حرب الرموز حرب حدود – تجارب على القرود لدفع الشعوب
للخنوع
صائب خليل
19 آب 2018
بينما كان العالم
ينظر برعب الى تطورات الاحداث نحو حرب عالمية ثانية عام 1939، كان الدكتور كليرنس
كاربنتر، المتخصص بعلم النفس واعراق الشعوب، يدرس مجتمعات القرود الآسيوية منذ
سنوات في تايلاند وسومطرة وسيام، ثم ليصطحب ما بين 350 إلى 500 من القرود، جمعها
من مناطق مختلفة من الهند، ليطلقها في جزيرة غير مأهولة منحت له للتجارب، قرب
بورتريكو، لغرض دراسة تصرفاتها وطرق تعايشها وتنظيمها لنفسها.
لاحظ د. كاربنتر
وفريق عمله أنه بعد عام من اطلاق هذه القرود، كون هؤلاء مجموعات، ثم قاموا بتقسيم الجزيرة
بينهم وكانت كل مجموعة تدافع عن منطقتها. وقد اجرى الفريق تجارب عديدة على هذه
المجموعات، وسجلوا تصرفاتها. وكان من أكثر تلك التجارب اثارة للانتباه هو تأثر
"القبيلة" بوجود قيادة قوية لها. فلاحظوا وجود قرد كبير وشرس في احدى
المجموعات التي كانت تحتل منطقة واسعة. جرب الباحثون إزالة هذا القرد من المجموعة،
فلاحظوا ان حدود المنطقة قد تقلصت بشكل ملحوظ. وحين أعادوه، عادت المنطقة للتوسع،
وكرروا التجربة مرات عديدة بنفس النتائج.
الملاحظة المهمة التي سجلوها هي ان تلك المنطقة كانت من
السعة بحيث انه كان من المستحيل على القرد ان يقوم بنفسه بالدفاع عن حدودها،
وبالتالي لم يكن وجوده الفعلي على الأرض هو ما يخيف المنافسين ويدفعهم للانكماش،
أو يشجع افراد المجموعة ويجعلها اكثر طموحا في التوسع. (1)
ما هو السر إذن؟ اكتشف
كاربنتر أن مجرد وجود هذا القرد في المجموعة كان له أثر “تعبوي” على بقية افراد
المجموعة، يجعلهم اكثر ثقة وشجاعة وقدرة على القتال. هذه القدرة التعبوية النفسية،
يمكنها ان تطير وتستقر في رؤوس الافراد يحملونها معهم بعيدا عن مكان تواجد ذلك
القرد القائد، لتحث فيهم القوة إينما كانوا من الحدود. ويمكننا ان نتخيل ان هناك
نفس الأثر على البشر مثل نبوخذ نصر على البابليين والملك سايروس في بلاد فارس
والاكسندر الأكبر على اليونانيين، ونابليون على جنوده. فما حققه هؤلاء في ازمانهم
كان اكبر من مجرد القدرة الشخصية الجسمانية أو العقلية لقائدهم. إنما هو بالأساس ذلك
الأثر الإيجابي والشعور بالقوة والعزم الذي ينشره هذا القائد في مجموعته، مقابل الفراغ
الذي يتركه افتقاده فيهم وما ينشره من قلق وخوف واستعداد اكبر للخنوع والتراجع، عندما
يغيب.
لعل هذا التأثير
هو ما يفسر تلك القوة الجبارة للمقاومة اللبنانية، ودحرها لإسرائيل في المعركة
الأسطورية التي احتفلت بذكراها الـ 12 قبل أيام (14 آب 2006) والتي اقدم لها هذه
المقالة هدية (متأخرة قليلا) بتلك المناسبة.
المعتدون في
عالمنا "البشري"، يطمحون إلى سلب الشعوب ثرواتها وحقوقها، وهو ما يقابل
الأرض عند مجاميع القرود على تلك الجزيرة. وهم يعرفون جيدا علم النفس للشعوب
ويدرسونه باستمرار، ويعلمون جيداً أن اغتيال الرموز هو اسهل طريقة لدفع الشعوب الى
الخنوع ورضاها بسلبهم لحقوقها وثرواتها.
وهو أيضاً ما
يفسر الهوس المحموم باغتيال قيادات تلك المقاومة من قبل إسرائيل، كما فعلت سابقا
معها ومع حماس وغيرها، ومثلما فعلت بلجيكا مع رمز شعب الكونغو لومومبا، وإيطاليا
مع عمر المختار، ووكالة المخابرات الامريكية مع الرمز الإنساني جيفارا وتشافيز
فنزويلا وعبد الكريم العراق ومصدق إيران والندي شيلي وتروخيو بنما وآخرين كثيرين.
لقد ذكرنا ان
الرمز، حتى في مجموعة القردة، يلعب دوره بشكل أساسي، من خلال قوته
"التعبوية" التي تنتشر بسرعة، وليس من خلال قوته الجسدية المحدودة
الاهمية.. فالمشكلة التي يعاني منها قتلة الرموز، هي أن عملية الاغتيال هي عملية
قتل جسدي بالأساس. كما أن البشر يختلفون عن القردة في قدرة اذهانهم على استحضار
أرواح الذين قتلوا، وبالتالي استحضار قوتهم "التعبوية"، بدرجة أو بأخرى،
حتى بعد اغتيالهم أو وفاتهم. ومازالت الشعوب تستحضر أرواح ابطالها لحشد همم
افرادها من جديد لكسر واقعهم وتكرار أيام العز الماضية. وقد اتخذت هذه الشعوب طرقا
مختلفة لتأمين تواجد تلك القوة التعبوية في مواطنيها، بتنشيط ذاكرتهم باستمرار من
خلال تدريس تاريخهم للأطفال ونصب التماثيل في الساحات العامة وأسماء الشوارع والمدن
او حتى أسماء النقود كما فعلت فنزويلا بتسمية عملتها "البوليفار" تيمنا
بالبطل القومي سيمون بوليفار.
وطبيعي ان هذا
بالعكس مما يريد من يطمح الى تدجين تلك الشعوب لتسهيل سلبها حقوقها، لذلك فهو يسعى
بالضبط الى جعل تلك الشعوب تنسى تلك الرموز وتمحوها من ذاكرتها، وبالتالي اغتيالها
كرموز أيضا وعدم الاكتفاء باغتيالها كشخوص، من خلال التشكيك بها وتشويه سمعتها
والمبالغة في اية نقطة سلبية عليها أو اختراع القصص الخرافية المضادة إن تطلب
الأمر. ولا يقتصر ذلك على الرموز البشرية، بل يمتد أيضا إلى المناسبات الوطنية،
فهي أيضا قادرة على تجهيز تلك القوة "التعبوية" في الناس. ويعرف
العراقيون على سبيل المثال المعركة التي تشن سنويا في ذكرى ثورة 14 تموز، بين من
يدافع عنها كرمز وطني يذكر الناس بقيمة التخلص من السلطة الأجنبية وما يمكن للشعب
ان يحقق من معجزات من خلال ذلك، وبين المكلفين بتشويه تلك الثورة والتركيز على عنف
بسيط جدا بالقياس بثورات العالم والمبالغة به وتصويرها وكأنها المسؤولة عن كل
العنف الذي تلاها، رغم أن ذلك يناقض تاريخها وتاريخ العراق قبلها وبعدها تماما.
كذلك لاحظت
الصعوبة البالغة في المعركة الإعلامية الشرسة من أجل اعتبار يوم 14 تموز عيداً
وطنياً، بل كانت هناك جهات تحاول ان تدفع لجعل يوم الاحتلال 9 نيسان، عيداً وطنياً
بدلا منه!
كذلك لا يجد
الإعلام "العراقي" (الأمريكي الإسرائيلي في حقيقة الأمر) سياسياً عراقيا
يقوم التلفزيون بإنتاج مسلسل عنه سوى "الباشا" نوري السعيد، وتقوم في
نفس الوقت حملة على وسائل التواصل الاجتماعي لتفخيمه ونشر القصص المختلقة أو الرمزية
الإيجابية عنه بشكل مذهل، فيتحول رمز العمالة الإنكليزية الامريكية إلى شخصية
رمزية في نظر الكثير من العراقيين الذين لم يكلفوا انفسهم بمراجعة تاريخ بلادهم
لمعرفة الحقيقة، وليختاروا رموزهم بأنفسهم.
ويسعى الإعلام الأمريكي الإسرائيلي الذي يسيطر على الجو في
العالم العربي إلى طمس الرموز التي لا تناسبه. فيتم منع تداول أسماء الرموز بعد
اتهامها بالإرهاب مثلا. ويتم تسمية الشوارع بأسماء بعيدة كل البعد عن رموز الشعب.
ولا يجب ان ننتظر أن تفشل كل تلك المشاريع الضخمة التمويل
والمدعومة بالدراسات والسلطة على الإعلام، في تشويه التاريخ في رؤوس الناس
وتحويلهم إلى كائنات تعاني من الهلوسة. فلم يعد غريبا أن تقابل على مواقع التواصل
الاجتماعي من يعتقد أن جيفارا "مجرم قاس قتل رفاقه"، وأنه كان يدور في
العالم ليثير الشغب والمشاكل، بل أن احدهم كتب انه قتل الملايين! وقد تحول متحف
ماركس المقام في بيته في ترير، إلى منبر لتشويه سمعة الرجل بشكل مثير للتقزز. فالتمثال
الأكبر له قام بتصويره وهو يمد يده متسولا من إنجلز، وكأن مساعدة انجلز له كانت
عيبا وأنها كانت اهم ما يمثل ماركس! إضافة إلى ذلك، تم تكليف ممثلة تدور بين
المتجولين في المتحف على أساس انها زوجة ماركس، وكانت تحدثهم عن علاقة ماركس غير
الشرعية بمربية منزلهم، علما أن جميع الأدلة المتوفرة تشير الى أن تلك القصة قد
اختلقت خلقاً، وأن اول ظهور لتلك الإشاعة كان عام 1960، أي بعد وفاة ماركس بمئة
عام تقريبا!
وفي البحث على كوكل عن جريمة صبرا
وشاتيلا التي نفذها عملاء إسرائيل بحماية الجيش الإسرائيلي، نجد موقعا باسم
"إضاءات" يريد إقناعنا أن "حركة أمل" هي التي قامت بالمجزرة
وهي تهتف "لا إله إلا الله، والعرب أعداء
الله"!
وفي مصر والعالم
العربي عموماً يتعرض الرمز القومي جمال عبد الناصر الى حملة مماثلة، قد تكون اشد
ضراوة. فقد قاد عبد الناصر، رغم الكثير من الأخطاء والخطايا، “مدرسة الاستقلال”
التي يفتقدها العرب اليوم، فدعم ثورة الجزائر كما أمم قناة السويس في مواجهة حازمة
مع بريطانيا وفرنسا وأنشأ مع نهرو زعيم الهند وشوان-لاي نائب ماو تسي تونغ وتيتو
زعيم يوغسلافيا كتلة عدم الانحياز، وعندما مات (أو قتل) ودعه الشعب المصري بأكبر
جنازة في تاريخ مصر.
بالمقابل، أكد
مصريون أنه تم التخطيط من قبل كيسنجر
وبالاتفاق مع السادات، لتشويه انجازات مرحلة عبد الناصر وخاصة في عقول الاجيال الجديدة وكان
هدفها "أن لا يظهر ناصر جديد".. كذلك
مولت مؤسسات أمريكية أساتذة واكاديميين في مصر عام
2009 2010 حملة لجمع
وتوثيق ما تحمله الذاكرة الشعبية المصرية لعبد الناصر وعمل بها دكاترة من جامعة
القاهرة، بغرض دراسة افضل الطرق لتشويهها.
ولا يقتصر تشويه الرموز على التاريخ الحديث، بل ويشمل الماضي
القديم، فتم تكليف احد الكتاب المصريين بتشويه سمعة صلاح الدين الأيوبي، لأنه كان
القائد المسلم الذي حارب الصليبيين على القدس وسجل انتصارات عسكرية واخلاقية مدهشة
لم يستطيعوا إلا الاعتراف بها. وتستفيد هذه الحملات من المشاعر الطائفية إن توفرت،
كما في عملية تشويه صلاح الدين. إضافة إلى ذلك كلف يوسف زيدان بمتابعة ودعم حملة
التشكيك بالمسجد الأقصى، الرمز الإسلامي الأهم في فلسطين. ويحصل زيدان مقابل ذلك
على التكريم من مؤسسة المدى ليستضاف في كردستان (التي تستقبل وتبجل كل عربي ينحني
لإسرائيل ويخدم مشاريعها المضادة للعرب)، ويدور حديث عن ترشيحه لجائزة نوبل، والتي
صارت هي الأخرى منذ زمن طويل أحد اهم أدوات تشويه الرموز سياسيا، على مستوى
العالم.
وتثير تلك الأعمال ردود فعل جميلة أحيانا وإن كانت متواضعة
الإمكانيات. فقاوم محبو الزعيم عبد الكريم قاسم وثورته حملة التشويه، وكشفوا حقائق
التاريخ الخاصة بالفترة الملكية ونوري السعيد.(2) ويقوم كاتب هذه
السطور بشكل منتظم بالكشف عن التزوير الإعلامي الموجه خصيصا للرموز والمستفيد عادة
من المشاعر الطائفية، ونشرت مقالات عديدة حول وسائل التشويه الإعلامي، كما قمت
بإنشاء صفحة تكشف حقائق الرأسمالية وحملات تشويه الاشتراكية وماركس بشكل خاص.
وكتبت أيضا اكشف حقائق الحروب الصليبية وكتب علاء اللامي دراسة ثرية أيضا.
ويبذل داعمو المقاومة اللبنانية جهودا جبارة لمقاومة الإعلام
الممول سعوديا لتشويه رموزهم، وقامت “حركة الشعب” في لبنان بحملة من أجل "إعادة هوية بيروت" عبر تغيير
أسماء شوارعها لأسماء رموزها، فغيرت “جادة الملك سلمان بن عبد العزيز” إلى “جادة
عهد التميمي”، وشارع الجنرال ديغول اصبح اسمه “شارع الأسير جورج إبراهيم عبدالله”،
و“شارع باريس” اصبح “جادة الشهيد القائد وديع حداد”، و“شارع جون كينيدي” اصبح “جادة
الشهيدة دلال المغربي” و “شارع فردان” اصبح “جادة المقدم الشهيد نور الدين الجمل”.
لا اكتمكم، إنني شديد القلق على المستقبل. فإن نجحوا، فلن يكون لنا الا
شعوب خانعة مستسلمة لعبوديتها مقتنعة بدونيتها، واجيال لا تحتفظ بذاكرتها إلا
بتاريخ مشوه مزور يؤكد ويشرعن تلك العبودية. إنها معركة شرسة وغير متكافئة، بدأت
بالنسبة لنا قبل بضعة سنين باكتشاف تزوير احداث وشخوص نعرفها اليوم، ونبدأ
بالتفكير كيف نردها بوسائلنا المتواضعة، وبدأت بالنسبة لهم منذ عشرات السنين، منذ
تجاربهم على القرود والبشر، بل منذ مئات السنين المليئة بالدراسات العملية
والتوثيق والتجارب ودعم مالي هائل وخبرة لا تجارى. إنهم يوجهون قذائف إعلامهم إلى رموز
المقاومة لتشويهها ووصفها بالتهور والجريمة، واستبدالها برموز الخنوع ووصفها
بالعقلانية والذكاء، وهدفهم هو دفع شعوبنا وغيرها الى المزيد من الخنوع والتخلي عن
حقوقها في ثرواتها وفي ارضها، و "تطبيع الإحساس بالدونية"، وهدفنا منع
ذلك قدر المستطاع وإبقاء الحقيقة والتاريخ على قيد الحياة. وفي الختام بمناسبة
ذكرى رد العدوان على لبنان، تحية لكل مقاوم، فهم أمل البشرية الأخير.
(1) C. R. Carpenter, Psychologist, Monkey‐Behavior
Expert, Dies
(2) صائب خليل: نحن نحدد رموزنا: عبد الكريم "شهيد
الشعب" و14تموز عيدنا الوطني