ما العمل ؟ عندما تصبح العَمَالةُ وجهة نظر والأهداف صغيرة والهزائم كبيرة
بقلم د. لبيب قمحاوي
lkamhawi@cessco.com.jo
"خوفي أن يأتي يوم تُصْبِحُ فيه العَمَالَةُ وجهة نظر" , جملة خطيرة قالها كمال ناصر في عام 1972 اقتربت في مدلولاتها من النبوءة لما نحن فيه الآن .
ترى ما الذي يجعل شخصاً قيادياً مُؤسّساً في حركة فتح أن يطلق ذلك التحذير/ النبوءة في تلك المرحلة المبكرة من انطلاقة الثورة الفلسطينية ؟ هل كان ذلك استيعاباً مبكراً لعوامل القوة والهزيمة داخل المجتمع الفلسطيني ؟ أم كان فهماً حقيقياً وإطلاعاً نادراً على مكنونات تفكير حركة فتح والأهداف غير المعلنة لقيادتها المُؤَسِسَة ؟ أم كانت شكاً في نوايا ووطنية بعض القيادات الفلسطينية؟ أم كانت جملة عابرة تحولت مع الزمن إلى حقيقه مُرﱠة مؤلمة ؟
لا شك أن هنالك العديد من الحقائق المرﱠة والتحديات المستحيلة التي تعصف الآن بضمير المواطن العربي وتتحدى ارادته , في الوقت الذي يعاني فيه من تناقص مضطرد في قدرته على استيعاب طبيعة التطورات والتحديات التي تجتاح وطننا العربي , ناهيك عن قدرته على استشراف المستقبل .
الحقيقة الأساس والأهم هي أننا لا نستطيع أن نحسم خيارات الكفاح والنضال من منطلق الهزيمة أو خيارات السلام من منطلق التنازل والاستسلام . فهزيمة الذات قد تكون أقسى الهزائم وأكثرها خطورة على مستقبل الأمة . فهي تنبع من داخلنا دون أن نكون قادرين على رؤيتها , وتجلياتها تأخذ أشكالاً مختلفة . وقد يكون أخطر تلك التجليات هو ما يجري الآن من محاولات لإغلاق ملف القضية الفلسطينية بتعاون عربي وفلسطيني من خلال مفاوضات "الإطار" التي يقودها وزير الخارجية الأمريكي جون كيري . وهذه المفاوضات تستند إلى واقع الضعف الشديد والتشتت الذي تعيشه دول المنطقة بإستثناء اسرائيل , وكذلك حالة الإنكفاء وهزيمة الذات التي أصابت الشعوب العربية, وحالة الاستسلام الفلسطيني الناتج عن تراجع مستوى الالتزام الوطني للقيادة الفلسطينية وتآكل إرادتها الوطنية منذ اتفاقات أوسلو . وهكذا , فإن أخلاق الهزيمة وثقافة التنازل والاستسلام قد ابتدأت تصبغ السلوك العربي وتسيطر على منظومة الأهداف التي نسعى إليها والتي تَقَلّصَ سقفها وتواضع الى الحد الذي أصبحت فيه مدعاة لسخرية الأعداء وشفقة الأصدقاء.
إذا كان هذا هو واقع الحال باختصار, فما العمل ؟ ماذا علينا أن نفعل ؟ وماذا علينا أن لا نفعل ؟
منطق الأمور يفترض أن الواقع العربي والفلسطيني الحالي يتطلب الابتعاد عن أي مفاوضات سلام مع إسرائيل كونها تستند إلى الضعف والتشتت العربي والتنازلات الفلسطينية . فالمضي في مسلسل المفاوضات بهدف التوصل إلى اتفاقية إطار مُصَاغَة بلغة مطاطة سوف يؤدي بالنتيجة إلى إغلاق ملف القضية الفلسطينية عوضاً عن حلها , كون الجهة التي سوف تفسر اللغة المطاطة في النهاية هي الطرف الأقوى وليس الطرف الأضعف. وبلغة أخرى التفسير سوف تقوم به اسرائيل , في حين أن التنازلات سوف يقدمها الفلسطينيون لوحدهم .
هذا بالإضافة إلى أن امريكا لا تفاوض في الحقيقة إلا الإسرائيليين . فالمعلومات الواردة من دوائر المفاوضين تؤكد على أن الجهة المُرْسِلَةُ هي اسرائيل وباقي الأطراف وهم الفلسطينيون والأردنيون مستقبلون . أمريكا تفاوض الإسرائيليين على حجم الخسائر الفلسطينية ولا شىء آخر. المطروح الآن للتفاوض هو حجم الخسائر الفلسطينية والتي تعني حقيقة حجم المكاسب الإسرائيلية . والأردنيون يساهمون من خلال وجودهم في تليين الموقف الفلسطيني , وهم بذلك لا يساهمون إلا بالقدر الذي يُضفي حضورهم لبعض الجلسات سراباً خادعاً بأن هنالك فعلاً مفاوضات حقيقية متعددة الأطراف . هذا مع العلم أن الهدف الحقيقي للحكومة الأردنية من المشاركة في المفاوضات هو مراقبة الفلسطينيين وبرنامجهم التفاوضي على أساس أن العدو الحقيقي للمصالح الأردنية هم الفلسطينيون وليس الإسرائيليون ! ومن هنا الإصرار الأردني المتواصل على رفض وجود قنوات اتصال فلسطينية – إسرائيلية جانبية والإيحاء المتواصل بأن الإتفاق الفلسطيني – الإسرائيلي قد يأتي على حساب المصالح الأردنية.
الأمريكيون يتصرفون على أساس أن الفلسطينيين والأردنيين في الجيب والجهة الوحيدة التي تقول نعم أو لا هم الإسرائيليون . صحيح أن الفلسطينيين قد يعترضون على هذا, أو يطالبون بذاك , ولكنهم لا يفاوضون وهنالك فرق كبير بين الاعتراض والتفاوض . وما دام هذا هو واقع الحال , وهو فعلاً واقع الحال , فأي مصلحة للفلسطينيين في الاستمرار في هذه العملية شبه التفاوضية والبائسة .
إن رفض مبدأ المفاوضات يجب أن يرافقه رؤيا جديدة بديلة تضع الفلسطينيين في مسار ايجابي رافض للتنازل حتى ولو كان ذلك المسار يفتقر في الوقت الحالي إلى القوة اللازمة لدعمه , عوضاً عن وضعهم في مسار سلبي استسلامي ينطلق من واقع الضعف والتشتت . أما معالم هذه الرؤيا الفلسطينية الجديدة فهي تتكون من خمسة محاور سبق وإن تم التعرض لبعضها.
المحور الأول :- إعتبارالمفاوضات المستندة الى واقع الضعف والتشتت الفلسطيني خطراً على المصالح والآمال الفلسطينية وبالتالي رفضها كونها تهدف إلى استجداء الموافقة الإسرائيلية على حلول شكلية وليس الوصول إلى سلام عادل متكافئ يستجيب للحقوق والثوابت الفلسطينية , وبالتالي اعتبار أي قيادة أو جهة أو تنظيم يسعى إلى مثل تلك المفاوضات معادياً لآمال وتطلعات ومصالح الشعب الفلسطيني .
المحور الثاني :- إعلان الفلسطينيين عن رفض مبدأ تقسيم فلسطين التاريخية إلى دولتين , فالدولة المخصصة للفلسطينيين , فيما لو تحققت , سوف تكون شبه دولة , منزوعة السلاح والسيادة الفعلية , ومنزوعة الدسم بشكل عام , وعباره عن أشلاء هنا وهناك مقدرٌ لها أن تعيش إلى الأبد في ظل الدولة الأكبر والأقوى وهي اسرائيل . منطق الأمور إذاً يفترض أن لا يطالب الفلسطينيون أو يوافقوا على تقسيم فلسطين التاريخية إلى دولتين . فذلك لو تم فإنه يعني الموافقة الضمنية الفلسطينية على أن اسرائيل سوف تبقى قائمة إلى الأبد وأن فلسطين , بالتالي, سوف تبقى مقسمة إلى الأبد . وهذا أمر يصب في مصلحة الإسرائيليين . هل الحل يكمن في تقسيم فلسطين الطبيعية بيننا وبين الإسرائيليين بنسبة مجحفة لا تسمح للفلسطينيين إلا بأقل من 25% من الأرض في أحسن الأحوال حتى وإن وافق الإسرائيليون . الموضوع ليس موضوع نسب مئوية بقدر ما هو خيار استراتيجي . هل يريد الفلسطينيون تقسيم فلسطين بينهم وبين الإسرائيليين إلى الأبد ؟ أم أنهم يريدون استرجاع الوطن المغتصب السليب بأية وسيلة ومهما طال الزمن ؟
المحور الثالث :- المطالبة بدولة ديمقراطية علمانية واحدة على أرض فلسطين التاريخية الموحدة , بغض النظر عن مُسمى تلك الدولة في المرحلة الأولى , يتمتع فيها كافة المواطنين بحقوق مدنية وسياسية ودستورية كاملة ومتساوية في النص والممارسة , تحكمها حكومة ديمقراطية برلمانية ينتخبها المواطنون بشكل دوري . وعلى أية حال ونظراً لأهمية هذا الموضوع وضرورة الحد من التطورات السلبية المتلاحقة التي تعيشها القضية الفلسطينية , فإن فتح باب الحوار بين الفلسطينيين حول هذا المحور يعتبر أمراً هاماً ومجدياً ومطلوباً . وكل من يرفض ذلك عليه أن يتقدم بأسبابه وتبريراته . صحيح أن أغلبية الإسرائيليين والفكر الصهيوني المطالب بدولة يهودية نقية, هم ضد ذلك , والمعظم يعرف لماذا . ولكن لماذا يكون أي فلسطيني ضد ذلك ؟
المحور الرابع :- إعلان الفلسطينيين من طرف واحد بأن الأحتلال لم يعد قائماً وأن الفلسطينيين يعيشون على أرضهم وفي وطنهم فلسطين . إن هذا الطرح قد يتضمن كماً كبيراً من التساؤلات والاستفسارات والتحفظات المشروعة والتي قد لا يمكن الحصول على إجابات عن معظمها. ولكن تبقى الحقيقة أن هذا الإعلان يهدف إلى تحويل العلاقة بين الفلسطينيين واسرائيل من علاقة احتلال إلى علاقة تمييز عنصري يرفضها العالم ولا يقبل باستمرارها . هذا مع أن طبيعة العلاقة بين الفلسطينيين واسرائيل هي في واقعها علاقة تمييز عنصري كون الاحتلال الإسرائيلي احلالي يهدف إلى احلال الإسرائيليين مكان الفلسطينيين وتجريدهم من حقوقهم الأساسية تمهيداً للاستيلاء على أرضهم بعد أن تم احتلالها .
وهكذا , فإذا كان من غير الممكن حالياً استرجاع الوطن المحتل بالوسائل العسكرية , فعلى الفلسطينيين العمل على منع تقسيمه أولاً , والنضال من أجل قيام دولة واحدة ديمقراطية بهدف تحويل النضال من أجل التحرير إلى نضال ضد سياسة التمييز العنصرية وكل أشكال التمييز الأخرى . وإذا كان الإسرائيليون لن يقبلوا هذا الطرح وهو أمر متوقع , فعليهم أن يتقدموا بحلول بديلة و مقبولة فلسطينياً لمشكلة تتفاقم يوماً بعد يوم . فالفلسطينيون لن يغادروا فلسطين لأي سبب وتحت أي مسمى . والاستيطان الإسرائيلي , وهو غير قانوني وغير مشروع, سوف يفاقم الأمور أكثر وأكثر ويخلطها بشكل يجعل إمكانية فصل السكان على أسس دينية أو عرقية شبه مستحيل .
قد يجادل البعض بأن لا جديد في هذا الطرح وأن موضوع الدولة الديمقراطية العلمانية الواحدة في فلسطين قد طرح في بدايات العمل السياسي للثورة الفلسطينية (حل الدولة الواحدة مقابل حل الدولتين ) . هذا واضح , وإن كان ذلك لا يعني ولا يجب أن يعني أن هذا الطرح غير صحيح . فالمهم والجديد أن هذا الطرح الآن مبني على أنقاض فكرة "الدولتين" التي يجب أن يصبح نفيها ورفضها بشكل كامل وقاطع جزءاً من برنامج العمل الوطني الفلسطيني الجديد . وهذا الطرح قد يخلق بدوره حالة من الفزع في الأوساط الإسرائيلية والصهيونية المطالبة بنقاء الدولة العبرية باعتبارها دولة لليهود فقط . إن المطالبة الفلسطينية بدولة واحدة ديمقراطية علمانية على أرض فلسطين الموحدة هي الرد الفلسطيني الصحيح والمؤثر على المطالبة الصهيونية بالاعتراف بيهودية الدولة العبرية وهو شعار عنصري حتى النخاع .
المحور الخامس :- إعلان حل السلطة الفلسطينيه والمؤسسات التابعة لها حيث أن تبني هذا البرنامج وخلق إجماع وطني فلسطيني حوله سيؤدي حتماً إلى وجوب إنهاء دور تلك السلطة والتي تقوم حالياً , بالإضافة إلى واجبها الأول كمؤسسة تشغيل للفلسطينيين , بواجب تبييض صفحة الاحتلال في عملية مشابهة بالضبط لعملية تبييض الأموال القذرة وجعلها شرعية ومشروعة . إن ما تقوم به مؤسسات السلطة الفلسطينية حالياً لم يساهم على الإطلاق في إزالة الاحتلال , بل على العكس خلق وهم الاستقلال لدى بعض الناس من جهة , وجعل الاحتلال يختبئ خلفها من جهة أخرى . وهذا جعل مطلب إزالة الاحتلال ينحسر من أولى الأولويات إلى ثاني الأولويات بعد هدف المحافظة على بقاء السلطة الفلسطينية ومؤسساتها وبالطبع رموزها. وبموت ياسر عرفات اختفى الرمز التاريخي بثقله وما له وما عليه , وانتهت القيادة بأيدي البعض من بواقي القيادة الفلسطينية التاريخية , وتقلصت مطالب هؤلاء لتناسب حجمهم السياسي وطموحاتهم الذاتية , وأصبحت التنازلات الفلسطينية تتوالى مثل تساقط أوراق الشجر في يوم خريفي عاصف . وتولد لدى الأسرائيليين قناعة قوية وموقف واضح بعدم ضرورة تَوَصُل أي مفاوضات مع الفلسطينيين إلى أي نتيجة لأن القيادة الفلسطينية في مسارها العجيب منذ اتفاقات أوسلو قد أعطت انطباعاً لجميع الأطراف بأن التنازلات الفلسطينية قادمة سواء تنازل الإسرائيليين عن شيء أم لم يتنازلوا . وضع عجيب لم يُفْرَض على السلطة الفلسطينية إلا بالقدر الذي وضعت تلك السلطة نفسها فيه .
إن حل السلطة الفلسطينية ومؤسساتها واختفائها عن الوجود سوف يؤدي إلى إرغام الإسرائيليين على ممارسة دورهم ومسؤولياتهم كسلطة احتلال مباشرةً وعلناً وأمام المجتمع الدولي عوضاً عن الاحتماء خلف السلطة الفلسطينية ومؤسساتها والإدعاء بأن الاحتلال هو قيمة مضافة وليس واقعاً سلبياً نظراً لعدم قدرة السلطة الفلسطينية على ضبط الأمور في المناطق الخاضعة لنفوذها , أو هكذا تدعي إسرائيل .
وفي الختام , فإن هذا برنامج عمل مقترح ومفتوح للنقاش البَنّاء والتعديل والتغيير بما يسمح بإعطاء الفلسطينيين بارقة أمل بأن هنالك بديل أو بدائل لما نحن فيه من نهج مبني على التنازلات والاستسلام لإرادة القوي بعد أن نجحت السلطة الفلسطينية في تحويل القضية الفلسطينيه من قضية تحرير إلى مشكلة دفع الرواتب لموظفيها في نهاية كل شهر .