الجمعة، 4 يونيو 2010

تاملات في الكتابة -د علي عبد الامير صالح-لوحات الفنان ظاهر النجار

تأملات في الكتابة الروائية
علي عبد الأمير صالح

مدفوعاً بغريزته الكتابية، يجلس الروائي إلى أوراقه، أو كومبيوتره الشخصي..
يهرب من وحل الحياة الرتيبة إلى نبع الكلمات ..
يهرب من سجن التابوات إلى فضاء الخيال..
يجلس إلى طاولته، عازماً على كتابة روايته الأولى، أو الثانية، أو العاشرة.. فقد أيقن منذ سنوات طويلة أن القصة القصيرة لم تعدْ تستوعب تطورات العصر الحديث.. ووجد ضالته في الرواية؛ هذا الجنس الأدبي أكثر اتساعاً ورحابةً للتعبير عن حركة الحياة وجوانبها وصورها المعقدة.. وفي وسع الروائي أن يجد فضاءً زمنياً ومكانياً كافياً للتحرك فيه، كما أنه يجد حريةً أكبر في التعبير.. يمكنه أن يكتب بلا قيود ولا اشتراطات.. ذلك أن المشاريع الروائية تفتح أبوابها دوماً لاستيعاب كل أشكال التجريب والمعاصرة، وبتنا نرى أشكالاً لا حصر لها من الروايات، فبعضها يبدو أقرب إلى النص الشعري، وبعضها الآخر تحليلاً نفسياً أو بوحاً حكائياً.. قد تتناول الرواية أحداثاً تاريخية جرتْ في قرونٍ ماضية، أو غالباً تصف حياة الصعاليك والمشردين، أو رحلةً خياليةً إلى القمر أو المريخ.. وقد تصف حيوات أشخاص من الحياة اليومية للكاتب.. رواية أشخاص حقيقيين أو متخيلين.. الرواية جنس أدبي يتسع لكل شيء.. يمكنك أن تدخل كل شيء في الرواية.. ما هو صحفي، المقالة، الفلسفة، الشعر الغنائي، الأمثال الشعبية، التعابير العامية، الأحداث السياسية، قصاصات الجرائد وأخبار الولادات والوفيات.. خلاصة القول: إن الرواية تسع كل شيء بشرط معرفة كيفية مزج هذه الأشياء كلها.
يجلس الروائي إلى طاولة الكتابة، فتنثال الصور، وتتزاحم الأفكار، وتنداح الذكريات، وتتلاحم الأحداث..
يجلس وفي ذهنه أن ينقل إلى قارئ رواياته طعم تجاربه الشخصية، وتجارب أبناء جيله ومعاصريه.. ربما يكون طعم هذه التجارب لاذعاً وحتى مُراً، وقد تكون رائحتها طاغية وآسرة، لكنه مع ذلك يواصل الكتابة بحماسةٍ مدفوعاً بالأمل الذي لا بد منه في أن يكون فيها طعم الحقيقة الصادقة، ورائحة الواقع ولون الأحلام والذكريات.
طيلة ثلاثة عقود من الزمن هيمنتْ عليّ غريزة الكتابة، بحيث أنني قلما استطعتُ التخلص من سطوتها.. كانت هذه الغريزة تعذبني عذاباً لا طاقة لي به عندما لا أجد وقتاً للكتابة أو مناخاً مناسباً للتأمل والإمساك بالقلم.. غير أن هذه الغريزة كانت تروّضني شيئاً فشيئاً بحيث أنني استطعتُ أن أمارس عملي الطبي ومهنة الكتابة في الجو ذاته، وتسرب عالم الأدب إلى مهنتي وصار عسيراً عليّ أن أفصل الطب عن الأدب.
استجبتُ لغريزة الكتابة في مطلع دراستي الجامعية ورحتُ أخط الكلمات في ما كان الأستاذ الجامعي يلقيّ علينا محاضرته العلمية أو الطبية.. أكتب المحاضرة بالانجليزية، وأكتب مسوّدات قصصي بالعربية..
طيلة هذه الأعوام كلها، كان يدور بخلدي دوماً أن أكون شاهد عصري، شاهد جيلي الذي ولد في النصف الثاني من القرن العشرين، أو تحديداً في سنة 1955، السنة التي عُقد فيها مؤتمر باندونغ، وانبثاق حركة عدم الانحياز.
عبر هذه الحقبة الزمنية كنتُ وما أزال أحمل ذكريات أبناء جيلي، وما زلتُ أحتفظ في تلافيف مخي بأسمائهم وملامحهم، ولون بشرتهم، وعناوينهم.
وما زلت أحمل أحلام أبناء جيلي المنكسرة، خيبات أملهم، مشاريعهم المجهضة.. وما تزال تتراءى لي عبر ضباب الماضي وسديم الحاضر أفواه الجياع والمقهورين التي تحلم بكسرة خبز، وكأس ماء و برتقالة مبللة بماء المطر.
لقد أخذت منا الحياة المُرة أعز ذكرياتنا، وسلبتنا سنوات الحرب والحصار والإرهاب والفوضى أجمل أحلامنا.. وها نحن بعد أن بحتْ أصواتنا نتيجة التعبير المستمر عن الأحزان والنوائب والمآسي، نجد ضالتنا في الكتابة.. نريد أن نطلق كل ما في جعبتنا من أفكار ورؤى وأخيلة.. نطلقها مرةً واحدةً في سماء الأدب التي لا نهاية لها ولا حد..
لقد تركتْ الكدمات آثارها الزرق على صدور أراملنا المولولات، وتحجرتْ تعابير البؤس على وجوه أيتامنا، وتجمدتْ أنهار الدمع في مآقي العشاق الرومانسيين.. أما نحن فما زلنا نحمل راية القلم، بعد أن اكتشفنا أن الكتابة هي سبيلنا الوحيد إلى الخلاص.. إلى التحرر من قدرنا المشؤوم الذي ظل يلاحقنا عاماً بعد عام، من دون أن يترك لنا فرصةً لالتقاط النَفَس أو لإعادة ترتيب أشيائنا.
في سنواتي المنصرمة، كنتُ أدوّن احتجاجاتي على الورق، غالباً أصرخ بصوتٍ عالٍ وطوراً أطلق صرخات صامتة.. لم يكنْ بمستطاعي أن أبقى ساكناً، ضعيفاً، خائر القوى، متردداً.. لقد أدخلتُ قدري المشؤوم وقدر أبناء جيلي المنحوس أيضاً إلى فرن إرادتي.. احتفظـتُ بشجاعتي، واستجمعتُ قواي، وثابرتُ وعملتُ وقرأتُ وتأملتُ وكتبتُ وشطبتُ وأعدتُ الكتابة ونقحتُ وحسّنتُ أدواتي الإبداعية وبكيتُ وعضضتُ على نواجذي ألماً ولوّحتُ بسبابتي إلى عصفور أزغب، وحمامةٍ جريحةٍ، ونخلةٍ محترقةٍ، ومدرسةٍ مهدّمة.. وأخرى يُعاد تشييدها.
فعلتُ كل ذلك كي أجد الخلاص.. طيلة سنوات عمري كنتُ أبحثُ عن الخلاص في الكتابة.. ففي الكتابة أستعيد وقائع حياتي من جديد، لكنني أستعيدها كما تبدو في أحلامي.. من دون مآسٍ، من دون محرّمات، من دون نواهٍ.. عبر الكتابة، عبر حروفها وكلماتها وسطورها،أكتشف ثانيةً، ما كان مخفياً عليّ خلال حدوثها، أكتشف أسرارها، ألغازها، مباهجها، جراحاتها، هدير قطاراتها، صيحات باعتها المتجولين، جمال حسناواتها الهزيلات، عذابات منفييها وسجنائها، ولولات أراملها اللواتي يلطمن صدورهن الضامرة بأصابع طويلة ناتئة السلاّميات، عويل أطفالها الموجوعين في ليالي الزمهرير، صراخ جرحاها في ميادين الحرب، وأنات معوقيها الذين يقرعون بعكازاتهم على أرصفة مدينتنا الكالحة الغبراء. أستعيد أوجاع ضحايا لعنة الموت التي تحوم حولنا من دون انقطاع، خرمشات مخالب السخط والجوع والغضب واليأس على جلد أبناء بلدنا، أستعيد ندم فراشات الليل اللواتي ينفرن من الروائح الكريهة لأفواه الرجال، أستعيد فرح العشاق وهم يتلذذون بالمداعبات والقُبل، أستعيد أحزان المغتربين والمنفيين والمهجرين قسراً، في عيونهم يلوح شبح التشرّد، وفي حناجرهم شهقات الحنين.. أستعيد صيحات الشحاذين في الأزقة الموحلة.. أستعيد نسائم دجلة العذبة حين يأخذني أخي الأكبر فجراً كي يسحب صنارته التي علقت بها سمكة كبيرة ندعوها بـ(البز)..
كان إحساسي بالظلم والحيف ينقلب إلى غضب.
وكان إحساسي باللاجدوى يدفعني إلى ظمأ الكتابة.
وكان إحساسي بالحزن يدفعني للتأمل ساعياً إلى العثور على أجوبةٍ شافيةٍ لأسئلةٍ سرمدية.
لم يكنْ أمامي سبيل آخر، أو خيار آخر، أو طريق آخر سوى الكتابة.. فهي وحدها التي أنقذتني من الضياع واليأس والعبث واللاجدوى وربما حتى الجنون..
معظم كتاباتي كانتْ توكيداً لذاتي الجريحة والمعذبة، ليستْ ذاتي وحدها بل ذوات أبناء جيلي ومعاصريّ.. كما كانت في الوقت ذاته إعلاءً لرغباتي المكبوتة، وكشفاً لهواجسي ومخاوفي من الموت والجوع والحرمان والتشرّد.
طيلة سنوات حياتي، كنتُ أرتعد هلعاً من البيوت الخالية الموحشة التي غادرها سكانها، ومن المحاجر التي اقتلعت منها العيون.. أمقتُ الخواء، أكره الظلام.. تورثني الريح العاتية الكآبة لأنني أتخيلها وهي تقتلع الأشجار والذكريات وتطوّح برسائل الأمهات العجائز إلى أبنائهن البعيدين..
أتخيلها تُطيرّ أكواخ الصفيح وتصفع وجوه العوانس الحزينة وترسم ظلال الأسى على وجوه العشاق.

ليست هناك تعليقات: