الجمعة، 6 يناير 2017

في التشكيل العربي المعاصر- في مشروع سلام عمر الجمالي "تقسيم" الميتافيزيقا لا تتستر على الغياب!- عادل كامل



 في التشكيل العربي المعاصر

في مشروع سلام عمر الجمالي "تقسيم"
الميتافيزيقا لا تتستر على الغياب!


عادل كامل
   قبل نصف قرن، بدأت حياتي الفنية بسؤال: ما الفائدة من إنتاج (الفن)، في مجتمعات سلب منها الخيال، استنادا ً  إلى فرضية تقول أن أسلافنا ـ قبل عصر الطوفان الأعظم ـ  كان خيالهم قد صاغ نسيج أساطيرهم، على خلاف زمننا: صار الناس أسرى آليات الواقع، ومن غير أساطير، ومن غير خيال، عدا: استكمال ما هو قيد المرور ابعد من حدوده.
    سلام عمر، في العام 2016، وفي البلد الوحيد القادر على إعادة التوازن للثقافة، مع ضدها، لبنان ـ بيروت،  لا يبحث عن إجابات، بل يقترح أسئلة لا تقوم على اللغة، ولا تقوم على الأساطير: هل بلغ العصر (العربي) ذروته، في دحر التقدم، وفي مواكبة العالم، والتمسك بأمل ما، حتى لو كان وهما ً...؟


     




    ففي مشروعه الفني "تقسيم" (بمعنى ما تفكيك) يغدو تاريخ الحداثة قد أصبح أكثر وضوحا ً لتمثل مصائر لم تعد تحدث فوق الأرض، بل عبر: الصور ـ والأثير. إنها تنتسب إلى (اللا كون) الذي صار وجودا ً لاستكمال مروره، وليس لمعرفته، أو التحكم بمساراته.  فالإحساس بالواقع لم يعد برنامجا ً طليعيا ، أو حتى حقا ً مستلبا ً، بل جزءا ً من وجود بلا مقدمات، وبلا زمن.

 



   فهل ثمة معنى للـ (الفن)، بعد أن غدا (سلعة/ شيئا ًكباقي الأشياء/ أو حيزا ً مشغولا ً بالفراغات)، منذ نبهنا هيغل لصدمة موت الفن، حيث لم تعد للميتافيزيقا مكانة في لفت النظر، فالرأسمالية، ليست اختراعا ً حديثا ً، أو وليدة التراكمات، مثلما أن مستقبلها لا تحدده القوى المضادة لها، ذلك لأن نظام (بذرة الخلق الأولى) ـ برمجتها أو خطتها  العصية على الإدراك ـ تأسست على النحو الذي  يدعه يكمل كل ما نراه قد جرد الإنسان من شروط وجوده: الهواء وليس الكرامة، الغياب وليس الديمومة، الخبز وليس الحرية، القبح وليس الجمال، القهر وليس المسرة، الألم وليس الوجع، العنف وليس المودة أو الوئام ...الخ، كي يختار الفنان سلام عمر (المسدس) علامة، وكان باستطاعته ـ طبعا ً ـ أن يختار أي رمز آخر من رموز عصرنا،  ينتسب إلى اللغة التي شغلت مساحة القرن الأخير، اللغة بوصفها فنا ً يكمل مقدماته، منذ أن تفككت الإمبراطورية العثمانية، وصولا ً إلى تفكك أوربا ذاتها، بعد خروج بريطانيا من مشروع أوربا الموحدة.  فالتقسيم مفهوم يتجاوز آليات عمل الجدل، وصراع الطبقات، وأفول الأيديولوجيات، وبزوغ عصر ما بعد العولمة.
   حقا ً لا يستطيع المتلقي أن يشعر بالـ (القرف)، أو بالكراهية، وهو يشاهد أسلحة شبيهة بالحلوى، ملونة، زاهية، ومنجزة بتصميم أخاذ، جذاب، حتى بدت (المسدسات) واجهة لعرض السلع الأكثر تداولا ً على صعيد الجماعات، الأفراد، والمؤسسات، ومقترنة بشركاتها، ودولها، حتى كأنها تبرهن أن غياب (الهوية)، لا يعني غياب (الإنسان)، بل على العكس: إن للفن مكانة في منح الصراع ديمومته، بل، وشرعيته، في دينامية آليات الصراع.
    إننا إزاء العاب، لم يبذل الفنان سلام عمر جهدا ً ببنائها، بل راح يلتقطها، عبر البصر، لتغدو إعلانات عبر الفضائيات، وعبر وسائل الاتصال المختلفة، الأكثر تطورا ً في حداثتها.

     


   فالمسدس ليس رمزا ً للقهر، أو للقوة، أو لإثارة الفزع، والكآبة، بل غدا نموذجا ً لأكثر الأسلحة شفافية، نعومة، جاذبية في وجودنا.  فالخيال لم يعد يذهب ابعد من حدود واقعيته السحرية: لأن العلامة لا يمكن عزلها عن نظام إدارة القارات، ومجتمعاتها، إن كانت أوربية ـ مصدرة للبضائع ومتحكمة بالأسواق ـ أو في العالم الثالث ـ وهي تستجدي مصيرها، حتى وهي تحتفل بخرابها، وأفولها.
    لكن هل ثمة صدمة، جمالية، في الأقل، لهذا الضرب من الفن وقد أعاد للصورة دور اللغة في التمويه، كما في أساطير الماضي وهي تمجد الآلهة، أم أن سلام عمر، يؤدي الدور ذاته لحامل (الكفر) دون ارتكابه...؟
    إن مجتمعا ً من غير فن، بالبداهة، ليس مجتمعا ً. لأن إنسان ما قبل التاريخ، لم يتكون، إلا بالفن. فالصدمة الأولى ستكون ذهبت مع الريح، في مجتمعات منشغلة، حد الموت، باختراع تصادمات لا تطرد الإبداع الفني، بل تحول الإنسان ذاته، إلى سلعة، لكنها سلعة خالية من الميتافيزيقيا. وهذا ما سمح للتدمير أن يتوغل في بلدان كانت تنعم بقناعة الصمت، في الأقل، ليتم تفكيكها، كما تم تفكيك (الذرة)، في فاتحة القرن الماضي، ليتم الاحتفال بالإبادات الجمعية، وما ستتركه من آثار عميقة ليس بموت (الفن)، أو موت (الإنسان)، بل بجعل الحياة تمضي كحكاية أعدت خاتمتها لها قبل أن تكون لها مقدمات.
    سيقال: هل هذا المعرض الجذاب للسلاح ـ ولنتخيل تاريخ الأسلحة، منذ الرمح، السهم، السيف، المدفع، الصاروخ عابر القارات، وصولا ً إلى الأسلحة الناعمة، ما بعد الذرية ـ يمتلك قدرا ً من إثارة الدهشة، أو الصدمة، أو الاستفزاز، بالخيال السائد لدى النخب، وليس لدى الملايين إلا الانشغال بالبحث عن: الخبز، والهرب من الاجتثاث، والمحو..؟
    ربما لم يترك سلام عمر، للفن، إلا الأثر؛ الصدى وقد سكن العلامة، أسوة بكنوز المتاحف الحربية، لا تمتلك إلا مرورا ً شبيها بمرور الأطياف، لكنها لا تمتلك  رغبة بإعادة فجيعة الأسئلة: كم قتلت، وكم هو عدد ضحاياها. فالفن الذي يحرض على إثارة الأسئلة، أما يخاطب من لا يفهم شيئا ً، أو يخاطب الذين لا تساعدهم المعرفة إلا على تجنب الخوض فيها. فهل ثمة (قسوة) أكثر بلاغة، من  تحول القسوة إلى صورة، لا تقارن، إلا بالحلوى، والعاب الأعياد، والانتصارات التمويهية، أو بالعروض السحرية للأسلحة التي  لا تترك ألما ً، بل ولا حتى ذكرى ما لغيابها؟!
26/12/2016

الأربعاء، 4 يناير 2017

مفهوم العقل العربي: أو الدعامة الفكرية للاستبداد-*موليم العروسي

مفهوم العقل العربي: أو الدعامة الفكرية للاستبداد
*موليم العروسي

لا أعرف كيف أشرح أن ينخرط الشباب، جسدياً وعملياً، في الإقبال على منتوجات التكنولوجيا الحديثة، وأن يستهلك آخر ما أنتج على مستوى الصورة والموسيقى واللباس، ولكنه يتوقف في قراءاته عند حدود القرن التاسع عشر الأوروبي ويحتمي في الغالب بملاءمة الفكر العربي التقليدي مع الفكر الحديث الذي أنتج في القرن الثامن عشر؟
يسألني طلبتي، بكثير من المكر، عن كيفية ملاءمة الحداثة وما بعد الحداثة مع حياتنا اليومية، وكيف يمكن لأمهاتهم وجداتهم فهم الحياة وفق هذا المنظور؟ يسألونني، وفي عيونهم حيرة عميقة، حيرة ذلك الذي يجد نفسه أمام طريقين، لكنه لا يزال يتردد في الأخذ بأحدهما.
أعرف جيداً أن الأمر لا يتعلق لا بأمهاتهم ولا بجداتهم ولكن الأمر يتعلق بهم هم، وصعوبة التخلص من منظومة تربوا فيها ولا يعرفون شيئاً غيرها. هذه المنظومة صنعتها المدرسة المغربية كما خُطِّطَ لها بِتأَنٍّ ومكر مكيافليين. ابتدأ مشروع التحول في التعليم المغربي من سنة 1965. فبعدما تم التراجع عن المشروع التحديثي السياسي الذي نادى به الجناح اليساري للحركة الوطنية واسترجاع الملكية على عهد محمد الخامس لغريزتها السلطوية التي كانت قد تخلت عنها مضطرة بحكم ظروف الاستعمار، أصبح الباب مشرعاً لإقامة نظام تعليمي يعيد إنتاج الخضوع والعبودية. ولم تجد الدولة أحسن من العودة للتراث لإعادة تنشيط الفكر السلطوي.
تزامن هذا مع حرب أكتوبر العربية الإسرائيلية، والتي وجد فيها دعاة العودة للماضي في العالم العربي، فرصة المطالبة بالتخلص من بقايا الاستعمار ومنها اللغة. ولكن العودة للغة العربية التي كانت تعني بالنسبة لبعضهم العودة للثقافة العربية، عنت للسلطة العودة إلى التقاليد وغربلتها من كل ما من شأنه أن يمس بالعمود الفقري للسلطة الأبوية الذكورية البطريكية الاستبدادية بصفة عامة. وكان النظام يعرف جيداً أن اللغات الأجنبية (الإنكليزية والفرنسية) تحمل في طياتها فكراً لا يتلاءم مع تكوين الرعية التي يريد، لذا قدم نفسه مسانداً لأؤلئك الذين يطالبون بالعودة للماضي. وبطريقة غريبة تحولت اللغات الأوروبية في التعليم إلى تقنية فقط تنتج التكنوقراط والتكنولوجيين لتبقى روح العربي مرتبطة بالفكر التقليدي. كل ما يعيد النظر في السلطة البطريكية التي هي أساس الاستبداد كان من اللازم أن يبقى خارج التعليم التقليدي. لذا حرص حراس النظام، وهم جيش من رجال التربية والتكوين، على أن تبقى بنية التفكير أبوية تقليدية، من هؤلاء من كان يعي ما يقوم به، ومنهم من كان يقوم بهذا مدفوعاً بغريزته الرجعية.
تعود بي الذاكرة إلى استجواب مطوَّل كانت أنجزته مجلة “الثقافة الجديدة”، في ملف خاص عن الثقافة المغربية ونشرته مجلة “الكرمل” الفلسطينية، نظراً لأن السلطات المغربية كانت قد قررت توقيف “الثقافة الجديدة” من جملة مجلات أخرى. في هذا الاستجواب أكد محمد عابد الجابري أنه يرفض سيغموند فرويد والسبب “أنه (أي فرويد) يهتك أعراضنا” (هكذا). علم النفس التحليلي (رغم ما يعتريه من هفوات) بالطبع يخلخل بنية النظم البطريكية؛ لذا أفهم موقف العابدي، الذي وضع، هو نفسه، برنامجاً مُعَرَّبََا للفلسفة سارت عليه أجيال، وأظنها ما زالت عليه إلى اليوم. وهو نفسه الذي وضع تصور تدريس الفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع بالجامعات المغربية منذ تعريب الفلسفة (والذي كان عرابها أيضاً) إلى حدود الإصلاح الجامعي في بداية سنة 2000. وبعملية حسابية بسيطة سوف نرى أن جل ممتهني الفلسفة اليوم هم من نتاج برامج عابد الجابري. لا غرابة إذن في أن تتلقف الأجيال هذ النوع من التفكير على أساس أنه أحدث ما وصل إليه الفكر الإنساني. فلقد تربت عليه أجيال لتعتبر في النهاية أن أرقى ما يمكن أن تصل إليه هو هذا النمط من التفكير.
أتذكر في بداية الثمانينات، وأنا مدرس مبتدئ بجامعة الدار البيضاء، كان طلبتي يأتونني بنص جميل لغوياً وذي رنة غريبة بعنوان الأدب والغرابة. كنت حينها أدرس الحقيقة عند أفلاطون. كل ما كان يهم الطلبة حينها هو الافتخار بالفكر العربي الذي وصل حسب قولهم إلى مستوى عال قبل الفكر الغربي. كنت أقول لهم إن الرجوع إلى أفلاطون لا يعني، بالمرة، الاستنجاد بالماضي، لكي يمدنا بحلول لمعضلاتنا الآنية. الأمر كان يتعلق بتفكيك نظرية الاستعارة وردها إلى أصولها الميتافزيقية حتى يتبين لأولئك الذين كانوا يعتبرون أن العرب كانوا سباقين في علوم برع فيها الغرب، لاحقاً، لم يكونوا على صواب. لم نكن نقدس النص الإغريقي ولا النص العربي، كنا نفكك النص، نبحث في ثناياه عن ذاك الذي يتسلل إلى فكرنا دون وعي منا.
كنا وقتها بالمغرب خارجين للتو من ضربة قاسية أنزلتها السلطة على انتفاضة الدار البيضاء في يونيو 1981. وعلى المستوى العالمي كانت هناك النشوة المفرطة للإسلاميين بفعل نجاح ما كان يسمى في الأدبيات الإعلامية بـ “الثورة الإسلامية الإيرانية”. كان الجميع يقدم مقترحاته للخروج من الباب المسدود. لكن فُرِض في الآن نفسه على الفلسفة في تلك السنة، كما قلت، أن تنكمش وتنسحب من ساحة المقترحات. أصاب السياسة نوع من التشتت المذهبي والشك المنهجي وبقي الفكر يقاوم الاستبداد الذي أحسسنا بزحفه على أصعدة متعددة.
لكن قبل كل هذا، كان الفكر المغربي يتجه إلى التعبير عن نفسه من خلال ثلاثة تيارات : تيار تقليداني تقوده الدولة (وكان مهندسه هو الحسن الثاني)، ويلتقي في خطوطه الكبرى مع الوهابية والنظرة الأميركية للصراع، أو للطريقة التي يجب أن يتحول إليها الصراع العقدي في المنطقة ضد الشيوعية والتيارات الشيعية؛ تيار يتبنى ما كان يعبر عنه المفكر المغربي، عبد الكبير الخطيبي، بالنقد المزدوج أي نقد الثراث العربي والإسلامي من جهة ونقد الفكر الغربي وخصوصاً الاستعماري منه المتحول إلى إمبريالية من جهة أخرى وبناء فكر آخر مختلف Pensée Autree. من هنا كان التأكيد على اليُتمِ، هذا المفهوم الذي لم يستوعبه كثيرون لحد الآن والذي سوف نعود إلى تحليله لاحقاً. ومحور ثالث كان يظن، ولا يزال، أن الحل في التراث. هذا التيار هو الذي سيطر على الجامعة المغربية نظراً لتحالفه، عن غير وعي ربما، مع بعض التيارات الدينية ونظراً لدعمه من طرف الاستبداد العربي (البترودولار والقومية) وهذا هو تيار الخصوصية.

يعتبر هذا التيار أن للعرب حضارة وثقافة خاصة مختلفة عن شعوب العالم وهذا صحيح. هذه الخصوصية في نظر هذا الفكر تجعل من العقل العربي شيئاً مختلفاً تماماً عن العقول الأخرى. بادر هؤلاء إلى اعتبار العقل الكوني مجرد عقل غربي، جهوي وسارعوا، على شاكلة الفلاسفة الغربيين الذين حاولوا تحليل آليات العقل (الحديث هنا عن إيمانويل كانط وهيغل) إلى البحث عن خصوصيات عقل عربي خالص. لا يعترفون إذن بكونية العقل بل بجهويته ومن منطقهم هذا يمكن أن نعتبر أن ما أنتجه العقل الغربي (الكوني) لا يمكنه أن يتلاءم مع العقل العربي. هذا العقل العربي الذي صدر عن نص، هو القرآن، وعن نصوص قامت بتحليله وشرحه والتعليق عليه والتفاعل معه يمكنه، في نظر هؤلاء، أن يكون خاصية لمنطقة جغرافية لا أدري من سماها بالعالم العربي. لذا سحب هؤلاء منظومة فكرية نابعة من نص على أعراق وأجناس وثقافات لا تتكلم حتى العربية أحياناً.

هذا المنحى، والذي ما زال يبحث في التراث النصي الذي يتردد صداه من الماضي عن معضلات شعوب المنطقة، هو الذي سيطر بالمغرب والعالم العربي وما زال وهو الذي أَمَدَّ الأصولية الدينية من جهة والاستبداد السياسي من جهة أخرى بالأسس النظرية للدفاع عن أطروحة الخصوصية. فكل من الأصولية الدينية والاستبداد يعتبران أن مفهوم العقل ومفهوم الإنسان، ومن ثم مفهوم الحرية والديمقراطية دخيلة على المنظومة الفكرية والروحية العربية لذا لا يمكن الأخذ بها، ووجب تطوير مفاهيم نابعة من الأرضية الفكرية لهذه الأمة العربية.
هذا التيار يبحث في التراث البعيد عن مخرج لمعضلة آنية.
______
*ضفة ثالثة

الجمعة، 30 ديسمبر 2016

( أنت كالكلب ، وإياك أعني )- حامد كعيد الجبوري / العراق / بابل

( أنت كالكلب ، وإياك أعني )
حامد كعيد الجبوري / العراق / بابل
     دخل علي بن الجهم 188 - 249  هـ الشاعر البدوي بملابسه الخشنة الرثة ، وشكله المتجهم مدينة بغداد وهي حاضرة الخلافة العباسية ، سمع الشاعر الجهم الناس يقولون  أن الخليفة المتوكل يغدق على الشعراء والمداحين ، فدخل لقصر الخلافة مبتغيا مدح الخليفة لكسب المال ، أصغى بن الجهم لشعراء البلاط وهم يمتدحون المال عند خليفتهم فنهض من مكانه وقال يا أمير المؤمنين أسمح لي بالقراءة ، وقرأ ( أنت كالكلب في حفاظك للود / وكالتيس في مقارعة الخطوب / أنت كالدلو لا عدمناك دلواً / من كبار الدلا كثير الذنوب ) ، والدلا هو ما يشبه الصاع الكبير ينتهي بقاع البئر ويربط بحبل لسحب الماء ، وكثير الذنوب تعني كثرة ما تحويه من الماء  ، وبرواية أخرى ( من كثير العطايا كريم وهوب ) ، والرواية الأولى أدق مصدرا ، شاط الخليفة غضبا ولحظ الحراس وسياف القصر ذلك فاستلوا سيوفهم وأحضروا  النطع – فراشٌ من الجلد يوضع لمن يقطع رأسه كي لا يلوث السجاد الدماء -  ورموه أرضا وكُتِّفَ الشاعر بالقيد ليذبح علنا أمام الأشهاد ، سأل الخليفة المتوكل العباسي الشاعر وأجاب ، بعد الإجابة عرف الخليفة أن الشاعر بدوي ، ولا أقرب للبدوي من الكلب والبئر والدلاء فقال أتركوه ، وأمر إدخاله الحمام ، ومنحه كسوة مناسبة ، وبيت على نهر دجلة ، وجارية ، شرب الشاعر عذب ماء دجلة ، وخالط الناس ، وشرب المدامة فتغير طبعه ومنطقه ، وصح حدس الخليفة بهذا البدوي الشاعر ، وما هي إلا شهورا قليلة فكتب ( عيون المها  بين الرصافة والجسر / جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري / أعدن لي الشوق القديم ولم أكن / سلوت ولكن زدن جمرا على جمر ) ، ولأننا عرَّجنا على الكلب الذي مُثل به المتوكل العباسي فيقال أن للكلب عشر صفات من المؤمنين أوردها الحسن البصري والأصمعي وغيرهم الكثير ، وأعطى سبب تحبب الصفة  عند الكلاب ، وصفات الكلب كما أوردوها  أولها : ليس له مقدار بين الخلق وهو حال المساكين ، وثانيها   :  أن يكون فقيرا ليس له مال ويكون صفة المجردين ، وثالثها :  ليس له مأوى معلوم والأرض كلها بساط له وهو من آداب المتوكلين ، ورابعها : أكثر أوقاته جائعا وهو من آداب الصالحين  ، وخامسها : إن ضربه صاحبه لا يترك بابه وهو من علامات المريدين ، وسادسها : لا ينام من الليل إلا اليسير وذالك من صفات الخاشعين، وسابعها : أن يطرد ويجفى ثم يدعى فيجيب ولا يحقد وذلك من علامات العاشقين ، وثامنها : أكثر عمله السكوت وذلك من علامات المرتاضين ، وتاسعها  :   يرضى بما يدفع إليه صاحبه وهو حال القانعين  ،  وعاشرها : إذا مات لم يبق له شيء من الميراث وهو من مناقب الزاهدين    .
     ومما رويّ لي عن عزة النفس والكبر وحفظ الود عن الكلاب  من بعض الأصدقاء ثلاثة حالات استوقفتني كثيرا  تختزنها ذاكرتي ، 1 : أحد التجار المترفين يسكن في بيت منيف كبير في كرخ بغداد ، وكان له كلب يحرس داره ، ومن عادات التجار تعطيل محلات تجارتهم أيام الجمع ، وعصر كل جمعة يخرج التاجر من بيته وبيده مسبحة ثمينة ليجلس مع أصدقائه في مقهى لا تبعد كثيرا عن بيته وتطل على دجلة الخير ، حين يخرج يتبعه الكلب ويقرفص قبالة المقهى التي يؤمها صاحبه، ويعود مع صاحبه ، هرم الكلب وأصبحت ساعات نومه أكثر من ساعات يقظته ، طرده صاحبه من البيت ورماه للشارع وأغلق باب داره ، لم يبرح الكلب بيت التاجر وكان يذهب ليجد قوته في المزابل القريبة ويعود الى حيث دار صاحبه ، ولم يترك مرافقة صاحبه وهو يجلس أيام الجمع مع أصدقائه ، الظاهر أن أحد اللصوص كان يخطط لسرقة المسبحة الثمينة من يد التاجر ، وفعلا ركب اللص دراجة هوائية وخطف المسبحة من يد التاجر وهرب مسرعا ، صرخ التاجر بأعلى صوته ( حرامي – حرامي ) ولم يستطع اللحاق باللص لبدانة التاجر  ، ركض الكلب خلف دراجة اللص ، وعضه من رجله ، وأسقطه أرضا  وهم بالهجوم على اللص ، واللص  يعرف أن هذا الكلب يملكه التاجر ، وخاف من وصول التاجر له ، وربما يمسك ويسلم للشرطة ، فما كان من اللص إلا أن يرمي المسبحة ، ألتقط الكلب المسبحة وعاد  لصاحبه وبين أسنانه المسبحة وأخذها التاجر من فم الكلب ، لم يذهب التاجر بعد الحادثة الى المقهى وعاد لبيته ، حين وصل لباب الدار مع الكلب الوفي ، وفتح الباب وقال لكلبه تعال وعد لمنزلك ، نظر الكلب للتاجر نظرة احتقار واشمئزاز وهز بذيله وغادر المكان ولم يعد للجلوس أمام باب الدار ثانية ولم يعد نهائيا .
     الحالة 2 : صديق شيخ عشيرة يقول كان عندي كلب شجاع وأمين وذكي جدا ، يقول كنت أميز نباحه ولماذا ينبح ، أن كان ينبح لضيف أو للص أو لخطر يدهم القرية ، يقول صديقي شاخ الكلب عندنا وأصبح كثير النوم ، والأكثر أن أولاد الكلب وذريته كانوا يقسون على الكلب الكبير ويحرمونه حتى من الطعام ، وكنت أنهره وربما أفرد له طعامه فيسرقونه منه أيضا ، يقول بعد أيام افتقدت وجوده وسألت عنه أولادي وقالوا لا ندري ، اختفى الكلب يوم ، يومين ، أسبوع ، شهر ، فقلت لنفسي ربما مات بمكان ما ، يقول كان بستان  أختي المتزوجة يبعد بحدود 2كم عن بيتنا ، قلت اليوم سأزور أختي وأتناول طعام العشاء معها ، حين وصلت لدار أختي فاجئني كلبنا الهرم عندها ، ولاعبته وقلت له سألت عنك كثيرا حتى ظننتك مت ، والكلب المسكين يرمي بنفسه على أقدام صديقي الشيخ ويعبث بأطراف إزاره ويحمحم له ويهز ذيله فرحا لرؤية مربيه ، يقول بعد تناول طعام العشاء عدت ماشيا لبيتي ، ورافقني الكلب بمسيري ، وكنت فرحا بعودته ، قبل خمسين مترا عن بيتي وقف الكلب عن المسير ، قلت له تعال لا تخف فسأفرد لك مكانا خاصا لا يصل فيه إليك بقية الكلاب ، لم يتحرك من مكانه ، وأعدت عليه الحديث ولم يستجيب ، ضربته بعصاي ضربات خفيفة على ظهره ولم يستجيب ، يقول قلت للكلب ( أذهب فإنك لا تستحي وتترك بيتك ، وتخاف من ولدك ، والأكثر تذهب دخيلا لبيت غريب لا تعرفه ) ، يقول عدت لبيتي ونمت ليلتي ، وخرجت لقضاء أعمالي  ونسيت الكلب ، بعد أيام تذكر الشيخ كلبه وقال ابحثوا عنه ولم يجدوا ، طلب من أحد أولاده الذهاب لبيت عمته ليسأل عن الكلب وعاد وقال لوالده لم أجد الكلب عند عمتي ، يقول خرجت للمكان الذي توقف عنده الكلب ورفض الدخول معي للبيت فلم أجده ، يقول شممت رائحة كريهة فتوجهت نحوها ، ووجدت الكلب مختفيا بين فسائل نخلة وهو ميت ، يقول عدت للدار حزينا لأني لم أتفقده أو أذهب له بطعام .
     الحالة 3 : صديق  يسكن بأطراف المدينة ويخشى من الأطفال أو اللصوص تسلق سياج الدار لسرقة أي شئ من حاجيات المنزل ، وصديقي من المربين لطيور الزينة  ، جلب كلب صغير وضعه بشرفة الدار المطلة على الحديقة ، كبر الكلب وأصبح وسيلة تنبيه للرجل ، وفعلا كان الرجل يميز نباح الكلب أن كان لمن يمر عابر سبيل  ، أو لمن يحاول تسلق سياج الدار ، أحد أصدقاء الرجل  قال له أن كلبك ليس من فصيلة جيدة وسأعطيك كلبا من عندي وهو كلب يسمى (     Wolf dog ) ، وقبل أن يجلب الكلب الجديد أخذ الكلب القديم بسيارته ورماه بمكان بعيد جدا عن بيته ، عاد الرجل لبيته فوجد الكلب القديم قد وصل للبيت قبله ، فقال لنفسه ليبقى خارج الشارع ، وكان الكلب مرابطا بباب الدار ويأكل مما يرميه له أصحاب الدار ، جلب صديقي الكلب الجديد ووضعه بنفس الشرفة فأنتبه الكلب القديم أن كلبا جديدا حل مكانه ، رمق لصديقي بعينيه ورفع رأسه للشرفة وغادر المرابطة بباب الدار ولم يعد لها وليومنا هذا .
     بعد التغيير وسقوط صنم الدكتاتورية البغيضة كتبت بيتين من الشعر الشعبي تلخص ما أريد قوله في هذه الموضوعة ، ( عجيبه عالجلاب التنبح بهل اليوم / نزع ثوب الجلاب وصاير بريكي / ربيت الجلب يحرسني .. ملخني! / وبثوبه يهز لو شاف أمريكي ) ، - بريكي ملابس شبابية يمتاز بلبسها بعض الشباب عديمي الذوق والأخلاق –  ، وبنفس إطار هذه الموضوعة ( غزالة ) زوجة شبيب الخارجي أحد كبار الخارجين على بني أمية ، وأستحل الكوفة أيام إمارة الحجاج الثقفي ،  وهو ( شبيب بن يَزيد بن نعيم بن قيس الشيباني )  ، وكانت زوجته ( غزالة )  قد نذرت لو مكن الله لزوجها الكوفة فستصلي ركعتي شكر لله في مسجد الكوفة ، ووفت غزالة نذرها وصلت ركعتين قرأت في الأولى سورة البقرة كاملة ، والركعة الثانية سورة آل عمران ، فهزأ شعراء الكوفة من جبن أميرهم الحجاج الثقفي وكتبوا شعراً ، ( أسد علي وفي الحروف نعـامة / فتخاء تنفر من صفير الصافـر / هلا برزت إلى غزالة في الوغى / بل كان قلبك في جناحي طـائر ) ، وموضوعنا له علاقة والعاقل .                                                                          
                                          

             







الاثنين، 26 ديسمبر 2016

رماد وقصص قصيرة أخرى - عادل كامل



رماد وقصص قصيرة أخرى






عادل كامل
[1]   رماد    
    مكثت الحمامة تحوّم فوق الغابة، ترتفع قليلا ً ثم تنخفض، فلا تجد مكانا ً تحط عليه. لقد رأت الأشجار تحولت إلى شبكات تماثل الأسلاك الشائكة، فيما غطى الرماد الأرض..
   فسألت الحمامة نفسها، قبل أن تتخذ قرارا ً: ما الذنب الذي اقترفته كي ُتحرق غابتنا، وأعشاشنا، وأشجارنا؟
ـ أهربي..، اهربي، اهربي.
   بحثت عن مصدر الصوت فلم تجده. فدار بخلدها إنها ربما أخطأت بالعودة، بحثا ً عن ذويها، وأهلها، وأفراد مجموعتها...
لكنها سمعت صوتا ً آخر يخاطبها:
ـ  لا تهربي!
   تذكرت أن جدها قص عليها حكاية مماثلة: فبعد أن حرقوا غابتنا، هربنا، وما أن خمدت النار..، حتى بدأنا بالتسلل والعودة.
  ابتسمت، وهي مازالت تحوّم فوق الأرض الرمادية وقد تحولت إلى تلال من الغبار، والأنقاض، والحفر...، فرفعت رأسها إلى السماء:
ـ يا الهي أهدني إلى القرار الحكيم..
     أصغت، وأصغت، فلم تجد ردا ً، أو جوابا ً...، فضحكت:
ـ  وهل باستطاعتي أن اتخذ أنا قرارا ً حكيما ً، بعد أن لم يتركوا لنا سوى هذا الرماد؟

 
[2] سعادة
ـ ما هي اسعد اللحظات التي تكون بلغت فيها الذروة ..؟
ـ هي اللحظات التي لا أجد فيها ضرورة للإجابة على سؤالك هذا!
ـ وما هي أتعس لحظات حياتك؟
ـ هي اللحظات التي اضطر للبحث عن أسئلتها!

[3] مكيدة
     بعد أن هبطت سفينة الفضاء المحملة بالقرود على سطح كوكب لا تسكنه كائنات حية، قال كبير القرود يخاطبهم:
ـ  والآن ابحثوا معي عن جرثومة التطور...، للقضاء عليها! فمستقبلنا مرهون بمحوها واستئصالها من أجسادنا، ومن عقولنا!
   ضحك احدهم وقال له بصوت مرح:
ـ  ومن قال لك إن السيد دارون كان على صواب...؟ خاصة بعد أن أساء إلينا، ومنح بني البشر شرف الانتساب إلى جنسنا الوديع، الناعم، الرقيق؟
ـ صحيح...، مع ذلك، لا تتركوا جرثومة التطور أو التقدم أو التمدن تعمل لتخرب هذا الكوكب الجميل الخالي من البشر، ومن الكائنات الحية الأخرى ...؟
ـ سيدي، نحن لم نخش أن تكون خطة هربنا من الأرض، محض مكيدة دربها البشر...، ليس للتخلص منا، بل لاستخدامنا في تدمير ما تبقى من الكواكب البريئة؟!

[4] مسرات!
ـ أسألك، يا سيدي، لِم َ نحن شعب يحتقر العمل، ويحتقر المعرفة، ويكره الابتكار، ولا يعمل إلا للانحدار نحو ماضيه السحيق، ويرجع إلى عفن المستنقعات التي خرج منها...؟
ـ لأننا شعب ولد ليوهم نفسه بالذهاب بعيدا ً عن ضرورات الكد، والشقاء، والبحث...، لأننا أدركنا منذ البدء أن العاصفة ستهب ذات يوم فلا تترك أثرا ً إلا ومحته، ولا علامة إلا وأزالتها، فلم الكد، ولم الشقاء، ولم البحث عن نهاية تقررت قبل بدايتها...؟!
ـ آ ...، ومتى ستهب هذه العاصفة اللعينة؟
ـ ولِم َ تتعجل حضورها أيها الأحمق...، ونحن نرفل بمسرات الأحلام الأبدية؟

[5] ديمومة
ـ إذا كانت كل الأشياء لا تدوم...، وهي محكومة بزوالها، قبل وجودها، فلماذا يتوجب علينا الكد ليل نهار..، وتحمل ما لا يحتمل من الأوزار، والعذابات...، وكأننا وجدنا للامساك بالذي لا يذهب إلا إلى المجهول؟
ـ يا حمار...، لولا هذا الحلم، فمن ذا كان باستطاعته أن يعمل على ديمومة هذا الذي لا يدوم!


[6] انتظار
   اجتمعت الفصائل، باختلاف أنواعها، بانتظار رؤية جدهم العائد من المكان الذي لا عودة منه...، وقد مرت الأيام، الأسابيع، الأشهر، السنوات، العقود، القرون، ومرت آلاف السنين، ولم يأت. ولكنهم لم يفقدوا الأمل بعودته من المكان الذي لا عودة منه، لأن الجميع كان لا يرغب بعودته، بعد أن ازدادوا قناعة بان كل منهم كان هو هذا الجد وقد عاد إليهم من المكان الذي لا عودة منه.

[7] مسرات
    وهو يحتضر قال يخاطب أحفاده:
ـ المصادفات السارة هي وحدها إن لم تخف قانونها فان القانون وعدمه سواء! ولهذا ـ يا أحفادي ـ لا تنشغلوا بالبحث عن القانون، فالمصادفات السارة هي وحدها ليست بحاجة إلى برهان، ولا إلى قانون! فمادمنا جميعا ً سنموت، فلا معنى للأسى، حتى لو أمضينا حياتنا بأسرها في الجحيم!

[8] حلم
   بعد أن ولدته، وتعذبت في حمله، خاطب الحمل أمه متذمرا ً:
ـ  لِم َ ولدتني حملا ً وأنا كنت ارغب أن أولد ذئبا ً، أو نمرا ً، أو حتى ثعلبا ً؟
ـ وهل سمعت أن نعجة، مثلي، ولدت شيئا ً آخر؟
ـ آ .....، هذه هي المعضلة، ولكن من ذا باستطاعته أن يجتث رغبتي بالحلم؟!
وابتعد عنها متمتما ً:
ـ فانا علي ّ أن أصبح ذئبا ً أو نمرا ً أو ثعلبا ً وإلا سأكون شريكا ً في تقويض الحلم، بل في وأده،  ودفنه قبل أن يتكون!
صاحت النعجة تخاطب حملها:
ـ أنت إذا ً من أنصار ديمومة الحرب...؟!
   رفع رأسه قليلا ً ورد:
ـ  المعضلة أن الحرب تعرف كيف تحافظ على ديمومتها، إن ولدت ذئبا ً أو حملا ً، إن ولدت غزالا ً أو سبعا ً، إن ولدت أرنبا ً أو تمساحا ً، مادام السراب يذهب ابعد من حدود  نهاياته، ومادام الشيطان وحده يبرهن، يوما ً بعد آخر، أن خططه وضعت في خدمة الرب!

[9] غواية
ـ آ ....، غريب أمر الحية...، سرقت عشبة الخلود من جلجامش، وصارت خالدة، ولكنها، مع ذلك،  ذهبت إلى حواء وأغوتها،  وحواء بدورها أغوت ادم، ليطردوا من الجنة..، لكنها، للآسف، لم تفلح بالقضاء على عدوها؟
ـ ومن هو عدوها؟
ـ اذهب وأسأل الحية التي لم تحصل إلا على  اللعنات، والشتائم، والأوزار! فهي وحدها ستخبرك لماذا لم تتب، ولماذا لم تطلب الغفران، ولماذا لم تطلب التوبة؟!


[10] أساطير
ـ لِم َ أراك منشغلا ً بالأساطير... الخرافات، والأوهام...؟
ـ آ ...، لقد تعبت من رؤية مصانع تصدير الجثث، وتوزيعها، تعمل ليل نهار، وفي  إنتاج المزيد من الضحايا...، وفي تدمير المزيد من المدن، لا تكل، لا تهن، ولا تتوقف عن إنتاج الفائض من الابتكارات...، بالدهشة والجاذبية والجمال؟
ـ هذه هي الأساطير التي  لا يمكن اجتثاثها أبدا ً...!
ـ نعم، حتى بعد زوالنا، فنائنا، واندثارنا، لأنها  وجدت تعمل بخطة لم تبح إلا بإعادتنا أقوى كي يبقى المشهد هذا مزدهرا ً بالجثث، والدخان!

[11] صاحب السعادة
   بعد أن استولى البغل على الإسطبل، بانقلاب مدبر، استدعى الخيول، وسألهم:
ـ هل حقا ً أنا بلا أب...، أم أنا ابن الجميع؟
     صاحت الأتان الواقفة بجواره:
ـ ماذا تقول أيها الزعيم...، أنت ابني أنا، وأنا أمك...!
   هز رأسه:
ـ اعرف ذلك ...، ولكني بصدد معرفة من هو صاحب السعادة الأب السعيد!
ـ أتبحث عن أصلك يا زعيم؟
ـ لا ...، بل أنا بصدد محوه!
ـ اختر واحدا ً من هؤلاء...، فانا نفسي لم يعد يعنيني من يكون...، فأنت الآن أب الجميع، مثلما أنت والدهم الأوحد!

[12] غواية
ـ ما الذي كان سيحدث لو أن أمنا الأولى لم تقع بفخ الغواية...؟
ـ  ليس هذا هو السؤال، يا حمار، بل: من أرسل تلك الحية لتغويها؟
ـ لا....، آ ...، السؤال، يا حمار، هو: هل كان أبونا أعمى؟
ـ لا...، لا ...، وإلا هل كنت ستسأل أسئلة عقيمة خالية من المعنى؟
ـ يا ....، حتى لو لم تكن هناك حية، وحتى لو لم تكن هناك حواء، ولم يكن هناك ادم...، فان الغواية وحدها كانت تعرف كيف تؤدي عملها...
ـ إذا ً.....، الكل أبرياء! ولكن ما جدوى براءتنا بعد أن صرنا نحن لا نأتي إلا بالآثام، والذنوب، والخطايا؟
ـ أكاد اجن...، يا صديقي: فلم تعد تعرف  أيهما كان السبب: الغواية أم حاملها، من أنبتها أو من عمل على ازدهارها...، ما دمنا جميعا ً لا نمتلك إلا أن نكون ضحاياها!


[13] جدل!
ـ مهما عملت، أو لم تعمل، فأنت غير بريء...، لأنك لو لم تعمل شيئا ً فهذا يدل على انك تركت الآثام تزدهر ...، وإن قمت بعمل ما  فهذا يعني انك عملت ضد طرف من الأطراف يدل على انك كنت مع جهة ضد جهة أخرى...، ومع ذلك أنت غير مذنب!، لأنك لو لم تعمل شيئا ً فهذا أفضل دليل على انك شاركت في ترك اللعبة تمضي إن كنت على الحياد فيها أو كنت في طرف من أطرافها. فأنت مذنب لأنك بريء، وأنت بريء لأنك لم تقدر إلا أن تكون مذنبا ً!
ـ وهل هذه ـ سيدي ـ خلاصة حكمتك؟
ـ آه...، لو كانت لدي ّ ذرة حكمة لعرفت كيف أنجو منها! بدل أن أرى هذا القليل من الضوء الذي أضاء لي أبدية الظلمات! ومع ذلك، فانا بريء بآثامي، مثلما آثامي وحدها سمحت لي أن أتذوق مرارات البراءة، وشهدها!

[14] وقت
ـ انظر .. ليس له رأس ويصرخ...، والآخر، له رأس ولا ينبس ببنت شفة؟
ـ ما الغريب في الأمر...، أنا ليس لدي جسد، وأطير، والآخر له جسد، ولكن لا يستطيع حتى أن يدّب!    
ـ أين هي المشكلة إذا ً...؟
ـ  لا توجد مشكلة،  ولكن المطلوب أن تعثر عليها، كي تجد حلا ً مناسبا ً لها!
ـ ها...، المشكلة إن الرأس الذي مازال يصرخ صار غبارا ً...، وذاك الذي بلا جسد مازال يتشبث بالبحث عن موقع خطاه..
ـ لا تكترث...، إنها مسألة وقت...، فالذي لا وجود له يرقد بجوار من كان وجوده قد ذهب ابعد منه!

[15]  موقف
    ـ أنا رأيته يخرج من القبر، ابتعد قليلا ً، ثم اقترب منه، للاطمئنان بأنه لم يبتعد، ولم يخطأ..
   صمت برهة وقال متابعا ً:
ـ ثم راح يزيل اسمه المكتوب فوق الشاخص...، ولكنه وجد صعوبة، فاخرج فأسا ً وراح ينقر بها فوق الصخرة، كانت صلدة، وكانت ضرباته، بدل أن تزيل الحروف وتمحوها، ترسخها، وتعمقها، وتجعلها أكثر وضوحا ً!
   ثم صمت أيضا ً، ليقول:
ـ  نظر إلى اليسار، والى الأمام، والى اليمين، والى الخلف...، فلم يجد أحدا ً يراقبه...، فعاد يضرب بقوة اشد حتى هدم الصخرة وحولها إلى شظايا، آنذاك رفع رأسه إلى السماء، وقال ـ أنا سمعته قال ـ:  الآن لا اشعر بالعار إني ولدت ومت، أو أني مت كي أولد! فانا سأرقد في قبر لا يرقد فيه احد!
ورفع صوته:
ـ لكن جاره الميت، رفع رأسه وناداه: حتى الموت لم يروضك!  فضحك وقال يخاطبه غاضبا ً: انهض، انهض وامح اسمك، لعلك تمحو آثامك، يا نذل! فقال الآخر له: أنا واحد منهم...، فلِم َ أنا نذل؟ اقترب منه وقال هامسا ً: النذالة ليس أن تموت نذلا ً بل أن تدعها تشهد عليك. فأنت لم تفعل شيئا ً ضدها في حياتك، ولا أنت اعترضت عليها بعد أن طمرت تحت هذا التراب!

[16]   دورة
    بعد أن رأى المجزرة تجري أمامه، وقد تناثرت أشلاء الجثث، وغطت الدماء الأرض، تراجع، بهدوء، وعاد إلى مغارته.
ـ ماذا رأيت؟
ـ الكل كان يقتل الكل.
ـ وما الجديد في الأمر؟
ـ  الكل كان يهتف انه دحر الآخر وأباده واجتثه من الوجود ومحاه ولم يترك له اثر.
ـ وما الجديد في الأمر؟
ـ الكل أعلن انه حقق نصرا مؤزرا ً وحاسما ..
ـ وما الجديد؟
ـ  هذه هي المعضلة، لا جديد...، ولكن لا أنا  ولا أنت باستطاعتنا أن نوقف تدفق هذا القديم الجديد، ولا هذا الجديد المندرس.
ـ وما الجديد؟
ـ  إنني سأقطع رأسك..
ـ وما الجديد؟
ـ كي لا تسمعني، ولا تراني.
ـ وما الجديد؟
ـ كي لا أسمعك، ولا أراك.
ـ وما الجديد؟
ـ لا جديد...، لأن المجزرة  لا تدعك تموت فاهلك، ولا تدعني اهلك فتنجو...، فلا أنت كسبت كي اخسر، ولا أنا خسرت كي تنتصر!

[17] تحول
ـ سيدي، بحسب أوامرك: تمت ترقية الخراف إلى ذئاب...، وتم تحويل السباع إلى نعاج، وتم إصدار أمر بمسخ القرود إلى بشر...، والبشر إلى عقارب وصراصير وبرغوث وضفادع!
صاح القائد:
ـ إلا البشر...، لا تدعهم ينعمون حتى بالسكن في المستنقعات!
ـ أمرك.. سيدي، لن أتلاعب بعقولهم...، وسأدعهم يتنافسون ويتبارون بإقامة احتفالات الموت، حتى ترجع غابتنا تنعم بالسلام، والطمأنينة، والصمت!


[18] غياب
سألت الحمامة جارتها:
ـ أراك صامتة..؟
ـ  على ماذا أنوح...، فلم يعد لدينا ما ننوح ونبكي وناسف على فقدانه، وخسرانه..
ـ ابتهجي إذا ً...؟
ـ ألا ترين الجميع يحتفلون بآخر أيامهم فوق ارض هذه الحديقة.
ـ وأين هي الحديقة كي تراني، وأين أنا كي أراها؟

[19] الحقيقة
ـ ما الاختلاف بين الوهم والحقيقة؟
سأل المعلم تلميذه، فأجاب الأخير:
ـ  الوهم هو الذي يقود إلى الحقيقة...، والحقيقة  هي التي لا تقود إلا إلى الوهم...، لان كل منهما لا يستغني عن الآخر، مثل النهار لو عزلته عن الليل، فلا احد  باستطاعته سبر أغوار الظلمات!
ـ وما الاختلاف بين الحقيقة والوهم، وليس بين الوهم والحقيقة..؟
ـ لا توجد حدود فاصلة بينهما، سيدي، ولكن السؤال هو: أين موقعك منهما...؟ فإذا كنت ترى الدنيا وهما ً فلا تظن انك عرفت الحقيقة، وإذا كنت تراها حقيقة فلا تظن أن وهمك سيدوم إلا بحدود غيابها! وهذا هو الذي لا يمكن الاختلاف عليه، لديمومة هذا الذي تراه يزول، ويندثر!

[20] جهنم
طرق الغراب باب جهنم، فسأله أمر الحرس:
ـ ما الذي جاء بك، وماذا تريد؟
ـ أريد أن اعترف!
فسأله أمر الحرس:
ـ وماذا فعلت كي تعترف؟
ـ أنا لم ارتكب ذنبا ً، أو إثما ً، ولا معصية، حتى الآن...، ولكن من ذا يضمن لي أني لن ارتكب فعلة أشنع من الذنب، والإثم، والمعصية...، آنذاك قد لا تسمحوا لي حتى بدخول جهنم!

[21] صراع
ـ هل صحيح، سيدي، كما تقول: انه صراع بين الأكثر معرفة وبين الأقل معرفة، كالحاصل في عالمنا اليوم...؟
ـ لا...، بل هو صراع بين الذي لا يعرف إلا القليل..، وبين من لن يسمح له حتى بمعرفة انه لا يستحق حتى هذا الأقل من القليل!


[22] خجل
سأل الضحية الجلاد:
ـ ألا تخجل... وأنت تزهق روحي؟
ـ لا! لأنك لو كنت عرفت الخجل، أصلا ً، لقضيت علي ّ قبل أن  تواجهني بهذا السؤال!

[23] استحقاق
ـ يا صديقي، لماذا ترتكب الفحشاء، وتفسد، وتسفك دماء الأبرياء...، لماذا ترتكب الموبقات، والخساسات، والدناءات...؟
ـ يا صديقي، افعلها كي يستجيب الإله لتضرعاتي ويغفر لي، بدل أن يرسلني إلى الفردوس، من غير استحقاق!

[24] خطاب
ـ لِم َ تملأ رأسك بالنفايات، والعفن، بدل أن تتركه صفحة بيضاء؟
ـ سيدي، لقد طلبوا مني أن القي خطابا ً على الدواب، والبهائم!

[25] المستقبل
سأل القرد والدته:
ـ هل صحيح إن أصلنا ينحدر عن هؤلاء الأشرار البشر...؟
ـ لا ..، لا يا ولدي الطيب، بل أنا اخشي أن ينتهي مستقبلنا بمثل هذه الكارثة!
ـ ولِم َ كارثة .. مادمنا جميعا ً انحدرنا من عفن سواحل المستنقعات ...، أليس المستقبل، كما قال جدي، هو الماضي مؤجلا ً؟!

[26] محنة
ـ لِم َ تبول الثعالب على السبع الهرم؟
ـ آ ....، لو عرفت الرد...، لعرفت لماذا كلما اقتربت من الموت وجدت شيئا ً ما أغفلته في الدنيا...
ـ وهل ثمة ما يستحق فيها أغفلته حقا ً؟
ـ آ ...، لو عرفت الرد، لعرفت لماذا كلما أسرفت في الدنيا حلمت بالموت، فلا أنا عشت بلا موت، ولا أنا مت بلا  وهم!

[27] رداءة
ـ متى يحقق الأشرار نصرهم المبين...؟
ـ عندما لا يجدون خسارة جديرة بالربح!
ـ أليس هذا هو المستحيل؟
ـ لو كان ما قلته صوابا ً لكانت العقول الجميلة قد كفت عن صناعة هذه  الدناءات!
 1/12/2016
Az4445363@gmail.com


الجمعة، 23 ديسمبر 2016

مونيكا علي.. حكايات المُغترب *نصر عبد الرحمن


مونيكا علي.. حكايات المُغترب
*نصر عبد الرحمن

أصبحت الروائية مونيكا علي من الأسماء الكبيرة في المشهد الأدبي البريطاني منذ صدور رواياتها الأولى «بريك لين» عام 2003، التي أثارت معركة فكرية حادة فور صدورها، ونالت عنها عدة جوائز، وتناولها كبار النقاد على الصفحات الأدبية في بريطانيا. من المعروف أن القراء يترقبون صدور رواياتها الجديدة بلهفة، وسرعان ما تتصدر قائمة الأكثر بيعاً في وقت قياسي.
يرجع السبب في هذه الشهرة وهذا الاعتراف الأدبي الكبير إلى قدرة مونيكا على إثارة قضايا على درجة كبيرة من الأهمية في رواياتها، وعلى رأسها أزمة الهوية لدى المُهاجرين المُقيمين في إنجلترا وتبعاتها الاجتماعية والإنسانية الحادة.

ولدت مونيكا في بنغلاديش عام 1967، لأب بنغالي وأم إنجليزية، ثم انتقلت مع عائلتها إلى إنجلترا وهي في الثالثة من عمرها. حصلت على تعليمها الأساسي بمدارس مدينة برمنجهام، ثم التحقت بجامعة أوكسفورد لتدرس الاقتصاد والسياسة والفلسفة. صدرت روايتها الأولى «بريك لين» عام 2003، واسم الرواية هو اسم شارع رئيسي في الحي الذي تقطنه أغلبية بنغالية في العاصمة البريطانية لندن. وبعد ثلاث سنوات، أصدرت روايتها الثانية «ألينتيجو بلو»، واسم الرواية هو اسم المنطقة الريفية التي تدور فيها الأحداث في البرتغال. وفي عام 2009، أصدرت روايتها الثالثة «في المطبخ»، وفي عام 2011، أصدرت روايتها الرابعة «قصة غير مروية».
في روايتها الأولى، ترصد مونيكا حياة «نازنين»، فتاة بنغالية في الثامنة عشرة من عمرها، تتزوج رجلاً في الأربعين من عمره يُدعى «شانو»، وتنتقل معه من بنجلاديش إلى لندن. تعيش «نازنين» في مُجتمع غريب، ولا تعرف من اللغة الإنجليزية سوى بضع عبارات فقط. تحاول الرواية رصد طبيعة حياتها مع زوجها، ومحاولات التكيف مع المُجتمع المُحيط، وتغوص في حياة المُهاجرين البنغاليين في لندن. يتطرق السرد كذلك إلى حياة شقيقتها «حسينة» التي تعيش في بنجلاديش، من خلال الخطابات المُتبادلة بينهما. تمثل الأخت الصورة الإيجابية للفتاة التي تختار وتدافع عن خياراتها، وتتزوج من تُحب. لكن هذا النمط للفتاة مرفوض اجتماعياً، ترفضه الأم وتحذر ابنتها «نازنين» منه، وتنصحها بأن تستسلم للقدر ولا تحاول مُواجهته أو تحديه. ورغم أن «نازنين» هي البطلة، إلا أن شخصية الزوج هي الأكثر حيوية وثراءً؛ فهو شخصية مُتناقضة إلى حد كبير؛ إذ يتسم بالطيبة وبالتفاخر، ومحاولة ادعاء الثقافة أمام زوجته، إلا أنه لا يفهم المقتطفات التي يستشهد بها من شكسبير (لا يفهم ثقافة البلد الذي يعيش فيه)، ولا يفهم نمط الثقافة التي يعيشها أبناء بنغلاديش في لندن. أضف إلى كل هذا أنه كان كثير الخطط ولكن بلا جدوى، وكان على «نازنين» أن تسانده حتى تتمكن من مغالبة حياتها معه. تناولت الرواية كذلك الكثير من العادات والتقاليد البنغالية البالية.

ورغم أن «بريك لين» كانت المحاولة الأولى للمؤلفة، إلا أن النقاد أشادوا بالثقة والقدرات الفنية العالية التي تتمتع بها الكاتبة، كما أشادوا بالرواية لما تتسم به من تماسك في البناء وقدرة على عرض الشخصيات عبر مواقف مُتراكبة وعلى نحو تصاعدي، مما جعلها نابضة بالحياة. هذا إلى جانب الإشادة باللغة الدقيقة المُعبرة، وقدرة المؤلفة على الإمساك ببعض اللحظات الإنسانية والتعبير عما تمر به الشخصيات من مِحن بدقة شديدة. كما استطاعت الرواية أن تُعبر عن وضع الجاليات الشرقية في الغرب، وما يعانون من غُربة واغتراب؛ خاصة المرأة التي لا يطرأ على حياتها تحسن رغم انتقالها إلى الغرب، لأن المُهاجرات يعشن داخل نفس الشرنقة، رغم تغير المكان.
أثارت الرواية ضجة كبيرة فور صدورها، فقد اهتم بها الجمهور والأدباء والنقاد. كما اختارت مجلة «جرانتا»، المجلة الأدبية المرموقة مونيكا كأفضل روائية شابة في بريطانيا بسبب هذه الرواية. وفي نفس العام، فازت الرواية بثلاث جوائز، كما وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة بوكر. وفي عام 2007، تحولت الرواية إلى فيلم سينمائي بنفس الاسم، تم عرضه في المملكة المُتحدة وخارجها.
من ناحية أخرى، أثارت الرواية غضب أغلب المُهاجرين البنغال المُقيمين في لندن على وجه التحديد، واتهموا مونيكا بأنها قدمتهم بصورة سلبية، وأنها ليست على دراية كافية بنمط حياتهم لتكتب عنها، وأنهم يناولون من التحيز والتمييز ضدهم ما يكفي. من الغريب أن توجه مثل هذه الاتهامات إلى مونيكا على أنها إحدى الناشطات ضد التمييز في إنجلترا، وكتبت عدة مقالات واشتركت في حملات دعائية ضد التمييز وكراهية الآخر.
تفاقمت الحملة، وحاولت النيل من الرواية بعد الهجوم على مُؤلفتها، إذ شن نشطاء من البنغال حملة نقدية على الرواية، وسرعان ما أصبحت الرواية محوراً لمعركة أدبية ونقدية، إذ هاجمها الصحفيون والنقاد من أصول بنغالية واتهموها بالافتقار إلى الدقة والجماليات الروائية، في حين تصدى لهم كتّاب ونقاد آخرون.

رغم استقرار أوضاع المهاجرين من جنوب شرق آسيا في بريطانيا مقارنة بغيرهم من الجنسيات والجماعات العرقية، إلا أن الرواية أثارت أزمة هوية حادة لديهم لدرجة وصلت إلى اتهام الكاتبة بالخيانة، واعتبارهم الرواية طعنة في ظهورهم على يد واحدة من بني جلدتهم. في الواقع، لا تحمل الرواية إدانة واضحة إلى أحد، ولكنها اقتربت من الواقع بشفافية، وكشفت ضمنيًا عن مُعادلة مُركبة، حدها الأول هو عدم تقبل المُجتمعات الغربية للمُهاجرين ما يؤدي إلى تهميشهم وصعوبة اندماجهم. أما حد المُعادلة الثاني فهو رد فعل المُهاجرين بالانزواء والتحصن داخل أنماطهم المعرفية والثقافية القديمة. يؤدي هذا الموقف إلى خلق جيتو ثقافي وعرقي في الغرب، وإلى حالة من الاغتراب يصل إلى حد الإحساس بالعدمية، وهو ما قد يؤدي بدوره إلى تفاقم أزمات اجتماعية وإنسانية عنيفة في المستقبل المنظور.
______
*الخليج الثقافي