عبّارة الموصل – أهلا بالعراق في نادي كوارث الخصخصة
صائب خليل
24 آذار 2019
البعض القى اللوم على دجلة .. والبعض الآخر اخترع قصة قطع "الكيبل"، وآخر تحدث عن "قضاء وقدر" و "إرادة الله" وآخر القى الذنب على الإهمال وكثيرون تحدثوا عن الجشع والفساد الذي يسيطر على "بعض النفوس"..
لكنها ليست سوى قصة من قصص كوارث الخصخصة والاستثمار الخاص التي عرفها الآخرون قبلنا.
اقرب القصص اليها هو “حادث عبارة السلام” المصرية، قبل 13 عاماً، وكان القطاع الخاص قد اوغل في مصر السادات ثم مبارك. غرقت سفينة لم يعرف بالضبط سبب غرقها ولا سبب مقتل معظم ركابها غرقا – اكثر من 1300 انسان. ما نعرفه ان السفينة كانت مصنوعة لتسع 500 راكب، ثم تم توسيعها لتسع 1300.. أحد الأسباب التي طرحت انها حملت اكثر حتى من حمولتها الموسعة... هربوا الى الخارج، واستلموا التأمينات وأفلت الجميع من العقاب، الا ربان سفينة أخرى تقاعس في انقاذ الغرقى!(1)
المسؤولان المباشران عن الجريمة هما المستثمر في الجزيرة السياحية، والذي بدأ عمله فيها قبل بضعة سنوات، وصاحب العبارة، ولا مفر من معاقبتهما أشد العقاب، ولكن هل حقاً هما المسؤولان الأهم؟
ينقل ماركس عن أحد النقابيين خبرته في أصحاب العمل بقوله: "رأس المال يتجنب المشاريع غير المربحة او ذات الربح الصغير، كما تكره الطبيعة الفراغ. وبوجود ربح كاف، يصبح رأس المال جريئاً. بربح 10% سيكون رأس المال مستعداً للعمل في أي مكان. 20% تثير فيه الحماس. 50% تجعل منه مغامراً. 100% تجعله مستعداً أن يدوس على كل القوانين الإنسانية. 300% ..عندها لن يكون هناك جريمة إلا وكان مستعداً لارتكابها، أو خطراً يهرب منه، حتى لو كان هناك احتمال ان يشنق بسببه!".(2)
احداث التاريخ تؤكد أن ما نقله ماركس عن النقابي، قد لا يكون مبالغة شديدة.
من وسّع "عبّارة السلام" لتسع 300% من الركاب، سيستطيع بيعها بأكثر من سعرها، حتى لو لم تكن أسسها امينة بما يكفي.. لأنه سيكون تحت تأثير الأرباح الإضافية التي قد تجعله "مستعداً أن يدوس على كل القوانين الإنسانية".
هذا لا يقتصر على شعوبنا وبلداننا طبعا. أنظروا ما يحدث عندما تكون ارباح الرأسمالي تعتمد على إطالة سجن القاصرين. (3)
ولاحظوا كيف يتسبب البحث عن زيادة الأرباح عن طريق التوفير في تكاليف الصيانة في شركة حكومية بعد خصخصتها بكارثة سقوط جسر في إيطاليا، وكيف انهم فكروا بإعادة تأميمها لعدم وجود حل آخر يضمن السلامة.(4)
وانظروا كيف تسبب تخفيض مماثل في كلفة إجراءات الأمان، في تسرب النفط في خليج المكسيك من قبل شركة "برتش بتروليوم" قبل اكثر من 8 سنوات، وما نتج عنه من كارثة بيئية هائلة.(5)
يقال ان الرأسمالية تطور الإنتاج والبلد من خلال التنافس، لكن التنافس ينتهي بكوارث ايضاً. انظروا كيف يتسبب التنافس الشديد بين شركات الطيران، والبحث عن اقصى ربح بأي ثمن، بخفض أجور الطيارين في أميركا إلى حد الجوع! بعضهم اضطروا أن يبحثوا عن عمل ثان (مثل نادل في مقهى!) وآخرين يستجدون مساعدات الطعام من المؤسسات الخيرية، والبعض يبيع دمه ليأكل! أنه أمر لا يكاد يصدقه العقل، لكن هذا ما حدث ويحدث.. والنتيجة لهذه المعيشة غير الطبيعية، هي كالعادة: الكوارث!(6)
إذا كان ديدن الاستثمار الخاص هو التركيز على الإنتاجية العالية بأقل التكاليف دون النظر إلى العواقب على مستوى العالم، فما هو حقنا في ان نلوم صاحب العبّارة وصاحب الجزيرة؟
نعم، اعرف صديقاً رفض الأرباح وفضل الخسارة الكبيرة، حين علم انها قد تسمم الأطفال، لكن كم هي نسبة ذوي الاخلاق العالية جداً بين الناس في المجتمع؟ لماذا نلقي بالناس في تحد أخلاقي اكبر من طاقة الانسان الاعتيادي، ثم نعاقبهم ان لم يتصرفوا كقديسين؟
المستثمر في الجزيرة أو صاحب العبارة، حين ينقل ما يقارب 250 شخصاً في عبارة مصممة لـ 50، فأنه يرى ارباحاً اكبر بنسبة 500% مما لو التزم بالقانون! إنه يتعرض لحالة نفسية لا يكون عندها "هناك جريمة لن يكون مستعداً لارتكابها، أو خطراً يهرب منه، حتى لو كان هناك احتمال ان يشنق بسببه!". فمن هو المذنب ألأول؟ هل هو المذنب المباشر أم من يدفع به إلى الجريمة؟ أيحق لمن يدفع البلد الى نظام ينمي الجشع والفساد، ان يعاقب الناس إن لم يصمدوا في وجهها، ثم ينجو بنفسه؟
هل يجب ان يحاسب صاحب العبّارة اكثر، أم رئيس الحكومة الذي يهدد ويتوعد، وهو اشد المتحمسين لدفع البلد في اتجاه القروض والاستثمار الخاص والخصخصة ورأس المال ووصايا صندوق النقد الدولي.. وهو على علم تام بما يعني ذلك على أهل بلده؟ نعم يجب انزال العقوبة الأشد بالمجرم المباشر، لكننا سنكون منافقين ان تجاوزنا النظام المسبب للجريمة، والقائمين على ذلك النظام.
لقد قال احدهم: "إن كانت الظروف هي التي تصنع الإنسان.. فلنخلق ظروفاً إنسانية"!
وأقول: إن من يحول الإنسان الى وحش... هو المجرم الحقيقي الأساسي، وهو من يجب ان يحاسب ويوقف عند حده، وإلا فمرحباً بالعراق في نادي الكوارث الرأسمالية، وسنرى المزيد في القادم من الأيام.