صدقة نفطية جارية
كاظم فنجان الحمامي
لو لم يكن الشاعر عبد الغني النابلسي شامياً لقلت أنه من البصرة, ولقلت أنه يعبر بهذا البيت الشعري عن ظروفها وأحوالها بقوله:
كَالعِيسِ فِي الْبَيْدَاءِ يَقْتُلُهَا الظَّمَا
وَالْمَاءُ فَوقَ ظُهُورِهَا مَحْـمُولُ
ولو لم يكن النابلسي يتحرق في البيت التالي بنار الجوى, لقلت أنه يحترق بنيران الآبار النفطية الملتهبة في حقول الرميلة والزبير والرطقة والبرجسية وغرب القرنة ومجنون واللحيس, التي لا نستطيع الوصول إليها رغم قربنا منها:
وأَشَدُّ مَا لاقَيْتُ مِنْ لهبِ الجَوَى
قُرْبُ الحَبِيبِ وَمَا إِلَيهِ وُصُـولُ
فالبصرة التي ظلت مشرقة بعلومها, متألقة بفنونها, متلألئة بآدابها, متجددة بأنشطتها التجارية, مجتهدة بمشاريعها المينائية, مزدهرة في مراحلها المتعاقبة, كانت المدن العربية الأخرى تقبع في كهوف العصور المظلمة.
ثم دارت الأهلة دورتها, وانقلبت الموازين رأساً على عقب, فتدهورت أحوال البصرة, وتخلفت كثيراً بالمقارنة مع المدن الخليجية, التي ظهرت فوق سطح الأرض بعد اكتشاف النفط.
لقد حققت تلك المدن تفوقاً علمياً وصناعياً وزراعياً وتجارياً هائلاً, وسجلت قفزات حضارية مذهلة بمواردها النفطية وعوائدها الغازية, بينما حصلت البصرة على لقب فارغ (العاصمة الاقتصادية) بشق الأنفس, لتجد منافذها مكبلة بالتعرفة الجمركية الجديدة, التي توشك أن تحرمها من أبسط استحقاقاتها الإستراتيجية.
أما اليوم فقد صار من المتعذر علينا متابعة المشاريع المليونية الخليجية, وصار من الصعب إحصاء توسعاتها الأفقية والعمودية المتفجرة بالطول والعرض, وأصبحنا من المبهورين بطفراتها المعمارية غير المسبوقة, في حين ظلت مدينتنا العريقة تجتر مخزونها التراثي, وعيونها على سواحلها المنكمشة, وبساتينها المتفحمة, وأهوارها المتبخرة, وحقولها النفطية التي لا نعرف عن مصيرها شيئاً, فلم نحصل من نفطنا إلا على هذه الصدقة النفطية الجارية. دولار واحد لكل برميل, تصدقوا به علينا.. يا بلاش.
لسنا مغالين إذا قلنا أن البصرة بدأت تفقد بريقها وبهائها في ظل التخلف الحضاري, الذي جعلها في الترتيب الأخير بعد أبو ظبي, والفجيرة, والدوحة, والمنامة, ودبي, والشارقة, والكويت, وأم القوين, وعجمان, ومسقط, والدمام, وعبادان.
نعم حتى عبادان, وربما سيأتي اليوم الذي نكون فيه بعد مدينة صعدة اليمنية في التسلسل العمراني, وجيب ليل وأخذ عتابا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق