تشكيل
من الوجه إلى المجهول
تأملات في بورتريهات
عدنان المبارك
عادل
كامل
[1]: مكونات، تتابع/ تحولات
لم يكن للبورتريه ـ الرأس
تحديدا ً ـ أهمية تذكر لا في تماثيل الآلهة الأم، ولا في رسومات الكهوف ـ بين 100
ـ 20 ألف عام ـ فلم يكن الرأس قد استقل بعمله، كمركز. كان الجسد مأوى اللغز، لغز
بذرة الخلق، كتاريخ للعصور اللا تاريخية، وهو اللغز المزدوج: للغذاء ـ وللخصب. فلم
تدجن الحيوانات، وتروّض، ولم يتم انتقاء المحاصيل، وتحديد قيمتها، إلا كجز من آلية
البقاء. فكيف انبثق مفهوم التدوين من اللا تدوين، والزمن الأرضي من اللازمن ـ أو
من الزمن الكوني، أو من العدم..؟
فلا رؤوس للدمى، إلا كعلامة
فائضة. وفي رسومات الكهوف، إشارات نادرة لنقاط تمثل الصياد، فالحواس مازالت تؤدي
ما عليها من وظائف، ولم يتح التراكم لها ان يتحول الرأس إلى مركز. فكانت العصور
البدائية السابقة لعصر التدوين، تدوّين تاريخ (القلب) ـ الجسد/ الدم/ وطقوس القتل
ـ من ثم، عندما لم يعد (القلب) وحده لغزا ً، ولا الرحم، تربع الرأس على
العرش. انه أقدم شكل للمثلث: الهرم،
النظام وقد أعاد للمركز سطوته على القاعدة. ولم يتأسس هذا النظام ـ التشكيل ـ بمحض
الخيال، أو بقوة خارجية مستقلة عن (التجريب ـ التاريخ)، بل غدا التدوّين أقدم عمل
لقلب الاقتصاد (العشوائي) إلى الاقتصاد المنظم. فالهرم لم يتخذ المثلث علامة له إلا
إيجازا ً لنظام: الصياد ـ الطرائد. فالهرم
ليس رمزا ً للموت، بل لقوته، وقوة الموت، ـ منذ مقتل ديموزي وانبثاقه، دون إغفال
اشتغالات مراثي سومر، ومراثي أكد للنسق ذاته، لكن جمعيا ً، بعد ان كان بحدود الإله
الواحد ـ هنا، مستمدة من التركيب المعقد
للمتناقضات الخاصة بالرب القدير، وهو يستعين بالعناصر الأرضية في خلق الإنسان،
الطين والماء، وفي الأسطورة البابلية، الطين والدم. قوة الهرم تعد أقدم (بورتريه)
للوعي الجمعي ـ وآلياته ـ بالتجريد الهندسي. فهو رمز الإله، ولده، وهو الإله ـ
الفرعون، الذي لا يموت، وإن مات ـ كجسد ـ فالروح ستعود له. فهو قوة كامنة، قوة
دائمة، قوة لا يمكن قهرها. بمعنى غدا
(البورتريه) مركزا ً لاواعيا ً للصراع ـ العام والخاص ـ الصراع مع الطبيعة
وضواريها وقسوتها، ومن ثم الصراع مع البشر ضد البشر، صراعا ً تطوريا ً لخص تاريخ
صنع الأدوات، وتقدمها. تاريخ تبادل السلع
من الفوضى إلى حرية السوق.
وليست أسطورة (نرسس) إلا مثال
يؤكد ان ما رآه نرسس، فوق سطح الماء (المرآة)، ليس محض اكتشاف للرأس، فحسب، بل
دافعا ً لمنحه كيانه الجديد. انه ليس أنانية محض، وإفراط في الإعجاب، وغلو إلا
للانتقال من (المخفي) نحو المعلن: من الجسد/ الأم، الكهف، البذرة، النواة ..الخ،
نحو المفتاح. فإذا كانت تلك الكيانات تمثل القفل، فان انشغاله بالبحث عن المفتاح،
سيسمح له بصناعته، وليس بالتنقيب عنه. انه عمليا ً أقدم تعريف لنظرية المؤامرة:
القصد المخفي وقد غدا يعمل بالحتميات في مواجهة العشوائية، والاضطراب.
على ان نرسس لم يكتشف وجهه في
الماء ـ كمرآة ـ بل أصبح الوجه يحمل تاريخ الوجوه منذ تشكلت جرثومة الخلق ـ بما
تمثل فيها من إرادة للديمومة ـ وصولا ً إلى لحظة: الدهشة، الصدمة، المعرفة،
والمزيد منها. فالهيئة (الوجه) ـ كما الهرم ـ خلاصة أزمنة بلغت ذروتها بالأداة ـ الاكتشاف: البصر أولا ً، ومن ثم الحواس
المرافقة، ليعّبد دربا ً ليس هبة ـ كما يهب الجلاد الحرية لضحاياه، وكما يهب
القائد أوسمة لأبطاله الموتى ـ بل ضرورة تدحض حواجزها، وحجاباتها، كي يكف نرسس عن الإعجاب
بذاته، ولكن ليس نحو الإعجاب بالوجه البشري، بل لتعديله، كي لا يكون حضوره محض
وجود حدث مصادفة، أو عرضا ً، بل بما تتطلبه دينامية التدشين، والممارسة، لمنح الديمومة منطقها، وآلياتها، وغوايتها،
ولغزها، وجمالها، وكي يغدو الفن ضرورة محركة للحريات؛ حرية تهدم مرآتها، في هذا
النسق، كي لا ترتد، أو تنغلق.
كان البورتريه، في الماء، وسطا
ً بين الأرض والهواء، بين: الأسفل وبين الأعلى، الماضي وما سيولد، المرتد والمتقدم
...الخ، ولكنه سيغدو، عبر الأزمنة، لصيق
القوة الأكثر تحكما ً في المصائر، مصائر البشر كافة. فأولى (الصانع/ الحرفي/
الساحر) ـ في النحت والرسم والفخار ـ هذه العلامة، أبعادها كاملة: بورتريهات ملوك،
رجال معابد، تجار، قادة، سحرة، كاهنات ..الخ، بما تمثله من هيمنة على الموارد، أي
الاقتصاد المنظم، والقطيعة مع العشوائية.
على ان التحريم لدى عدد من
القبائل، يؤكد منحى مزدوجا ً لرأس المال ـ الثالوث المكون من: الخطاب/ القوة/
الثروة ـ فهو يحافظ على سرية (التراكم)
ومنحه لغزه البدائي ـ الماورائي/ المثالي .. الخ، ومكانته العليا أيضا ً. فالتحريم
لم يدم طويلا ً، بعد ان غدا (البورتريه/ علامة المركز؛ السلطة) المتحكم بالسياق
الجمعي للتراكم. فهو صراع خفي بين القلب، وبين العقل. بين الجسد والصورة، بين
المخفي والممكن، وأخيرا ً، بين: الظلمات ـ والنور.
فالبورتريه أرخ، عبر النصوص الفنية،
وما تبقى منها، اعقد الصراعات، والتحولات، بما يمثله (الرأس) من مكانة في
الديمومة، في مواجهة الاندثار، والغياب. فالموت ليس محض ملكية ضائعة، مع انه يمثل
الخسران، والفقدان، والتوقف عن العمل (الإنتاج)، بل سيمتلك قوته بلغز ان: الحياة
لا تنبثق إلا منه. فلا زوال للملكية، في الأخير،
مادامت الشمس ستشرق مجددا ً، ومادمت البذرة، لن تنمو إلا بالدفن.
آليات ظاهراتية تمتلك أنساقها
مهما استقلت الأشكال عن مكوناتها، كما في الفن الحديث. فالرأس لم يعد (الطاغية) أو
(الإله) بل هو الضحية. والأمثلة ناصعة، وفي مقدمتها السيد المسيح، بعد قصة حلم إبراهيم
وهو يرى انه يذبح ولده إسماعيل. فالضحية ـ
هنا ـ غدا الفعل المقدس: الذي تكمن فيه سرية الديمومة، في مواجهة الفناء.
فالاشتغال الرمزي، بواقعيته، خيال صاغته الأسس التجريبية، وخضعت لمنطقها،
حتى ان استقلاله ـ بل وعزله عن الجسد/ البدن ـ شبيه بالعملة ـ النقد ـ كقوة دالة
على ما فيها من متراكمات، مادية ورمزية ومشفرة، تؤدي دورها كآلية للاختزال،
والتحكم بالزمن.
فإذا كان البورتريه قد بدأ
صفرا ً ـ من غير رأس تقريبا ً ـ في الاقتصاد البري، وصولا ً إلى الحداثة ـ والعولمة، فان هيمنته ستتضاعف،
مع تحول العنف، من تلقائية الغريزة ـ إلى تنظيمها، ومن عفوية القصد، وبرمجته،
كنظام لا يعرف الرحمة، بعزل الهوى عن العقل، وعزل التبذير عن التراكم، فان المجهول
وحده سيأخذ موضوعات الوعي، بالأهمية ذاتها للحياة كاملة.
انه السلطة، بتراكم خزينها
الطويل. سلطة تراكمت فيها عصور: الزواحف/ الثدييات/ والإنسان الحديث/ مقننة بطبقات
الدماغ الثلاث. ومقولة ديكارت: أنا أفكر فانا موجود إذا ً، دالة على ان عصر
(الجسد) برهن ان الوعي اقترن بالوجود، وليس بماضيه، ولا بغيابه، ولا بما يتعرض له
من تهديدات بالزوال.
انه صراع بين عناصر ما تحت
النظر، مع عناصر ما فوق النظر: الثقيل/ الخفيف، الكثيف/ الشفاف، الخفي/ المعلن
..الخ، كي يمثل البورتريه التاريخ الذي
سيعيد (الرأس) نبشه، ووضعه كقوة للديمومة. ومرة أخرى يغدو الموت مركبا ً من فعله وما ضد هذا الفعل،
فالمفكر ـ الذي يدير الإنتاج ويتحكم به ـ آليا ً، ووفق اللاوعي الكلي ـ الكوني، الإلهي،
والأرضي، هو الموضوع بتاريخيته، مجده، وأبهته. وهو، في الوقت نفسه، سيغدو: الأثير.
فالا صورة، بعد تفكيك الذرة، وصولا ً إلى المناطق اللا مرئية فيها، قوة تماثل
اتساع الكون إلى لاحا فاته، كلاهما شكل مكونات (الدماغ) ـ العقل أو ماكنة التفكير
ـ بالأشياء لذاتها، وفي ذاتها. وبعيدا ً
عن التجربة المعقدة للتصوف، فان قراءة تاريخ البورتريه، بمعنى من المعاني، قراءة
لتطور الدماغ، وقدراته على النمو. ومع ان (فوق كل ذي علم عليم) بالغة الدقة
بتجريبيتها، فان البورتريه، لن يتخلى عن توثيق ان (الرأس) غدا صورة رمزية للكون،
في حضوره الذاتي ـ بل والفردي الخالص. فهو ليس علامة للتاريخ، أو علامة تاريخية،
وحضارية، فحسب، بل تمثلا ً للأسرار بانتقالها من المخفي إلى الظاهر، ومن العدم كمفهوم يماثل الصفر في قوته
الديالكتيكية ـ قوة تماثل حضور الزمن من اللازمن، والوجود من اللا وجود، ذلك لأن
العناصر التقليدية ـ منذ اليونان ـ لم تعد تسد التركيب الذي تقوم عليه المادة. فإلى
جانب الزمن ـ كعنصر حاسم ـ هناك المضادات لها، الداخلة في تركيبها، كقوة غير أحادية
تتحكم بما رصده (الدماغ) من اكتشافات، فلا العناصر الأربعة ـ الماء/ التراب/
النار/ الهواء ـ وحدها تمد الخيال بما هو ابعد منه، بمفاتيح لا تتقدم ـ عشوائيا
ًـ وإنما ثمة عناصر لا مرئية كامنة في كل
خلية من الخلايا ـ خلايا الدماغ، ومشفرات الجسد برمته، مع إنها، بما نعلم، تلقي
الضوء على ان ألجين الواحد يتكون من ترليونات الوحدات!
فالعناصر التي كونت البورتريه،
لا تكمن في مواجهة الغياب حسب، بل لتأسيس حضور آخر يبتعد عن (الملكية) والوجود
التراكمي للمادة. انه الحضور الرمزي للتشفيرات ذاتها التي ستمنح، كل ذات مفكرة،
القوة ذاتها لدى كل من كان له الحضور في الشهادة ، وفي الوجود؟ فهو شهادة غياب استحال إلى مد الحضور بما لم
يُدشن بعد.
[2] اختلاف ـ ووحدة
هل تتماثل الذرات، في حركتها،
وتتشابه...؟ كلا، مادامت وثبات الإلكترون
غير منتظمة، بأدواتنا وبمقاييسنا. كذلك العناصر، بذراتها، من الماء إلى النار، ومن
التراب إلى الهواء، والى الأثير، لا توجد ذرة مستقلة بعملها بمعزل عن الكل
الدينامي. فلا مجال لوجودها في ذاتها عدا انها تنتمي إلى خواصها: ذرات ذهب أو ذرات
غبار. والأمر، في الكائنات، لا نملة تشبه نملة أخرى، ولا عصفور يماثل آخر. فبوجود
ترليونات الترليونات من البذور، والخلايا، والوحدات الأصغر، في مساحة مختارة، لا
يمكن هدم الاختلاف. صحيح، عندما ينظر العربي الشرقي، للوهلة الأولى، يتساءل: كيف
يعرف الصيني الصيني الآخر؟ انه اختلاف لم يُكتشف إلا عندما بدأت الذرات تعزل ـ
لتؤسس ـ كيانها: هويتها كوجود مستحدث، بفعل العمل: التراكم ـ النوع ...الخ، وعبر
قوانين الصيرورة، والاندماج، والانصهار، والانبثاق. فالوجه برز كعلامة أخذت تعزل
كيانها عن الكل، في محاولة للاختلاف عن التماثل العضوي، نحو التأمل: فانا موجود
بكياني كاملا ً، من (الفكر) إلى (الشكل)، ومن الشكل إلى التفكير. هذا المنحى سبق المرآة
ـ الماء ـ والانا، كي يأخذ دوره بصفته مغادرة من التماثل، إلى التشخيص، ومن الكل إلى
الفرد. فإذا كانت الفلسفة المصرية القديمة تحافظ على الوجه، كي تستدل الروح عليه،
في العودة، فان اللاوعي في التصوّر، يذهب ابعد من الحافظ على الملكية ـ المركز ـ
نحو ديمومة النوع. وفي الأخير فان البورتريه ليس إلا (أبجدية) مصغّرة للمطلق.
فالرب لا صورة له! ولكن للأنبياء سمات، وملامح، وأبعاد تعبيرية وجمالية. وليس
تحريم التشبيه ـ هنا ـ إلا محاولة للخروج من التاريخ ـ الزمن ـ إلى المطلق. فالا
مسمى لا شكل له، لأنه غير قابل للتأطير، بحدود الحواس، أو العقل، فهو سابق على
التجربة، وابعد من ان تكون له خاتمة. لكن البورتريه سيطمح للعثور على فك شفرات هذا
اللغز، للعثور على تساميه، وملغزاته، بالمهارات الاستثنائية. لأن (الإبداع) لم
يحصل بمحض الحدوث، تلقائيا ً، ما لم يمتلك أسبابه، حتى لو كانت كامنة في اللا سببية.
بهذا المعنى فان العناصر، شبيهة
بالحروف، لها عدد (بحسب المكتشف)، فاذا كانت كلمات كل لغة تبقى توليدية )حتى
باخفاء اللغة، وظهور ابجديات اخرى) فان كل كلمة، لا تشبه أي كلمة، حتى لو تماثلت
في الحروف، بالعدد، والرسم، فانها تبقى تمتلك قدرات متجددة على التاويل. انها
شبيهة بكل وجه مكون من عناصره ـ المركبة ـ
تتميز بحسب الزيادة، أو النقصان، بالبرنامج الكلي، وباليات عمله الكلية. فلا
توجد لحظة تماثل أخرى. لأنها مقننة بكلية
القانون، وليس بالمحاكاة او بالتكرار. كذلك فكل ذرة، ما ان تتعرض للتفكيك، الهدم،
فانها ستكّون غيرها عند التشكل. فالميت
إذا ًسيفقد وجهه، والروح، بعودتها، لن تجد وجهها القديم، مما منح التطور، مسارا ً
للاختلاف، والتجدد، في تعددية الاساليب، والمناهج، والنتائج.
وما دامت القناعة المشتركة
بين المذاهب، الفلسفات، كامنة في استحالة الديمومة، فان لغز المفارقة سينشطر بين
التاريخي، الظاهرة، وبين استحالة تصوير هذا الذي هو قيد الغياب، وقد غدا بحكم اللا
وجود، لكن التشبث بالمرئي، سيتشبث بلغز محركاته، ومخفياته أيضا ً. حتى لو كانت غير قابلة للدخول في العدد ـ أو في
المرئيات. انه منحى يبقى يحافظ على أبجديته، إلا انها تبقى احد دوافع دينامية
الانبثاق، كبرنامج عمل لكل ما هو غير قابل للدخول في آليات الموجودات ـ وتاريخها.
على ان دوافع التجربة كعلاقة
بين عودة الروح إلى الوجه، والدوافع المادية المقترنة بالأنا ـ ومنح الذات كيانها
الانطولوجي ـ تسمح بالعثور على تداخل الدوافع لأجل: علامة تتضمن مهاراتها الفنية.
فالحرفة ـ بحد ذاتها ـ تنتمي إلى مهنة اقترنت بمواجهة الغياب، وهي عودة دائمة
للحفاظ على تميز التراكم؛ وعيا ً مقترنا ً بهذه الإرادة، وتقسيما ً لتراتبية
النظام.
[3] مدخل آخر ـ
بعد نصف قرن من مزاولتي للعمل
المزدوج بين الكتابة حول الفن، والعمل الفني، بات علي ّ دمج المسافة بينهما،
فالناقد إن لم يكن فنانا ً، فانه سيماثل الفنان الذي لا يمتلك تحديا ً ما. على ان
تحديد من هو الناقد ومن هو الفنان، في عصر سمحت حريات التعبير بالتعددية، حد
العشوائية، وإثارة البلبلة، ستجعل من بائع (الخردة) فيلسوفا ً، ولكنها قد تفشل
بدفع العالم إلى التزوير، بل تضطره إلى امتهان بيع (الخردة)!
فهل الحرفة تفسد الفن، وهل الفن
يفسد النقد ..؟ سؤال نجد له أمثلة متعددة، فهناك من لم يدرس الفن نهائيا ً، ككل الفطريين،
والبدائيين الكبار، رسّخ قناعة بان (الصدق) ذاته، بما يعنيه من قدرات على البناء،
بناء النص الفني، ومغزاه الخلاق في نهاية المطاف. صحيح لا تقارن هذه التجارب
بتجارب الأساتذة الكبار، ولكن في عصرنا، فان كبار الزعماء كانوا أمثلة لبائع
(الخردة) الذي سيتحكم بالمصائر، فعن أية فلسفة سنتحدث، وكيف سيتم التمييز...؟
إلا ان إعادة تفكيك بعض اعقد
المسالك وعورة، كالعلاقة بين المحترف والفنان، لن توسع الهوة بينهما، مادامت
الدوافع النائية قائمة ومن الصعب قمعها، فإنها لن تنتظر إلا مهارة غير متحذلقة،
كالتي يتعلمها الحرفي، بإمكانها البرهنة على بناء نصوص ذات شأن. لم يدرس فان كوخ
الفن، ولم يكن بحاجة لتعلم التشريح، كي يحافظ على النسب! بل الصواب انه لو كان فعل
ذلك، لكان في عداد المجهولين.
فهل هذا وحده سيطلق المارد من قمقمه، كي يتحول أي إنسان إلى (أسطورة)..؟ قد
يتحول أي فنان ـ لأن كل ذات بشرية لديها الكثير من المشتركات مع سقراط، أو ماركس،
أو بتهوفن، إنما هل حقا ً باستطاعة باع (الخردة) ان يمتلك تقنيات بوشكن أو بروست
أو موزارت كي يجعل من (العام) فنا ً متفردا ً عابرا ً للزمن...؟
مادام الفن ـ بعد موته إلى
جانب موت الفلسفة وموت الإنسان نفسه ـ سلعة، وهيمنة السوق، وجني المزيد من
الإرباح، بأية طريقة من الطرق، فان المعايير النقدية ـ إزاء الإبداع النقدي وإزاء
الفن ـ ليس باستطاعتها ان تواجه تحولها إلى ذرات، وتزول، مادام ثمة قوة غير قوة
(الربح) تهيمن على 90% من مصائر البشر.
إنها إشكالية عصية، وليست إشكالية
وجود محض. فالعودة إلى معايير تقرب الذائقة لدى السكان، بشكل أو آخر، لن تفرط بأية
(ذات) تغادر انغلاقها، ومحدوديتها، كي تشكل مكّونا ً لاغناء الفن.
من يضع أسس هذه المعايير ...؟
ثمة طرفة تتحدث عن مأساة عانى
منها شعب من شعوب الفئران، إزاء (هر)
طالما تلاعب بمصائرها، حتى قرروا التوصل إلى حل لهذه المعضلة، فاقترح احدهم ان
المشكلة في غاية اليسر، وذلك بتعليق جرس في عنف الهر، فما ان يدخل المغارة، حتى
يكون الجرس قد نبههم إلى حضوره. صفق شعب الفئران طويلا ً، وفي النهاية، سأل احدهم:
من يعلق الجرس..؟!
مثال يخفي عصور من السلب،
والرياء، ليفصح عن لغز استخدام (الأقنعة) في المسارات البشرية. لا لأن كل من يستخدم هذا الدافع لديه مبررات ما
ان تسندها القوة، حتى لا تعمل إلا على تدمير الآخر، ومحاولة محوه، واجتثاثه من
الجذر! فحسب، بل لأن الطرف الآخر ـ أي
الأطراف الأخرى وهي بعدد المراكز المتصارعة ـ سيضطر لاختراع وسائل يحولها من صفتها
الدفاعية إلى أسلحة للمحق بسبب آليات الوجود نفسه: التصادم ـ والديمومة.
فعلى مدى عصور التدوين، ظهر آلاف
الحكماء، الفلاسفة، المصلحين، إلى جانب آلاف آلاف الذين حصنوا رسائلهم بالقواعد
والأسس والبرامج، وعند تتبع الأصول، فان كل من هؤلاء الأساتذة الكبار، أو الأقل
سطوة، كان أشار إلى الاقتراح بوضع الجرس في عنق الهر!
لكن من هو هذا الهر ...؟ هل هو
تراكمات الجهد البشري، أو غريزة الموت، أم القتال حد الفناء من اجل: الانعتاق أو
الحرية؟
لا احد باستطاعته ان يمسك بأي
حل، صائب، بعد ان ازدادت آليات المؤسسة البشرية تعقيدا ً، وتحولت من مؤسسة: يقتل
فيها قابيل اقرب مخلوق له بالدم والمصلحة والمصير ـ وهو جذر العنف ولغزه ـ إلى أمم
تعمل على محو شقيقاتها، لأنها اتخذت من الجرس حلا ً لمعضلة الوجود!
هل لا أمل لمليار إنسان مثقل
بالحرمان ـ أو تحت خط الفقر ـ وهل لا أمل لمليارات أخرى تولد، وتعيش، وترحل كأدوات، كأشياء، في الماكنة
(المطحنة) التي يديرها عدد من أصحاب الشركات عابرة للقارات، وهل حقا ً لا أمل إزاء
وجود تعددت أسبابه ـ بعدد من يمسك بالقوة والمال والدعاية ..الخ ـ عندما يحافظ على
شفرة انه لا يمكن ان يكون كما هو عليه: فائضا ً، ولا معقولا ً، وبلا غاية، سوى انه
لا يعرف أكثر مما يوجد في: الأشياء في ذاتها، مادامت الإشكالية، في الأصل، لا تكمن
في التعبير ـ الفني أو بأي مستوى من مستويات الاستغاثة ـ وإنما لأنها ذات جذر
ابعد، شبيه، نسبيا ً، بالثقوب البيض أو السود ـ تعيد إنتاج الأكوان التي التهمتها
مرة ثانية!
فهل باستطاعة عدد قليل من
هؤلاء الذين تجاوزوا مصالحهم الشخصية، وعملوا للحضارة، ان لا يعيروا حكمة غوته:
التمسك بالإرادة حتى لو كانت تذهب إلى العدم،
واستبدال قانون(الحركة) أو الإرادة العمياء، أو العدم الممتد، أو الدهر
والقدر، أو المصادفات اللا متوقعة ...الخ، بدوافع ديمومة هذا المحكوم بالزوال، بدل
القبول بالهزيمة حتى لو كانت المعركة زائفة، وقائمة على مباديء مضادة للعدل ـ
والمنطق..؟
فرويد رأى ان مشروع الإنسان
تنقصه الاستعدادات لبناء حضارة. ونيتشه رأى ان الإنسان شبيه بالمرض، سارتر رآه
جذاما ً، وحكمة برنارد شو ليست مرحة عندما أكد انه كلما تأمل الإنسان ازداد إعجابا
ً بالكلب...الخ
أمثلة كثيرة تجد بائع (الخردة)
الذي أصبح (ناقدا ً) أو (فنانا) لا يتصدى لها ـ عبر امتلاكه لوسائل الدعاية فحسب ـ
بل بقوة القمع الأكثر خفاء ً، من الإعلان إلى الرياضة، ومن التصورات إلى صناعة
الرموز ...الخ ـ وصولا ً إلى تدمير الهندسة الوراثية ذاتها، والتلاعب بإعادة
إنتاجها، وفق نظرية: انه وحده علق الجرس!
على ان الأمل بنهاية وشيكة للوجود
البشري مازالت مؤجلة. فمنذ كانت القرارات تصدر عن الآلهة، في العصور السحيقة،
وممارستها لحقها بالإبادة، والمحو، والاجتثاث، كالطوفان، والكوارث المماثلة، بسبب
لغط البشر، وفسادهم المشين، وخساسة طباعهم، وافتراس بعضهم البعض الآخر، واستحالة
تحقيق أوامرها، وصولا ً إلى أي حل كارثي آخر كالاستخدام المروع للأسلحة الفتاكة
الكبرى، أو قيام حرب تشترك فيها القارات، إلى جانب خطر سريان فعالية ضعف المناعة،
بسبب التلوث البيئي (الايكولوجي) وتحول السكان إلى أسراب من طيور مهاجرة، أو شعوب
من النمل التائهة في المنافي..الخ، فان عدم قدرة احد ـ لا الآلهة القديمة ولا من
يتربع على أهرامات عالمنا المعاصر ـ على المحو تبدو ليست خيالية، إلا ان اينشتاين
لم يفقد الأمل ـ بعد ان تزول حياتنا ـ لتبدأ الحياة من الصفر! ذلك لأن (الهر) ـ ككائن رمزي ولد مفترسا ًـ ما
ان يأخذ كفايته من الطرائد، يهمد، ويستكين، عدا (الوعي) الاستثنائي للبشر، ما ان
يمتلك أدوات صناعة الأدوات، حتى لا يكف عن تحقيق نزعة محو كل من يعمل للحفاظ على
الحلم!
[4] ما الفن ـ اقتراحات
يمكن اختزال عدد من تعريفات الفن
بأنه: صياغة بدائل تستبدل الوجود ـ بقسوته وبغياباته ـ بحضور تتداخل فيه مقدمات
الزمن (الدهر)، بنهاياته (الأزل)، كلحظة تتزامن فيها لا نهائية المسافة في هذا
الحضور: الفن!
بمعنى انه ليس دفاعات ضد
الغياب، بل إعادة غزل الغزل ونسج النسج للارتقاء بالخامات الواقعية نحو معمارها
الروحي ـ الجمالي، في نهاية المطاف. هذا
الامتداد من الطبيعة إلى الفن سيحافظ على لغز دوافعه بدينامية لا يمكن عزلها عن
اشتغالات المخيال، ولا عن آليات الوعي، ولا عن السياق التجريبي. لكن هذا لا يعني
إعطاء اللا معنى ـ معناه، إلا بحدود الحفر بحثا ً عن المعنى الكامن، وصياغته
بحسابات العوامل كافة، بدءا ً بلحظات التحول، وبنسيجها البنائي، مرورا ً بالعوامل
الكامنة، المتنوعة، والمتعددة، وانتهاء ً ببنيوية النص الفني ـ برهافة الفنان ـ
وبلحظة الخلق التي تتجانس فيها العناصر بالأسس، المشفر بالعلامة، والظاهر
بمخفياته.
[5] تعددية
إلى جانب تنفيذه لرسومات
موضوعات موقع (القصة العراقية)، واضب عدنان المبارك بنشر صورة شخصية في كل أسبوع، تحت عنوان: بورتريه.
وإذ ْ تعود ذاكرة المبارك إلى
خمسينيات القرن الماضي، حيث تبلورت ملامح جيل استحق مواصفات الريادة، ليس زمنيا ً
حسب، بل نموذجا ً لمكانة الثقافة في المجتمع العراقي/ البغدادي. فعدنان المبارك،
القاص والروائي والمترجم، بالرهافة التي امتلكها، عمل على وضعها شرطا ً لبنائه
الفني ـ في الرؤية وفي تقنياتها. فالانتساب إلى الرواد مهد له الابتعاد عن
الأحادية، والتزمت، والحفاظ على (ديمقراطية/ مرونة) متأصلة في كل جهد يتوخى ذروته:
الجمال. ولعل استذكار الأسماء ـ من
اليساريين إلى الواقعيين، ومن المحسوبين على اليمين إلى المعتدلين، ومن الوجوديين إلى
المتطرفين أو الراديكاليين ـ نجدهم قد
اشتركوا جميعا ً بإغناء تجاربهم بروافد معاصرة، متعددة، إلى جانب حفريات في
الثقافات القديمة ـ القومية والوطنية مع حرص صريح على بنائية النص ـ بمعالمه في
التجارب الفنية على صعيد الرواية، المسرح، النحت، الموسيقا، الرسم، إلى جانب
الحقول الأخرى كالطب، والقانون، والآثار، والدراسات الفكرية، والاجتماعية،
واللغوية.
من هذا المعطف، لم يخرج عدنان
المبارك حسب، بل راح يولي مفهوم النسج أهمية المغزل وهو يغزل معادلات النص الفني ـ
جماليا ً، من غير تفريط بالموقف الفلسفي/ الاجتماعي/ السياسي، لكن ليس على حساب
آلية تحديات الزمن، بجدلية الأشكال مع محركاتها، بل بالحفر في ملغزاتها.
فالإحساس الجمالي، بجذره الموغل
في أقدم التماثيل، والرسومات، والفخاريات، في الحضارات الأولى، شكل هاجس هذا
الجيل، مبدئيا ً في الأقل. فنرى أكثر
الأسماء ريادة عالجت أكثر من جنس، في تجاربها،
والأمثلة امتدت إلى الجيل التالي. فكان قحطان المدفعي معماريا ً وشاعرا ً ورساما ً
وباحثا ً وناقدا ً، وقحطان عوني رساما ً ومعماريا ً، ومظفر النواب رساما ً وشاعرا
ً،وجبرا إبراهيم جبرا ً قاصا ً ورساما ً ومترجما ً وروائيا ً وناقدا ً، جواد سليم
نحاتا ً ورساما ً ومولعا ً بالموسيقا، يوسف الصائغ كاتبا ً وتشكيليا ً وشاعرا ً
ومسرحيا ً، محمود صبري منظرا ً ورساما ً، جميل حمودي نحاتا ً وناقدا ً ورساما ً،
شاكر حسن آل سعيد كاتبا ً ورساما ً وصاحب رؤى، إبراهيم زاير صحفيا ً وشاعرا ً
ورساما ً، مؤيد الراوي كاتبا ً وشاعرا ً، فاضل العزاوي روائيا ً وشاعرا ً وصحفيا
ً، إلى جانب عدد من ابرز الأطباء وقد مارسوا الرسم مثل خالد القصاب، ونوري مصطفى
بهجت، وعلاء بشير.
عدنان المبارك، لم يغب عنه
مفهوم (الصوت) على صعيد الكلمة، كي تأتي الصورة، مكملة للمحركات بأشكالها المعلنة.
كان يتمتع بدوافع الهواية، وليس محترفا ً، على صعيد الرسم، إلا إنها هواية وجدت ـ في أوربا ً ـ دعوة للتخلي عن الدراسة في
معاهد الفنون، استثناء ً لمنح اللاشعور/ اللاوعي، آليات التحرر من العادات،
والقيود، والثوابت، وترك المخيال الكلي للكون ـ وللذات ـ ان يغادر مدافنه. إنها
دعوة راديكالية، ككل موجات التحرر، أسهمت بمنح الإبداع مغامرته، حتى لو لم تقدر
على مواكبة موروثات صناعة الفن. فالهواية تغدو برنامجا ً للخلاص الأعراف وأطرها
العتيقة، نحو اكتشاف المخفيات، في الذات، أو في فضاءات الكون.
[6] استذكار ـ وتراكمات
لا مناص من تذكر أو استحضار كل
صورة شخصية رسمت بمجموع دوافعها كي تغدو علامة. فإذا كانت كل علامة هي سلاسل من
تراكمات، انصهرت، عبرها، فان العلامة، في الحاضر ـ الآن أو قيد المشاهدة ـ غير
منفصلة عن صفتها في الشهادة. إنها ليست نزوة، أو رغبة، أو إيضاح، أو تعبير، أو
هوى، إلا بمهارة التشذيب لمنحها حضورها بصفتها: فنا ً.
فمنذ المومياءات، ورسومات القبور،
والمعابد، في الكثير من الحضارات القديمة، مرورا ً بالأقنعة، والتماثيل، والصور
الشخصية، وصولا ً إلى عصر (المرآة) و (المرايا)، ومنذ بورتريهات عصر النهضة، عند
روفائيل وتتيان ومايكل أنجلو ودافنشي، وعصر رامبرانت، وروبنس، وغويا، وفلاسكيز،
وليس انتهاء ً ببورتيهات فن كوخ، وجوجان، ورو، ونولده، ومونخ، وبيكاسو، وفرانز
بيكون ..الخ تكون الذات قد تمثلت مستوياتها المتعددة والمتنوعة في هيمنة الانشغال
بعالمها الخاص. فالعلامة اقترنت بالزمن، إنما، في الفن، أخذت الأسئلة مداها الأبعد.
فكتابة التاريخ غير منفصلة عن فلسفته، الأمر الذي منح الفلسفة قدرة نسج النسيج
وغزل الغزل، في محاولة لمنح (الحركة ذاتها) موقعها في تسلسلها، حتى عندما تتمثل
الاضطراب أو الارتدادات. فالبورتريهات رسمت كعرف يخص الفلسفة وهي تنتقل من التاريخ
إلى لغزه: سر الحضور، في مواجهة الضرورة، لكن بارتقاء الأخيرة نجو مجال يمنحها
درجات في التسامي، نحو (الرأس) ـ الذي هو الهرم ـ
بمعالجة ديالكتيكية تسمح للفن ان يقترن بما يقوم به المنقب، لكن ليس بحثا ً
عن اثر مخفي، بل عن اثر يُصنع من المخفيات علامة في الحضور ـ وهنا يتشكل الناقد في
رأس المصور، كي يكف عن المحاكاة، ولكن ليس بدونها، وهنا يأتي دور الناقد ـ الآخر ـ
في تتبع أقدم مفهوم للبناء ـ الاستحداث ـ والانتقال من البرية إلى التراكم، ومن
الرغبة إلى المعمار.
إننا إذا ً لسنا إزاء تأملات ذاتية للذات، ولا إزاء
تاريخ مرايا، ولا إزاء مهارات، بل ثمة معمار اجتمعت فيه الأصول: المعرفة. فالزمن
لم يعد متسلسلا ً، في الصورة، بل كامنا ً فيها، حد استحالة فصله أو عزلة عن بنية
العلامة، كوحدة قاومت فعل الزمن ـ في إعادتها إلى عناصرها البكر. انه ضرب من إرادة
تحول الإرادة إلى ما تمتلكه من الحضور ـ وهي شاخصة بما يهددها من عوامل التآكل. فما تبقى من الدمى، الوجوه والأقنعة
والمومياءات بما عليها من طلاء ومعالجات طبية وفنية، إشارة تحكي جانبا ً يبقى
يحافظ على لغز هذا الحضور، فعله ـ وما هو عليه ـ وما يمهد لصياغات تتطلب فتوحات لا
تتعثر عند أزمات عصر من العصور.
[7] أصول ـ شرق/ غرب.
ينحدر عدنان المبارك من أصول
شرقية، فقد ولد في مدينة البصرة، في العراق، وهي مدينة تطل على البحر، من ناحية،
وتحاصرها الصحراء من ناحية ثانية. على ان المدينة بهويتها المتنوعة، عبر القرون،
وجدت معادلها بخلق ثقافة قائمة على التعايش، وليس على الصدام. إنها مفتاح حضارات
تراكمت عبر الطوفانات، وأزمنتها، كي يأخذ الماء شفرته بفتح المخفيات، والمندثرات،
ويتحول إلى علامة معرفية، وجمالية معا ً. فلم
يروّض البحر طبائع الغرباء عليها، ومن أجناس مختلفة، آتية من البادية، غالبا ً،
وأحيانا من القارات النائية، بل منحهم دينامية الحفاظ على واقعية المدن غير
المنغلقة. ولكن اغتراب عدنان المبارك لم يتشكل بسبب تأملاته لواقع مدينته، أو
لبغداد التي سكنها فترة من الزمن، بل للإنسان
في عالمنا المعاصر، وفي أوربا بحداثتها، وتحولاتها، وألغازها.
فالصدمات تتوالى بمعناها الثقافي
عليه. فشغفه ان (يعرف) وان (يُدشن)، واختياره للأدب، واللغات، سمح له ان يعيد سؤال
أسلافه سكان سومر وأكد: ما الذي يستحق ان ينجز...؟ فكانت الكتابة أداته للحفر في المنجز
الفني، وهو يصطدم بأوربا وقد بلغت حداثتها
ذروتها، في ستينيات القرن الماضي، وبدأت موجات التمرد: كالثورة الطلابية في باريس،
والكفاح المسلح في أمريكا اللاتينية، والثورة الثقافية في الصين، صدمات فكر، تهدم
بلا رحمة، وتحدق في المجهول بعناد، لأنها
صدمات حرية، في الأخير. ففي بولونيا لم يواجه الإشكاليات التي عرفها وخبروها في
وطنه، بل غدت أكثر اتساعا ً، وتعقيدا ً، لتغذي لديه فكرة إعادة رؤية ماضيه، في
مدينته الأم ، البصرة ووادي الرافدين عامة ـ إزاء العالم بأسره. فمدينته ليس لديها
إلا ان تحافظ على احتضارها، وفي الوقت نفسه، ليس المستقبل (في أوربا) إلا نسقا ً
آخر للاحتضار، وليس للفردوس. ثمة جذور لـ: (كافكا) تمتد إلى إنسان السواحل: العفن،
ولكن الذي سينشغل بالتطهر.
فالمناهج، وفلسفاتها، ليست أدوات
تأمل، أو دهشة، أو معرفة حسب، بل أدوات عمل. فكانت بنيوية عدنان المبارك شبيهة ببنائية
أسلافه الذين وضعوا أسس الكتابة ـ المعرفة، بالمعمار إلى جانب بناء مخيال للدورات،
والعالم السفلي، ومصائر البشر، بعد محاورات لتفكيك الغاز الآلهة.
انه لم يعد خياليا ً، ولم يترك
الأسطورة تسكنه كثيرا ً، ولكنه سيحافظ على الديالكتيك الواقعي في مواجهة الاغتراب:
تأمل الزائل إزاء الذي لا يزول. ولم يكن
لديه غير (الوعي) الكامن في (المركز) ـ الوجه ـ للنظر إلى الخارج. انه ـ هنا ـ ليس
رساما ً، ولم ينظر للعالم كمجموعة من الصور، ولا أحداثا ً مسرحية، أو سينمائية، بل
علامات (معرفية/ ثقافية) منحت الرأس دوره في صياغة أداة التفكير، والتأمل. فالبورتريه
إذا ً ليس ما رآه في المرآة (الذاتية)، بل غدا هو ذاته مركز الجذب للعالم كأثر
تكوّمت داخله المشاهد، ليبلور، كرد فعل، مرآة تشظت، وتناثرت أجزاؤها، كي تغدو
علامة تمثلت فيها إشكاليات التصادم، لكن ليس بين الشرق ـ الغرب، وليس بين الأنا والآخر،
أو بين منفاه القديم والمنافي الجديدة، حسب، بل لنسج رقعة شبيهة بالأختام
السومرية/ الأكدية، في مجدها وفي موجهتها
لقدرتها بالغياب. فالمرآة ستؤدي دور
(البحر) أكثر مما تؤديه (الأرض)، لأن الأخيرة ستحافظ على العنف، فيما البحر ـ
كمدفن ـ سيعيد للحياة لغز تجددها بما للماء من أصول في ولادة الحياة ـ الإنسان.
هذا الشرق ـ الغرب، سيشكل تركيبة
الصورة الشخصية ـ بصفتها خلاصة واعية للتأمل الانطولوجي، للحفاظ على اللغز ذاته
للديمومة. فالبحر سيحافظ على توغله في الأشكال، وكأن غبار مدينته، والاغتراب في أوربا،
وعشوائيات عالمنا المعاصر، ما هي إلا بذور ستنمو ليس في الأرض (المكان) بل في
(الفكر) كأحد أنظمة البحر. فالصور الشخصية، بهذا المعنى، لا تحكي ـ كما في نصوصه
الكتابية ـ بل ستتحول إلى مثابات، علامات، إشارات، أجزاء، شظايا، إلا إنها ستحافظ
على أسرار الغمر القديم، والمتجدد، لأن الكون برمته لم يتخل عن لغز ديناميته:
الانبعاث ـ منذ الآلهة الأم ـ وصولا ً إلى مقاومة عوامل الاندثار، بموازاة
الدورات، والزمن.
[8] البورتريه ـ الحفاظ على الروح
جاء في المعتقد المصري القديم، ان
الحفاظ على الوجه يعني الحفاظ على الروح. لكن إذا استبعدنا الجانب الرمزي فان
التأويل المقبول بديمومة السلطة؛ سلطة (المركز)، يتمتع بالواقعية التي منحت الهرم
ـ المثلث ـ تراتبيتها. فالديمومة المتخيلة تفرض آلياتها بالحفاظ على الوجه: وجه
الراحل الذي ستعود له الحياة، كي لا تغتصب منه، وكي تواصل السلطة أبديتها. على ان التأويل
الذي منح القراءة المتجددة، بعد ثلاثة آلاف
سنة، يتجاوز تلك الدوافع، نحو إعادة صياغة السؤال: ما المعنى من الوجود ـ وجود
السلطة وقاعدتها ـ لعبتها بهذا الإحكام..؟
فهل ستبحث أرواح الراحلين عن
وجوههم، بعد القطيعة، ومن لا وجه له فان روحه ستبقى بلا مأوى ـ وغير مشخصة، وتائه
في الفضاءات ...؟
عدنان المبارك لا يهمل أي سؤال
تمت صياغته بالكلمات. فعمله ـ في اللغة ـ سمح له بمنح الصورة جانبها المخفي ـ
المحرك ـ وتشكلها مع الكلمات: الرموز، كي ينظر بموضوعية إلى الأشكال بوحدتها،
وبتفاصيلها أيضا ً.
فهو يصوّر ذاته داخليا ً، ليراها
متوازنة، وغير منفصلة. فهو يشخص في البورتريه ذاته: مكونات الوجه، ولا يتوقف عندها
كما هي عليه في الخارج حسب. بمعنى لا مسافة بينهما، بين الأجزاء ومحركاتها، ظاهرها
ولغزها النائي.
فهل الحلم مصدر الفكر، بمعنى:
هل الفعل المتخّيل له فعله المعرفي، بحسب باشلار، أم ان القطيعة مستحيلة بين
المرئيات ومخفياتها، عندما راح المبارك يتحرى عن ذاته، لا كي يكتشفها، أو يزيح
الغبار عنها، بل كي يعيد بناءها، وأحيانا ً ترميمها، كي يحدث التطابق بين
المتخيّل، والنص الفني...؟ ذلك لأن منهجه الديالكتيكي، التجريبي، لن يوهمنا
بالمواعظ أو بالوصايا. لأن فعل الرسم يغدو تحديا ً. وهذا هو الدرس الذي استمده من
تأملاته لمكونات الوجه: ليس كإعلان معاصر لموت الإنسان ـ بعد موت الفن وموت
الفلسفة ـ بل المغزى السيزيفي لإنسان يدرك استحالة الإمساك بهذا الذي بدا له يتمتع
بالثوابت، وبعلاماتها.
وهنا لا يمكن إغفال التجارب
السابقة، القديمة قدم الختم السومري الاكدي في حضارة وادي الرافدين، وصولا ً إلى
الإعلانات الضوئية. فعدنان المبارك يستبعد
الخوف مثلما يستبعد أقنعة الحرية وأوهامها. فهو ـ بالدرجة الأولى ـ يحاور الكائن
الذي سكنه، وليس الآخر الجحيم ـ بحسب سارتر، فلا جحيم ولا فردوس، بل ثمة لا مبالاة
جادة ـ كالتي سمحت لصموئيل لبيكت ان يكتب بانتظار لا احد (غودو) وهو مثال مستمد من
آليات أساطير البعث ـ لأن مغامرة الكاتب بالرسم، هي مغامرة المتصوف وقد ترك (الأزل)
و (الأبد) يلتقيان في بؤرة: الفناء. هذا المجال الدينامي لا يخفي مهمات التعبير،
عن حالات الترقب، التوجس، الأسى، القنوط، الاغتراب ..الخ، ليؤدي البصر، دور
(العين) التي ترى؛ عين الإله المصري القديم، ولكن بعين شهدت انهيارات كبرى تتبعها
عدنان المبارك، في منفاه الأول، وفي منافي أوربا أيضا ً. فالكاتب غير معني ان يكون
دليلا ً، مثل أعمى يقود أعمى داخل ظلمات بلا حافات، ولا هو مسؤول عن رصد حركة أو
عن وجود محصور بين عدمين، أو مجهولين، بل هو يعلن عن أخلاقيات كادت، هي الأخرى،
تلحق بالإنسان نفسه: موته، وتحولها إلى سلعة. فالدافع الأخلاقي لا يتمثل بالعودة إلى
لغز تكون بذرة الحياة، إن كانت (نفسا ً) من الآلهة، أو عفنا ً من سواحل
المستنقعات، لأن الوجه غدا شهادة على الحياة، وعلى العصر، شهادة لمليارات الوجوه
التي أكدت أهمية اللا متوقع، اللامعقول، المصادفات، كي تأخذ هذا الترتيب، للكائن،
وهو يعيد بناءه وسط حرية (القتل)، الشبيهة بحرية السوق، والفوضى العدمية، لمكاسب
لم تدم أكثر من زمن زوالها.
إنها حرية جمالية تأمل الكاتب/ الرسام،
حضورها ضمن الوجود ذاته الذي أسس المرآة، لكن المرآة التي لا تبث، أو تعكس، بل
التي تعمل عمل الجحيم: هل من مزيد...؟
فالوجه غدا علامة مواجهة بين
اللحظة ـ التي تجمدت فيها الأزمنة ـ إزاء اللازمن: هذا الانشغال بما بعد المعنى،
ولكن عبر البورتريه كجزء ليس فائضا ً، حتى لو تضمن خلوه من المنطق، وغدا عبثا ً.
فثمة تاريخ للفوضى، وهو تاريخ الاغتراب برمته، تاريخ اكتشاف الذات بصفتها وجدت
كباقي الموجودات، كالنبات أو العناصر، وتحولاتها، إلا إنها ذات تعرضت للانتهاك،
وللهتك، ضمن قوانين الديمومة؛ ديمومة: صوب، وامض..! لكن الوعي راح يصوّر تشكله
للحفر في لغز البذرة: دفنها ـ وبعثها، حيث عدنان المبارك، لا يطلب منا ان نراه،
كما تحولت ومضاته الداخلية إلى بورتريه فحسب، بل قراءة هذا كله كوجود ـ بنسبيته ـ
تضمن ديمومة لغزه.
[9] من البصر إلى: البصيرة
عند تأمل (البورتريه) بقراءة لا
تمنح التعبير مظاهر خادعة، أو هشة، فان شيئا ً ما سابق على (الصورة) يكمن فيها. وهنا
نواجه سؤال: لماذا كان الزمن مهما ً في التعبير، لكن ماذا عن: الزمن السابق..؟
بمعنى: ما قبل الزمن، الذي هو امتداد ـ خلاصة ـ وتحول. فالتعبير تزامنت فيه
وتداخلت، مثلما انصهرت، وتوارت، كي يؤدي التعبير دور العبور من ـ إلى، وإلا فان
المحاكاة تعوض، أو لا تدعنا نحفر في لغز: الوعي ـ وما يمثله كاستحداث لا تعبيري
كامن في التعبير، ولا يتوخى إلا مغادرته ـ كقوة باثة ـ لاستكمال التسلسل، وحلقاته.
البورتريه ـ هنا ـ هو الوعي وقد
تجمد، فهو كثافة قصوى؛ كثافة تتضمن الإنساني في قراءة اللا أنساني، مواجهة متواصلة
بين الصورة وخطر زوالها. فالكاتب/ الرسام، لا يعبر، ولا يعبّر، بل يسكن، إن لم اقل
يعيد بناء البناء. فالفراغ ـ المجهول ـ السابق على الوعي، يبقى يشتغل كالنسغ،
كالزمن، في الصورة، ينتقل من وجود سابق ـ باتجاه وجود غير قابل ان يغدو صورة ـ
مركزا ً. فالهرم ـ المثلث ـ السلطة تسرد، من غير كلمات، أقسى ما يمكن تلخيصه
بالغياب. لأن الرسام لا يمجد، ولكنه لا يستجدي، ولا يستغيث. فالتعبير لم يعد أسلوب
معالجة ولا مدرسة أو فلسفة، بل هو احد عناصر الرسم ـ وما بعده. ثمة ما هو ابعد من المحنة، وخارج نطاق معالجتها
أيضا ً. لأن الكاتب/ الرسام، الملغز بالماء، لا يتشبث بالرأس ـ رأسه ـ إلا كعلامة
حاول تشذيبها ودفعها كي تقول شيئا ً ما غير: الاستغاثة. ولأن ذهن الرسام مزدحم بالأبعاد
ـ من المتضادات المثنوية إلى الأبعاد الأخرى/ ومن الأساطير إلى ما بعد الحداثة/
ومن الأخيرة إلى العولمة/ ومن اللازمن إلى المجهول ..الخ ـ فان تأويلنا بالكلمات
قد يبدو حجابا ً، الأمر الذي يجعلني كأنني لم اقل شيئا ً، وأنا أردت ان أعيد قراءة
تاريخ (البورتريه) منذ صدمة نرسيس، مرورا ً بالهرم، وهشاشة الإنسان، وصولا ً إلى
عصر آخر أكثر استحالة على الفهم، ولكنه ليس مبتورا ً عن النشأة البكر: المجاميع،
وليس الأفراد، الكل وليس الأجزاء.
إنها مفارقة تكمن في وعي يصوّر
الوعي بصفته مواجهة بين الذات والنوع، بين الأنا والعناصر، بين الواحد واللا عدد، وبين الحاضر وما سيشكل غيابه. فالإشكاليات النفسية، الاجتماعية، الأخلاقية هي
جزء ـ وليس كلا ً ـ لهذه الأنا، في الدينامية. عدنان المبارك يلتقط ملامح هذا المحدود وقد اتسع كي يواجه
امتداده. وكأنه يوثق ـ يدوّن ـ الفجوة
ذاتها التي يقهرها الزمن، إن لم اقل ما هو كامن فيه، أي ما هو محرك للحركة، وموجه
لها، ليحافظ على نظرة لا ارتداد فيها، بل تبقى تتجه إلى الأمام. فليس ثمة عقدة
(تعبيرية) أو (أيديولوجية) أو حتى (إنسانية)، بل ثمة تكرار تتمثل فيه نزعته
الاستحداثية. فـ : لا جديد تحت الشمس، لسقراط، لا تجعل الجديد معادا ً، بل لابد من
قلبها. فكل تكرار ما هو إلا استحداث يتجاوز (البصر) نحو (البصيرة)، مثلما يتشكل
المرئي من مخفياته اللا مرئية. فهو انتقال
دائم لدحض التكرار عبر الصورة ذاتها بما يدعونا لإعادة قراءة ما لم تبح به، كقراءة
متجددة للأثر، وليس لعناصره التكوينية حسب. فالبورتريه، بصفته صورة تشخيصية ـ كما
تأمل رامبرانت ذاته أو جورج رو أو فان كوخ أو بيكاسو ـ تهشم سطح المرآة للامساك
بما لا وجود له ـ في هذا المدى أو الامتداد. واللا وجود ـ هنا ـ هو جزء من مكونات
الوعي ـ لذاته ـ عبر التكرار الذي يجدد فعالية الحضور؛ شهادة اثر صاغها مسمى امتد بصره من الوجه إلى
المجهول.