج  فكر أن يصبح نورسا ً، ولا القطط الوحشية هذبت مخالبها أو أنيابها...؟
   نظروا إليها بشرود تام:
ـ ومن ذا باستطاعته أن يغير ما ولدنا عليه أيتها الحمامة، مادام موتنا اعد لنا قبل أن ترى عيوننا النور؟
ـ هذا وهم...، هذا هو الوهم!
ـ ما الحقيقة إذا ً...؟
ـ لا توجد حقيقة!
صاحوا بصوت واحد:
ـ أيتها الفصائل: أما النصر وأما الموت!
صاحت الحمامة  مذعورة:
ـ  لكنكم، للآسف، لن تكسبوا حتى هزائمكم في هذه الحرب!
ـ انك تطلبين المحال، والمستحيل، وبحصول معجزة بعد أن انتهى زمن المعجزات...؟
فراحت تتمتم مع نفسها:
ـ هكذا سيبقى السلام حلمنا الوحيد، وما أن يتحقق، بعد هزيمة الجميع، حتى تكون جراحكم غير قابلة للشفاء، إلا بمعجزة، وانتم قلتم: أنهى زمن المعجزات!


[3] تكريم
   سأل الأرنب زميله، وهما يتأملان  الحديقة:
ـ أتعرف لماذا وضعوا المفترسات الشرسة في هذه الأقفاص؟
ـ عقابا ً لجرائمها المقترفة بحقنا!
فقال الآخر بصوت حزين:
ـ كلا...، يا أحمق، بل تكريما ً لها! لأننا، عندما كنا في البرية، كنا نمتلك ألف وسيلة للهرب، وللنجاة منها...، أما هنا، أيها المغفل، فإنها لا تشقى بالحصول على لحمنا!


[4] صمت
ـ قل كلمة نافعة...، وامض.
ـ أخبرتك أني جمعّت كل ما دار برأسي وبحت به فإن لم تسمع صمتي، فلن يكون لكلماتي حتى اثر ما تعمله السكين وهي تفصل الرأس عن البدن!
ـ  ومن ذا سمع صمتك؟
ـ تقصد...، ومن يصغي لكلماتي، وأنا أخبرتك، أن كل ما تفوهت به، شبيه بما كتمته، مع أن النهايات لن تكمل إلا ما هو سابق على مقدماتها، وملحق بما هو ابعد منها. فان قلت كلمة نافعة...، ففيها من الضرر مثلما يصبح فيها النافع فراغا ً...
ـ ها أنت قلت كلاما ً شريرا ً...؟
ـ لو لم يكن للشر منافع لكانت العدالة تكفلت بإصلاح الأشرار...، وليس بما تراه...، يذهب خارج مدى ما يراه الأعمى، في هذا الليل، وهو يسرد حكايات عميان انحدروا من أكثر الشموس توهجا ً!


[5] دعوة
    بعد أن اشتد أوار الحرب، فقد الغزال رشده، وتوقف في الساحة، يخاطب الجميع:
ـ ما الذي يدعوكم إلى سفك الدماء، وانتم تعرفون أن أحدا ً لن ينتصر على الآخر...، وأنكم ستتصالحون غدا ً أو بعده...؟
   توقفت الأطراف المشتبكة، عن القتال، وصاحت بصوت واحد:
ـ هذا الغزال يدعو إلى الصلح، ويدعو إلى المودة، والى السلام....، ليرتكب ذنبا ً  فاق ذنوب الحرب!
  وهموا بالهجوم عليه مجتمعين، موحدين، كتلة كالبنيان المرصوص...، فقال الغزال لنفسه، بصوت مسموع:
ـ أن تموت وأنت بريء خير من أن تموت وأنت ملطخا ً بدماء الأبرياء!
ـ قفوا...
صاح كبير الذئاب، مقتربا ً من الغزال، وسأله:
ـ يبدو انك هبطت من كوكب آخر...؟
   أجاب الغزال:
ـ لا...، بل أنا لم اعد أصلح للسكن في هذا الكوكب!


[6] تتمات
ـ ها أنت أصبحت من الخالدين! فخذ موقعك، واسترح!
ـ آ .....، ها أنا ذا إذا ً في القاعة التي كنت أتأمل فيها الديناصورات، والخراتيت، والمنقرضات...، وأقول لنفسي: يا لقسوتنا..، حتى عظامها لم تسلم من التشهير!
ـ حسنا ً، سنمحو أثرك، قبل أن نعيدك إلى الفناء!
متمتا ً، قال لنفسه بصوت واهن:
ـ لا العظام اقترنت بالخلود، وبالخالدين، ولا المحو باستطاعته أن يكون عدما ً.
ـ حرنا معك ...
ـ هذه حيرتكم، لا حيرتي..، فانا قلت: دع الحيرة تأخذ تسلسلها...، فلا يتقدم العدم على الوجود، ولا الوجود على العدم، فأنا طالما قلت: وما معنى استحداث نهايات مسبوقة بما لا يحصى من المقدمات، ومقدمات لا تستحدث إلا ما لا يحصى من النهايات، فانا لم اطلب أكثر من  قهر هذا الذي صار علامة للقهر!

[7] غياب
   وهو يرى المشهد كاملا ً، سمع من يناديه:
ـ كلنا لذنا بالفرار...، فاهرب معنا، مادمت تستطيع الجري..، ومادمت تستطيع أن تفلت من مخالبهم، وأنيابهم...
  هز رأسه متمتما ً:
ـ  وهل اهرب من الحديقة التي عملت على اجتثاث دغلها؟
سمع احدهم يقول له:
ـ  أتريد أن تُذكر مع أسماء الغائبين...؟
ـ وهل ستجدون حديقة لا ينمو فيها الدغل، كي أنجو من الغياب؟!

[8] عند بوابة الجحيم
ـ ألا تعتقد إن إلهانا، ونحن مازلنا في زمن الغاب، والبراري، وبكلمة منه، يستطيع القضاء على الشر ...؟
ـ يقدر. وأنا أقول لك انه يقدر ليس لأنني لا استطيع أن أقول غير ذلك، بل لأنه وحده ترجع إليه الإرادة.
ـ افهم منك أن الشر ليس شرا ً خالصا ً...، بل له منافع نجهلها، حتى عندما يقضي علينا،  ويمحونا من هذا المستنقع؟
ـ انك تناقش قضايا خارج حدود عقلي، وخارج أدواتي بالبحث أيضا ً.
ـ  لكن...، بحدود هذا العقل، فانا لا أجد أن هناك منافعا ً سوى ما ذكرته لك.
ـ  لولا الشر...، ولولا الأشرار...، لولا الجهل، ولولا الجهلة، لتوقفت الحياة برمتها..، لنصبح وكأننا رجعنا إلى أصلنا الأول الذي طردنا منه!
ـ إلى العدم...، أم إلى  الفردوس؟
ـ  اختر ما تشاء...، عدا هذا الذي رأيته، وعشته، وتمتعت بحسناته وسيئاته.
ـ كأنك تساوي بينهما؟
ـ  ليس لدي جواب، فانا اجهل الرد...، لأن عدم وجودي لا يسمح لي أن اعرف عنه ما علي ّ أن أخبرك به...، فان كل ما اعرفه أن حياتنا ليست شرا ً خالصا ً..، فلولا المنافع، لكان الإله قد استغنى عن غاياته، فلولاه لما ازدهر علم الطب، ولا علم الحساب، ولا علم الفضائل...، لا التجارة ولا الجمال..، لا فن صناعة البضائع، ولا فن صناعة الجثث.
ـ ولكنك لم تقل: فن القتل؟!
ـ انك لم تدعني أكمل... فأقول: فن الفتك!
ـ فن قتل الصغار، وقتل الأبرياء، وقتل المستضعفات..؟
ـ لا اعتقد انك قصدت الفن الجميل...، بل الشر الذي يحفزنا لاستحداث ما يتطلب عملا ً، وجهدا ً..
ـ ولكن ليس للقضاء عليه، أو محوه...؟
ـ تلك هي إرادة الإله ...، يا سيدي!
ـ عدنا إلى الصفر: ألا تعتقد إن إلهانا يقدر، بإشارة منه، القضاء علينا جميعا ً؟
ـ ولماذا علينا جميعا ً..؟
ـ حسنا ً، أتستطيع أن تجد لي كائنا ً واحدا ً، واحدا ً حسب، خارج شرط وجوده؟
ـ لا!
ـ فما هي منافع الشر إذا ً...، حتى لو لم ندركها؟
ـ آ ...، أنت تقصد الأشرار...، لقد فهمت الآن قصدك!
ـ بل أنا قصدت الشر الذي يأتي بهم...؟
ـ ويأتي بالحكماء أيضا ً...؟
ـ وهل استطاع هؤلاء الحكماء، لو جمعتهم، منذ أول الخلق، حتى يومنا هذا، إيقاف ازدهار فن قتل الصغار، والتسلي بالضعفاء، والإسراف في الجور...؟
ـ لا.
ـ  فما الفائدة من الشر الذي لا يصنع إلا حكماء عجزة؟
ـ ها أنت صرت تفكر كاله!
ـ  وكيف أفكر مثل اله وأنا ولدت في هذه المزبلة، في هذا المستنقع، وفي هذه الزريبة...؟
ـ ستعرف الجواب عندما تدخل جهنم..!
ـ أنت يا سيدي هو من يتكلم مثل اله، لا أنا...، لأنني لا اصدق أن هناك إلها يصنع الشر..، ويصنع الجحيم معا ً، فهل هذا اللا مسمى الذي بلا حدود وبلا حافات ينتظر مني الإدلاء بصوتي لانتخابه، وإعلاء شأنه؟!
ـ  ها أنت تذهب ابعد من المعضلة التي غطسنا فيها!
ـ أعود، مرة أخرى، وأسألك السؤال نفسه: ما فائدة الشر ..، وما فوائد الدناءة، والرداءة، والمرض، والهرم، والجنون؟
ـ اذهب واسأله؟
ـ يا سيدي، أنا لا اعرف كيف تجرأت وسألتك هذا السؤال...، فهل باستطاعتي أن أجد جوابا ً على أسئلة ما انفكت تحتفل بازدهار الانتهاكات، والمظالم، والخراب؟



[9] شجاعة
ـ ها أنا أموت..، إذا ً أنا لن أموت مرة ثانية؟
قالت الغزال لنفسها بعد أن ابتلعها التمساح. فقال الأخير لنفسه بعد أن سمعها:
ـ  يا لشجاعتها ...، لم تهرب مني، بل ولم تبد مقاومة تذكر، لكنها تخاف أن تولد مرة، لتنجو مني!

[10] احتفال
ـ أنت لا تسمع الرنين الذي اسمعه، فأنت لا تسمع سوى قرع طبول الحرب...، ودوي المدافع، أزيز الطائرات، ولا ترى سوى أعمدة الدخان ترتفع عاليا ً...، أنت تسمع أصوات الباعة، والداعين إلى المجازر، تسمع أصوات المهرجين، وعويل الثكالى، وانين الأيتام، واسى الأرامل، أنت تسمع صدى نزيف الضحية وهي تحدق في رصاصة موتها...، أما أنا ...، فاسمع الصمت، يمضي ابعد منك...، وابعد مني أيضا ً!
ـ أرجوك ...، من أنت؟
ـ  أنا تاريخ صمتك الذي يولد بعد هذا الاحتفال!

[11] كوكب آخر
ـ لم يبق لدينا إلا أن نبحث عن كوكب آخر...
متابعا ً، أضاف الأرنب لزميله:
ـ فأينما هربنا، وأينما ذهبنا، وأينما ولينا، لحقت بنا الأفاعي!
   فكر زميله برهة من الزمن، وقال:
ـ لا أريد الاعتراف ـ مرغما ً ـ بان بقاء الأفاعي، على قيد الحياة، لن يحصل إلا بوجودنا!
ـ أتود أن نمضي حياتنا برفع شعار: مضاعفة النسل...، كي لا تتعرض الأفاعي للانقراض؟
ـ قلت لك: مرغما ً...، لأنني كنت أريد أن أقول: وهل نحن خلقنا أبرياء؟ فإذا كنا لا نستطيع قهر الأفاعي، والحد من بطشها، ووضع حدود عادلة بيننا...، وإذا كنا لا نستطيع الهرب إلى كوكب آخر...، فالحل الأخير غدا معضلة حقيقية...، تماثل الإجابة على سؤال لا إجابة عليه، وتماثل معضلة ضع حلا ً للمشكلة غير القابلة للحل؟!
ـ آ ....، لم تبق لنا إلا أن نستسلم لشراهتهم، لأنهم بافتراسنا يبنون مجدهم!
ـ لم اقل هذا أبدا ً...، ولكن اخبرني: ما الحل؟
ـ أنت ترغمنا بالاستسلام للمبدأ العام: لولا البحر لهلكت الأسماك، ولولا العشب لهلكت المواشي، ولولا الحمير لهلكت السباع، ولولا الأرانب والنعاج  والمخلوقات المستضعفة الأخرى، لهلكت الذئاب، ولولا الطيور والدواجن لهلكت الثعالب وبنات أوى...، ولكن ـ أرجوك ـ اخبرني:هل هذا هو العدل؟
ـ ا .. يا صديقي، دعنا نصنع ممرات وزواغير وثقوب أخرى تحت الأرض...، عميقة، محصنة، شديدة التمويه، لها منافذ لا تحصى...، لمقاومة الأفاعي الشرهة، ولباقي المفترسات المتوحشة...؟
ـ أعود وأتساءل: هل هذا هو العدل؟
ـ لا تسألني...، أذهب وأسأل من خلقها، ومن خلقنا، لأنك ستعرف انك أينما وليت، هربت، ولذت بالفرار...، وأينما تحصنت، واحتميت، ستجدها تجري خلفك...، تتبع ظلك، وتستنشق رائحة لحمك...، لأن الشر، يا صديقي، لا يزدهر إلا بوجود مخلوقات لا حول لها ولا قوة، إلا بانتظار ساعة هلاكها!

[12] انتظار
ـ أصبحت الحرب ظالمة...، فالبشر لديهم ما لا يحصى من الأسلحة..، ونحن لم نعد نمتلك شيئا ً عدا إننا أصبحنا أهدافا ً للصيد، والقتل؟
ـ أنت محق، وعلى صواب...، ولكن لا تحزن، فالبشر أيضا ً يقتل بعضهم البعض الآخر، وهذه هي فرصتنا للهرب منهم..!
   فسأله بشرود ذهن:
ـ آ ....، انتظر زوالهم من وجه هذه الأرض...، بفارق الصبر!
ـ وماذا سنفعل أيها الطير الجميل؟
ـ سأفكر ـ آنذاك ـ كيف نكسر قيود هذه الأقفاص التي احتجزونا فيها!


[13] جسور
ـ لِم َ يشيدون الناس الجسور...؟
   ضحك، وأجاب، وكانا يقفان وسط الجسر:
ـ لا أقول، كي تعبر من تحتها الأسماك! بل كي تراقب الطيور المحلقة عاليا ً في الفضاء عدد المارين من اليسار إلى اليمين، ومن اليمين إلى اليسار...، وجمع العدد وتقسيمه على عدد السكان، لمعرفة العدد الحقيقي للعاطلين عن العمل!
ـ أووووه....، كأنك الخوارزمي أو اينشتاين؟
ـ يا حمار حتى اينشتاين رسب في الحساب!
ـ كنت أظن انك تعرف...، وقد ظهر لي انك ذهبت بعيدا ً حتى كدت تنسى أن الجسور تشيد من اجل أن لا تتسع المسافات بين الضفاف، وتبتعد بعضها عن البعض الآخر، وتتفكك آنذاك المدن، وتزول الحكومات، وتندثر الدول!

[14] طيف
   لم يجد جدارا ً، ثورا ً، ذئبا ً، نورسا ً، أو حتى شجرة يتكلم معها، بعد أن استحال البستان إلى رماد. فرفع رأسه قليلا ً ليشاهد ذرات الأثير مازالت تتموج فوق الرماد! فقال لنفسه بأسى عميق:
ـ لا أريد أن أتجمع! لا أريد أن أولد مرة ثانية!  
  سمع الطيف الأثير يخفي ابتسامة ذات رنين صامت:
ـ وهل كنت تناثرت بإرادتك؟ وهل كنت أنت من اختار ولادته؟

[15] نعمة!
ـ لم ْ يبق لدي ّ ما أبيعه...، عدا جسدي...، فلا اعرف أشكر من على هذه النعمة التي كنت اجهلها؟
  قال ابنها الأول:
ـ تشكرين أثرياء حديقتنا..
وقال الثاني:
ـ تشكرين كل من يغتصب جسدك وهو يدفع الثمن بدل أن يغتصبك مجانا ً!
وقال الابن الثالث:
ـ بل تشكرين الشقوق والفتحات والثقوب التي لديك والتي صارت مصدرا ً لعيشنا بدل أن نتسول، كشحاذين، وبدل أن نموت من الجوع، بعد أن أصبحنا فائضين في هذا الوجود!

[16]  ديمومة
  سأل الثور البقرة التي نز عليها:
ـ أأنت سعيدة؟
ـ لا! فانا سأنجب عجلا ً للذبح!
 فسألها الثور:
ـ لِم َ لم تهربي مني؟
ـ حتى لو هربت منك، يا عزيزي، فهل سيتركني القصاب؟


[17] ظل
   مكث يحدق في قرص الشمس حتى فقد بصره، فقال لنفسه:
ـ الآن بدأت أرى!
لكن ظله سأله:
ـ هل تراني؟
ـ من يرى الشمس، لمرة واحدة، لا يستطيع أن يضع حافة لظلماتها!

[18]
قالت اللبوة للسبع بعد ان افترس ليوتها:
ـ لِم كلمات انجبت ليوثا ً تفترسهم...؟
فقال بصوت نشوان:
ـ لولا الاثم لكانت المسرات مستحيلة!
ثم سألها:
ـ وانت...، لِم َ لم تهربي مني؟
ـ وأين اذهب...، في غابة قائمة على هذا القانون؟

[19] البعوضة تفكر!
    وهي تراقب المستنقع عن كثب، سألت البعوضة نفسها:
ـ إذا كنت أنا انحدرت من عفن هذا المستنقع، فهل هذا الغزال، مثلي، خليط من الوحل والمياه الآسنة....؟ ثم هل هذا الذئب، هو الآخر، كالحمل، انحدر من التراب...؟ ومثل هذا الحمار، وهذه الزرافة، وهذا الضبع، وهذه العقرب...؟
   قبل أن تجد جوابا ً على أسئلتها، أفاقت، كي ترى إنها محاصرة بدخان ابيض، لعلها تجد جوابا ً قبل أن تفقد وعيها وتموت.


[20] حرية!
   بعد إعلان المساواة بين الدواب والبهائم، بين الزواحف والطيور، بين المفترسات والحشرات، وبين كل من يدب ويسبح ويطير، وصار الحمل يتنزه مع الذئب، والنمر يرقص الغزال، والثور يتجول بسرور مع القصاب...، سأل الغراب بلبلا ً حزينا ً:
ـ أأنت كدر، ولم تعد تغرد، لأننا حصلنا على الحرية؟
ـ لا! لأنني لا استطيع تصوّر الحياة خارج أقفاصها، سراديبها، وسجونها!
ـ لم افهم...؟
ـ  إن هذه الحرية، يا عزيزي، هي القفص الوحيد الذي لا نستطيع مغادرته!

29/10/2016
Az4445363@gmail.com

الاعمال الشعرية الكاملة للشاعر ناهض الخياط


عن المركز الثقافي للطباعة والنشر
بابل-دمشق-القاهرة
صدر للشاعر ناهض الخياط-الاعمال الشعرية الكاملة الجزء الاول-الاشراف الفني ولاء الصواف-سومريننت تبارك له هذا المنجز

الخميس، 10 نوفمبر 2016

قراءةٌ وعرض ديوان شعري ( لدمشق هذا الياسمين )- حامد كعيد الجبوري



قراءةٌ وعرض ديوان شعري 
 ( لدمشق هذا الياسمين )
                                                                 حامد كعيد الجبوري 
      ضمن سلسة الشعر ( 2 ) لعام 2013 م / منشورات إتحاد الكتاب العرب دمشق صدر ديوان شعري ( لدمشق هذا الياسمين ) للشاعرة ( ليندا إبراهيم ) ، والديوان يقع ب 100 صفحة من الحجم المتوسط أخرجتهُ فنياً  ( وفاء الساطي ) ، يحتوي الكتاب على 29 قصيدة من ضمنها قصيدة الإهداء ، 9 قصائد عمودية و 20 قصيدة التفعيلة  . 
      ومجموعة الشاعرة ( ليندا ) الشعرية مستهلةً تهديها ، ( السلام على الشعر / مني على الشعر أزكى السلام ) ، وتسترسل  ( على مفردات من النور / جئن كدفق الغمام ) .
     سئلَ أحد الأعراب الشاعر المتصوف الحلاج – ( أبو عبد الله حسين بن منصور الملقب بالحلاج 244 هـ  – 309 هـ  ) –  ما في جبتك ، فأجابه الحلاج ( ما في جبتي غير الله ) ، وبسبب هذه الإجابة أتهمَ الحلاج بالزندقة وشنق بحضور جمع كبير من عامة الناس ، ولأن دمشق الحاضرة العربية التي احتضنت الفكر العربي واليساري ، وقدمت الكثير للشعوب العربية وللإنسانية ، لذلك تكافَئُ من بعض الدول ( المتأسلمة ) والمستعربة لطمر هذه الجذوة الفكرية  والحياة المدنية التي ألفتها الشام منذ أسست ومصرت وليومنا هذا ، وتنبري الشاعرة ليندا ومعها من أحبَ الحياة والضياء والزهور للدفاع عن معشوقتهم ومقدستها الشام لكي لا تُشنق كما شنق الحلاجُ الذي قرأتهُ بتمعن وروية ، وتحاولُ محاكاة عشقها المتوحد مع ذاتها الدمشقية التي جبلت عليها ، ( ولها من الفردوس ، حورٌ مائسات ، عند غوطتها ، يفحن شذى ، على عتباتها ) ، ولأن الشام ودمشقيتها التي ألفت وتآلفت  ، ( مآذن النجوى ، نواقيس التذكر ، هيكل الإيمان ، محراب اليقين ، تهجد النساك ، في غرفاتها ) ، وتجزم الشاعرة ( ليندا ) أن دمشق عصية على أن يطمس ذكرها ويمحى تاريخها العريق ، ( دمشق بادئة الزمان ومنتهاه ، المصطفاة من المدائن روحها وصفاتها ) . 
     يمكننا أن نحيل قصائد ديوان  الشاعرة ( ليندا ) لعدة أغراض شعرية ،  القصائد الوطنية ، الوجدانية ، الذاتية ، قصائد الغزل ، ولا أتمكن كقارئ ومتذوق لما تكتبه ( ليندا ) أن أقتطع بيتاً وأكتفي ويكتفي معي القارئ بتشكيل حصيلة أدبية ورؤية لوحدة موضوعة القصيدة إياها ، القصيدة عند الشاعرة سلسة متواصلة إن تفرطَ عقد جمانها أضعنا مضمونها وشتتنا حبيبات مسبحة قصيدتها وما تريده الشاعرة  بكل بيت من الشعر ، بل وفي أي شطر من قصائدها ، وبخسنا حقها  في ما تريد إيصاله لمتلقيها ولمتذوقي ما تكتبه .
     ( من أين أبتدئ الغناء / ولمن سأهدي قبلتي الأولى ) ، ونتخطى عتبات حنينها في قصيدتها ( أمي )  لنصل ، ( وكل ما في الكون أبيض جاء / من وجهٍ لأمي / كان شمسا صيغ من ذهب السنابل  ) ، وحين تغادرها طيوف ملائك أمها التي حطت على شرف السماء تقول ، ( طوبى لها / اليوم أبتدئ الصلاة لوجهها / واليوم أبتدئ الغناء ) . 
      أحاول جمع بعض شذرات من ديوان ( لدمشق هذا الياسمين ) أجلي بها ركام إسفاف ما تسمى قصائد البعض من المتشاعرين ،  وما أكثر أدعياء الحرف الذين أساءوا للذائقة الأدبية وشوهوها ، فالحرف والقصيدة عند الشعراء – الشعراء - محراب مقدس لا يلجون عبابه إلا على دراية باللغة ونحوها ، والبحور العروضية وميزانها ، مستثنى من ذلك القصائد المنثورة .
      من قصيدة سورة الحب ، ( رباه هذا الحب يشبهني / ومنذ الصبوة الأولى / أسبح باسمه / أني أنا الأنثى التي أرخت جدائلها / على عرش القصيدة ) ، وتقول ( أنا فتنة الأنثى / تفيض على مدارج دوحها عطرا / وينسكب الغمام ) .
      في قصيدة ( خالقة ) تؤنب الشاعرة مخلوقها الحبيب وتزدريه ، وعلى النقيض تعد – تحسب -  له أفضالها عليه لتمجيده وإعلائه ، ولأنها الربةُ تجده أقل شأنا منها فتترك مخلوقها قائلة له ، ( أمجد ما خلقت / وقلت / يا روحُ استريحي من عناء الخلق / ثم منحتك الاسم الجليل ) . 
      من حزنها في قصيدتها ( أغنية الشتاء ) فالى من تهدي شتائها الحزين ، بعد أن عتّقوها بقارورة الصمت ، وزفوا لها الظلمَ والظلام بسنين ربيعها لتجترح قوتها من طاهر جرحها وتسد جوع حنينها  بدفاتر حبها العتيق ، ولتكتب رثاء الاشتياق والبعد والوصل والصد والعشق والشهد المرير ، و ( حشدتُ حروفي مواكب نور / تشيِّع هذا الأمان الخؤون ) ، ولم تيأس بل ( وتهدي لأفئدة العاشقين / غناء ورود شتائي الحزين ) . 
      في قصيدة ( نقش حناء على صدر السويداء ) تؤطرها ( الى سويداء القلب وشامة الوطن ) فتقول ، ( أتيت فأنسكبي برداً على كبدي / يا حنطة القلب يا دنيا من الأبد / أتيت أحمل قلبي ديمة هطلت / على ذرى صدرك المزدان بالبرد / وفي يدي بعض حناء سأنقشها / على ترائب فيهن الجمال ندي ) ، وتؤمن الشاعرة بأن شامها والسويداء بنيت ، وعَلت وبقيت ، وقاومت لأنها ( بصرح من المجد / جدرانه عمِّدت / بدم الشهداء ) ، ولذلك أضحت السويداء الكبيرة والشام الأكبر ( وطناً شامخاً / وأرضاً تضج / نخيلا وقمحا ) ، وأضحت حاضرة إنسانية ( وعشا لعصفورة / ويمام ) .
       الحلول في الذات الخالقة لا يعد سبة أو ذنباً ليرمى صاحبه بالزندقة أو الكفر كما أرى وأفهم ،  ( يا عبدي أطعني تكن مثلي ، تقل للشئ كن فيكون )  ، وهي غير الاعتقاد بحلول الخالق بالذات المخلوقة عند أهل المنطق والروحانية وهو الكفر كما يروون ، وفيه اختلافات فقهية عند مذاهب المسلمين لست بصدده  ، ووجدت بعض الإيحاءات والإشارات والشطحات الصوفية نقرأها ببعض قصائد الشاعرة ( ليندا إبراهيم ) ومنها قصيدة ( صوفيات ) ، وقصيدة ( هائم ) ، وقصيدة ( مقام الهوى ) ،  وقصيدة ( نفحات ) ، وبعض أبيات متفرقة بمنصوص قصائد الديوان ، من قصيدة نفحات نقرأ ، ( ففي فؤادي خوابٍ من سلاف هوى / مذ عتقت في دنان الحب أعضائي / ومذ تعرفتُ في قلبي ثمالته / أبصرت في لوحهِ العلويَّ أسمائي / .... حيث الطيوفُ غريراتٌ مولهةٌ / بالعشق تسكن بين الحاء والباء / هذا هو الحب إذ أحيا به وله / فأن فنيت ففي أيديه أحيائي ) ، ومن قصيدة مقام الهوى ، ( سفري طويل / والقصد دوحك / والشمول ) ، وفي قصيدتها ( نفحات ) أكثر من تسائل وإجابة واعتراض ، القصيدة في شطر بيتها الثالث تقول ، ( هو الله يأتي بالزمان وأهله ) حقيقة لا مناص منها  ، وتتساءل في عجز نفس البيت وكأنها تقول لماذا ، ( وتهوي عليهم بالمنون معاوله ) ، وتستعجب بقولها في البيت الخامس من نفس القصيدة ، ( وتحصد كف الموت أرواحنا غدا / كأنا لديه حقله ..وسنابله ) ، وتمضي متسائلة وصولاً لقناعة الوجود المطلقة فتقول ، ( وإما تجلى الله للروح أترعت / من المطر القدسي ما شاء وابله ) ، ولا يفوتها وهي بهذا المحتدم من الرؤى والقناعات والتساؤلات أن  تشير لذاتها ، ( بروحي مسيح الحزن ضجت جراحه / وجسمي من الأرزاء ينهدُّ كاهله ) ، لتخلص خاتمة لمعشوقتها الشام فتقول ، ( عليك أيا أم الزمان سلامنا / إذا بيرق بالنصر لاحت أوائله / فشام الدنى أرضي وفيها ملاعبي / تسامق فيها المجد صرحاً تطاوله ) .
    بين هذا وذاك من الإغراض الشعرية تشكلت عند قراءتي المتأنية لديوان ( لدمشق هذا الياسمين أن الشاعرة كانت بقصائدها ، واختياراتها ، وبحسن معانيها ، وجزالة ألفاظها موفقةً ، وأزعم أنها غير موفقة مع من تحب ، ودليلي لذلك مسحة الحزن ، ولؤلؤ الدموع والأسى  الذي يفيض من جوانب قصائدها الذاتية ففي قصيدة ( المرض الأخير لأبي الطيب المتنبي )  ، ( روحي / تكابد وجدها الأقصى / وعمري طاعن بالحزن ... قلبي مطفأ القنديل / لا زيت فيسرج هذه النفس الجموح / ولا بقايا من عراق الروح / أو ذكرى حبيب   ) .
     الحزن يؤججه الانتظار ، الرغبة ونقيضها ، اللقاء والصدود  ، الدفء والثلج  ، الأنوثة المحترقة ، الخذلان والخسارة  ، تجتمع بين سطور أبيات قصيدة ( أرق ) ، ( قلت سأسرج / القمر المسافر / كي يراني أجمل امرأة ، وأوقد رغبتي / كي يهتدي لحقوله العطشى / وينثر شجوه الحاني على قلقي .
       لدمشق هذا الياسمين ديوان شعري ينبأ عن طاقة شعرية إبداعية في زمن يندرُ أن تجد شاعرة تحسن لغة التخاطب ، بلغة عربية غير ملحنة ، فضلا عن بعض الشعراء أيضا  ، ولا غرابة أن الشاعرة ( ليندا ) تتقن اللغة العربية ونحوها ، الشعر وأوزانه ، لأن جذورها المعرفية تتصل بعراقة عائلتها التي أنجبت الكثير من المشايخ ، الذين تعتبر اللغة العربية حبلَهم المتصل بالدين والمعتقد ، وتمتلك الشاعرة أذنا موسيقية تمييز فيها عروضيا بين هذا البحر وتلك التفعيلة ، لذا نجدها تكتب قصيدة التفعيلة من بحرٍ تختاره ، وربما نجد بنفس القصيدة مختارةُ البحر أبياتا عمودية ، وهذا بزعمي  متأتياً من إتقان نحويٍ وعروضي ، أبارك للشاعرة ليندا إبراهيم هذا الفيض من الياسمين الذي أغرقني بفوحان عبيره الياسميني .    
     ببلوغرافيا :
ليندا سلمان إبراهيم 
شاعرة و أديبة - مواليد دمشق 
الشهادة : الهندسة – جامعة تشرين 
العمل : وزارة الثقافة السورية - مديرية ثقافة طرطوس
مكان الإقامة : سوريا –  محافظة طرطوس ..
عضو اتحاد الكتاب العرب – عضو جمعية الشعر
عضو نقابة المهندسين السوريين 
عضو لجنة التمكين للغة العربية 
عضو جمعية العاديات الثقافية الأهلية
الجوائز :
- جائزة المجاهد الشيخ صالح العلي الشعرية 2001 
- جائزة مسابقة أمير الشعراء 2013 /دولة الإمارات العربية المتحدة - أبو ظبي /
- جائزة نازك الملائكة للإبداع النسوي العربي /بغداد / العراق/ 2014
- جائزة عمر أبو ريشة للشعر العربي سوريا 2016
صدر للشاعرة  ...
1- "لدمشق هذا الياسمين" مجموعة شعرية صادرة عن اتحاد الكتاب العرب –سوريا 2013
2- "فصول الحب و الوحشة" مجموعة شعرية صادرة عن وزارة الثقافة السورية 2013
3- "لحضرة الرسولة" مجموعة شعرية صادرة عن الهيئة العامة السورية للكتاب 2016 





   
  
        

الثلاثاء، 8 نوفمبر 2016

شعر أمازيغي: إزران حول الحب-ترجمة: الحسن أسويق

شعر أمازيغي: إزران حول الحب
ترجمة: الحسن أسويق
( ثقافات )
منتخبات لأجمل أبيات شعرية لأمازيغ المغرب تسمى إزران حول الحب (أريضا )[1]
1
\ إرا قغاسن عماس أرضا أذيذرقف —- ورڴيغ بورحساب إوور أذنخظف \
كنت أحسبني منيعا، الحب لن يخطفني —- ما كنت أحسب أن القلب قد ينخطف
2
\ أذروغ إمتاون أذشاغ ركيسان —— سوين أليف إينو أذربينو نيشان \
دموع كالخمرة أذرفها فتملآ الكؤوسا —- أدعوك حبيبي لتشربها تباعا
3
\ سريغ الحب الحب نيغاس أومي تقان ——أومي ذيرقاف توغ موخ ذيقان \
سألوني عن مسمى الحب قلت لا أدري…… ولما به أبتليت نسيت إسمي
4
\ أبو غارو يغا ڴاي ركيث كفوس —– ياك سرخبر إينك أريضا ذسوسوس\
هي ذي يدي أكويها بسيجارتك المشتعلة —– ألا تدري ان الحب داء ورعشة
5
\ إيرا ڴيغ أذريغ مشا روخ اذهويغ —– ذمشند نرضا ڴميغ أتعذيغ \
من أجلك اذرع المكان جيئة وذهابا………….جئت طالعا فوجدتني هابطا
6
\ ذمسراي أكيذم أوم فاتو مسكين —– اتقراب غا ذمسي ويسين منذين \
كالفراشة تدنو من النار —– أجهل مصيري وأنا أتقرب اليك
7
\ ألليف انو ذ لعود نشدان افران انس —– أنتا ذ دنيا نش ذ لحياة انس \
حبيبي كالعود وأنا أوتاره —- حبيبي كالدنيا وأنا فيها الحياة
8
\ أمطا انو أيما خوبريو نظيط —– والله ما ديوضا خثني ذيذنيذ جيت \
تحجر الدمع في المآقي ,هي الدمعة عالقة على شفا رموشي —- أقسمت يا أمي ألا أدعها تهبط , وفاء لك ونكاية بالتي غدرتني
9
\ زين انم اذيوسين تمسي —– ارقفاي أور افسي أمذروسي \
تلفحني نيران جمالك — تصيب قلبي فيذوب كالّزبد
10
\ أزين نليف انو اتقس ڴذتوين —–تتاغ اربي ذناش اثغيوين \
جمال حبيبي شعاع يؤلم عيني ….. أه يا الهي لو يكون من نصيبي
11
\ ذمسي نخسين ثني ماتمسي —— أذمسي نلحب ضغا ذوڴي أتخسي \
النار التي تنطفأ ما هي بالنار —- الحب نار تشتعل فتستعر
12
\ عيبنداي ليف ننداي اسكا —– أجنتاي أثويغ أثسواغ كثا \
قلن : ما حبيبك الا سكير يعاقر الخمرة —- قلت : ان أنا تزوجته سأشربه حد الثمالة
13
\اغاب أيور غبن اثران انس —– ثغاب نوبيا غابند ذفراز انس \
غاب القمر ومعه غابت ضياء النجوم —- غابت حبيبتي ومعها غابت معالم الوجه المنير
14
\ أيور اينو يشار س لحوب إذكان —-وزماغ أذنيغ شان لحب ن ميدن \
قلبي مثخن بحبك ممتلئ جنباته —- لا مزيد حبيبي لحب لست أنت صاحبه
15
\أون يڴين لحب امعاذ أذيتو —- أديش اكسوم أناس اذذ ور أموفيرو \
لن ينعم بالنسيان من جرب الحب ——- سيتساقط لحمه الى أن يستحيل خيطا رقيقا
16
\ ظيت اينو ثزرمت ثزرا أوخا ذساذ—- ثزرا ربهوث انم اتيجين ثتعذاب \
لمحت عيني اليسرى الحسن وقد هبت نسائمه —- لكن ما أمكن اللقاء فأدمعت نفسي يا معذبتي
17
\ أريضا أمورومي , أريضا ذسواس —– أثن اذيجين أوخي تك بويضس \
الحب كالعدو هو سبب تهممي وعذابي —– هو مصدر أرقي وسهادي
18
\ أخمي غا توغ توغ ‘ أخمي غا سهيغ سهيغ —– خمي تفكارغ تروبيغ تخسغ أدوضيغ \
أكون هادئ البال حين أنسى أوعن فراقنا أسهو —– وحين أتذكر أكاد أنهار, فُيشفق لحالي
19
\ أدغميغ دلوردة خو بريذ منيس اعدا —- أور اينو أذرقح أور انس أذفنا \
وردة سأنبت حيث مسراه أنا الميتة —— سيينع قلبي وهو الحي سيفنى قلبه
20
\إرا إراح أذيشارف أغيتا أويشرف شي —– نتا ميودا ونتشين مانشي\
كاد يمضي وما مضى إلى حال سبيله —- هناك حيث الحبيب ينجلي الوله
________________________________________
1| هو اللفظ الذي يدل على معنى الحب بمعناه الغرامي . وهو لفظ مركب من أري وتعني : الصعود , و ضاوتعني : النزول. هذه التسمية تعكس أجواء المراقبة التي تنسج فيها علاقات الحب والغرام في مجتمع قروي متشدد خاصة تجاه المرأة التي قد تجلب العار لأهلها اذا علم الناس بعلاقتها الغرامية . لذلك لزم الحذر والتزام السرية .لكن ما كان سرا يمكن الجهر به أثناء أحد الاحتفالات خاصة في الاعراس حيث يمكن للشابة ان تصرح بحبها لعشيقها وحبيبها\الليف\ حتى في حضور أهلها ووالديها , فتنشد ذلك شعرا في ابيات مقفاة – ازران.وهذه ظاهرة انسانية ينطبق عليها التعريف الشهير للمحلل النفساني سيجموند فرويد للاحتفال حيث يقول : الاحتفال هو التمرد الرسمي على الممنوع والمحرم, وهو تمرد مقبول ومسموح به (الطوطم والطابو).