الســــاحر*
قصة رمزية*
ليس كل ما تراهُ و تعتقدهُ صواباً هو كذلك، ففي الحياة الكثيرُ من السحر
كانت تلكَ هي المرة الأولى في حياتها التي ترى فيها ساحراً، سمعتْ و قرأتْ عن جاذبيةِ ومواهب هكذا رجال لكنها لم ترَ واحداً منهم من قبل، لم تستطع أن تقاومَ فضولها فأسرعتْ تتقربُ منه أكثر فأكثر فأكثر، لحظات وأصبحتْ تقفُ على مقربة منه ولا تبعدها عنه سوى خطوات، عيناها عليه تترقبهُ ،تتفحصهُ وكأنها تكتبُ له رسالة إعجاب طويلة مشفرة.
يا لهما من عينين ملونتين!، سرُ جمالهما أنهما لا تثبتانِ على لونٍ واحد، لم ترَ مثلهما من قبل، تارة يظهرانِ بلون أخضر يذكرها بالعُشب وأوراق الشجر في أواخر موسم الربيع حيث تكتسبُ عادة لوناً أخضراً داكناً، ثم تجدُ بعدها أن لونهما ليس بالأخضر و انما هما زرقاوان! أزرق سماوي بلون السماء الصافية في الصيف حيث الزرقة التي لا تشوبها سحابة، وتارة تظهرُ لها أنهما عسليتا اللون يلامسُ طعم الشهدِ طرف لسانها ما أن تنظرُ إليهما، وتارة أخرى بدتا رماديتين.
أسئلة كثيرة انتفضتْ داخلها بصمتٍ، والمُلفت كانت الإجابات تأتيها مع حركات يدهِ الرشيقة وهي تتراقصُ مع العصا السحرية التي كان يحملها، كأنه كان يسمعُ أحاديثَ رأسها ووساوس نفسها، فساعة فكرتْ بمن يكون، كان هو يمسكُ بطرفِ قماش لفه حول قوامهِ الطويل وجسده الرشيق ثم رفعهُ خلال لحظات لتختفي عنه ثياب الاستعراض الملونة الفضفاضة وليبدو لها واحداً من أعالي الناس حيث البزة السوداء الفاخرة والأناقة التي تقتصرُ على أشرافِ القوم، وكأنه يقولُ لها: أنا ابن عائلة نبيلة، ألم تسمعي عن (...) ؟! بعد أن شاهدتْ أناقته دارَ في خلدها هل الرُقي يرتبطُ بالثراء؟ كان هو في ذلك الحين يُمسكُ بيده صندوقاً خشبياً أجوفاً ويُريه لها وللجمهور مرات متعددة قبل أن يُغلقه بالمفتاح ويغلفّه بوشاحٍ حريريٍ ذهبي اللون للحظات، ثم بعد ضربةِ عصا واحدة يرفعهُ عنه ويعاود حلَّ الأقفالِ على عجل فتخرجُ منه دنانيرَ الذهب والفضة فيصلها صوتٌ من أعماقهِ يخاطبها: مع سمو نسبي هنالك المالُ الوفيرُ آنستي! حدقتْ فيه، إنه يخاطبها مع كل حركةٍ من حركاته، يختلسُ النظر إليها بين فقرة و أخرى، وسرعانَ ما انتهتْ اللحظات الجميلة، بإنزال الستارة واختفاء الساحر من أمام أعينِ الجميع فانتشرَ الحُضور كحباتِ عُقد قطع خيطه،أما هي فلقد تسمرتْ حيث كانتْ تقفْ شاردةَ الذهن .
انتهت الاستراحة وعادَ الجميعُ إلى مقاعدهم وبقيتْ هي حيثُ كانت واقفةً على مقربةٍ من المسرح، خارج صُفوف المتفرجين تفكرُ بكل ما رأتْ وسمعتْ.
بدا الوقت ثقيلاً، حتى رُفعتْ الستارة من جديد، وعادَ الساحر لإكمال فقراتِ عرضه وهذه المرة بدأ بالعرض الذي يحبهُ الجميع، عرضُ القبعة الطويلة السوداء، سرعان ما توجهتْ أنظارُ الجميع إلى القبعة، نجمةُ العرض إلا هي فقد كانت عيناها تراقبه هو، في ذات الوقت كانت عيناهُ تقعُ عليها.
بدأ بحركاتهِ السريعة الساحرة في الفضاء، أصابعهُ ترقصُ برشاقةٍ فوق القبعة كما لو كانت تلعبُ على بيانو في الهواء لا يراهُ سواه، يمد ذراعه فيُخرجُ من داخل القبعة الجوفاء باقةُ ورد ندية، يفاجئ الجميع بسحرِ العرض، يرفعها عالياً ملوّحاً بها ويرميها لتقعَ بين يديها، تُمسكها هي ثم تشمّها فتحتضنها، تبتسمُ له، يغمزُ لها ويتابعُ فعالياته بنشاطٍ أكبر من سابقهِ، وهذه المرة يمدُ يده داخل القبعة ويمثلُ بظرافة أنه يعاني صعوبةً في إخراج ما يمسك داخلها، ثم فجأة يبتسمُ وهو يخرجُ طائر حبٍ لونه أصفر على جناحهِ خطٌ أحمر متعرج، يرتفعُ الطائر مرفرفاً بجناحيه وفق تصفيقٍ حارٍ من الحضور، بعدها تتراقصُ مصابيحُ الإنارة على المسرح مضيفةً المزيد من المتعةِ للعين.
وينزلُ الستارُ للمرة الثانية، ليرتفعَ بعدها بدقائق ، وتبدأ عندها الفقرة الترفيهية حيث يقومُ الساحرُ باختيار واحدةٍ من النساء في القاعة لتصعدَ إليه الآن ويدخلان معاً يحتضنان بعضهما البعض إلى داخلِ صندوقٍ كبير رُفع على بعد ثلاثة أمتار فوق المسرح في زفة كزفة العرسان، يرتفعُ صوت الموسيقى بإحدى سيمفونيات بتهوفن الخالدة، تزدادُ شدة الصوت تدريجياً فتصلُ ذروتها عندما ينزلُ الساحر إليها، نعم إليها ! هكذا شعرتْ وهكذا تقولُ عينيه هو، وهكذا تثبت خطواته، فهو يسيرُ نحوها بخطٍ مستقيم تتبعهُ الأنوار من كل مكانٍ وتتقاطعُ حيثُ يقف، يصلُ إليها وينزعُ قبعته كالفرسان في عرض درامي مثير وتصفيقٍ حار ليركعَ بالقربِ من قدميها كأي عاشقٍ، يغلق يده الخاوية ثم بعد ضربة عصا واحدة يفتحها من جديد لتظهر داخلها علبة صغيرة، يفتحها أمام الجميع لتُظهر خاتماً فضي اللون يعلوهُ فص صغير من الماس، يسكنْ منحني الرأس بانتظارِ جوابها، يخفقُ قلبها إليه وهي تتخيلُ أنها ستكون جزءً من عالمه الساحر، ستدخلُ اللعبة وعالم الخيال وتكونَ جزءً من عالم الجنون والمرح والترقب والغموض ستكون جزءً من تلك الأسرار، مدتْ يدها لتلمس الخاتم وتُعلنَ عن موافقتها، وجدتْ أن هنالكَ من يسحبُ يديها كانت والدتها، والدها، أشقاؤها، أصدقاؤها الجميع يسحبُ ..ينهرُ...ينصحُ...يمانعُ...لا تخوضي التجربة، لكنها لم تكنْ تسمعُ لأحدٍ فلقد وقعَ عليها سحرُ الساحر المحترف وما باتتْ ترى أو تسمعُ غيره، حتى أصبحَ كلُ ما تفكرُ فيه الآن الفرصة! نعم جاءتها لتخوض صدفةً تلك المغامرة، تصعدُ إلى المسرح لأول مرة وتشاركُ هذا الرجل الغريب الغامض ذلك الحلم، فتغادرُ مقاعدَ المشاهدة وتكونَ أميرة العرض الكبير ونجمة هذه الليلة، نظرتْ إليه كانت عيناهُ تلمعان وتقولانِ الكثير ومع الموسيقى المتصاعدة في المكان كانت نظراتهُ تلك قد بدأت تحاكي عزف البيانو فيزيدها حماسةً وحرارة.
أمسكَ يدها واحتضنتْ ذراعه وراحا يصعدان السُلم إلى حيث الصندوق الخشبي الكبير، صعدا بهدوء فبدا السلم طويلاً كأنه يرتقي إلى السماء لا أعلى العرض فحسب! وصلا، وقفا، توقفتْ الموسيقى فبدأ قلبها بالعزف، أمسكتْ ذراعه فهو أميرها الساحر الذي سيصعدُ بها إلى القمر ليرسم قصةً ترسخُ في أذهانِ الحضور ربما لأشهر وربما لأعوام قادمة والآن لوّحا بيديهما يودعان الجميع.
ثم حانَ وقت استخدام الحواس الأربعة، أغمضي عينيكِ، لا تحتاجينَ إليها هكذا قال، أصغتْ لكلامهِ وراحتْ تسترخي كما لو كانتْ تستعدُ للنوم الأبدي، ساعدها للدخول إلى الصندوق ثم وقفَ أمامها واحتضنها، أنفاسهُ قريبة منها كما لو كانتْ تستنشقُ زفيره!.
تسمعُ جيداً الآن، ثمة أقفال تُغلقُ من الخارجِ وعادتْ الموسيقى وهنالكَ من يعد واحد...اثنان.... ثلاثة....تختفي أنفاسهُ بعدها ويدخلُ هواء بارد ثم لا تشعر بشيء وكأنها فقدتْ الوعي لتفتحَ عينيها على تصفيقٍ حارٍ كان الصندوقُ قد فُتح للتو وكانتْ تقفُ وحدها على المسرح، يساعدها بعضُ موظفي السيرك للنزول إلى الأسفل، كانتْ صامتةً، تشعرُ بخيبة أملٍ كبيرةٍ والكثير الكثير من العار، شعرتْ أنها أضحوكة وأن عرضُ الأحلامِ ليس سوى مشهد النهاية وآخر الحكاية، لقد اختفى الساحر...رحلَ...ففكرةُ الزفافِ تلك كانت الفقرة الختام التي يُودّع بها جمهوره كل ليلة والجميعُ كان يعرفُ ما هي إلا المسكينة لأنها تزور المكانَ لأول مرة!.
* سبق ونشرت القصة ضمن كتاب (نصوص عربية) الصادر عن دار شمس المصرية للإعلام والنشر 2010
* الشخوصُ والمواقفُ والأحداثُ في القصة تسمياتٌ رمزية، لا تعني ما هو متعارفٌ عليه في العموم، وإنما هي كنى لأسماءٍ أخرى وشخوص أخرى لايدركُ ماهيتها الحقيقية سوى كاتبتها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق