السبت، 8 ديسمبر 2018

حسونة ذهبت الى سامراء وحلفت عبيد الوركاء وجمدتهم كتماثيل في الزقورة-صائب خليل


حسونة ذهبت الى سامراء وحلفت عبيد الوركاء وجمدتهم كتماثيل في الزقورة
صائب خليل
7 كانون الأول 2018
كيف نحفظ أسماء الأشياء؟ هذه الحيرة مرت علي وأنا اقرأ بداية كتاب الأستاذ طه باقر ""، الرائع والمفقود من السوق لسبب لا يعلمه الا الله والراسخون في المكتبات..
يشير طه باقر إلى بداية الحضارة في العراق، وكيف انها ابتدأت بعد نهاية العصر الحجري القديم والعصر الحجري الحديث، حيث سميت تلك الحقبة التي بدأ في منتصفها استعمال المعادن في العراق، بالعصر الحجري – المعدني والذي بدأ في منتصف الالف السادس قبل الميلاد (5500 قبل الميلاد) واستمر لألفي عام. وفي هذا العصر تحققت العديد من الإنجازات كتطور الزراعة والري ونشوء أوائل المدن وظهور أنظمة الحكم والمعابد، وسجلت بداية ظهور الاختراعات الأساسية التي مهدت للحضارة الراقية لبلاد ما بين النهرين التي ستظهر في بداية الألف الثالث قبل الميلاد.
هذا كله منطقي وسهل الحفظ نسبيا، حتى جاء في  النص، تعداد الأدوار التي توالت في هذا العصر وسميت الأدوار حسب مناطق اكتشافها، وتبتدئ حسب قدمها بدور "حسونة" نسبة الى تل حسونة في الموصل و دور "سامراء" ودور "حلف" ودور "العُبيد" الذي بدأ استيطان الإنسان العراقي السهول الرسوبية في وسط العراق وجنوبه.
ثم ظهر "العصر الشبيه بالكتابي" عندما بدأت اشكال الكتابة المبسطة (الصورية) فيه بالظهور، حيث انها من البساطة مما يصعب اعتبارها "كتابة"، فلا يمكنك ان تعتبر رسماً مبسطاً لبقرة مثلا على انه كتابة بكل معنى الكلمة، حتى ان كان القصد منه التدوين. لكنها كانت ولادة الكتابة في ما بين النهرين وكانت بحدود 3500 قبل الميلاد، ويشمل هذا دور "الوركاء" و دور "جمدة نصر" الذي شهد تطورات حضارية مهمة مثل فن النحت والاختام الاسطوانية التي اختصت بها حضارة وادي الرافدين وتطور بناء المعابد لتظهر أوائل الأبراج التي تسمى "الزقورات" التي مازلنا نشاهدها حتى اليوم!
إذن، كانت الفترة المقدسة بين بدء الحضارة في العراق، وحتى بناء الزقورة.. ألا تستحق ان نحفظ تسلسلها وأسماء أدوارها؟

الحقيقة اننا نقصف بكم هائل ومتزايد من المعلومات التي يجب ان نتعامل معها. وليس الأمر فقط بسبب التطور العلمي والتكنولوجي والمعرفي بشكل عام، فهذا ربما يمكن تدبيره. إنما السبب  الأكبر في التسونامي المعلوماتي الذي يجب علينا هضمه، هو أننا نعيش في عالم معادي للإنسان! لقد ادخلتنا الرأسمالية وكل تداعياتها ونتائجها الطبيعية من فردية  في حالة حرب دائماً وتهديد مستمر لحياة ورفاه وحرية الإنسان، ابتداءاً بالشعوب المتخلفة وليس انتهاءاً بها. وصار لزاماً على كل انسان ان يتحصن بوعي اكبر بكثير مما كان يكفي في الماضي لدرء استغلاله ونهب ثروته وتحطيم مصالحه وحياته.
ومما يزيد الطين بلة، ان الرأسمالية استولت ايضاً على وسائل الإعلام وحولتها إلى وسائل تضليل وإيهام، وهذا زاد بشكل كبير من كمية الوعي الضرورية للبقاء على قيد الحياة. وكمية الوعي تعتمد على الجهد الذهني والقراءة والتذكر ايضاً. فالذاكرة مهمة بشكل خاص لمن يريد الدفاع عن الحقيقة بوجه الإعلام التضليلي بشكل خاص. وهكذا سلط على الذاكرة حمل لم تخلق لحمله. ولذلك توجب ابتكار التقنيات الضرورية التي تسهل الحفظ، لتكون المعلومة جاهزة حين نحتاجها.

الأرقام والاسماء صعبة الحفظ بطبيعتها ما لم نجد لها ارتباطا ما بما نعرفه. وإن لم نجد، فحتى لو كان ارتباطا اعتباطيا. أنا احفظ تاريخ الثورة الفرنسية مثلا بأنه 1789 لأن 789 متسلسلة (والألف طبعا سهلة). لكن للأسف ليست كل الأرقام بهذه الطواعية للقواعد.
وعندما كنت طالباً في الابتدائية كنت اخطأ بمكان الـ "w" في كلمة "two"، وكثيراً ما يتبادل مع "o" المكان، فحفظته بتذكر ان "دبل يو" تعني "اثنين يو"، وتسلسله هو 2 ايضاً في حروف الكلمة!  
ومثل عنوان هذه المقالة، اخترعت قصة صغيرة لا تحتوي من كلمات "الضاد والظاء" إلا تلك التي تستعمل الظاء، وكل كلمات الظاء. فكنت عند كتابة كل كلمة أحاول ان أتذكر فيما اذا كانت تلك الكلمة موجودة في تلك القصة أم لا.

عودة إلى عنوان مقالتنا، أقول أن الأسماء بشكل عام قد لا تعني شيئا كثيراً، لكنها ايضاً قد تعطي هيكلا لمعارفنا يحدد أماكن الأشياء في ذاكرتنا وعلاقتها ببعضها، زمنياً وغير زمني. مفيد ان نعرف لو رأينا حجراً كتب عليه انه من دور "حلف" ان نفهم أنه كان في وسط الفترة بين "حسونة" و الوركاء.. أن جمدة نصر هي التي اطلقت الاختام الاسطوانية مثلا.. فإن وجدنا ختما مدوراً مثلا يعود إلى دور "سامراء" نقول : أها، يبدو انهم كانوا يستعملون الاختام المدورة او البسيطة قبل ان يخترعوا الاختام الاسطوانية لاحقا قريبا من عصر الوركاء!  
أو إن عرفنا ان اليونانيين قد عرفوا الكتابة فقط قبل الف عام من الميلاد او اقل ، نعلم اننا عرفناها في "الوركاء" 3500 عام قبل الميلاد، ونحاول ان نتخيل كم هو الفرق بين الف عام و 3500 عام!
إعطاء التاريخ شكلا وهيكلا، عملية تتطلب بعض الجهد، لكنها توفر الكثير لاحقاً. وأنا حين قرأت "حسونة" تذكرت اسم اختي، فركبت الجملة التي هي عنوان هذا المنشور، لأحفظ التسلسل، ولكل معارفه وخزينه الذي له ان ينهل منه ما يساعد ذاكرته.
.
الصورة لفخارية من تل حسونة مزينة برسوم فنية تدل على اهتمام عراقيين ذلك العصر بالجمال، وذوقهم الرفيع فيه:


الثلاثاء، 23 أكتوبر 2018

كيف ولدت دولة الرفاه ولماذا تتراجع؟-صائب خليل


كيف ولدت دولة الرفاه ولماذا تتراجع؟
صائب خليل
18 تشرين الأول 2018
لكي نفهم لماذا تتراجع دولة الرفاه التي تعودنا رؤيتها في الغرب، علينا ان نفهم كيف نشأت، وهل تغيرت الظروف التي أدت إلى ولادتها وأمنت معيشتها أم أنها دورة حياة لنظام اقتصادي كغيره من الأنظمة الحية، ينشأ ويكبر ثم يشيخ ويموت؟
ظهرت دولة الرفاه في الغرب بعد الحرب العالمية الثانية، لكن بدايتها تعود في الحقيقة الى فترة الكساد الكبير الذي شمل الغرب قبل ذلك بعقد ونصف من الزمان. فقد ضرب ما يسمى "الكساد العظيم" الدول الصناعية الغربية ابتداءاً من عام 1929 وامتد ليشمل بدرجة أو بأخرى بقية انحاء العالم، وبخاصة تلك التي كانت تعتمد على الغرب في اقتصادها. واستمر الكساد لمعظم فترة الثلاثينات، ووصل الحال ببعض الأسر الامريكية الى عرض أولادها للبيع! وفي تلك الفترة العصيبة كانت ولادة دولة الرفاه.
تسبب الكساد في فقدان ثقة الشعب بالحكومات الغربية ورفض تصديق تبريرات منظري الاقتصاد الرأسمالي. وعلى العكس من ذلك بدأت الأفكار اليسارية تلقى القبول من الناس. وقد أدى هذا الوضع إلى انضمام الملايين من العمال في اميركا إلى نقابات العمال واتحادها (CIO وكذلك انضم مئات الآلاف إلى حزبين اشتراكيين وإلى الحزب الشيوعي الأمريكي.
وفي هذه الاثناء تم انتخاب الرئيس الديمقراطي روزفلت لرئاسة الحكومة. فذهب وفد من نقابات العمال والأحزاب اليسارية اليه وحذروه بلهجة تشبه التهديد، بأنه قد اصبح رئيسا بفضل أصواتهم، وانه ان أراد ان يفوز بالانتخابات التالية فعليه ان يساعدهم في وضعهم الاقتصادي المتدهور. ابلغوه بأنهم يعلمون ان الحكومة لا تملك المال والبلد في وضع اقتصادي صعب جداً، لكن هناك اثرياء وشركات كبرى في البلد، وعليه ان يسحب جزءأً من أموالها لدعمهم. واخبروه أيضا بأنه ان لم يفعل فأن الامر قد يتجاوز عدم انتخابه، ليصل الى حد اسقاط النظام الرأسمالي.
قام روزفلت بالاجتماع برجال الاعمال والأثرياء وأخبرهم بما حدث في الاجتماع، ونصحهم بالتعاون معه وإلا فقد تكون هناك ثورة ويخسرون كل شيء! فحصل روزفلت على موافقة هؤلاء ودعمهم إضافة دعم اليسار، فتمكن من تحقيق برنامج شديد الطموح لم تعرفه أميركا من قبل، وموله من رفع الضرائب المفروضة على أرباح الشركات، وممتلكات الأثرياء بشكل كبير.
وكان نتيجة ذلك ان تمكن الشعب الأمريكي من الحصول على مكاسب مدهشة. فتم انشاء شبكة الضمان الاجتماعي، ومن ضمنها ضمان رواتب البطالة، وتم تحديد الحد الأدنى للأجور، وتم تشغيل 50 مليون عاطل عن العمل بتوفير العمل عن طريق مشاريع الحكومة وبشكل مباشر.
وفي الفترة اللاحقة بعد الحرب العالمية الثانية، كان التهديد اليساري مازال قوياً، فسمحت اميركا لتوابعها في أوروبا (الغرب الأوروبي) وحتى في آسيا (اليابان وكوريا مثلا) باتباع نهج اقتصادي مخطط وحكومي وحمائي الى حد بعيد، والابتعاد عن اقتصاد حرية السوق، رغم ان ذلك بعيد عن المبادئ الرأسمالية، خشية ان يفوز الشيوعيين في تلك الدول، إن أصابها الضرر الاقتصادي.
هكذا ولدت دولة الرفاه في الغرب والشرق، ويمكننا ان نلاحظ أن السبب في الحالتين كان في إعادة توزيع الثروات بشكل اقل ظلما، وان الرأسمالية لم تلجأ إلى ذلك بسبب العطف او التفهم أو حب المواطنين او صالح البلاد، بل بسبب شعورها بالتهديد بأنها قد تخسر كل شيء!
ولنلاحظ أيضا أن هذا يبرهن أن من خلق دولة الرفاه بميزاتها المعروفة اليوم، هو ذلك “الرعب” الذي تمكن الفقراء من اثارته في الأثرياء، خاصة بوجود الاتحاد السوفيتي، وأجبروهم على تقاسم اقل ظلماً لثروة العالم. وقد اختفى هذا الرعب اليوم او انخفض بشكل كبير، فأطلق الأثرياء لأطماعهم العنان.
وشمل الهجوم على الضمان الاجتماعي والقطاع العام واللجوء الى الخصخصة، مختلف بلدان أوروبا الغربية، وعادت البطالة وانخفض الدعم العام للسلع وازدادت نسبة الفقراء ومن يعيش على الهامش في كل البلدان، رغم ارتفاع إنتاجية الفرد. فالظرف الذي أنشأ دولة الرفاه قد زال، فبدأت بالانهيار، خاصة في زمن ريغان وترمب في اميركا. ولم تحافظ على حالة الرفاه إلا الدول التي امتنعت بفضل وعي شعوبها، عن السماح للأحزاب التي تروج لحرية السوق والخصخصة بحرية القرارات، مثل الدول الاسكندنافية وهولندا على سبيل المثال.

 وفي خارج المنظومة الغربية، انتهى ايضاُ عصر "الدلال" الاقتصادي لنفس السبب، وتتعرض البدان الأضعف إلى الضغط باستخدام أسلحة مالية فعالة مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي الذان كانا يقدمان القروض بعقود تشترط خفض الضمان الاجتماعي وبشكل مخطط لتحطيم تلك البلدان واجبارها على خصخصة ثرواتها وبيعها لهم بأسعار زهيدة، ومنع أي احتمال لخلق دولة الرفاه فيها.
هذا التاريخ، سواء كان في أميركا أو أوروبا أو العالم الثالث، يدل على ان الضغط الشعبي والقدرة على إثارة قالق ورعب الرأسمال، اهم لرفاه الشعب حتى من رفع الإنتاجية وانتعاش الاقتصاد!







السبت، 20 أكتوبر 2018

سالوفة خاشقجي - ابتزاز الصديق عند الضيق-صائب خليل


سالوفة خاشقجي - ابتزاز الصديق عند الضيق
صائب خليل
20 تشرين الأول 2018
اخيراً كشفت أسرار جريمة قتل خاشقجي، ولم يبق منها سوى التفاصيل "المرعبة" للخاتمة المتوقعة، ولم يبق من شيء للإعلام السعودي عمله سوى اعمال "تقليل الخسائر المعنوية قدر الإمكان"، باختيار السيناريو الأنسب، وحماية الكبار، وهي عملية إعلامية معروفة وكلاسيكية.
قبل الكشف كتبت مقالة قمت بتعديلها مرتين، اكدت فيها على فكرة "ابتزاز الصديق" فكتبت أن "احساسي بأن القضية بالدرجة الأولى لعبة، وان السعودية، قد تكون، رغم كل جرائمها، الضحية أكثر مما هي المجرم هذه المرة
لماذا هذا الإحساس؟ أولاً هناك دافع ممتاز لهذه اللعبة التي تمارسها الولايات المتحدة وإسرائيل كثيراً: "لعبة ابتزاز الصديق". واللعبة مغرية جداً عندما يكون الصديق ثرياً جداً وضعيفاً جداً ليس له اية قدرة على الرد، ولا حتى على الزعل! وهذا هو حال السعودية. وقد قام هؤلاء بتنفيذ هذه اللعبة عليها كثيراً جداً مؤخراً.
.
ما زاد قناعتي بأن هذه الفرضية معقولة، هو أن الأدلة التي قدمت في مختلف البرامج التلفزيونية، وجميع الأفلام التي روجت، ليست فقط تافهة، وإنما أيضا يشم منها رائحة محاولة إعطائها قيمة اكبر من حقيقتها كثيراً وفرضها على الجو الإعلامي لتجميع الضغط على السعودية، ولكن بحساب يتيح لمن يديرها، التراجع
.
السعودية عبد مطيع، عدا انها مخترقة من الملك إلى ضابط الشرطة. لذلك فهي لا تتصرف بطريقة دولة تبحث عن مصلحتها، حتى لو كانت ترى مصلحتها في القتل. فإن كانت السعودية تريد قتله، ألم يكن اكثر أمانا أن تؤجر من يقتله خارجاً بدلا من قتله داخل السفارة والمغامرة باحتمال ان يكون قد احتاط لنفسه وقام بتكليف من يسجل له فيديو وصور وهو يدخل السفارة، او ان ترك شهوداً عديدين ومعروفين (دبلوماسيين مثلا) شهدوا دخوله المبنى؟ أو ان يكون قد حمل معه جهازاً قد يسجل الحديث او يرسل عملية القتل إلى خارج السفارة؟ 
ما يثير الاستغراب أيضاً ان خاشقجي لم يكن معارضاً شديداً للنظام ولم يدع لتغييره، ولذلك فان مثل هذه العملية تبدو متطرفة جداً في حماقتها. ورغم كل ذلك، فأن عدم انكار السعودية منذ البداية، دخول خاشقجي إلى القنصلية يؤكد كونه قد قتل داخلها. من الصعب ان يصدق احداً قصة ان الكامرات لم تعمل ذاك اليوم، رغم انها ليست مستحيلة نظريا، فهي تترك الطريق مفتوحاً بعض الشيء لمن يتهم السعودية، بالتراجع مستقبلاً إن تم الاتفاق.

لذلك فالاحتمال الأكثر منطقية هو أن يكون فخاً امريكيا تركيا للسعودية، يضرب به عصفوران بحجر. فالتخلص من خاشقجي الذي كان يتحدث مؤخراً عن ضرورة تغيير السعودية لقراراتها الاقتصادية، هو مصلحة امريكية أيضا، بل وقبل ان يكون مصلحة سعودية. وسيفكر الأمريكان بالتخلص منه كما انهم سيفكرون أن من الافضل ان يتم الاستفادة من تلك العملية لابتزاز هذا الصديق الثري في نفس الوقت. ومن المعقول في هذه الحالة ان تشترك تركيا في اللعبة. فالسعودية مستعدة بلا شك ان تدفع المليارات من اجل انهاء الموضوع بالصمت
وبالفعل أذعنت السعودية لطلب تركيا السماح بدخول فريق للتحقيق الى القنصلية. وفي اميركا وقع 22 من رجال الكونغرس طلباً للرئيس ترامب بالتحقيق في الموضوع، واعطيت له 120 يوما لإكمال التحقيق وتقديم تقرير به إلى الكونغرس.
.
ترامب لا يخفي ابتزازاته المافيوية المباشرة للسعودية في خطاباته، لكن الابتزاز بالخطابات لن يأت بنتيجة ما لم يساند بتهديد مقنع خاصة وان السعودية بدأت تشعر ربما لأول مرة في التاريخ، بأن امكانياتها المادية صارت مهددة لشدة الابتزاز. ومن المحتمل أن يكون السبب هو دفع السعودية لإكمال صفقات سلاح بدا ان السعودية متلكئة في إتمامها مؤخراً لنفس السبب. 
.
ما اردت من خلال تشكيكي الأولي والمراجعة، التنبيه إلى نقطتين: الأولى اننا يجب ان نبقى نطالب بأدلة كافية حتى لو كان الخبر يناسبنا وكان طعمه "لذيذا" على لساننا. والثانية هي ملاحظة عمل مبدأ “ابتزاز الصديق” الذي تمارسه اميركا واسرائيل بشكل ثابت ومستقر حتى من "اصدقائهما" الأوروبيين والحكومات المصرية المتعاقبة وغيرها.. 
عدا هذا فالموضوع كله غير مهم، لا مقتل صحفي وضيع ولا كون القاتل حكومة ليس لها إلا سجل الإجرام الطويل، ومهما تكون الحقائق فلن تغير من نظرتنا لا الى القاتل ولا المقتول.. وما يهمنا هو فهم ما يجري، والحفاظ على عقلنا سليما.



الأحد، 16 سبتمبر 2018

صائب خليل-اينشتاين "لماذا الاشتراكية؟"



اينشتاين "لماذا الاشتراكية؟" 

(الجزء الأول من الرسالة(1) كان عبارة عن تقديم لرؤية اينشتاين عن الاشتراكية، وفي هذا الجزء يتحدث باختصار عن علاقة الفرد بالمجتمع وتأثير الرأسمالية على تلك العلاقة ودفعها للفرد نحو الانعزال والغربة، لينتهي إلى أن البشرية ليس مقدر عليها ان تبقى تذبح بعضها البعض، وأن الطريق الى ذلك هو التخلص من القواعد الرأسمالية التي تدفع بهذا الاتجاه _ صائب خليل)

"تنبه أصواتٌ لا تُحصى منذ وقت طويل بأن المجتمع البشري يمر بأزمة, و بأن الاستقرار قد تحطم على نحو شديد. و من دلالات هذا الوضع، أن الأفراد يشعرون بعدم الاهتمام, بل و حتى بالعداء حيال المجموعة البشرية التي ينتمون إليها, صغيرة كانت (قومية مثلا) أم كبيرة (تشمل الجنس البشري كله).
ولكي أوضح قصدي, دعوني أذكر هنا تجربة شخصية لي. ناقشت مؤخراً مع شخص ذكي و طيب النية موضوع احتمال نشوب حرب أخرى [حرب عالمية ثالثة] و التي برأيي, ستعرض وجود البشر إلى الخطر الحقيقي؛ و بينت أن ذلك الخطر لا يمكن درؤه إلا بواسطة منظمة أممية (عابرة للدول). عندها سألني محاوري الزائر بهدوء و ببرود تام: " و لماذا تعارض بهذه الشدة انقراض الجنس البشري؟ "

أنا على يقين أنه حتى قبل حقبة قصيرة من الزمن لا تتجاور القرن الواحد, ما كان يمكن لأحد أن يسأل مثل هذا السؤال بهذه الدرجة من الاستهانة, هذا السؤال إنما قاله شخص حاول سدى، تحقيق التوازن مع ذاته، و لكنه فقد الأمل في تحقيق ذلك! هذا يعبر عن الانزواء و الانعزال الذين يعاني منهما الكثير من الناس في هذه الأيام, فما السبب في ذلك؟ و هل ثمة خلاص؟


من السهل طرح مثل هذه الأسئلة, ولكن من الصعب الإجابة عليها على نحو مؤكد بأي درجة كانت. لذا, ينبغي لي أن أحاول ذلك, بأفضل ما أستطيع...(..)
الأنسان مخلوق فردي و اجتماعي في آن واحد. كمخلوق فردي, فإنه يحاول حماية وجوده الذاتي و وجود الأقربين إليه, و تطمين رغباته, و تطوير قدراته الموروثة.
وكمخلوق اجتماعي, فإنه يسعى للفوز باعتراف و تعاطف البشر الآخرين, والمشاركة في أفراحهم, و بمواساتهم في أتراحهم, و بتحسين أوضاعهم الحياتية. لذلك فإن الدرجة التي يستطيع فيها الفرد تحقيق التوازن الداخلي و القدرة على المساهمة في رفاه الشعب لا تتحدد إلا بأخذ كل هذه الحسابات و التوجهات المختلفة و المتضادة غالباً في شخصية الإنسان وتركيبها، بنظر الاعتبار.
قد تكون القوة النسبية لهاتين النزعتين محددة وراثياً, لكن شخصية الفرد تتأثر على نحو كبير وتتقولب بالمحيط الذي يجد الإنسان نفسه فيه خلال نموه. فتؤثر تركيبة المجتمع الذي يترعرع فيه, و تقاليده, و التقدير الذي يوليه ذلك المجتمع لأنماط معينة من السلوك دون غيرها.

المفهوم المجرد لـ " المجتمع " يعني بالنسبة للإنسان الفرد: المجموع الكلي لعلاقاته المباشرة و غير المباشرة مع الناس سواء معاصريه أو الأجيال السابقة. صحيح أن الإنسان يستطيع أن يفكر و أن يشعر و يسعى و يشتغل بنفسه, و لكنه يعتمد كثيراً جداً على المجتمع في وجوده المادي و الفكري و العاطفي بحيث يستحيل أن نفكر فيه أو أن نفهمه خارج نطاق المجتمع. فهذا " المجتمع " هو الذي يزود الإنسان بالمأكل و الملبس و المسكن, و أدوات العمل, و اللغة, و أنماط التفكير, و اغلب محتواه الفكري؛ كما أن حياته لا تصبح ممكنة إلا بفضل عمل و منجزات ملايين البشر في الماضي و الحاضر، وكل ما يختفي خلف كلمة " المجتمع " الصغيرة هذه.

إن اعتماد الفرد على المجتمع هي حقيقة طبيعية لا يمكن محوها - مثلما هي الحال عند النمل و النحل. ولكن، في حين يكون تنظيم الحياة بأكملها لدى النمل و النحل مثبت في أدق تفاصيله بالغرائز الثابتة الموروثة, فإن النموذج الاجتماعي و العلاقات المتبادلة بين البشر تتميز بالتنوع الكبير و بالقابلية على التغيير. فالقدرة الذهنية وإمكانية تكوين تركيبات جديدة, وملكة التواصل الشفهي باللغة, كلها, جعلت من الممكن حصول تطورات بين البشر لا تمليها الضرورات البيولوجية. مثل هذه التطورات تظهر في التقاليد, و المؤسسات, والمنظمات؛ و في الأدب و المنجزات العلمية والهندسية و في الأعمال الفنية. و هذا يشرح لنا كيف يمكن للإنسان التأثير في حياته من خلال سلوكه, و أن بمستطاع التفكير الواعي و الإرادة أن يأخذا دورهما في هذه العملية.
يكتسب الإنسان عند مولده, و من خلال الوراثة, نظاماً بيولوجياً (جسمانيا) ثابتاً نسبياً، ويحدد الدوافع الطبيعية المميزة للنوع البشري عن بقية الكائنات. و بالإضافة إلى ذلك, فإن الإنسان يكتسب خلال حياته من المجتمع نظاماً ثقافياً. ولكن هذا النظام الثقافي معرَّض للتغيير بمرور الزمن, و هو الذي يحدد إلى درجة كبيرة العلاقة بين الفرد و المجتمع.

تعلِّمنا الأنثروبولوجيا [علم الإنسان] المعاصرة, من خلال المقارنة مع الحضارات البدائية, بأن السلوك الاجتماعي للبشر يمكن أن يختلف كثيراً من مجتمع لآخر، اعتمادا على النماذج الثقافية السائدة وعلى طرق تنظيم المجتمع. وعلى حقيقة إمكانية هذه الاختلافات، يؤسس أولئك الساعون لتحسين مصير الإنسان آمالهم: فالبشر ليس عبارة عن مخلوقات مجبرة بسبب تكوينها البيولوجي (الجسمي) على التوجه لإبادة بعضها البعض, و لا مكتوب عليها أن يضعوا انفسهم تحت رحمة مصير قاس يسلطونه على أنفسهم بأنفسهم."

في الجزء الثالث والأخير يحاول آينشتاين ان يبحث التساؤل عن كيفية تغيير المجتمع، فيبين ان الانسان لا يستطيع ان يجعل لحياته معنى خارج المجتمع، مؤكدا ان الفوضى الاقتصادية الرأسمالية هي مصدر الشرور. ثم ينتقل بعد ذلك الى محاولة مقتضبة لشرح بعض مبادئ الاقتصاد الاشتراكي ومفاهيم الفلسفة الماركسية.


(1) رسالة ألبرت آينشتاين:" لماذا الاشتراكية؟ (1)