اترك
كل ما بين يديك وابدأ عامك الجديد مع حمزتوف
صائب خليل
1 كانون الثاني 2019
احتجت معرفة النص الدقيق لعبارة من كتاب رسول حمزتوف
"داغستان بلدي"، فلم انتبه لنفسي إلا وقد طار نصف اليوم!
"داغستان بلدي" انشودة كرامة وحب وطن وأهل،
مغلفة بنسمة هدوء وطمأنينة تتيح لهذه الكلمات أن تورق من جديد، بعد ان تعرضت لأشنع
تمزيق وتشهير، بعضه متعمد وأكثره عارض.
إنه ترياق من الشجاعة المعطرة بالإنسانية، ضد سموم
الدونية التي تملأ الجو حولنا، تنفخها وسائل اعلام يتحكم بها من يبغي الموت لهذه
الأوطان. إنه إنعاش للقيم التي خنقها كتاب انتشروا ونموا بسرعة الأعشاب الضارة في
ارض خصبة، وقد سيطرت المسكنة على أرواحهم فنذروا أنفسهم مبشرين بعظمة الاستسلام
للقوي بحجة الواقعية. إنه مزيج بارع من دعوات القوة والرجولة إلى حد العنف الأقصى،
بخنجر يوضع تحت وسادة الوليد وقد كتب على غلافه: "يد ابيك لم ترتجف وهي
تحملني، فهل ستحملني يدك دون ان ترتجف؟"، مع أرق مشاعر الإنسان التي تنبهه أن
يترفق بقبضته فـ "لا يخنق العشب"!
لا شيء يتردد في هذا الكتاب أكثر من الحديث عن الخناجر
والسلاح والشجاعة والحصان الباسل سوى الحب والإنسان والشعر والأغنية، فكيف امتزج
هذا بذاك، دون ان نجد بين يدينا خليطاً متنافراً؟
"داغستان بلدي" يكشف لنا السر! إن خير ما يدفع
بالإنسان إلى الشجاعة والتضحية والدفاع عن الوطن، هو أن يكون الوطن جميلا رقيقاً
مليئاً بالشعر والأغاني. واكثر دعوة قادرة على الإقناع بالتضحية من أجل القيم، هي أن
يكون الصحب إنسانياً باسلاً يدعوك للفخر به والتضحية معه وله ومن أجله. أن يكون مجتمعاً
يهمك رأيه بك، فلا تستطيع ان تخونه دون الإحساس بالوجع.
ولا يمكن الدعوة للتضحية والمثل ما لم تكن تلك قد نبتت
في الإنسان مع حبه لوطنه منذ صغره. فلكي تكون لكلمة الوطن وقعها، يجب ان تمتزج
برأس الإنسان وقلبه. وللقلب مكانة سامية في كتاب حمزتوف، لا يكاد يدانيه فيها أحد.
"هل يمكن ان نطلق في العالم كلمة لم تكن قد عاشت في
القلب؟"
"أمس كنت اتسلل الى اعشاش الطيور، واغري أصدقائي
بصعود الجبال.
وأتى الحب عنيفاً أزرق العينين، فجعلني دفعة واحدة،
كبيراً...
أمس كنت احسبني كبيرا وراشداً، اشيباً وحكيماً حتى آخر
أيامي
وأتى الحب وابتسم في بساطة.. فإذا انا ولد صغير!"
والطبيعة وجمالها جزء من وطن الانسان وانسانيته:
"ايتها العصافير، مالك صامتة منذ الفجر؟ - المطر
يهطل... ونحن نستمع الى صوته..
ولماذا تصمتون انتم أيها الشعراء؟ - المطر يهطل... ونحن
نستمع الى صوته! "
فعندما تتشبع الأرواح بجمال المحبوب والمكان، تجب
التضحية وتجد مبررها ودافعها، ويصدق من يقول: "لا يجوز لأحد ان يكون صغيرا في
المكان الذي نقف فيه". عندها سيبدو "اكثر المشاهد حقارة وشناعة"،
مشهد "الرجل الذي يرتجف خوفاً".
"داغستان بلدي" هو نسغ تجربة داغستان في بناء
هذا الإنسان لكي يستطيع الدفاع عن بلده الصغير ضد كل ما يحيط به من أخطار كبيرة، فنحن
احوج إلى تجربتهم وأن نفهم كيف فعلوا ذلك. أن نعرف كيف بنى الداغستانيون
"حصانهم الباسل الذي يمكنهم من اجتياز جميع الثنايا"، وليس الى تأمل
المانيا واليابان اللتان يصر الذين امتلكهم الإحساس بالدونية بأن الاستسلام
والقواعد العسكرية الأمريكية هي من بنى حضارتيهما وتقدمهما.
الكتاب مليء أولاً بالصور الأخاذة عن القرية – الوطن ومن
يعيش فيه:
"التفت مرة أخرى لألقي نظرة على قريتي.. على سطح
بيتنا أرى امي.. انها تقف منتصبة ووحيدة. ثم تتضاءل وتتضاءل لتصبح خطأً عمودياً
صغيراً فوق الخطوط الافقية لأسطح المنازل"
وهناك الكثير من الحديث عن الأطفال في الكتاب، وتوجيههم
بالأمثال والحكم، المنسوجة بمشاهد قراهم وحقولهم، ليبقى وطنهم ويبقوا:
"الأطفال الصغار يرون احلاماً كبيرة – كتابة على
مهد"
"الصغير هنا يبكي ويضحك، ولا يستطيع ان ينطق بكلمة
واحدة، ولكن سيأتي يوم يقول للناس جميعاً، من هو، ولماذا أتى الى هذا العالم"،
ولن يستطيع ذلك ما لم يتربى على رؤية جمال وطنه ومحبته، فـ "على الانسان ان
يحمل في قلبه أغاني شعبه"..
"الكذب ليس خطأً او هفوة. إنه عشب ضار في حقل روحك.
إن لم ينتزع في الوقت المناسب، فيمكن ان يملأ الحقل كله".
"على كل انسان ان يفهم منذ صباه بأنه أتى إلى هذا
العالم ليصبح ممثلا لشعبه، وعليه ان يكون مستعداً لتحمل أعباء هذه المهمة".
وللأغنية في "داغستان بلدي"، موقعها الخاص:
"آي داي دالالاي .. آي دولا لاي.. كلمات الأغنية
مفاتيح صناديق اللغة المحرمة"
"الأغنيات ستغنيها له انت امه، وانت تهزين سريره.
وبعد ذلك، فلتغن له الطيور والأنهار، وأيضاً السيوف والرصاص. أما اجمل الأغاني
فلتغنها له عروسه".
ونلاحظ أن للشعر والشعراء مكانة كبيرة في تلك القصائد
والحكم، كما هو الامر للشجاعة والشجعان، فـ "الشجعان والشعراء والمغنين..
أمناء على النار وهم حراسها". بل قد يتفوق الشعر على السلاح في قيمته:
"السلاح الذي قد تحتاجه مرة واحدة، تحتاج لحمله،
العمر كله. وابيات الشعر نكتبها مرة واحدة، فتخدمنا العمر كله"
ولحكم القرية مكانة مميزة أيضا: "النسر الذي يقضي
وقته بالرواح والمجيء بين الدجاجات في الحوش كسلا.. ليس نسراً"
"غن اذا حل الربيع.. واحك الحكايا إذا جاء
الشتاء"
كنت قد قرأت هذا الكتاب واعجبت به كل الاعجاب قبل اكثر
من ربع قرن، قرأته بانتباه، وسجلت الكثير من العبارات الرائعة فيه، لكني لما
تصفحته اليوم وجدته أروع مما رأيته حينذاك! فالتجربة اختلفت والمشاكل التي في
الراس اختلفت، وقوة الشوق الى الحياة الجميلة والكريمة ومعرفة طريقها، اختلفت
كثيرا.
داغستان بلدي كتاب للتأمل، والهضم لكي يبقى اثره في
الروح، وليس لقراءة سريعة : "عندما تستيقظ من نومك، لا تقفز من سريرك كأن أحدا عضك.. فكر قبل كل شيء بما
حلمت به"
لماذا تكون "الروح" ضرورية لبقاء بلد صغير على
قيد الحياة؟ لماذا يكون الشعر والأغنية والحب والجمال ضرورات لبقاء الوطن؟ لأن
بدون الروح والأغنية، ستتحول الطرق العزيزة بالذكريات، إلى تراب وجدران طينية مهدمة،
لا تستحق الاهتمام، كما يصفها أحد الناعقون بضرورة الاستسلام والواقعية. عندها، إن
تمكن هذا السم منا فلن نجد شيئا يستحق الدفاع عنه. لماذا تكون قصص الشجاعة وقيمها سلاحاً للدفاع
عنه ولا أمل له ولأهله بدونها؟ لأنها الجسر لعبور حاجز الخوف والاحساس بالقلة أمام
عدو اكبر واكثر عدداً..
وهكذا فأن "الشجعان والشعراء والمغنين والرواة ..
أمناء على النار وحراسها"..
نحن بحاجة إلى ان نقرأ "داغستان بلدي" بقلوبنا
ونحفظه في صدورنا، وأن نصنع مثله لأنفسنا ولأجيالنا لنعود اليه وقت ضيقنا ويأسنا،
وقبل أن يتمكن اليأس منا.