الاثنين، 28 يونيو 2010

الومضة الشعرية والبراعة في سباكتها-بقلم حامد كعيد الجبوري


الومضة الشعرية والبراعة في سباكتها
                                       
حامد كعيد الجبوري
       
بداية أو منتصف التسعينات من القرن المنصرم برزت ظاهرة جديدة بكتابة الشعر الشعبي ، وهذه الظاهرة تسمى ظاهرة ( الومضة الشعرية) ، ولتقريب الموضوعة بدقة أكثر فأن الشاعر منشأ هذه الومضة ، كأنه يحمل بيده آلة للتصوير يلتقط من خلالها لقطة لظاهرة ما ، ومن الزاوية التي يراها مناسبة لومضته ، وبداية ظهور الكتابة بهذه الصور الشعرية الجديدة ، قوبلت بالترحاب حينا  وبالنفور حينا آخر ، المتمسكون بكلاسيكية القصيدة الشعبية صرحوا وبأكثر من مرة ، لماذا لا نعتبر الدارمي أو الأبو ذية ضربا من هذه الومضات التي تكتب ، وبهذا لا نحتاج لهذه الومضات
المزعومة ، معتمدين بطرحهم هذا على أن القصائد الشعبية هي ما زادت على السبع أبيات شعرية ، والمقطوعة ما قلت عن السبعة أبيات ، ولا توجد تسمية أخرى لمثل هذه الكتابات الجديدة ، وبزعمهم أيضا  أن الدارمي و الأبوذية يأخذان هذا المنحى ، أي أربعة أشطر للأبو ذية ، وشطران للدارمي ، و الدارمي عروضيا  يقع تحت أربعة أشطر شعرية ، وقسم آخر من الشعراء ، أستحسن هذا الفتح الجديد ، ليواكب حركة التطور الأدبية العراقية ، وليختصر المسافات الطويلة التي يقطعها الشاعر الشعبي بقصيدته للوصول لما يريد قولته ، بمعنى الدخول لبيت القصيد الذي يبتغيه شاعر القصيدة
 
مباشرة والذي أخذه ، أي بيت القصيد شاعر الومضة .
     
بعد دراستي وتتبعي لشعراء الومضة خلصت لنتيجة قد أعارض بها الكثير ، ويعترض عليها الأكثر ، فأنا أرى أن للومضة شعرائها المتخصصون بكتابتها ، ولا يمنع ذلك من أن شاعر الومضة يمكنه أن يكتب قصيدة جميلة يشار  لها من قبل النقاد والباحثين ، مثلهم بذلك مثل شعراء الأغنية ، فالشاعر المتمكن من القصيدة قد لا يستطيع كتابة أغنية يتلقفها الملحنون قبل المغنون ، بمعنى أن شاعر الأغنية ليس بالضرورة شاعرا مجيدا بكتابة النصوص الشعرية ، وقد تجتمع الخصلتان كتابة القصيدة وكتابة الأغنية بشاعر واحد ، والأمثلة لا تحصى بهذا الباب ، أبو سرحان ، زامل سعيد
فتاح ، كاظم الرويعي ، رياض النعماني ، وغيرهم ، وهناك قصائد حفظتها الألسن ورددتها كثيرا ، مما أضطر الملحن لتلحينها لغنائيتها العالية  ، ولموسيقاها الجميلة ، ومن رواد هذه المدرسة الرمز العراقي الكبير مظفر النواب ، ولم أجد أغنية واحدة لشاعر رائد كشاكر السماوي لحنت له قصيدة ما ، على حد تتبعي وذاكرتي ، وكثير من الشعراء كتبوا القصائد الغنائية بزعمهم ، وحين أقرأ تلك الأغاني التي كتبوها ، أجدها قصائد ألبست ثوب الغنائية ولا تصلح أن تغنى .
     
والومضة الشعرية الناجحة بزعمي ، لا يمكن لشاعر آخر أن يضيف لها شيئا ما ، أو أن يحذف منها شيئا آخر ، ويمكن لشاعر آخر أن يغير بتلك الومضة ليأتي بومضة مشابهة لها ، ومرات تأتي هذه المجاراة أو المحاكاة أقوى أو أقل سباكة من الأخرى ، ( بمريكا أنتخينه من هذولا لا  لا لا ك / يا هو اللي يفكنه من هذوله / صباح الهلالي ) ، والتساؤل الذي يُطرح هنا ، ماذا يمكن أن أضيف لهذه الومضة الشعرية ؟ ، وماذا سأحذف منها ؟ ، في كلتا الحالتين لا يمكن أن أضيف أو أحذف ، فالإضافة والحذف الذي أدخله على هذه الومضة سيغير معناها بالكامل ، وقد أجدها عصية على الفهم لو
حذفنا أو أضفنا شيئا لها ، ناهيك عن أنها موضوعة متكاملة لقصيدة أن أراد أن يكتبها قصيدة ، وبهذه الحالة – أن كتبت قصيدة – سيحتاج إلى التقريرية المملة والصور المكررة ، إذن أنها ومضة مسبوكة بإحكام لا يمكن أن نضيف أو نحذف منها شيئا آخر ، وإن حاول شاعر آخر اقتباسها وإلباسها حلة جديدة لربما سيصاب بخيبة أمل ، أو بنجاح أكبر مما نجح بها الشاعر صباح الهلالي ، وشاعر آخر يحب أن يوصل صوته جهوريا للمسؤلين ، ويتبرم من وضع لا يرتضيه ، ويطمح لوضع آخر ، ولأن المسئول يدعي منهجا إسلاميا متأسيا بصحابة رسول الله (ص) ، ولأن هذا النهج لا يشبه نهج من أتخذه
ذريعة ولباسا للوصول لغاية أدركها المسئول ، إذن على شاعر الومضة إيصال صوته واضحا وجليا عبر ومضة غير مرمزة  فيقول ، ( طلب منك يا إلهي / وخاف إذا يحمل تجاوز / هالطلب إغفر إلي / لو تموتلنه اليتامى / لو ترجعلنه علي / الشاعر محمد الفاطمي ) ، ترى ما سنضيف أو نحذف من هذه الومضة التي أشرت ودلت على تبرم واضح لواقع مر معاش ، ومن جمالية الرمزية الشفافة جاءت قوة وسباكة الومضة الجميلة ، ( جنت شايل دنية بيدي / ولمن شفتك صفكت / شاعر مجهول) ، لو أمعنا النظر بالومضة أعلاه لوجدناها تحمل وجوها عديدة ، منها أني كنت أحمل كل الدنيا بيدي وحينما رأيتك صفقت ففقدت
الدنيا ، ووجه أخر أني حينما رأيتك صفقت لك وربحتك كي أرمي من يديّ خسائر الدنيا ، وأوجه المقارنة والدلالة أكسبت الومضة جماليتها هذه ، ( صار أسنين أمر  ع الباب ، غبت يومين أجاني الباب / محمد الغريب) ، هنا حين الفت الباب مرور محمد الغريب رحمه الله عليها وأستو حشت طلته عليه أتت الباب طائعة له ، وهي تحمل رؤى كثيرة ومضامين أكثر ، وشاعر آخر يعتقد – وهي حقيقة – أن الفراعنة لا يخلقون هكذا فراعنة ، بل خنوع المرؤوسين أوصل الرؤساء للفرعنة ، وقديما قيل لماذا تفرعنت ؟ ، أجاب لأني لم أجد من يقف بوجهي ، وهذا ما يرسمه الشاعر راسم الخطاط بومضته التي
تقول ، ( مشكلة هذا العصر موش الذياب ، تبقه مشكلة العصر كثر الغنم)
     
هناك قصائد كثيرة كتبت سابقا أو حاليا ، لا يستفاد من كثرة أبياتها  أو سردينها أو مباشرتها ، ويمكن أخذ مطلعها أو مقطعا منها على أنها ومضة يشار لها ، كتب الشاعر المرحوم صاحب عبيد الحلي قصيدة وطنية رتلها من أحد المنابر الحسينية يقول باستهلالها ، ( ثوار دوخنه الكرة الأرضية / ثوار هاي أعلومنه مروية / واليوكف أبخط النار / ما غيرنه ونفدي الوطن بدمانه ) ، والذي يقرأ كامل القصيدة يجد أنها تدور ضمن هذا المحور ولا تتعداه ، إذن ما قاله لا يعتبر إلا حشوا ليوصل به مقولته لجمهور متحمس ، وقد أعطيه الحق بهذه السردية والإطالة لتفاوت ثقافة مستمعيه ،
وهناك مطالع قصائد كتبها شعرائها لم يجدوا روحية المطلع بباقي أبيات القصيدة فمزقوا ما كتبوه وأبقوا المطلع فقط كومضة جميلة ، وهنا سألت الشاعر عبد الكريم النور لماذا لم تكمل قصيدة العقارب ؟ ، أجاب بأنه أن وجد اليوم أوغدا لموضوعة تأتيه بقوة وجمالية مطلعها لأكمل تلك القصيدة ، ( معذوره العكارب فاكده الشوف / حكها أتخاف من الما تشوفه /  ذنبها أسلاحها وتلدغ أمن الخوف / بنيادم شجاه هم فكد شوفه) ، لربما بقادم  الأيام يستطع عبد الكريم النور أكمال مشوار قصيدته ، ولربما لا تأتي بقوة مطلعها ولربما ، وشاعر آخر كتب قصيدة لأمه وهي تعد من العلامات
الفارقة بقصائد الأمومة وهو الشاعر السيد عماد المطاريحي ، أخلص منها لومضة يستفاد منها لا حقا لشعراء آخرين ليبدعوا ما أبدع السيد المطاريحي الذي يتصور أمه بعد طول غيابه ترفع كفيها للسماء طالبة أن يعيد لها ولدها ، ( تظل تدعي ، تظل تدعي ، ربي يرجع بالسلام ، مرة رديت ولكيت أمبيض أبجفها الحمام ..........................!

ليست هناك تعليقات: