قراءة في نص تشكيلي
عدنان المبارك من
صمت التدوّين إلى دينامية الصورة
عادل
كامل
[1] إشارة
هل أنا إزاء قراءة نص تشكيلي،
أم قراءة صانعه، هل أنا بصدد استذكار ما غدا ماضيا ً، أم تتبع ما فيه من باثات، هل
أنا بصدد تأويل علامات، تراكمات، انصهرت، وانتظمت كي تسرد، تُوصل، أو تخفي، إلى الأبد،
استحالة ذات المحنة الكامنة في كل نص مركّب، مستحدث، ومشفّر، يغادر آليته
بالامتداد، أم أنا بصدد قراءة أداء لوظائف عمرها يرجع إلى زمن تكوّن بذرة الخلق،
أم أنا أتداول الحضور استنادا ً إلى ما هو قيد الغياب، وأخيرا ً، ما ـ هو ـ موقع
النص الفني الذي غادر الرسم، الملصق، التوليف، باستخداماتها نحو عصر يعيد أقدم
أسئلته: الموت الجمعي، والموت للجميع، والحياة لصانعي الرماد ـ الحضارة..؟ بمعنى
هل الذاتي، غدا معرى، والمستور فضيحة، وهل قصد عدنان المبارك، ببراءة، تدوّين لغز
(الآثام)، أم منحه جهده دوافع الاغتسال، كالذاهب إلى عرس، أو إلى معبد، أو كالذي
يقوم برحلة من الزمن إلى الصفر، أو العكس..؟
الإجابة التي ستتجمع عندها
تأويلاتي ـ كلماتي في الكتابة/ النص الآخر المستحدث ـ كامنة في أن: الوعي ما هو إلا
تاريخ سحيق رتبّت الحواس نظامه بالعلامات. فالخطاب ـ إذا ًـ إشكالية، وليس محض
تعبير، أو سلعة للتداول، بل سيتضمن ذات المبهمات النائية التي منحت أصابع أسلافنا
قدرات الحفر فوق الحجر، العظام، والجدران، بما يتجاوز عمل السحر، ليسكنه، وليكّون
ذائقة خاصة بدوافعها ـ المادية، والرمزية، والروحية ـ وهي الجمالية، إنما كأنها
تتحرر من المحدود نحو مصيره: المغادرة، بصفتها إقامة؛ حيث النهاية تمتلك لغز
تدشيناتها، كالبذرة حبلت بهذا الذي أنجبته، ولا نجده، إلا حاضرا ً حيث السابق عليه
يتحقق بالامتداد. انه ليس الوعي مقيدا ً بشروطه، واليات انعتاقه، حسب، بل لأن
الانعتاق ذاته يؤدي حضور المستور عبره، بما يميز الرهافة، ويضعها أعلى درجة في
الإدراك، والمعرفة ، في بناء الخطاب، بصفته تضمن لغز انبثاقه، وقدراته على
الاستئناف.
[2] المتلقي
قبل تبلور مفهوم موت (المؤلف) ـ
بل وقبل ان يتحدث هيغل عن موت الفن ـ بزمن طويل، زمن يرجعنا إلى: العدد. فالعالم
يتكون من عناصر؛ من ذرات، ومن جزيئات، ومن لا مرئيات أخيرا ً، وهو في تحولات ـ
دورات ـ محكمة، تعمل باليات بالغة الإتقان، والدقة، منها ما هو قابل للمعرفة، بحسب
أدوات البحث، ومنها ما هو قيد الاكتشاف. إلا ان هؤلاء الذين قسموا الزمن إلى
وحدات، ومنحوا الأسفار تاريخها المدوّن، كانوا وضعوا مسافة بين: السحر ـ العلم،
وبين: الوهم ـ الحقيقة، وبين: الظن ـ اليقين، بدءا ً بالفيزياء، مرورا ً بعلم
العرافة، وليس انتهاء ً بصهر المعادن، وتشفير النصوص كي لا تقارن بالكلام العام،
والشفوي، هؤلاء فرقوا بين ما هو مقنن وخاص
بالآلهة ـ السابقة على خلق الإنسان ـ وبين الإنسان نفسه، الحاصل على نسبة الثلث
منها، وهو ما وهبته كـ (نفس) ليأخذ الطين مداه لكائن تجاوز عصر : الذرات/ النبات/
الحيوان، نحو: الشغف بالمعرفة.
لقد قُتل المؤلف، ولم يمت،
والقضية برمتها رمزيا ً تفرق بين المسافة: في الأعلى ـ والأعلى منه ، إلى ما لا
نهاية، وبين الكائن المحكوم بالعناصر التي شكلت قيوده ـ وحركته، كي يولد من يفسد في
الأرض، بالضوضاء، وفيما بعد بسفك الدماء. انه المتلقي، الخليفة، ممثل الآلهة،
وظلها، أي، الفاصل بين اللازمن ـ والزمن.
فالمتلقي وحده، بحسب أدواته،
يدوّن ويمحو، يؤسس ويهدم، يحضر ويغيب، فهو يعمل بقانون البذرة، لا تجدد من غير دفن، وديموزي أقدم مثال شعبي له،
فالقانون هو (الشيء في ذاته)، نظام البنى والوحدات، والوليد ـ المحكوم بالإنبات ـ
هو: المتلقي. وليس مثال جلجامش إلا إشارة لفك العلاقة. فالخلود ليس ـ وهي حكمة
الملحمة من ناحية، وهي حكمة كاتبها من ناحية ثانية ـ إلا تتابع مواقف لترتب علاقة
(الفاني) بالذي لا يموت، بل بالسابق على الموت أصلا ً.
عدنان المبارك، لا يقتل المؤلف/
الفنان، عبر النص، بل يدفنه: يركبه، يعيد بناءه، يشفره، عبر استذكار علامات ـ إشارات،
رموز، كي يغدو النص الفني مرآة مزدوجة: تارة هي التي تحدق في الآخر، وتارة يحدق الآخر
فيها. فأين هو (الوجه) ..؟ انه حاصل عملية
التذوق ـ التفكيك ـ المعرفة. فالفن ـ على خلاف منطق أفلاطون ـ يمتلك قدرا ً كبيرا
ً من التجريب، وهو مسار معقد بين الحتميات/ الموجودات، وبين ما هو قيد التدشين.
فالفنان يدفن، يخفي، كي يسهم ـ
في عصر ازدهار جبروت الأنظمة الحديثة ـ ليمنح النص الفني الأسئلة ذاتها التي تتابع
عبر الإجابات، لكن كي تعيد سلاسل الصدمة ـ الدهشة. فالموت لا يصبح إلا ممرا ً،
مادام قد غدا علامة للحضور.
[3] الخامات والإنشاء
أكانت جدران المغارات، في
الأصل، حماية للجسد، أم انها كانت شبيهة بعظام الرأس (الجمجمة)، كلاهما يؤديان دور
الحماية..؟ أيا كان الاحتمال فان الرحم مهد لتكرارات لا تحصى سمحت باستحداث ـ
للمرة الأولى ـ مفهوم أو نسق: التوليد. فالأصابع التي رسمت فوق جدران الكهوف،
مهدت، للدماغ، ان يمنح اليد تخصصات غير تخصصها في الصيد ـ والقتل. فالمخالب شُذبت
كي تُهذب لتجري أقدم صيغة للحوار، وللنسق المجتمعي ـ بعد تكّون المجتمعات المصغرة؛
من الكهوف إلى مدن الحداثة الكبرى.
وعدنان المبارك، لم يهدم سطح
الجدران، بل وجد حياته مقيدة، أو محكومة، بنظام المدن الحديثة. فالجدران ليست
وهمية، بل هي: شاشات، صور، حدود، ومساحات لكنها تتمتع بتدفق، تتابع، تقاطع، وتداخل
لا يسمح للسكون إلا ان يتلاشى داخلها: يسكنها. لذا تراه جمع (15) شكلا ً هندسيا ً منتظما
ً، إشارة تتجاوز مفهوم التزامن، أي وقوع حدثين في زمن واحد، نحو: حشد من الأفكار،
الخواطر، والوقائع، عبرت عنها الأشكال بما يتجانس، يتلاءم، معها. فالتطابق لا
يتمثل بجدلية الصورة مع الفكرة، كمفهوم كلاسي، أو تقليدي جدلي، إلا عبر سلسلة من
المتغيرات/ الصدمات، أدت إلى بناء نص مركب، يكمل كل جزء الجزء الآخر، ويناقضه،
ليقربنا من ـ ويبعدنا ـ عن رسومات الماضي ـ: رسومات عصر الكهوف!
ولعل أداء الأصابع لم يختف حتى
لو كان العمل ذهنيا ً، ويجري داخل المنظومة الذهنية، فالأداة (الماوس) ضمن عمل
الليزر، لم تصبح منفصلة عن علاقة الدماغ بالحواس، ومنها، حاسة اللمس، بعد حاسة
البصر، وباقي الحواس، بالاستجابة وبرد الفعل، والتحكم بالنتائج. فالأصابع لم يتم
استبعادها، لا عمليا ً ولا رمزيا ً، وكأن عدنان المبارك يخبرنا بالعودة إلى الأصل:
الحيوان ـ الإنسان، لأن الإنشاء استند إلى السرد، لكن ليس على حساب عمل الجسد ـ
الأصابع، ولا على ما هو خاص بالذهن، ولغز اشتغالاته العنيدة عبر الديمومة، أو
إرادة الوجود.
لماذا بدا النص الفني شبيها ً
بالنصوص القديمة؛ نصوص الكهوف، وما بعدها، تجّذرا ًوتحويرا ً، قربا ً وابتعادا ً،
صلة وقطيعة ..؟ لا إجابة أدق من التراكم ـ التزامن المركب ـ الصهر، والتحول من
الكم إلى النوع ..الخ، لتقليص المسافة أو اختزالها، لردم التناقض، ولكن كي لا يفقد
مغزاه. فإذا كانت العشرة آلاف سنة قد تركت لنا تجارب مكدسة، في مساحة واحدة، تكّوم
بعضها فوق البعض الآخر ـ من الرسم باللون الواحد إلى تعددية الألوان ـ فوق الجدار،
لتحكي مرور الأجيال، والحوادث، والأزمنة، قبل عزل كل شكل أو كل صورة عن الأخرى،
لنجد انها في النهاية ـ بعد عشرة آلاف سنة ـ تحكي زمنها الفني، بدمج جهد استغرق
هذا الزمن، وتحولاته، كي يبلغ ـ في نصنا الفني المستحدث ـ دخول الحاسوب، وهو يؤدي
أوامر الدماغ/ الوعي. فهل التوليف محض
انشغال ذهن تصميمي لدحض مفهوم: الإعلان..، والعودة للعثور معادل بين (المعنى)
والصورة، أم غدا بحثا ً في تقنيات التعبير، ومنح الخامة (الليزر) ـ وليس أدوات
الرسم الأولى: الفحم، والخامات العضوية، والمعدنية ـ معادلها مع ما يدور في الرأس
ـ وما يحدث خارجه ..؟
إن إعادة قراءة جدار تراكمت
عليه أو فوقه رسومات عشرة آلاف سنة، هي من صنع (النوع) وليس من صنع (الفرد)؛ أي
ثمة وعيا ً جمعيا ً قنن دور الذات في إطار تقاليد الرسم ـ والفن التشكيلي عامة.
لأن الحداثة البدائية كانت ثمرة آليات مستحدثة دخلت فيها عناصر: النار وكيمياء الألوان
وتقنيات حرفية التخطيط والتلوين، ومن ثم التعبير ..الخ، كي يتوازن عمل (الأنا) مع
التراكم الزمني، ويدخل في إنشاء النص الفني الجديد: فثمة ما لا يحصى من الأزمنة،
والخبر، والمخفيات، اجتمعت ـ ركبت/ تداخلت، في العملية الإنشائية، أو البنائية.
فالعلاقة إذا ً تدحض ـ وتؤكد،
سياقا ً يمنح التطور مغزاه في الارتداد إلى الأصول، وفي الخروج عليها ـ وعنها: معه
وضده معا ً، مادام النص الفني يواجه المتلقي بحشد يكاد يدحض أي قرار أخير لأي معنى
من المعاني، عدا ديناميته، كي نستعيد قراءة مستحدثة لتراكمات أزمنة في نص قديم ـ
جديد.
قد يشرد الذهن ـ للمقارنة ـ
بالعثور على علاقة مع الملصق الحديث: السياسي او التجاري او الفني، وهي علاقة لم
تظهر في الرسم العراقي بجلاء كما ظهرت ابان عقد الستينيات من القرن العشرين، بظهور
خبرات تدربت ودرست تقنيات الحاسوب في الفن. على ان عدنان المبارك ـ بمحو اثر عمل
الأصابع والخامات ـ يحرر نصه الفني من مفهوم الرسم التقليدي، كي يغدو ذهنيا ً، مع
تقنيات الليزر، يمنح المتلقي الإيحاء
بالعودة إلى أزمنة أقدم للحفاظ على
العناصر والمعالجات المتوارثة. فهو لا يخاتل، بل يمسك بالمعنى في امتداده، من غير
وضع خاتمة له. فهو لم يكرس نصه الفني ليؤدي دور (الدعاية) أو ضدها، بل اختار
المستطيل، شكلا ً للعمل، ولم يختر الدائرة، أو المثلث، وهذه قضية أخرى تمهد إلى تأويل
يستبعد المصادفة في اختيار الأشكال.
وبمعنى ما فان الملصق ـ بتعددية أغراضه
ـ كتأثيرات الرسم، سمحت له ان لا يعمل ضد الرسم، بل اختار أشكاله، للحفاظ على
مراقبة سلاسل من الوقائع، والمشاهد تواجه المتلقي، وقد اختزلت ـ بتجريد او تشذيب
مناسب ـ في مشهد مركب، وهو ذاته الدال على استحالة تحديد معنى ما من المعاني، لكن
هذا لصالح الكثافة، وليس لصالح الصفر.
لقد قرأ، وشاهد، وترجم عدنان
المبارك عشرات الكتب الخاصة بالحداثة. فهو ـ هنا ـ يذهب ابعد من الحرفة. ولعل
الموجة التي نادت بتحرير الرسام من الرسم، وتحرير الشاعر من الشعر، والكاتب من
الكتابة، أي ان يصبح كل إنسان رساما ً، مثلما بإمكان أي مواطن ان يمتلك خبرات
أسلافه، بل ويتجاوزها، بحسب إشارة لتروتسكي، فانه يكون قد حرر نفسه من الحرفة،
وقيودها، كي يمتلك بدائيتها المستحدثة. بمعنى: تقمص ما دفن في (الدماغ) من أزمنة،
وتحديات، ومشفرات، تركها تأخذ موقعها في الإرسال. فالخبرة ليست (قبلية) إلا لأنها
كامنة، ماديا ً، وقد وجدت تحررها بمعالجات لم تتأطر بشروطها المتزمتة، أو غير
القابلة للتطور، والنمو.
فالنص ليس إعلانا ً، إلا بصفته
يمتلك تقنيات الملصق الحديث، ولكنه، في الوقت نفسه، استبعد مجاله التخصصي. فهو
تجنب مفهوم موت الفن، بتحوله إلى سلعة، ليمارس الدور ذاته الأرواح التي صاغت
خطابها فوق جدران المغارات. سحر معزز بالتجريب، وخيال استند إلى الواقعية
(البراغماتية)، فهو ليس عملا ً فنتازيا ً، راديكاليا ً، دادائيا ً، استفزازيا ً
للذائقة ـ أو للبصر، أو للتقاليد عامة، ولكنه، عمليا ً، كمثل الذي يتكلم بأكثر من
لغة، وبأكثر من دافع، ولأكثر من لوعة ..الخ، كي يقربنا من المعنى، وليس كي يكتفي
بالعمل ـ من اجل العمل. فمع ان ما سعى إليه (مالاراميه) ـ وتيار الفن من اجل الفن
في فرنسا، وجهود الانكليز الجماليين في هذا المجال ـ قصدت الحفاظ على الدلالات
الخالصة للفن، وعدم خلطها بمفاهيم التعبير، وسيادة اضطرابات (الأنا)، وكل ما هو مضاد للأعراف (النقية/ الخالصة)، فان
مفهوم (الفن للفن) ليس زائفا ً، إلا عندما يتم عزله عن مجتمعه الكلي، أي عن
الإشكاليات ـ وليس المشكلات ـ التي عالجتها أقدم النصوص ـ الشبيهة بالفن وصولا ً إلى
الفن وما بعده ـ حيث استفاد، واستثمر، وتغذى، عدنان المبارك بمعالجتها تلقائيا ً،
متحررا ً من القيود، إنما بمهارة ليست فطرية.
إذا ً، الخامة المستحدثة تبقى
ذات صلة بالعناصر ذاتها، لكنها بدل ان تمتلك كثافة، وخواص، الخامات القديمة،
امتلكت آليات عمل الليزر، واليات عمل الكومبيوتر، من ناحية، وبمهارات السيطرة على
الأشكال، والتحكم بها، والحفاظ على المعالجات الكلاسية (الأسس) التقليدية،
المدرسية، والمجربة، من ناحية ثانية.
لذا فان ثمة انتقالة من الرسم الشائع إلى الرسم بالحاسوب (الفوتو شوب)،
وبالعكس، صاغ معادلا ً يسمح للمتلقي بالعثور على استثمار وحدات بالغة القدم، تقع
في المدافن، وفي الطبقات الغائرة من الدماغ، في صناعة حداثة النص الفني، كحاضر غدا
ماضيا ً، وكمستقبل قيد الدخول في ماضيه، لكن الإشكالية تحافظ على توترها، إزاء
عالم مازالت ثمة جمرات مخبأة تجرجرنا بالنظام ذاته الذي أنتج بذور الخلق الأولى،
ومنحها شروط تحديها للاندثار.
[4] السرد: دينامية الصفر
الصورة تحكي المعنى، أم
المعاني استحالت إلى صور، حضور الأشكال يعلن عن محركاتها، أم الأخيرة تنبثق عبر
الأشكال، البصر ينقلنا إلى الوعي، أم الوعي لديه ما يريد ان يخبرنا به، هل
المخفيات وجدت علانيتها، أم هي في الطريق إلى الغياب ..؟
فإذا كان احد المتصوفة يرى ان مصيره لا مقدمات له ولا
نهاية، لأنه ـ هو والمصير ـ امتداد، وليس حلقة، أو حال. فهو يقول " انتم
أوقاتكم مقطوعة. ووقتي ليس له طرفان" فان الفاصل بين (الوعي) و (العمل) أفضى
إلى تعددية المشاهد. والمثنوية قديمة قدم زمن مراقبة المتضادات: الموت ـ الولادة/
الليل ـ النهار/ النائي ـ القريب/ الغياب ـ الحضور...الخ، فلقد جمّع عدنان المبارك
15 جزءا ً ليتسنى للمتلقي القراءة. فالنص الفني لم
يتوخ عزل الحدود، ولا اعتقد انه سعى إلى دمجها. فحرية المتلقي تعلن عما دار ـ في
الماضي وقد استيقظ ـ كي نستنتج، وكي
نستنبط، وكي نذهب ابعد من مهمات البحث، بالحدس، إلى قراءة تتنوع بتنوع درجات
المتلقي لها. فالأخير هو المعادل للفاعل ـ الغائب ـ فهو يعيد الحفر، بأي شكل من أشكال
العلاقة مع النص الفني، ولكنها ليست حرية بلا ضوابط، لأنها ـ آنذاك ـ تفقد معنى ان
تكون لها وظيفة، إذا ً فثمة مسار (دائري) يتكامل بالتتابع، والتناظر، والتوازن،
والتناقض، والاختلاف، ولا يغدو شكلا ً (مستطيلا ً) أو (مثلثا ً) إلا ضمن أكثر الأشكال
تكاملا ً: الدائرة. ومع ان الفنان اختار
(المستطيل)، إلا ان شرعية هدمه تبقى تأذن بالدخول في مكوناته. فإذا كان الشكل اقرب إلى خارطة بيت،
فان غرفه وحدها ستعلن عن محتوياتها، وما يدور في كل غرفة، ولكن ليس للهدم، بل
للإقامة ـ البناء.
والمتلقي غير المطلع على نسق
المقامات، وما تضمنته من شروحات بالصور، وصور لا يمكن عزلها عن المراد أو القصد،
سيتذكر الليالي. ففي ألف ليلة وليلة، تأخذ الدائرة ـ كمدينة بغداد ـ مفهومها
الهندسي، بما تتضمنه من وحدات يكمل ـ ويدحض ـ بعضها البعض الآخر.
فهل ثمة قصد مخبأ أراد الفنان
تدوّينه: ان الدائرة ليست الا وهما ً، وان ما من تقدم يذكر، للمعنى، قد تجاوز
مقولة سقراط: لا جديد تحت الشمس، في الوقت الذي تكاد الأصوات تأتينا عبر الموجات
اللونية، وأطولها المختلفة، ليؤدي (النص) الفني دور الوسيط من: القاص ـ إلى المتلقي، وفي ذات الوقت، من المتلقي إلى
القاص، كي يأخذ المستطيل، وهو شكل قبر، مقطعا ً سرديا ً، شبيها ً بفلم سينمائي يتم
عرضه، بحسب رغبة المتلقي، كي يختار لحظة القراءة، والانتقال، والتوقف...؟
فإذا كان عبد الكريم ألجيلي قد
قال: " أنا الولد الذي أبوه ابنه" و " اجتمعت بالأمهات اللاتي ولدتني" و " أنا الفرع الذي أنتج أصله والسهم الذي
قوسه نصله " ..الخ، بما لا يتجاوز ما ورد في الليالي؛ من سوريالية، ولا
معقول، ودادائية، وفنتازيا، تضمنت التلصيق، والعزل، والمفارقة، فان نص عدنان
المبارك له جذوره الأقدم: التراكم.
التراكم في النص الواحد ـ من قصة الخلق إلى سفينة نوح ـ وما تراكم في رأس
المؤلف: موسيقا اجتمعت فيها الأصوات بدرجات من الصفر ـ غير القابل للسمع ـ إلى
الصفر ـ بعد ذلك، ولكن بالأصوات التي استطاعت حاسة السمع التقاطها.
فالنص الفني وثيقة لم تنتجها
البرية، ولا من إنتاج العصور الزراعية، بل شديدة الصلة بما يحدث في المدن
المعاصرة، وإعادة قراءة كل جزء، بحسب حرية المتلقي، تسمح للتأويل ان يتسع بما
تراكم في النص. فإذا كان كل جزء يمتلك قصده، فان مجموع الأجزاء، في الشكل
(المستطيل) لا يتوقف عند (الصورة)، بل تغدو اللغة بعدا ً للبنائية ـ والهدم. فإذا
كانت النصوص الكبرى، أو الأكثر تداولا ً، وشهرة، من المقامات إلى الليالي، ومن كتب
السحر والشعوذة إلى الطب والفلك، ومن كتب الجنس المفضوح إلى سير الملوك وأشهر
البغايا والقوادات والغلمان والقتلة ..الخ، لا تتوقف عند عصرها، وحكمتها بذاتها،
بل بما سبقها، وما سيلحق بها، وباليات من الصعب استخلاص معناها، فان (النص) الفني
الجديد ـ المستحدث، هو الآخر، يدمج الخطاب اللغوي، الشفوي و الكتابي، بالرموز
والعلامات والأشكال الحرة، لأن الوعي ليس هو ان : "تعي بأنك تعي" حسب،
كما تساءل عثمان المفتي كاتب كتاب [عالم َ الغيب والشهادة]، بل يأخذ الامتداد قوته
بإرادة ما تتنوع بحسب المنهج كي تقهر الصفر ـ العلامة التي كلما ارتوت قالت هل من
مزيد ـ وكأنها جهنم، كتعريف، تدحض كل امتلاء. وقهر الصفر ليس فعلا ً عذريا ً، عفويا
ً، أو اختيارا ً، من غير محرك ما يقوده، في الفكر (المثالي/ وهو غير معزول عن علله
المادية ـ التاريخية) إلى نقيضه، حيث تبلغ الدرجة إلى: ما فوق الإدراك.
فثمة السرد؛ الكلام الذي يواجه:
البصر، والسمع، والذائقة، والجسد برمته، وهو الذي
يواجه الوعي بعلاماته ـ مفرداته ـ بما عرفه، خبرته، وعاشه، واكتوى الكاتب
بتحولاته، ومتغيراته، وكأنه يعيد كتابة ألف ليلة وليلة، أو مقامات الواسطي، وأي
كتاب مصوّر عما كان يجري في بغداد أو أصفهان أو دمشق أو الأستانة أو القاهرة، قبل
ان تتجمع ـ وتتكون ـ أدق التفاصيل في صمت المخطوطات، وفي سكون الكتابة.
فالانشغال السردي لا يستعين
بالصور، بل يسكنها، ومثلما لا سكون ـ قط ـ في الكون، أو مساحة شاغرة، بحسب
اينشتاين، فان عدنان المبارك، يبقى يذكرنا بفلاسفة بابل ـ بأصولهم السومرية ـ وقد
استحال إلى شقاء، بجوار نقيضه، بعدالة أبدا ً لم تجد خاتمة لها.
فالدورات ـ في الفكر السومري
وفي الفلسفة الهندية، وفي الكثير من المعتقدات ـ غير معزولة عن إشارات علماء
الفيزياء المعاصرين: الطاقة بعودتها إلى كتلة، والكتلة بتحولها إلى طاقة، كدورات
لا نهائية ليس ثمة شكل لها، حتى لو كان البيضوي، أو المثلث، أو اللا شكل، قد وجد
من يراه اقرب إلى الرصد.
ألا يبدو القاص ـ الروائي، اقرب إلى
عدد من مفكري عصرنا، يؤدي الفن دور المشتغل بنشدان التوازن بين الجور والعدل، من
غير الانحياز إلى فن، أو عزلة، أو التخصص بما هو خالص. وهو أيضا ً استذكار للكتاب
العرب، قبل ابن خلدون، وبعد ابن رشد، والجاحظ، وعلي الوردي، وطه حسين، ومدني
صالح..الخ، حيث الإنسان يحافظ على (أنا) كونية، جاعلا ً من مدفنه بابا ً للمرور،
وليس للحجز.
من ثم ألا يبدو الجدار
المستطيل، النص الفني، في العام 2013، في عالم بلغت الديمقراطية فيه ذروة
احتضارها، بجعل السلام وحده وهما ًـ سرابا ً، لا غير، شبيها ً بالجدار ذاته الذي
تراكمت فوقه لوعات كائنات كانت وجدت الفن عونا ً لها بصياغة علامات الاستغاثة،
تارة، وعلامات الصمت، وهو يحبل بضحاياه، تارة أخرى.
[5]المستطيل: سلطة الشكل أم دحضه
ظهر العدد مع التراكم، كوظيفة،
وعلى نحو شبيه بتضافر (تزامن) سلاسل من الأسباب التي حتمت علاقة النهايات
بمقدماتها. فلم يتم اختراعه إلا كعلامة بين العلامات. فالتجريد ذروة تشذيبات صاغت آليات
المنهج العلمي للحساب. فالواحد ليس رمزا ً ـ أو متعاليا ً ـ إلا لأنه أساس العملية
البنائية. وغير مفيد كثيرا ً الإحالة إلى
ما قبل العدد، بالرغم من هدم الذرة، وتفكيكها، وإدراك أنها مكونة، في الأخير، من
لا مرئيات ( لا مرئيات بسبب عجز أدواتنا في البحث، وبعجز آخر يذهب بعيدا ً عن
العلم). فالعدد هو رمز مستمد من المشخصات، الموجودات، وفي مقدمتها: الجسد، مع ما
ينتجه، عبر معادلات منتظمة بين المقدمات والنتائج.
فلم يختر عدنان المبارك (المثلث)
أو (الدائرة) أو أي شكل غير منتظم، أو مختلف، إلا ليقربنا من لا وعيه، كرهافة،
ومهارات متنوعة، ليقودنا إلى وعيه، كقصد، وأحاسيس ذات صلة بالنفس.
لم يختر (المثلث) الذي سنجده
يتكرر في أجزاء نصه الفني، مستقلا ً، أو متجاورا ً، أو محورا ً، أو مموها ً ..الخ،
إلا للاعتراف بأقدم ـ واحدث ـ سلطة: الهرم.
فآليات عمل اللاوعي أدت إلى عمل
الوعي بظهور المثلث بصفته علامة للنظام التراتبي: الهرم، من الرأس إلى القاعدة.
ولا يمكن بالطبع استبعاد الدائرة
ـ المربع، والشكل الخماسي، السداسي، السباعي، الثماني، كمقدمات سابقة للمثلث، في
الحضارات القديمة، كالعبيد، وسامراء، حيث كل شكل هو مقاربة للغاية ذاتها ـ قبل
تحديد (المقدس) بتعاليه، وعمله المركزي كمثال في" الزقورة، الهرم = المعبد/
السلطة.
فالسلطة، لا مناص، مسؤولة عن
إشكالية استحالة العثور على تطبيقات للعدالة، لأنها غير ثابتة، في الأصل، وتعمل
بصفتها مقيدة بعواملها، ولم يكن لحرية (الإرادة) إلا الضوء المستحدث في العثور على
إجابات. لأن (الخلود) أو (الذي لا يزول) أو (الفردوس)، كلها تصوّرات لعالم لا وجود
له إلا عبر المخيال ـ والمحتمل. ليس لانه قائم في الاستحالة، فحسب، بل لأن المتغير
لا يمتلك أية وسيلة للاقتراب من الثابت، خاصة ان الأخير، سابق على أدوات البحث،
ومنها العدد ـ واللغة.
فلماذا اختار الفنان (المستطيل)
ولم يختر (المثلث) والكاتب ـ في منجزه القصصي والروائي والنقدي ـ مولع بموضوعات
العدالة ، الاغتراب، والموت..؟ هل لأن النظام الهرمي بلغ ذروته، أم لأنه مازال
يتشبث بالقانون الذي مهد لوجوده..؟ معا ً،
كانت سلطة (المركز/ الرأس) الجامعة للقوة والمكر او الحيلة وللتراكم،
وحدها سمحت بفرض تاريخها ـ وفنونها
المتنوعة.
انه تأويل دفعه لاختيار النظام
غير الهرمي، كي يقربنا من العالم الزاخر بصراع لا نهائي من الإرادات، سمحت لعالمه
الداخلي ان يتأسس على الأشكال، ومنها استحالة استبعاد (المثلث) في كل جزء من أجزاء
(المستطيل). فالسلطة قائمة في (الرأس ـ رأس الرمح، السهم، السكين، الإبرة، وفوهة
أي سلاح آخر) وهي التي تتحكم بالحركة في تصادماتها؛ سكونها وعنفها، قسوتها
وديمومتها بالامتداد، فالمثلث لم يأخذ الشكل (المثالي) بالرغم من ان وجوده تتحكم
به القوانين ذاتها التي صاغت مقدماته: الصياد ـ الطرائد، وقبل ذلك: الأقوى فالأقل
قوة نحو الأكثر ضعفا ً، وبعد ذلك: الراعي ـ القطيع. ذلك لأن بزوغ إرادات لا تحصى تنتج مصائرها،
دخلت في صراع غايته ـ مرة بعد أخرى ـ العثور على تطبيقات للعدالة، لم تسمح للمركز
(المثلث) إلا ان يتلقى الضربات، مما لم يعد للشكل إلا ان يتناثر في الأجزاء،
للعثور على بدائل أنتجتها الرهافة بمنح الأمل شيئا ً ما غير الوهم، وغير القناع،
وغير الايدولوجيا، مع ان خلاصات لا تحصى للحكمة لم تجد في (الحياة) أكثر من وسط
وجيز وخاطف بين مجهولين. هل ثمة (ديمقراطية) ما شغلت وعي الكاتب/ المفكر، اختار
لها المستطيل مساحة تؤكد ان عالمنا قرية تجمعت فيها روافدها، وان مصيرا ً ما، غاية
ما، عبر الصيرورة، لها وحدها سلطتها في إعادة بناء الحضارة ..؟
سنرى هذا أصلا ً في وجود النصوص
السابقة على الفن، وفي النصوص الشبيهة بالفن، وفي الفن، وفي النصوص التي حملت دوافع ما بعد الفن، كخطاب مهذب عمل على هدم
سلطات (المركز)، إن كان بفرض سيادته على الجهات الأربع، أو متمثلا ً بالهرم:
الملك/ الفرعون/ المستبد/ الرأسمالي/ الملياردير ..الخ، ليس على نحو مباشر إلا
بحدود مقاومة الجور، والتوزيع غير العادل للظلم. وهو الذي منح عدنان المبارك ـ عبر
تأويلي ـ هموم الباحث عن الحقيقة في أكثر مناطقها التباسا ً: التصادم. فالمستطيل
غدا ممثلا ً ـ كاحتواء وفرض هيمنة ـ على رمزية دلالات المثلث ـ أو الدائرة، أو
المربع، فهو الشكل المباشر لعصر يقترب من انهيار أي تراكم لا لرأس المال، أو
للقوة، أو للخطاب المعرفي/ الإعلامي، حسب، بل للجسد البشري، وهو يواجه مظاهر ضعف المناعة، يمكن رصدها بأرقام ضحاياها
بوجود مليار كائن يعيش كالبهائم أو اقل، وبمليارات أخرى تعيش عند حافات الانهيار
الإنساني، فضلا ً عن المجازر التي سمحت بحروب فاقت ما يحدث في البحار وفي الغابات
من معارك إبادة، ومحو. حيث الفن ـ كما في أزمنة سابقة ـ فضّاح للمخفيات، بالوقوف
مع المركز، أو بالعمل على تفكيكه، وهو أداة تسهم بوضع معايير للحكم.
ومع ان النزعة الجمالية التي ـ
تتوازن فيها الحدود أو القوى ـ غير محتكرة لفئة او خاصة بكائن عن آخر، إلا أنها
تبقى شديدة الصلة بالرهافة ـ والحساسيات ـ لدى هؤلاء الذين يشكل الجمال ـ في الفن
ـ تدريبا ً يبلغ حد الوله في معالجة ما هو فاسد، ضار، وعدواني، إلا ان استخدام
الفن، لا يأتي بديلا ً لأي استخدام آخر يعزز سلطة (المركز) حسب، بل العمل على
هدمها. ومع ان الفن لا يزدهر، في الغالب، إلا بشروط الوفرة، والأمن، والفراغ،
والمحفزات، إلا ان توقا ً ما شبيهة برصد اضطرابات تحدث في المجرات والكواكب،
يسمح بتتبع ما هو خارج نطاق أدوات الإدراك
ـ والمعرفة، حتى لو كانت بالفن، بصفته يمتلك الحدوس والتجريب في تجاوز الإعياء، أو
القنوط، أو الخمول، أو حتى بإغراءات المجد.
فالفنان ـ الكاتب عدنان المبارك
يتجاوز هواية إشباع نزعته الجمالية نحو بناء منظومة من العلامات تحكي كل ما يحدث
في رواية أبطالها يمتلكون (عيون) ـ كالتي نراها متناثرة في بعض الأجزاء ـ تبحث عن
هذا الذي يبقى بمثابة النائي، الغائب، واللا مرئي، ولكن الذي يمنح الأمل قدرته على
تجاوز الإعياء، والأسى، والأحزان.
[6] المستطيل ـ السلطة ابعد من العلامة
المستطيل له سيادة رمزية بعيدا
ً عن هيمنة المثلث ـ الدائرة، المربع، فهو ـ: شاخص، شاهد، ملصق، اثر، ومجموعة
علامات، ولكنه هذا كله ليس على نحو استعادي، وكأننا نتحدث عن الماضي، بل عن:
القادم ـ وضمنا ً عن مصائر تتشبث بمنح السببية عملها الرمزي في هذا المسار؛ أي ان
الانشغال (الذهني) لدي ّ الرسام ـ هنا ـ هو الذي يؤكد تمسكه بتخطي عشوائيات عصره
نحو نظام ـ هو ذاته كانت بذور الخلق قد شفرّت به ـ ولكنه اظهر تحديا ً لوظيفة الفن
من ناحية، وللنزعة الجمالية ـ جزءا ً من مكونات الخطاب ـ بصفتها عادلة، وليسا
تطبيقات للحتميات، وللثوابت، من ناحية ثانية.
فالاختزال، حد التجريد، ووفرة
العلامات، والشعارات، والإشارات، والمرموزات، والحفاظ على ديالكتيك الذاكرة بعمل
المخيال، والمستحدثات ..الخ، تصوّر (حضارة) بلغت ذروتها. ربما أرى هناك من يعترض
ويتحدث ـ كما فعلت أريس مردوخ نقدا ً للنزعة الأيديولوجية لدى سارتر ـ باختيار المعنى وليس بالحديث عن الفن، ولكن هل
ثمة فن من غير مستقبل ..؟ إن انهماك عدنان المبارك حد الوله في الكتابة، وهنا في
حقل التشكيل، منح (المرح) النيتشوي،، ذات الدوافع التي صاغت منهج فرويد بالحديث عن
المخبآت، المخفيات، واللاشعور، ببناء نص يقود إلى أكثر الأزمنة قسوة، والى أحدثها
دحضا ً للجمال ـ والمُثل. فهو لا يلعب للتسلية، او يلعب من اجل اللعب، أو
للمراوغة، أو يعمل على دفن الأشكال، أو تزويرها. انه يعيد صياغتها، كممر ماثل شبيه
بالوسط لا تتوارى الأزمات فيه أو تستبعد، بل تستحدث، بما تمتلكه من تعديلات
للتعبير، نحو حوار الأفكار. فالواقع
المعاصر ـ ككل واقع ـ لمحة في الدرب، المسار، وليس استثناء ً. والاستحداث، عمليا
ً، ليس هو التأمل، بل القراءة وهي تعلن عن صخبها: طيور، عيون، رؤوس، وأشكال مختلفة
تصوّر دويا ً منحها حريتها في التصادم، والتجاور، في الاتساع وفي التجّمع، مثل
سجادة شرقية أعاد نسجها ولكن كي لا تداس، بل لتماثل لغز العصيان الأول: النار ـ
الوحل (إبليس/ آدم). فالمستطيل لا يبدو
مساحة للتراتيل، والمقامات، والقص حسب، وإنما أيضا ً هيمن النسج كرابط للتوحد ـ
والتجمع. فالمشهد الكلي ـ للتأويل ـ ينحاز بالفن نحو عالم الصدمات وهي تحكي طرفا ً
لا مرئيا ً لسلسلة من الصراعات، الاشتباكات، والمتناقضات. فالنار ـ وهي كمية الضوء وكل ما هو مشع/ باث ـ
لا تنحني إلى الأسفل، للأرض، أو لعناصرها، ومنها الإنسان. ولعل لا شعور عدنان
المبارك منحه نزعة الفضح، كحد بينهما، من غير إشارة لهذا العصيان، على انه سيبقى
محركا ً له، كصراع بين الظلمات والأنوار. فهو يذهب ابعد من حدود المثنوية، نحو
أبعاد لا تكتفي بالسرد، واختزاله، بمنح لا وعيه توقا ً سمح لعمله الفني ان يكون
(مرحا ً) أو شفافا ً. إن المتلقي وحده سيكون قد ابتعد من اجل قراءة تساعده في ترتيب العلامات، وما تريد إيصاله،
وما هو بحكم الاستحالة، في الإفصاح عن المعنى.
وهنا تحديدا ً تأخذ (المفارقة)
مداها بين عمل الفنان الشرقي في نسج (نصه) أو (مخطوطته) أو (كتابه) أو (بساطه)،
وبين ما هو غربي، عملي، تجريبي. وهي مفارقة ايكولوجية ومعرفية ارتقت نحو المجال
الذهني، وتمت معالجتها كمساحة للاشتباك، والاختلاف.
إن سلطة (المستطيل) سمحت
للتراكم بدورة تمتد، ولا تنغلق أو تلتقي، كما في الدائرة، أو تنتهي بمركز، رأس،
كما في المثلث. فالنظام الحر ـ المقيد بالتوق أو الانعتاق ـ لا علاقة له
بالعشوائية، إن كانت هدامة، أو ذات مصير مجهول، بل منحت التوازن تجاور متضاداته
لتتجمع في البناء (العمودي)، مما سمح لبصره ان يغادر أساطير الخلق، وتشكلها الدفين
في لا وعيه، نحو صيرورة تؤدي ما هو ابعد من قيود عمل الهندسات الجينية، مشفراتها،
والياتها المحكمة، بالنظر إلى الأعلى ـ أو إلى الأمام، لتحدث صدمة الدهشة، صدمة
الجمالي، أثرها مع المتلقي، وهو يذهب ابعد من الحدث ـ أو ماضيه ـ وتحديدا ً لأن
مسارات الضوء، رمزيا ً، وتاريخيا ً/ ماديا ً، تنشغل باستحداث عالم سيشكل اللاوعي
احد منحنياته، كي لا يصبح الفن شيئا ً من الأشياء، أو سلعة، أو قناعا ً.
[7] الضوء ـ لغز الوهم وقد استحال أملا ً
ليس لدي ّ أدوات أقيس بها ـ في
هذا النص الجمالي ـ مساحة كل لون، بقياس الموجات اللونية، للتوقف عند (المعنى) غير
السردي ـ بل وغير الجمالي ـ وإنما هذا الذي تتوازن فيه كمية الألوان، أو إشعاعاتها
نحو الخارج، وكأشكال جاذبة أيضا ً، وكأنني الفت النظر إلى أي مشهد يرصد السماء،
لنظام مجراتها ونجومها وكواكبها. فثمة درجات (قيم/تونات) لونية للأزرق تستطيع
الأجهزة ان تميزها عن درجات اللون الأحمر؛ فالأولى تبتعد، بمعنى تختفي، والأخرى،
تقترب، بمعنى: تزداد توهجا ً، مبنية أو مشيّدة بحكم القوانين المتجانسة مع
اشتغالات (الدماغ) في الاستقبال. فإذا كان
رولان بارت تحدث عن موت المؤلف ـ الفنان ـ فانه لا شعوريا ً ـ وضمن حدود الوعي،
منح المتلقي الدور الذي كاد يغيب. وهو المنطق الأقدم لتأويل أسطورة ديموزي: تُدفن
البذرة كي تنبثق. فديموزي لم يقتل إلا كي يدحض الموت. ويخيّل إلي ّ ان استخدام الألوان ـ منذ ثلاثين ألف سنة ـ كان إشارة ليس
لاكتشاف النظام خارج قدرات البصر، بل لتخصص حاسة البصر في العبور من اللون الواحد،
نحو الألوان، بمعالجة قائمة على توازن ما
تبثه وما تجذبه الأجسام (الأشكال) في النصوص التشكيلية؟ ففي الأساس تطلب المعنى ـ السحري القديم ـ
الاستجابة لاستحداث مهارات بصرية تتوازن مع الخطاب الذي هو قيد التشكل ـ التكوّن.
عدنان المبارك، بانتمائه إلى
حقبة الرواد، في الثقافة العراقية، تمتع بحرية سمحت له ان يأخذ موقعه في الانعتاق.
فإذا كانت ثيمات (الحداثة) لها جغرافيتها المستقلة عن شاب عراقي ولد في مرحلة تأسيس قيم الفن(الحديث)، فانه لم يقيد لا وعيه
في بناء خطابه البصري. ولدي ّ أمثلة عديدة مستمدة من هذا التوازن اللوني لدى: فائق
حسن، محمود صبري، جواد سليم، ألدروبي، رسول علوان، بهيجة الحكيم، محمد علي شاكر،
علي النجار...الخ، وهي فاتحة معالجات غير واعية (مقصودة) كي تأخذ الرهافة دورها في
ما يخص المعنى، أو الذي يخاطب المتلقي.
أنا لم أتعلم هذه الفرضية إلا
من والدي ـ وثمة إشارة أخرى تعلمتها من باحث آخر لا أتذكر اسمه ـ حيث كان يقول لي
ان الرسم ما هو إلا قدرة الرسام على منح التوازن بين القيم الضوئية، وكأنها تذكرني
الآن بالمعادل الموضوعي لدى اليوت، بدل السماح للفوضى أو لطغيان التعبير على
المهام البنائية. فعندما كنت استهلك كميات اكبر من الألوان الزرقاء والخضراء
والرمادية ..الخ، كان يحثني على وضع درجات لونية مغايرة لها، كي تماثل حقيقتها في
الطبيعة. وبعد أكثر من نصف قرن على هذه الإشارة
الثمينة، أجد ان مفهوم التوازن ينحاز إلى الأشكال وهي تقترب من المشاهد، وليس
العكس. فالتحكم بالألوان ينحاز إلى الألوان وهي تبث موجاتها اللونية نحونا،
مستحدثة استجابة مع لا وعي عمل حاسة البصر في كل ما هو: منبثق. وقد لا يكون
للرمزية ـ وهي تمنح المتلقي مكانتها بين ما يحدث خارج الدماغ، وما يسعى الدماغ إليه
تحديدا ً ـ لأنها المعادل الموضوعي بين (الأنا)
وما ينجزه كجزء من الخطاب المجتمعي ـ مع الآخرين، وكجزء خاص باليات العملية
الفنية.
وليس لأننا لا نرى شيئا ًعند
سيادة عائلة لونية ما فحسب، وإنما لأن التعبير ـ في سيادة عائلة لونية وهي الزرقاء
وما جاورها ـ لن يسمح بديمومة ما هو ابعد منه، الأمر الذي سمح للدوافع ان تأخذ
ترتيبها في التوازن، وليس في سيادة لون على حساب آخر، أي: سيادة أيديولوجية حتى لو
كانت مستقبلية.
واقصد تحديدا ً ان الكاتب عدنان
المبارك لم يهمل ـ في اختياره 15 جزءا ًـ وكل جزء له تكامله الذاتي ـ هذا التوازن، بتحرير لاوعيه في منح الألوان
اتجاها (نحونا) إزاء ما هو اخذ بالابتعاد ـ الغياب. فاللون الداكن، في أعلى النص
الفني ـ غدا مركزا ً، كأنه ـ رمزيا ً ـ ما يشبه عمل الثقب الأسود: لا يسمح إلا
بمحو أي إرسال معاكس، فزمنه ينسحب نحوه حتى ينفصل عن زمن المتلقي، إنما ـ هنا ـ
يحدث التوازن بين عمل الطبيعة ـ وعمل الوعي، لتأخذ الألوان الباثة، أي الأجسام وهي
تقترب، تأثيرها في حمل (المعنى) تارة، أو كي تبلغ حد التجريد، وهو يستبعد السرد،
والعاطفة، والزمن، تارة ثانية.
وبفحص اشتغالات (المؤلف/ الرسام)
المكتظة، والمتنوعة بالأشكال، العلامات، الإشارات، الرموز، الأقرب إلى التوليف/
التجميع، فان منحى الاختزال، سيفسر نزعته بما يمتلكه (الوعي) ـ كالذي حصل لدى
ديموزي وهو يؤكد حقيقة ان الوعي الأسطوري يتم استحداثه باليات البذرة التي إن لم
تدفن، لن تُورق، وهي ذاتها قريبة من عمل عدنان المبارك بالانحياز إلى الإرسال نحو
(الأمام) وهو مجموع أطوال الألوان المشعة ـ إزاء الألوان التي لها قوة الغائب،
بحتمية منطق الانتظار. ففي النص الجمالي، ثمة ما يشبه استذكار الطفولة، ومباهجها،
مرورا ً بالأدوار الزمنية للشخصية، وصولا ً إلى ما يبقى مأوى للحكمة وهي تقاوم
وهنها، أو القبول بزمن مضاد، أو بلا تتابع، وحركة.
وعلي ّ لفت النظر ـ هنا ـ إلى
ناقد لم اعد أتذكر اسمه ـ درس مجموعات فنية صينية، بدراسة مساحاتها، وفضاءها، استنادا
ً إلى وعي الرسامين وصلتهم بالمياه الجوفية، داخل الأرض، واثر ذلك في الجسور
بينهما. فانا أدين بهذه المعلومة في لفت النظر إلى ان الأستاذ عدنان المبارك ـ
الروائي والقاص والمترجم والناقد الجمالي ـ لم تغب عنه مكوناته العميقة: مياه وادي
الرافدين التي كونت البحر في المدينة التي ولد فيها، البصرة، ثغر العراق، ولم يغب
عنه ان العراق هو بلد الشمس. فهو وريث عائلة لونية تعيد إحياء أساطير ديموزي، لكن
ليس للبكاء على ذكراه، أو عند مدافنه ـ وهي أصبحت علامة لوطن مكث أسير الانجذاب
إلى الظلمات ـ بل لمنح (التحديث) حداثة تتمثل فيها قدرتها على التجدد.
وقد لا نرى صدى ما لأثر شحة
(المياه) أو انحسارها في وادي الرافدين، بل، ربما بما سيعانيه العراق من الجفاف،
والتصّحر، والرجوع إلى المياه الجوفية ـ والأمطار، إلا ان الثروات الأعظم مازالت تأتينا
من الشمس. وقد لا يكون عدنان المبارك قد صدم بالأثر (الايكولوجي) لمسارات (الماء)
ـ منذ خراب سد مأرب وتحول الرسالة من اليمن إلى مكة ـ مباشرة، إلا ان لاوعيه الأبعد، وهو لا يختلف
عامة عن لغز تكّون الإنسان من الماء، والوحل، في أساطير الخلق، حيث اشتغل بمنطق
التجريب، بعد تشبثه بقناعة ان الإنسان لم يخلق إلا ليصنع تاريخه، وليس محوه.
مرة أخرى لم اعزل ـ الإيحاء أو
التأويل ـ أو افصله عن أصوله التكوينية، كما يتم دراسة البنية وكأنها تمتلك
قانونها ـ نظامها، بمعزل عن سياقها في أي تكوين تتجمع فيه البنى ـ وتتجمع فيه
العلامات، فالألوان ليس مصدرها الشمس بمعزل عن تمتع (الدماغ) باليات عمل يتحكم
الوعي فيها بمنح (الحداثة) سياقها للديمومة، وليس للحقب، لأن الأعمى مهما حاول ان
يكون قدوة، فإنما هو قدوة حقا ً ولكن للظلمات، لأن الولع بـ ( الحداثة) لدى الشاب عدنان المبارك، أوعزت له بالبحث عن
منفى سيتكّون فيه، وليس عن وطن يمحوه، ويعاقبه، فالحداثة تغدو منهجا ً وليس معتقدا
ً، وهو الذي سمح لرهافته ان يمنحها نصا ً للبهجة، منفتحا ً، بآليات تجعل الضوء
شرطا ً لوجود الذرة، مثلما هو جزء من قانونها: الغياب ـ الحضور. فالمعرفة في الأصل كونها لغز الإنارة ـ من
الضوء إلى النار، إلى قانون آخر تنعدم العتمة فيه بانعدام السكون ـ وهو ـ بالمنهج
هذا ـ يمنح المتصوف ذروة الوجد، الفناء، كمعادل إزاء الظلم البشري، وهو معادل آخر
تمتع به عدنان المبارك كشرقي سكن أوربا، أي لم يصدم بالأنظمة القائمة على العمل ـ
التجريب، وهيمنة المشروعات الاقتصادية: الإنتاج، التداول، الاستهلاك، الزوال، كي
يحل معضلة ديكارت بين الميكانيك والحرية، عبر تمتعه برؤية لم تنغلق عند قرار أخير،
فالضوء ـ بمعنى المعرفة ـ منح الفن ذات الرسالة التي حققها رسام الكهوف بمعرفة
فطرية سابقة على الوعي والكتابة، وقد صاغ الكاتب الرسام منها ذات المشروع الريادي
ـ في خمسينيات القرن الماضي ـ وقد بات اليوم محض ذكرى، أو أثرا ً، كحصيلة حكمة
تمتع بها عدنان المبارك كي يدعها تثمر امتدادا ً لرؤية حرص ان يكون الضوء احد
مفاتيحها، وليس قفا ً لها.