الثلاثاء، 23 أكتوبر 2018

كيف ولدت دولة الرفاه ولماذا تتراجع؟-صائب خليل


كيف ولدت دولة الرفاه ولماذا تتراجع؟
صائب خليل
18 تشرين الأول 2018
لكي نفهم لماذا تتراجع دولة الرفاه التي تعودنا رؤيتها في الغرب، علينا ان نفهم كيف نشأت، وهل تغيرت الظروف التي أدت إلى ولادتها وأمنت معيشتها أم أنها دورة حياة لنظام اقتصادي كغيره من الأنظمة الحية، ينشأ ويكبر ثم يشيخ ويموت؟
ظهرت دولة الرفاه في الغرب بعد الحرب العالمية الثانية، لكن بدايتها تعود في الحقيقة الى فترة الكساد الكبير الذي شمل الغرب قبل ذلك بعقد ونصف من الزمان. فقد ضرب ما يسمى "الكساد العظيم" الدول الصناعية الغربية ابتداءاً من عام 1929 وامتد ليشمل بدرجة أو بأخرى بقية انحاء العالم، وبخاصة تلك التي كانت تعتمد على الغرب في اقتصادها. واستمر الكساد لمعظم فترة الثلاثينات، ووصل الحال ببعض الأسر الامريكية الى عرض أولادها للبيع! وفي تلك الفترة العصيبة كانت ولادة دولة الرفاه.
تسبب الكساد في فقدان ثقة الشعب بالحكومات الغربية ورفض تصديق تبريرات منظري الاقتصاد الرأسمالي. وعلى العكس من ذلك بدأت الأفكار اليسارية تلقى القبول من الناس. وقد أدى هذا الوضع إلى انضمام الملايين من العمال في اميركا إلى نقابات العمال واتحادها (CIO وكذلك انضم مئات الآلاف إلى حزبين اشتراكيين وإلى الحزب الشيوعي الأمريكي.
وفي هذه الاثناء تم انتخاب الرئيس الديمقراطي روزفلت لرئاسة الحكومة. فذهب وفد من نقابات العمال والأحزاب اليسارية اليه وحذروه بلهجة تشبه التهديد، بأنه قد اصبح رئيسا بفضل أصواتهم، وانه ان أراد ان يفوز بالانتخابات التالية فعليه ان يساعدهم في وضعهم الاقتصادي المتدهور. ابلغوه بأنهم يعلمون ان الحكومة لا تملك المال والبلد في وضع اقتصادي صعب جداً، لكن هناك اثرياء وشركات كبرى في البلد، وعليه ان يسحب جزءأً من أموالها لدعمهم. واخبروه أيضا بأنه ان لم يفعل فأن الامر قد يتجاوز عدم انتخابه، ليصل الى حد اسقاط النظام الرأسمالي.
قام روزفلت بالاجتماع برجال الاعمال والأثرياء وأخبرهم بما حدث في الاجتماع، ونصحهم بالتعاون معه وإلا فقد تكون هناك ثورة ويخسرون كل شيء! فحصل روزفلت على موافقة هؤلاء ودعمهم إضافة دعم اليسار، فتمكن من تحقيق برنامج شديد الطموح لم تعرفه أميركا من قبل، وموله من رفع الضرائب المفروضة على أرباح الشركات، وممتلكات الأثرياء بشكل كبير.
وكان نتيجة ذلك ان تمكن الشعب الأمريكي من الحصول على مكاسب مدهشة. فتم انشاء شبكة الضمان الاجتماعي، ومن ضمنها ضمان رواتب البطالة، وتم تحديد الحد الأدنى للأجور، وتم تشغيل 50 مليون عاطل عن العمل بتوفير العمل عن طريق مشاريع الحكومة وبشكل مباشر.
وفي الفترة اللاحقة بعد الحرب العالمية الثانية، كان التهديد اليساري مازال قوياً، فسمحت اميركا لتوابعها في أوروبا (الغرب الأوروبي) وحتى في آسيا (اليابان وكوريا مثلا) باتباع نهج اقتصادي مخطط وحكومي وحمائي الى حد بعيد، والابتعاد عن اقتصاد حرية السوق، رغم ان ذلك بعيد عن المبادئ الرأسمالية، خشية ان يفوز الشيوعيين في تلك الدول، إن أصابها الضرر الاقتصادي.
هكذا ولدت دولة الرفاه في الغرب والشرق، ويمكننا ان نلاحظ أن السبب في الحالتين كان في إعادة توزيع الثروات بشكل اقل ظلما، وان الرأسمالية لم تلجأ إلى ذلك بسبب العطف او التفهم أو حب المواطنين او صالح البلاد، بل بسبب شعورها بالتهديد بأنها قد تخسر كل شيء!
ولنلاحظ أيضا أن هذا يبرهن أن من خلق دولة الرفاه بميزاتها المعروفة اليوم، هو ذلك “الرعب” الذي تمكن الفقراء من اثارته في الأثرياء، خاصة بوجود الاتحاد السوفيتي، وأجبروهم على تقاسم اقل ظلماً لثروة العالم. وقد اختفى هذا الرعب اليوم او انخفض بشكل كبير، فأطلق الأثرياء لأطماعهم العنان.
وشمل الهجوم على الضمان الاجتماعي والقطاع العام واللجوء الى الخصخصة، مختلف بلدان أوروبا الغربية، وعادت البطالة وانخفض الدعم العام للسلع وازدادت نسبة الفقراء ومن يعيش على الهامش في كل البلدان، رغم ارتفاع إنتاجية الفرد. فالظرف الذي أنشأ دولة الرفاه قد زال، فبدأت بالانهيار، خاصة في زمن ريغان وترمب في اميركا. ولم تحافظ على حالة الرفاه إلا الدول التي امتنعت بفضل وعي شعوبها، عن السماح للأحزاب التي تروج لحرية السوق والخصخصة بحرية القرارات، مثل الدول الاسكندنافية وهولندا على سبيل المثال.

 وفي خارج المنظومة الغربية، انتهى ايضاُ عصر "الدلال" الاقتصادي لنفس السبب، وتتعرض البدان الأضعف إلى الضغط باستخدام أسلحة مالية فعالة مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي الذان كانا يقدمان القروض بعقود تشترط خفض الضمان الاجتماعي وبشكل مخطط لتحطيم تلك البلدان واجبارها على خصخصة ثرواتها وبيعها لهم بأسعار زهيدة، ومنع أي احتمال لخلق دولة الرفاه فيها.
هذا التاريخ، سواء كان في أميركا أو أوروبا أو العالم الثالث، يدل على ان الضغط الشعبي والقدرة على إثارة قالق ورعب الرأسمال، اهم لرفاه الشعب حتى من رفع الإنتاجية وانتعاش الاقتصاد!







السبت، 20 أكتوبر 2018

سالوفة خاشقجي - ابتزاز الصديق عند الضيق-صائب خليل


سالوفة خاشقجي - ابتزاز الصديق عند الضيق
صائب خليل
20 تشرين الأول 2018
اخيراً كشفت أسرار جريمة قتل خاشقجي، ولم يبق منها سوى التفاصيل "المرعبة" للخاتمة المتوقعة، ولم يبق من شيء للإعلام السعودي عمله سوى اعمال "تقليل الخسائر المعنوية قدر الإمكان"، باختيار السيناريو الأنسب، وحماية الكبار، وهي عملية إعلامية معروفة وكلاسيكية.
قبل الكشف كتبت مقالة قمت بتعديلها مرتين، اكدت فيها على فكرة "ابتزاز الصديق" فكتبت أن "احساسي بأن القضية بالدرجة الأولى لعبة، وان السعودية، قد تكون، رغم كل جرائمها، الضحية أكثر مما هي المجرم هذه المرة
لماذا هذا الإحساس؟ أولاً هناك دافع ممتاز لهذه اللعبة التي تمارسها الولايات المتحدة وإسرائيل كثيراً: "لعبة ابتزاز الصديق". واللعبة مغرية جداً عندما يكون الصديق ثرياً جداً وضعيفاً جداً ليس له اية قدرة على الرد، ولا حتى على الزعل! وهذا هو حال السعودية. وقد قام هؤلاء بتنفيذ هذه اللعبة عليها كثيراً جداً مؤخراً.
.
ما زاد قناعتي بأن هذه الفرضية معقولة، هو أن الأدلة التي قدمت في مختلف البرامج التلفزيونية، وجميع الأفلام التي روجت، ليست فقط تافهة، وإنما أيضا يشم منها رائحة محاولة إعطائها قيمة اكبر من حقيقتها كثيراً وفرضها على الجو الإعلامي لتجميع الضغط على السعودية، ولكن بحساب يتيح لمن يديرها، التراجع
.
السعودية عبد مطيع، عدا انها مخترقة من الملك إلى ضابط الشرطة. لذلك فهي لا تتصرف بطريقة دولة تبحث عن مصلحتها، حتى لو كانت ترى مصلحتها في القتل. فإن كانت السعودية تريد قتله، ألم يكن اكثر أمانا أن تؤجر من يقتله خارجاً بدلا من قتله داخل السفارة والمغامرة باحتمال ان يكون قد احتاط لنفسه وقام بتكليف من يسجل له فيديو وصور وهو يدخل السفارة، او ان ترك شهوداً عديدين ومعروفين (دبلوماسيين مثلا) شهدوا دخوله المبنى؟ أو ان يكون قد حمل معه جهازاً قد يسجل الحديث او يرسل عملية القتل إلى خارج السفارة؟ 
ما يثير الاستغراب أيضاً ان خاشقجي لم يكن معارضاً شديداً للنظام ولم يدع لتغييره، ولذلك فان مثل هذه العملية تبدو متطرفة جداً في حماقتها. ورغم كل ذلك، فأن عدم انكار السعودية منذ البداية، دخول خاشقجي إلى القنصلية يؤكد كونه قد قتل داخلها. من الصعب ان يصدق احداً قصة ان الكامرات لم تعمل ذاك اليوم، رغم انها ليست مستحيلة نظريا، فهي تترك الطريق مفتوحاً بعض الشيء لمن يتهم السعودية، بالتراجع مستقبلاً إن تم الاتفاق.

لذلك فالاحتمال الأكثر منطقية هو أن يكون فخاً امريكيا تركيا للسعودية، يضرب به عصفوران بحجر. فالتخلص من خاشقجي الذي كان يتحدث مؤخراً عن ضرورة تغيير السعودية لقراراتها الاقتصادية، هو مصلحة امريكية أيضا، بل وقبل ان يكون مصلحة سعودية. وسيفكر الأمريكان بالتخلص منه كما انهم سيفكرون أن من الافضل ان يتم الاستفادة من تلك العملية لابتزاز هذا الصديق الثري في نفس الوقت. ومن المعقول في هذه الحالة ان تشترك تركيا في اللعبة. فالسعودية مستعدة بلا شك ان تدفع المليارات من اجل انهاء الموضوع بالصمت
وبالفعل أذعنت السعودية لطلب تركيا السماح بدخول فريق للتحقيق الى القنصلية. وفي اميركا وقع 22 من رجال الكونغرس طلباً للرئيس ترامب بالتحقيق في الموضوع، واعطيت له 120 يوما لإكمال التحقيق وتقديم تقرير به إلى الكونغرس.
.
ترامب لا يخفي ابتزازاته المافيوية المباشرة للسعودية في خطاباته، لكن الابتزاز بالخطابات لن يأت بنتيجة ما لم يساند بتهديد مقنع خاصة وان السعودية بدأت تشعر ربما لأول مرة في التاريخ، بأن امكانياتها المادية صارت مهددة لشدة الابتزاز. ومن المحتمل أن يكون السبب هو دفع السعودية لإكمال صفقات سلاح بدا ان السعودية متلكئة في إتمامها مؤخراً لنفس السبب. 
.
ما اردت من خلال تشكيكي الأولي والمراجعة، التنبيه إلى نقطتين: الأولى اننا يجب ان نبقى نطالب بأدلة كافية حتى لو كان الخبر يناسبنا وكان طعمه "لذيذا" على لساننا. والثانية هي ملاحظة عمل مبدأ “ابتزاز الصديق” الذي تمارسه اميركا واسرائيل بشكل ثابت ومستقر حتى من "اصدقائهما" الأوروبيين والحكومات المصرية المتعاقبة وغيرها.. 
عدا هذا فالموضوع كله غير مهم، لا مقتل صحفي وضيع ولا كون القاتل حكومة ليس لها إلا سجل الإجرام الطويل، ومهما تكون الحقائق فلن تغير من نظرتنا لا الى القاتل ولا المقتول.. وما يهمنا هو فهم ما يجري، والحفاظ على عقلنا سليما.



الأحد، 16 سبتمبر 2018

صائب خليل-اينشتاين "لماذا الاشتراكية؟"



اينشتاين "لماذا الاشتراكية؟" 

(الجزء الأول من الرسالة(1) كان عبارة عن تقديم لرؤية اينشتاين عن الاشتراكية، وفي هذا الجزء يتحدث باختصار عن علاقة الفرد بالمجتمع وتأثير الرأسمالية على تلك العلاقة ودفعها للفرد نحو الانعزال والغربة، لينتهي إلى أن البشرية ليس مقدر عليها ان تبقى تذبح بعضها البعض، وأن الطريق الى ذلك هو التخلص من القواعد الرأسمالية التي تدفع بهذا الاتجاه _ صائب خليل)

"تنبه أصواتٌ لا تُحصى منذ وقت طويل بأن المجتمع البشري يمر بأزمة, و بأن الاستقرار قد تحطم على نحو شديد. و من دلالات هذا الوضع، أن الأفراد يشعرون بعدم الاهتمام, بل و حتى بالعداء حيال المجموعة البشرية التي ينتمون إليها, صغيرة كانت (قومية مثلا) أم كبيرة (تشمل الجنس البشري كله).
ولكي أوضح قصدي, دعوني أذكر هنا تجربة شخصية لي. ناقشت مؤخراً مع شخص ذكي و طيب النية موضوع احتمال نشوب حرب أخرى [حرب عالمية ثالثة] و التي برأيي, ستعرض وجود البشر إلى الخطر الحقيقي؛ و بينت أن ذلك الخطر لا يمكن درؤه إلا بواسطة منظمة أممية (عابرة للدول). عندها سألني محاوري الزائر بهدوء و ببرود تام: " و لماذا تعارض بهذه الشدة انقراض الجنس البشري؟ "

أنا على يقين أنه حتى قبل حقبة قصيرة من الزمن لا تتجاور القرن الواحد, ما كان يمكن لأحد أن يسأل مثل هذا السؤال بهذه الدرجة من الاستهانة, هذا السؤال إنما قاله شخص حاول سدى، تحقيق التوازن مع ذاته، و لكنه فقد الأمل في تحقيق ذلك! هذا يعبر عن الانزواء و الانعزال الذين يعاني منهما الكثير من الناس في هذه الأيام, فما السبب في ذلك؟ و هل ثمة خلاص؟


من السهل طرح مثل هذه الأسئلة, ولكن من الصعب الإجابة عليها على نحو مؤكد بأي درجة كانت. لذا, ينبغي لي أن أحاول ذلك, بأفضل ما أستطيع...(..)
الأنسان مخلوق فردي و اجتماعي في آن واحد. كمخلوق فردي, فإنه يحاول حماية وجوده الذاتي و وجود الأقربين إليه, و تطمين رغباته, و تطوير قدراته الموروثة.
وكمخلوق اجتماعي, فإنه يسعى للفوز باعتراف و تعاطف البشر الآخرين, والمشاركة في أفراحهم, و بمواساتهم في أتراحهم, و بتحسين أوضاعهم الحياتية. لذلك فإن الدرجة التي يستطيع فيها الفرد تحقيق التوازن الداخلي و القدرة على المساهمة في رفاه الشعب لا تتحدد إلا بأخذ كل هذه الحسابات و التوجهات المختلفة و المتضادة غالباً في شخصية الإنسان وتركيبها، بنظر الاعتبار.
قد تكون القوة النسبية لهاتين النزعتين محددة وراثياً, لكن شخصية الفرد تتأثر على نحو كبير وتتقولب بالمحيط الذي يجد الإنسان نفسه فيه خلال نموه. فتؤثر تركيبة المجتمع الذي يترعرع فيه, و تقاليده, و التقدير الذي يوليه ذلك المجتمع لأنماط معينة من السلوك دون غيرها.

المفهوم المجرد لـ " المجتمع " يعني بالنسبة للإنسان الفرد: المجموع الكلي لعلاقاته المباشرة و غير المباشرة مع الناس سواء معاصريه أو الأجيال السابقة. صحيح أن الإنسان يستطيع أن يفكر و أن يشعر و يسعى و يشتغل بنفسه, و لكنه يعتمد كثيراً جداً على المجتمع في وجوده المادي و الفكري و العاطفي بحيث يستحيل أن نفكر فيه أو أن نفهمه خارج نطاق المجتمع. فهذا " المجتمع " هو الذي يزود الإنسان بالمأكل و الملبس و المسكن, و أدوات العمل, و اللغة, و أنماط التفكير, و اغلب محتواه الفكري؛ كما أن حياته لا تصبح ممكنة إلا بفضل عمل و منجزات ملايين البشر في الماضي و الحاضر، وكل ما يختفي خلف كلمة " المجتمع " الصغيرة هذه.

إن اعتماد الفرد على المجتمع هي حقيقة طبيعية لا يمكن محوها - مثلما هي الحال عند النمل و النحل. ولكن، في حين يكون تنظيم الحياة بأكملها لدى النمل و النحل مثبت في أدق تفاصيله بالغرائز الثابتة الموروثة, فإن النموذج الاجتماعي و العلاقات المتبادلة بين البشر تتميز بالتنوع الكبير و بالقابلية على التغيير. فالقدرة الذهنية وإمكانية تكوين تركيبات جديدة, وملكة التواصل الشفهي باللغة, كلها, جعلت من الممكن حصول تطورات بين البشر لا تمليها الضرورات البيولوجية. مثل هذه التطورات تظهر في التقاليد, و المؤسسات, والمنظمات؛ و في الأدب و المنجزات العلمية والهندسية و في الأعمال الفنية. و هذا يشرح لنا كيف يمكن للإنسان التأثير في حياته من خلال سلوكه, و أن بمستطاع التفكير الواعي و الإرادة أن يأخذا دورهما في هذه العملية.
يكتسب الإنسان عند مولده, و من خلال الوراثة, نظاماً بيولوجياً (جسمانيا) ثابتاً نسبياً، ويحدد الدوافع الطبيعية المميزة للنوع البشري عن بقية الكائنات. و بالإضافة إلى ذلك, فإن الإنسان يكتسب خلال حياته من المجتمع نظاماً ثقافياً. ولكن هذا النظام الثقافي معرَّض للتغيير بمرور الزمن, و هو الذي يحدد إلى درجة كبيرة العلاقة بين الفرد و المجتمع.

تعلِّمنا الأنثروبولوجيا [علم الإنسان] المعاصرة, من خلال المقارنة مع الحضارات البدائية, بأن السلوك الاجتماعي للبشر يمكن أن يختلف كثيراً من مجتمع لآخر، اعتمادا على النماذج الثقافية السائدة وعلى طرق تنظيم المجتمع. وعلى حقيقة إمكانية هذه الاختلافات، يؤسس أولئك الساعون لتحسين مصير الإنسان آمالهم: فالبشر ليس عبارة عن مخلوقات مجبرة بسبب تكوينها البيولوجي (الجسمي) على التوجه لإبادة بعضها البعض, و لا مكتوب عليها أن يضعوا انفسهم تحت رحمة مصير قاس يسلطونه على أنفسهم بأنفسهم."

في الجزء الثالث والأخير يحاول آينشتاين ان يبحث التساؤل عن كيفية تغيير المجتمع، فيبين ان الانسان لا يستطيع ان يجعل لحياته معنى خارج المجتمع، مؤكدا ان الفوضى الاقتصادية الرأسمالية هي مصدر الشرور. ثم ينتقل بعد ذلك الى محاولة مقتضبة لشرح بعض مبادئ الاقتصاد الاشتراكي ومفاهيم الفلسفة الماركسية.


(1) رسالة ألبرت آينشتاين:" لماذا الاشتراكية؟ (1)



الثلاثاء، 21 أغسطس 2018

غالب المسعودي - جرحي وطني

غالب المسعودي - جرحي وطني: غالب المسعودي - جرحي وطني

حرب الرموز حرب حدود – تجارب على القرود لدفع الشعوب للخنوع-صائب خليل


حرب الرموز حرب حدود – تجارب على القرود لدفع الشعوب للخنوع
صائب خليل
19 آب 2018
بينما كان العالم ينظر برعب الى تطورات الاحداث نحو حرب عالمية ثانية عام 1939، كان الدكتور كليرنس كاربنتر، المتخصص بعلم النفس واعراق الشعوب، يدرس مجتمعات القرود الآسيوية منذ سنوات في تايلاند وسومطرة وسيام، ثم ليصطحب ما بين 350 إلى 500 من القرود، جمعها من مناطق مختلفة من الهند، ليطلقها في جزيرة غير مأهولة منحت له للتجارب، قرب بورتريكو، لغرض دراسة تصرفاتها وطرق تعايشها وتنظيمها لنفسها.
لاحظ د. كاربنتر وفريق عمله أنه بعد عام من اطلاق هذه القرود، كون هؤلاء مجموعات، ثم قاموا بتقسيم الجزيرة بينهم وكانت كل مجموعة تدافع عن منطقتها. وقد اجرى الفريق تجارب عديدة على هذه المجموعات، وسجلوا تصرفاتها. وكان من أكثر تلك التجارب اثارة للانتباه هو تأثر "القبيلة" بوجود قيادة قوية لها. فلاحظوا وجود قرد كبير وشرس في احدى المجموعات التي كانت تحتل منطقة واسعة. جرب الباحثون إزالة هذا القرد من المجموعة، فلاحظوا ان حدود المنطقة قد تقلصت بشكل ملحوظ. وحين أعادوه، عادت المنطقة للتوسع، وكرروا التجربة مرات عديدة بنفس النتائج.


الملاحظة المهمة التي سجلوها هي ان تلك المنطقة كانت من السعة بحيث انه كان من المستحيل على القرد ان يقوم بنفسه بالدفاع عن حدودها، وبالتالي لم يكن وجوده الفعلي على الأرض هو ما يخيف المنافسين ويدفعهم للانكماش، أو يشجع افراد المجموعة ويجعلها اكثر طموحا في التوسع. (1)

ما هو السر إذن؟ اكتشف كاربنتر أن مجرد وجود هذا القرد في المجموعة كان له أثر “تعبوي” على بقية افراد المجموعة، يجعلهم اكثر ثقة وشجاعة وقدرة على القتال. هذه القدرة التعبوية النفسية، يمكنها ان تطير وتستقر في رؤوس الافراد يحملونها معهم بعيدا عن مكان تواجد ذلك القرد القائد، لتحث فيهم القوة إينما كانوا من الحدود. ويمكننا ان نتخيل ان هناك نفس الأثر على البشر مثل نبوخذ نصر على البابليين والملك سايروس في بلاد فارس والاكسندر الأكبر على اليونانيين، ونابليون على جنوده. فما حققه هؤلاء في ازمانهم كان اكبر من مجرد القدرة الشخصية الجسمانية أو العقلية لقائدهم. إنما هو بالأساس ذلك الأثر الإيجابي والشعور بالقوة والعزم الذي ينشره هذا القائد في مجموعته، مقابل الفراغ الذي يتركه افتقاده فيهم وما ينشره من قلق وخوف واستعداد اكبر للخنوع والتراجع، عندما يغيب.
لعل هذا التأثير هو ما يفسر تلك القوة الجبارة للمقاومة اللبنانية، ودحرها لإسرائيل في المعركة الأسطورية التي احتفلت بذكراها الـ 12 قبل أيام (14 آب 2006) والتي اقدم لها هذه المقالة هدية (متأخرة قليلا) بتلك المناسبة.

المعتدون في عالمنا "البشري"، يطمحون إلى سلب الشعوب ثرواتها وحقوقها، وهو ما يقابل الأرض عند مجاميع القرود على تلك الجزيرة. وهم يعرفون جيدا علم النفس للشعوب ويدرسونه باستمرار، ويعلمون جيداً أن اغتيال الرموز هو اسهل طريقة لدفع الشعوب الى الخنوع ورضاها بسلبهم لحقوقها وثرواتها.

وهو أيضاً ما يفسر الهوس المحموم باغتيال قيادات تلك المقاومة من قبل إسرائيل، كما فعلت سابقا معها ومع حماس وغيرها، ومثلما فعلت بلجيكا مع رمز شعب الكونغو لومومبا، وإيطاليا مع عمر المختار، ووكالة المخابرات الامريكية مع الرمز الإنساني جيفارا وتشافيز فنزويلا وعبد الكريم العراق ومصدق إيران والندي شيلي وتروخيو بنما وآخرين كثيرين.

لقد ذكرنا ان الرمز، حتى في مجموعة القردة، يلعب دوره بشكل أساسي، من خلال قوته "التعبوية" التي تنتشر بسرعة، وليس من خلال قوته الجسدية المحدودة الاهمية.. فالمشكلة التي يعاني منها قتلة الرموز، هي أن عملية الاغتيال هي عملية قتل جسدي بالأساس. كما أن البشر يختلفون عن القردة في قدرة اذهانهم على استحضار أرواح الذين قتلوا، وبالتالي استحضار قوتهم "التعبوية"، بدرجة أو بأخرى، حتى بعد اغتيالهم أو وفاتهم. ومازالت الشعوب تستحضر أرواح ابطالها لحشد همم افرادها من جديد لكسر واقعهم وتكرار أيام العز الماضية. وقد اتخذت هذه الشعوب طرقا مختلفة لتأمين تواجد تلك القوة التعبوية في مواطنيها، بتنشيط ذاكرتهم باستمرار من خلال تدريس تاريخهم للأطفال ونصب التماثيل في الساحات العامة وأسماء الشوارع والمدن او حتى أسماء النقود كما فعلت فنزويلا بتسمية عملتها "البوليفار" تيمنا بالبطل القومي سيمون بوليفار.

وطبيعي ان هذا بالعكس مما يريد من يطمح الى تدجين تلك الشعوب لتسهيل سلبها حقوقها، لذلك فهو يسعى بالضبط الى جعل تلك الشعوب تنسى تلك الرموز وتمحوها من ذاكرتها، وبالتالي اغتيالها كرموز أيضا وعدم الاكتفاء باغتيالها كشخوص، من خلال التشكيك بها وتشويه سمعتها والمبالغة في اية نقطة سلبية عليها أو اختراع القصص الخرافية المضادة إن تطلب الأمر. ولا يقتصر ذلك على الرموز البشرية، بل يمتد أيضا إلى المناسبات الوطنية، فهي أيضا قادرة على تجهيز تلك القوة "التعبوية" في الناس. ويعرف العراقيون على سبيل المثال المعركة التي تشن سنويا في ذكرى ثورة 14 تموز، بين من يدافع عنها كرمز وطني يذكر الناس بقيمة التخلص من السلطة الأجنبية وما يمكن للشعب ان يحقق من معجزات من خلال ذلك، وبين المكلفين بتشويه تلك الثورة والتركيز على عنف بسيط جدا بالقياس بثورات العالم والمبالغة به وتصويرها وكأنها المسؤولة عن كل العنف الذي تلاها، رغم أن ذلك يناقض تاريخها وتاريخ العراق قبلها وبعدها تماما.
كذلك لاحظت الصعوبة البالغة في المعركة الإعلامية الشرسة من أجل اعتبار يوم 14 تموز عيداً وطنياً، بل كانت هناك جهات تحاول ان تدفع لجعل يوم الاحتلال 9 نيسان، عيداً وطنياً بدلا منه!

كذلك لا يجد الإعلام "العراقي" (الأمريكي الإسرائيلي في حقيقة الأمر) سياسياً عراقيا يقوم التلفزيون بإنتاج مسلسل عنه سوى "الباشا" نوري السعيد، وتقوم في نفس الوقت حملة على وسائل التواصل الاجتماعي لتفخيمه ونشر القصص المختلقة أو الرمزية الإيجابية عنه بشكل مذهل، فيتحول رمز العمالة الإنكليزية الامريكية إلى شخصية رمزية في نظر الكثير من العراقيين الذين لم يكلفوا انفسهم بمراجعة تاريخ بلادهم لمعرفة الحقيقة، وليختاروا رموزهم بأنفسهم.

ويسعى الإعلام الأمريكي الإسرائيلي الذي يسيطر على الجو في العالم العربي إلى طمس الرموز التي لا تناسبه. فيتم منع تداول أسماء الرموز بعد اتهامها بالإرهاب مثلا. ويتم تسمية الشوارع بأسماء بعيدة كل البعد عن رموز الشعب.

ولا يجب ان ننتظر أن تفشل كل تلك المشاريع الضخمة التمويل والمدعومة بالدراسات والسلطة على الإعلام، في تشويه التاريخ في رؤوس الناس وتحويلهم إلى كائنات تعاني من الهلوسة. فلم يعد غريبا أن تقابل على مواقع التواصل الاجتماعي من يعتقد أن جيفارا "مجرم قاس قتل رفاقه"، وأنه كان يدور في العالم ليثير الشغب والمشاكل، بل أن احدهم كتب انه قتل الملايين! وقد تحول متحف ماركس المقام في بيته في ترير، إلى منبر لتشويه سمعة الرجل بشكل مثير للتقزز. فالتمثال الأكبر له قام بتصويره وهو يمد يده متسولا من إنجلز، وكأن مساعدة انجلز له كانت عيبا وأنها كانت اهم ما يمثل ماركس! إضافة إلى ذلك، تم تكليف ممثلة تدور بين المتجولين في المتحف على أساس انها زوجة ماركس، وكانت تحدثهم عن علاقة ماركس غير الشرعية بمربية منزلهم، علما أن جميع الأدلة المتوفرة تشير الى أن تلك القصة قد اختلقت خلقاً، وأن اول ظهور لتلك الإشاعة كان عام 1960، أي بعد وفاة ماركس بمئة عام تقريبا!
وفي البحث على كوكل عن جريمة صبرا وشاتيلا التي نفذها عملاء إسرائيل بحماية الجيش الإسرائيلي، نجد موقعا باسم "إضاءات" يريد إقناعنا أن "حركة أمل" هي التي قامت بالمجزرة وهي تهتف "لا إله إلا الله، والعرب أعداء الله"!

وفي مصر والعالم العربي عموماً يتعرض الرمز القومي جمال عبد الناصر الى حملة مماثلة، قد تكون اشد ضراوة. فقد قاد عبد الناصر، رغم الكثير من الأخطاء والخطايا، “مدرسة الاستقلال” التي يفتقدها العرب اليوم، فدعم ثورة الجزائر كما أمم قناة السويس في مواجهة حازمة مع بريطانيا وفرنسا وأنشأ مع نهرو زعيم الهند وشوان-لاي نائب ماو تسي تونغ وتيتو زعيم يوغسلافيا كتلة عدم الانحياز، وعندما مات (أو قتل) ودعه الشعب المصري بأكبر جنازة في تاريخ مصر.
بالمقابل، أكد مصريون أنه تم التخطيط من قبل كيسنجر وبالاتفاق مع السادات، لتشويه انجازات مرحلة عبد الناصر وخاصة في عقول الاجيال الجديدة وكان هدفها "أن لا يظهر ناصر جديد".. كذلك مولت مؤسسات أمريكية أساتذة واكاديميين في مصر عام 2009 2010 حملة لجمع وتوثيق ما تحمله الذاكرة الشعبية المصرية لعبد الناصر وعمل بها دكاترة من جامعة القاهرة، بغرض دراسة افضل الطرق لتشويهها.

ولا يقتصر تشويه الرموز على التاريخ الحديث، بل ويشمل الماضي القديم، فتم تكليف احد الكتاب المصريين بتشويه سمعة صلاح الدين الأيوبي، لأنه كان القائد المسلم الذي حارب الصليبيين على القدس وسجل انتصارات عسكرية واخلاقية مدهشة لم يستطيعوا إلا الاعتراف بها. وتستفيد هذه الحملات من المشاعر الطائفية إن توفرت، كما في عملية تشويه صلاح الدين. إضافة إلى ذلك كلف يوسف زيدان بمتابعة ودعم حملة التشكيك بالمسجد الأقصى، الرمز الإسلامي الأهم في فلسطين. ويحصل زيدان مقابل ذلك على التكريم من مؤسسة المدى ليستضاف في كردستان (التي تستقبل وتبجل كل عربي ينحني لإسرائيل ويخدم مشاريعها المضادة للعرب)، ويدور حديث عن ترشيحه لجائزة نوبل، والتي صارت هي الأخرى منذ زمن طويل أحد اهم أدوات تشويه الرموز سياسيا، على مستوى العالم.

وتثير تلك الأعمال ردود فعل جميلة أحيانا وإن كانت متواضعة الإمكانيات. فقاوم محبو الزعيم عبد الكريم قاسم وثورته حملة التشويه، وكشفوا حقائق التاريخ الخاصة بالفترة الملكية ونوري السعيد.(2) ويقوم كاتب هذه السطور بشكل منتظم بالكشف عن التزوير الإعلامي الموجه خصيصا للرموز والمستفيد عادة من المشاعر الطائفية، ونشرت مقالات عديدة حول وسائل التشويه الإعلامي، كما قمت بإنشاء صفحة تكشف حقائق الرأسمالية وحملات تشويه الاشتراكية وماركس بشكل خاص. وكتبت أيضا اكشف حقائق الحروب الصليبية وكتب علاء اللامي دراسة ثرية أيضا.
ويبذل داعمو المقاومة اللبنانية جهودا جبارة لمقاومة الإعلام الممول سعوديا لتشويه رموزهم، وقامت “حركة الشعب” في لبنان بحملة من أجل "إعادة هوية بيروت" عبر تغيير أسماء شوارعها لأسماء رموزها، فغيرت “جادة الملك سلمان بن عبد العزيز” إلى “جادة عهد التميمي”، وشارع الجنرال ديغول اصبح اسمه “شارع الأسير جورج إبراهيم عبدالله”، و“شارع باريس” اصبح “جادة الشهيد القائد وديع حداد”، و“شارع جون كينيدي” اصبح “جادة الشهيدة دلال المغربي” و “شارع فردان” اصبح “جادة المقدم الشهيد نور الدين الجمل”.

لا اكتمكم، إنني شديد القلق على المستقبل. فإن نجحوا، فلن يكون لنا الا شعوب خانعة مستسلمة لعبوديتها مقتنعة بدونيتها، واجيال لا تحتفظ بذاكرتها إلا بتاريخ مشوه مزور يؤكد ويشرعن تلك العبودية. إنها معركة شرسة وغير متكافئة، بدأت بالنسبة لنا قبل بضعة سنين باكتشاف تزوير احداث وشخوص نعرفها اليوم، ونبدأ بالتفكير كيف نردها بوسائلنا المتواضعة، وبدأت بالنسبة لهم منذ عشرات السنين، منذ تجاربهم على القرود والبشر، بل منذ مئات السنين المليئة بالدراسات العملية والتوثيق والتجارب ودعم مالي هائل وخبرة لا تجارى. إنهم يوجهون قذائف إعلامهم إلى رموز المقاومة لتشويهها ووصفها بالتهور والجريمة، واستبدالها برموز الخنوع ووصفها بالعقلانية والذكاء، وهدفهم هو دفع شعوبنا وغيرها الى المزيد من الخنوع والتخلي عن حقوقها في ثرواتها وفي ارضها، و "تطبيع الإحساس بالدونية"، وهدفنا منع ذلك قدر المستطاع وإبقاء الحقيقة والتاريخ على قيد الحياة. وفي الختام بمناسبة ذكرى رد العدوان على لبنان، تحية لكل مقاوم، فهم أمل البشرية الأخير.

(1) C. R. Carpenter, Psychologist, Monkey‐Behavior Expert, Dies
(2) صائب خليل: نحن نحدد رموزنا: عبد الكريم "شهيد الشعب" و14تموز عيدنا الوطني