الخميس، 3 يونيو 2010

هل الغناء فسق وفجور--بقلم حامد كعيد الجبوري



حامد كعيد الجبوري
     بعد سقوط صنم الدكتاتورية في العراق فتحت أمامي أكثر من باب ثقافي وإعلامي ، ترأست إتحاد الشعراء الشعبيين في بابل لأكثر من ستة سنين ، وكلفت بتحرير صفحة الأدب الشعبي في جريدة الفيحاء الحلية ، إضافة لتقديم ثلاثة برامج للشعر الشعبي من إذاعة بابل العائدة لشبكة الإعلام العراقي وإذاعة الفراتين وأخيرا إذاعة إتحاد الشعب التي تبثها محلية بابل للحزب الشيوعي العراقي ، ومن المعلوم أنني أتناول القصائد الوطنية والوجدانية والغزلية ، استوقفني أحدهم ليعلن لي سخطه عن قراءة القصائد الغزلية من على هذه المنابر الإعلامية الثقافية ، قائلا لي عليك مغادرة بث القصائد الغزلية لأنها فسق وفجور ، نظرت له نظرة استهزاء لهذا الطرح المتخلف ولم أرد عليه بأي شئ استخفافا لهذا الطرح اللامعقول، مسك بيدي قائلا ألم تلاحظ أني قد هزمتك من الجولة الأولى ؟ ، أجبته بأني لم أهزم ولم أرد على طرحك هذا لأن الرد يحتاج لشواهد وبراهين واقعية وهذا ما ستستمع له من خلال برنامجي بستان الشعر الشعبي من إذاعة بابل ، وكان هذا الرجل قد تحدث من نفس الإذاعة ومن خلال برنامج الباب المفتوح عن هذه المسألة وجوبـِهَ بالرفض من أغلب المتذوقين للشعر الشعبي ، حزمت أمري على رده مستفيدا من شواهد تاريخية وحقائق تملأ صفحات الكتب .
    إبتداءاً أني إبن للعراق وللحلة الفيحاء التي تربيت بأحضانها وترعرعت بطرقها ومدارسها ، وأمهات الحلة أمهاتي ، ونسائها أخواتي وبناتي وعماتي وخالاتي وجداتي فهل يمكن أن أسئ الى هذه المسميات الجميلة ، أم  أخدش حيائهن بألفاظ نابية بعيدة عن الذوق والعرف الاجتماعي ، وحين مراجعتي للحلقات المقدمة وخلال هذه السنين لم أجد أي نص يحمل مواصفات الإساءة ، بل هو غزل برئ بعيد عن التبذل والانحلال والإساءة الى أقدس مخلوق وهي المرأة ، ثم ألم يستمع الرسول الأعظم لقصائد غزلية ، وأجاز قائلها ودليلي الشاعر كعب بن زهير بن أبي سلمى ، ومعروف أن الشاعر كعب هجا رسول الله (ص) بإحدى قصائده مما تسبب بهدر دمه ، وحينما علمت قبيلة كعب بذلك أمرته أن يعتذر لرسول الله (ص) ، وفعلا دخل كعب المسجد النبوي ليعتذر للرسول عن فعلته ، فأستل المسلمون سيوفهم ، وأمرهم النبي بغمدها ووقف كعب إزاء رسول الله قائلا
  بانت سعاد فقلبي اليوم متبول
  متيم إثرها لم يفد مكبول
  وما سعاد غداة البين إذ رحلو 
 إلا أغر غضيض الطرف مكحول
لنهاية القصيدة فما كان من الرسول الأعظم إلا أن يخلع بردته ويهديها للشاعر كعب بن زهير دلالة لرضاه عنه ولتكن الشاهد على ان الرسول (ص) عفا عنه ، ولم يعارضه ويقل له أنها فسق وفجور وفيها – القصيدة – ابيات لمدح الرسول الأعظم (ص) يقول في جزء منها
  نبئت أن رسول الله أوعدني
    والعفو عند رسول الله مقبول
  مهلا هداك الذي أعطاك نافلة
   القرآن فيها مواعيظ وتفصيل       
الى نهاية القصيدة ، ولو تصفحنا بطون الكتب ووصلنا للشاعر السيد الشريف الرضي والذي عاش بدولة بني العباس ، وأخذناه أنموذجا لكان يفترض به أن يغادر كتابة النصوص الغزلية لأنه من آل الرسول أولا ووالده نقيبا للطالبين ثانيا ، ومع ذلك فقد كتب النصوص الغزلية التي تعتبر من عيون الشعر الغزلي
ياظبية البان ترعى في خمائله
  ليهنك اليوم أن القلب مرعاك
 هامت بك العين لم تطلب سواكِ هواً 
 من علم العين أن القلب مرعاك
فهل نقول له قف أيها الشريف الرضي فالغزل فسق ومجون ، ومعلوم صرامة واعتزاز الشريف الرضي بنسبه العلوي وكما هو معلوم أن خطب نهج البلاغة نقلها عن رواتها السيد الشريف الرضي ، ومعلوم موقفه حينما أراد الخليفة العباسي الحط من قدره أمام جلاس الخليفة بعد أن قال له الخليفة ناولني الدواة ، فما كان من الشريف الرضي إلا الانتفاض بوجه الخليفة مرتجلا الأبيات التالية معبرا بها عن رأيه
 مهلا أمير المؤمنين فإننا
في دوحة العلياء لا نتفرق
 إلا الخلافة فرقت ما بيننا
  أنا عاطل عنها وأنت مطوق
والشريف الرضي كسائر الشعراء يتناولون كافة أغراض الشعر ولم يقل له أحد من جيله أو الجيل الذي بعده أن الغزل فسق ومجون ، وهو من رثى جده الحسين بقصائد عصماء خلدت لأيامنا هذه وتردد من كافة المنابر الإسلامية عامة ومن عيون رثاءه قصيدته المقصورة والتي يقول فيها
 كربلا لا زلت كربا وبلا 
  ما لقي منك آل المصطفى
  كم على تربك لما صرّعوا  
من دم سال ومن نحر جرى
  يا رسول الله لو عاينتهم 
    وهموا بين قتيل وسبى
 الخ القصيدة ، ولو رجعنا قليلا وأيام دخول القوات البريطانية للعراق ونهوض المرجع الديني الثائر محمد سعيد الحبوبي فقد كتب الخمريات والغزل معا ولم يقل لنفسه أو يقال له ، أن الغزل فسق ومجون وهو القائل
 يا معير الغصن قدا أهيفا
    ومعير الريم مرضى الحدق
هل الى وصلك من بعد الجفا
 بُلغة تنعش باقي رمقي
                  ***     
فأسقني كأسا وخذ كأسا إليك
  فلذيذ العيش أن نشتركا
وإذا جدت بها من شفتيك
     فأسقنيها وخذ الأولى لكا
أو فحسبي خمرة من ناظريك
   أذهبت نسكي وأضحت منسكا
وأنهب الوقت ودع ما سلفا
    وأغتنم صفوك قبل الرنق
أن صفا العيش فما كان صفا  
 أو تلاقينا فقد لا نلتقي
                 ***
وأكثر من ذلك فهو يتغزل بمسلمة تؤدي مناسك الحج فيقول
كل غيداء سعت للمشعر  
    قد جلا معصمها رمي الجمار
وأنثنت في بدنها للمنحر
     ولها أشفار عينيها شفار
وقد تعدى السيد الحبوبي ذلك فتغزل بحسناء مسيحية دخلت ديرا لها فيقول
أوميض يشع أم مقباس
      أم على دير راهب نبراس
معبد (ام معبد) فيه حلت
    فهو فيها كنيسة وكناس
وحينما قيل له أنك أفرطت بخمرياتك أيها السيد الجليل فكان جوابه لهم شعرا فيقول
 لا تخل ويك ومن يسمع يخل
     أنني بالراح مشغوف الفؤاد
أو بمهظوم الحشا ساهي المقل
     أخجلت قامته السمر الصعاد
أو بربات خدور وكلل
            يتفننَ بقرب وبعاد
أن لي من شرفي بردا ضفا
       هو من دون الهوى مرتهني
غير أني رمت نهج الظرفا
      عفة النفس وفسق الألسن
           ***
ولو تجاوزنا السيد الحبوبي وأخذنا قصيدة المرجع الديني المعروف السيد محمد رضا الهندي وكوثريته التي عدت من خوالد المدح للعترة الطاهرة والتي يبتدأها متغزلا كأسلافه الشعراء الجاهليون وشعراء صدر الإسلام ، ولم تقتصر على الغزل وحسب بل تناول فيها الخمرة ويخلص أخيرا لمدح علي (ع) والتي يقول فيها
 أمفلج ثغرك أم جوهر
   ورحيق رضابك أم سكر
قد قال لثغرك صانعه
   أنى أعطيناك الكوثر
أو ذاك الخال على خد
  فتيت السك على مجمر
الخ القصيدة العصماء، ولسنا ببعيدين عن الشاعر الذي كتب عيون الغزل وهو السيد جعفر آل كمال الدين الحلي الذي لا تزال المنابر الإسلامية جمعاء تردد قصيدته التي يرثي بها العباس بن علي (ع) والتي يقول فيها
 ما راعهم إلا تقدم ضيغم
   حيران يعجم لفظه ويدمدم
 قلب اليمين على اليسار
 وغاص بالأوساط يحصد بالرؤس ويحطم
فلو أستقى نهر المجرة لأرتقى
   وطويل ذابلها إليها سلم
وهو نفس الشاعر الذي أخذ عنه المطرب العراقي الشهير ناظم الغزالي قصيدة الرشا المهفهف وحين غناها الغزالي رحمه الله أعتبرت القصيدة إياها من الشعر الذي يحاكي شعر الجاهليين أو الشعر العباسي ويقول فيها
  يا قامة الرشإ المهفهف ميلي
   بظماي منك لموضع التقبيل
  رشأ أطل دمي وفي وجناته
    وبنانه أثر الدم المطلول
  يا قاتلي باللحظ اول مرة
     أجهز بثانية على المقتول
  مثل فديتك بي وأن بك مثلوا
 شمس الضحى لم أرض بالتمثيل
ولم يقل له أحد أن شعرك فسق ومجون بل على النقيض من ذلك فقد أستمع إليه كُبار المثقفين حينها .
  ولو تجاوزنا الشعر العربي الفصيح وذهبنا صوب الشعر الشعبي لوجدنا أمثلة غير قليلة بهذا الباب ولنأخذ مثلا الشاعر الذي كرس كتاباته لمدح ورثاء العترة الطاهرة وهو الشيخ عبد الحسين صبره الحلي ، وأعتقد أن قصيدته للعباس (ع) جابت المنابر الإسلامية مشارق الأرض ومغاربها ولا تزال حية تردد
  إشحال بينك يعباس وبيني
                       ماني أخوك أحسين كوم أحميني
            *******
 كوم حاميني علي دارت الناس
وأعلم أمن الناصر أكطعت الأياس
إمحشم ونخاي جيتك يعباس
كوم شوف العسكر موازيني

    ****
وهو نفس الشاعر الذي كتب قصيدة عام 1935 م بحشاشتي سهمك مض لتصل لأسماع المطرب الفنان العراقي الراحل رياض أحمد وغناها وكانت من أجمل ما غنى يقول فيها
 بحشاشتي سهمك مض
    ***
 بحشاشتي سهمك مضه
وعكبك علي ضاك الفضه
اللي حظه بوصلك حظه
والماحظه يا ول حظ
***
وأخيرا أقول أن عالما دينيا إسلاميا نجفيا كتب قصيدة غزلية وقرأ قسما منها على خلص أصحابه ومزقها ، ولكنها وصلت للفنان المبدع ياس خضر وغناها وكانت جواز سفره للدخول الى الإذاعة العراقية
الهدل أمنين أجيب إزار للزيجه هدل
أشلون يتزرر الشايله جبل
******

ليست هناك تعليقات: