السبت، 7 سبتمبر 2013

قراءة في نص تشكيلي-عدنان المبارك من صمت التدوّين إلى دينامية الصورة-عادل كامل


قراءة في نص تشكيلي
عدنان المبارك من صمت التدوّين إلى دينامية الصورة


عادل كامل

[1] إشارة
    هل أنا إزاء قراءة نص تشكيلي، أم قراءة صانعه، هل أنا بصدد استذكار ما غدا ماضيا ً، أم تتبع ما فيه من باثات، هل أنا بصدد تأويل علامات، تراكمات، انصهرت، وانتظمت كي تسرد، تُوصل، أو تخفي، إلى الأبد، استحالة ذات المحنة الكامنة في كل نص مركّب، مستحدث، ومشفّر، يغادر آليته بالامتداد، أم أنا بصدد قراءة أداء لوظائف عمرها يرجع إلى زمن تكوّن بذرة الخلق، أم أنا أتداول الحضور استنادا ً إلى ما هو قيد الغياب، وأخيرا ً، ما ـ هو ـ موقع النص الفني الذي غادر الرسم، الملصق، التوليف، باستخداماتها نحو عصر يعيد أقدم أسئلته: الموت الجمعي، والموت للجميع، والحياة لصانعي الرماد ـ الحضارة..؟ بمعنى هل الذاتي، غدا معرى، والمستور فضيحة، وهل قصد عدنان المبارك، ببراءة، تدوّين لغز (الآثام)، أم منحه جهده دوافع الاغتسال، كالذاهب إلى عرس، أو إلى معبد، أو كالذي يقوم برحلة من الزمن إلى الصفر، أو العكس..؟
   الإجابة التي ستتجمع عندها تأويلاتي ـ كلماتي في الكتابة/ النص الآخر المستحدث ـ كامنة في أن: الوعي ما هو إلا تاريخ سحيق رتبّت الحواس نظامه بالعلامات. فالخطاب ـ إذا ًـ إشكالية، وليس محض تعبير، أو سلعة للتداول، بل سيتضمن ذات المبهمات النائية التي منحت أصابع أسلافنا قدرات الحفر فوق الحجر، العظام، والجدران، بما يتجاوز عمل السحر، ليسكنه، وليكّون ذائقة خاصة بدوافعها ـ المادية، والرمزية، والروحية ـ وهي الجمالية، إنما كأنها تتحرر من المحدود نحو مصيره: المغادرة، بصفتها إقامة؛ حيث النهاية تمتلك لغز تدشيناتها، كالبذرة حبلت بهذا الذي أنجبته، ولا نجده، إلا حاضرا ً حيث السابق عليه يتحقق بالامتداد. انه ليس الوعي مقيدا ً بشروطه، واليات انعتاقه، حسب، بل لأن الانعتاق ذاته يؤدي حضور المستور عبره، بما يميز الرهافة، ويضعها أعلى درجة في الإدراك، والمعرفة ، في بناء الخطاب، بصفته تضمن لغز انبثاقه، وقدراته على الاستئناف.
[2] المتلقي
   قبل تبلور مفهوم موت (المؤلف) ـ بل وقبل ان يتحدث هيغل عن موت الفن ـ بزمن طويل، زمن يرجعنا إلى: العدد. فالعالم يتكون من عناصر؛ من ذرات، ومن جزيئات، ومن لا مرئيات أخيرا ً، وهو في تحولات ـ دورات ـ محكمة، تعمل باليات بالغة الإتقان، والدقة، منها ما هو قابل للمعرفة، بحسب أدوات البحث، ومنها ما هو قيد الاكتشاف. إلا ان هؤلاء الذين قسموا الزمن إلى وحدات، ومنحوا الأسفار تاريخها المدوّن، كانوا وضعوا مسافة بين: السحر ـ العلم، وبين: الوهم ـ الحقيقة، وبين: الظن ـ اليقين، بدءا ً بالفيزياء، مرورا ً بعلم العرافة، وليس انتهاء ً بصهر المعادن، وتشفير النصوص كي لا تقارن بالكلام العام، والشفوي، هؤلاء فرقوا بين ما هو  مقنن وخاص بالآلهة ـ السابقة على خلق الإنسان ـ وبين الإنسان نفسه، الحاصل على نسبة الثلث منها، وهو ما وهبته كـ (نفس) ليأخذ الطين مداه لكائن تجاوز عصر : الذرات/ النبات/ الحيوان، نحو: الشغف بالمعرفة.
    لقد قُتل المؤلف، ولم يمت، والقضية برمتها رمزيا ً تفرق بين المسافة: في الأعلى ـ والأعلى منه ، إلى ما لا نهاية، وبين الكائن المحكوم بالعناصر التي شكلت قيوده ـ وحركته، كي يولد من يفسد في الأرض، بالضوضاء، وفيما بعد بسفك الدماء. انه المتلقي، الخليفة، ممثل الآلهة، وظلها، أي، الفاصل بين اللازمن ـ والزمن.
     فالمتلقي وحده، بحسب أدواته، يدوّن ويمحو، يؤسس ويهدم، يحضر ويغيب، فهو يعمل بقانون البذرة، لا تجدد   من غير دفن، وديموزي أقدم مثال شعبي له، فالقانون هو (الشيء في ذاته)، نظام البنى والوحدات، والوليد ـ المحكوم بالإنبات ـ هو: المتلقي. وليس مثال جلجامش إلا إشارة لفك العلاقة. فالخلود ليس ـ وهي حكمة الملحمة من ناحية، وهي حكمة كاتبها من ناحية ثانية ـ إلا تتابع مواقف لترتب علاقة (الفاني) بالذي لا يموت، بل بالسابق على الموت أصلا ً.
   عدنان المبارك، لا يقتل المؤلف/ الفنان، عبر النص، بل يدفنه: يركبه، يعيد بناءه، يشفره، عبر استذكار علامات ـ إشارات، رموز، كي يغدو النص الفني مرآة مزدوجة: تارة هي التي تحدق في الآخر، وتارة يحدق الآخر فيها. فأين هو (الوجه) ..؟  انه حاصل عملية التذوق ـ التفكيك ـ المعرفة. فالفن ـ على خلاف منطق أفلاطون ـ يمتلك قدرا ً كبيرا ً من التجريب، وهو مسار معقد بين الحتميات/ الموجودات، وبين ما هو قيد التدشين.
   فالفنان يدفن، يخفي، كي يسهم ـ في عصر ازدهار جبروت الأنظمة الحديثة ـ ليمنح النص الفني الأسئلة ذاتها التي تتابع عبر الإجابات، لكن كي تعيد سلاسل الصدمة ـ الدهشة. فالموت لا يصبح إلا ممرا ً، مادام قد غدا علامة للحضور.
[3] الخامات والإنشاء

    أكانت جدران المغارات، في الأصل، حماية للجسد، أم انها كانت شبيهة بعظام الرأس (الجمجمة)، كلاهما يؤديان دور الحماية..؟ أيا كان الاحتمال فان الرحم مهد لتكرارات لا تحصى سمحت باستحداث ـ للمرة الأولى ـ مفهوم أو نسق: التوليد. فالأصابع التي رسمت فوق جدران الكهوف، مهدت، للدماغ، ان يمنح اليد تخصصات غير تخصصها في الصيد ـ والقتل. فالمخالب شُذبت كي تُهذب لتجري أقدم صيغة للحوار، وللنسق المجتمعي ـ بعد تكّون المجتمعات المصغرة؛ من الكهوف إلى مدن الحداثة الكبرى.
    وعدنان المبارك، لم يهدم سطح الجدران، بل وجد حياته مقيدة، أو محكومة، بنظام المدن الحديثة. فالجدران ليست وهمية، بل هي: شاشات، صور، حدود، ومساحات لكنها تتمتع بتدفق، تتابع، تقاطع، وتداخل لا يسمح للسكون إلا ان يتلاشى داخلها: يسكنها. لذا تراه جمع (15) شكلا ً هندسيا ً منتظما ً، إشارة تتجاوز مفهوم التزامن، أي وقوع حدثين في زمن واحد، نحو: حشد من الأفكار، الخواطر، والوقائع، عبرت عنها الأشكال بما يتجانس، يتلاءم، معها. فالتطابق لا يتمثل بجدلية الصورة مع الفكرة، كمفهوم كلاسي، أو تقليدي جدلي، إلا عبر سلسلة من المتغيرات/ الصدمات، أدت إلى بناء نص مركب، يكمل كل جزء الجزء الآخر، ويناقضه، ليقربنا من ـ ويبعدنا ـ عن رسومات الماضي ـ: رسومات عصر الكهوف!
   ولعل أداء الأصابع لم يختف حتى لو كان العمل ذهنيا ً، ويجري داخل المنظومة الذهنية، فالأداة (الماوس) ضمن عمل الليزر، لم تصبح منفصلة عن علاقة الدماغ بالحواس، ومنها، حاسة اللمس، بعد حاسة البصر، وباقي الحواس، بالاستجابة وبرد الفعل، والتحكم بالنتائج. فالأصابع لم يتم استبعادها، لا عمليا ً ولا رمزيا ً، وكأن عدنان المبارك يخبرنا بالعودة إلى الأصل: الحيوان ـ الإنسان، لأن الإنشاء استند إلى السرد، لكن ليس على حساب عمل الجسد ـ الأصابع، ولا على ما هو خاص بالذهن، ولغز اشتغالاته العنيدة عبر الديمومة، أو إرادة الوجود.
   لماذا بدا النص الفني شبيها ً بالنصوص القديمة؛ نصوص الكهوف، وما بعدها، تجّذرا ًوتحويرا ً، قربا ً وابتعادا ً، صلة وقطيعة ..؟ لا إجابة أدق من التراكم ـ التزامن المركب ـ الصهر، والتحول من الكم إلى النوع ..الخ، لتقليص المسافة أو اختزالها، لردم التناقض، ولكن كي لا يفقد مغزاه. فإذا كانت العشرة آلاف سنة قد تركت لنا تجارب مكدسة، في مساحة واحدة، تكّوم بعضها فوق البعض الآخر ـ من الرسم باللون الواحد إلى تعددية الألوان ـ فوق الجدار، لتحكي مرور الأجيال، والحوادث، والأزمنة، قبل عزل كل شكل أو كل صورة عن الأخرى، لنجد انها في النهاية ـ بعد عشرة آلاف سنة ـ تحكي زمنها الفني، بدمج جهد استغرق هذا الزمن، وتحولاته، كي يبلغ ـ في نصنا الفني المستحدث ـ دخول الحاسوب، وهو يؤدي أوامر الدماغ/ الوعي.  فهل التوليف محض انشغال ذهن تصميمي لدحض مفهوم: الإعلان..، والعودة للعثور معادل بين (المعنى) والصورة، أم غدا بحثا ً في تقنيات التعبير، ومنح الخامة (الليزر) ـ وليس أدوات الرسم الأولى: الفحم، والخامات العضوية، والمعدنية ـ معادلها مع ما يدور في الرأس ـ وما يحدث خارجه ..؟
     إن إعادة قراءة جدار تراكمت عليه أو فوقه رسومات عشرة آلاف سنة، هي من صنع (النوع) وليس من صنع (الفرد)؛ أي ثمة وعيا ً جمعيا ً قنن دور الذات في إطار تقاليد الرسم ـ والفن التشكيلي عامة. لأن الحداثة البدائية كانت ثمرة آليات مستحدثة دخلت فيها عناصر: النار وكيمياء الألوان وتقنيات حرفية التخطيط والتلوين، ومن ثم التعبير ..الخ، كي يتوازن عمل (الأنا) مع التراكم الزمني، ويدخل في إنشاء النص الفني الجديد: فثمة ما لا يحصى من الأزمنة، والخبر، والمخفيات، اجتمعت ـ ركبت/ تداخلت، في العملية الإنشائية، أو البنائية.
    فالعلاقة إذا ً تدحض ـ وتؤكد، سياقا ً يمنح التطور مغزاه في الارتداد إلى الأصول، وفي الخروج عليها ـ وعنها: معه وضده معا ً، مادام النص الفني يواجه المتلقي بحشد يكاد يدحض أي قرار أخير لأي معنى من المعاني، عدا ديناميته، كي نستعيد قراءة مستحدثة لتراكمات أزمنة في نص قديم ـ جديد.
   قد يشرد الذهن ـ للمقارنة ـ بالعثور على علاقة مع الملصق الحديث: السياسي او التجاري او الفني، وهي علاقة لم تظهر في الرسم العراقي بجلاء كما ظهرت ابان عقد الستينيات من القرن العشرين، بظهور خبرات تدربت ودرست تقنيات الحاسوب في الفن. على ان عدنان المبارك ـ بمحو اثر عمل الأصابع والخامات ـ يحرر نصه الفني من مفهوم الرسم التقليدي، كي يغدو ذهنيا ً، مع تقنيات الليزر، يمنح المتلقي  الإيحاء بالعودة  إلى أزمنة أقدم للحفاظ على العناصر والمعالجات المتوارثة. فهو لا يخاتل، بل يمسك بالمعنى في امتداده، من غير وضع خاتمة له. فهو لم يكرس نصه الفني ليؤدي دور (الدعاية) أو ضدها، بل اختار المستطيل، شكلا ً للعمل، ولم يختر الدائرة، أو المثلث، وهذه قضية أخرى تمهد إلى تأويل يستبعد المصادفة في اختيار الأشكال.
   وبمعنى ما فان الملصق ـ بتعددية أغراضه ـ كتأثيرات الرسم، سمحت له ان لا يعمل ضد الرسم، بل اختار أشكاله، للحفاظ على مراقبة سلاسل من الوقائع، والمشاهد تواجه المتلقي، وقد اختزلت ـ بتجريد او تشذيب مناسب ـ في مشهد مركب، وهو ذاته الدال على استحالة تحديد معنى ما من المعاني، لكن هذا لصالح الكثافة، وليس لصالح الصفر.
   لقد قرأ، وشاهد، وترجم عدنان المبارك عشرات الكتب الخاصة بالحداثة. فهو ـ هنا ـ يذهب ابعد من الحرفة. ولعل الموجة التي نادت بتحرير الرسام من الرسم، وتحرير الشاعر من الشعر، والكاتب من الكتابة، أي ان يصبح كل إنسان رساما ً، مثلما بإمكان أي مواطن ان يمتلك خبرات أسلافه، بل ويتجاوزها، بحسب إشارة لتروتسكي، فانه يكون قد حرر نفسه من الحرفة، وقيودها، كي يمتلك بدائيتها المستحدثة. بمعنى: تقمص ما دفن في (الدماغ) من أزمنة، وتحديات، ومشفرات، تركها تأخذ موقعها في الإرسال. فالخبرة ليست (قبلية) إلا لأنها كامنة، ماديا ً، وقد وجدت تحررها بمعالجات لم تتأطر بشروطها المتزمتة، أو غير القابلة للتطور، والنمو.
   فالنص ليس إعلانا ً، إلا بصفته يمتلك تقنيات الملصق الحديث، ولكنه، في الوقت نفسه، استبعد مجاله التخصصي. فهو تجنب مفهوم موت الفن، بتحوله إلى سلعة، ليمارس الدور ذاته الأرواح التي صاغت خطابها فوق جدران المغارات. سحر معزز بالتجريب، وخيال استند إلى الواقعية (البراغماتية)، فهو ليس عملا ً فنتازيا ً، راديكاليا ً، دادائيا ً، استفزازيا ً للذائقة ـ أو للبصر، أو للتقاليد عامة، ولكنه، عمليا ً، كمثل الذي يتكلم بأكثر من لغة، وبأكثر من دافع، ولأكثر من لوعة ..الخ، كي يقربنا من المعنى، وليس كي يكتفي بالعمل ـ من اجل العمل. فمع ان ما سعى إليه (مالاراميه) ـ وتيار الفن من اجل الفن في فرنسا، وجهود الانكليز الجماليين في هذا المجال ـ قصدت الحفاظ على الدلالات الخالصة للفن، وعدم خلطها بمفاهيم التعبير، وسيادة اضطرابات (الأنا)،  وكل ما هو مضاد للأعراف (النقية/ الخالصة)، فان مفهوم (الفن للفن) ليس زائفا ً، إلا عندما يتم عزله عن مجتمعه الكلي، أي عن الإشكاليات ـ وليس المشكلات ـ التي عالجتها أقدم النصوص ـ الشبيهة بالفن وصولا ً إلى الفن وما بعده ـ حيث استفاد، واستثمر، وتغذى، عدنان المبارك بمعالجتها تلقائيا ً، متحررا ً من القيود، إنما بمهارة ليست فطرية.
     إذا ً، الخامة المستحدثة تبقى ذات صلة بالعناصر ذاتها، لكنها بدل ان تمتلك كثافة، وخواص، الخامات القديمة، امتلكت آليات عمل الليزر، واليات عمل الكومبيوتر، من ناحية، وبمهارات السيطرة على الأشكال، والتحكم بها، والحفاظ على المعالجات الكلاسية (الأسس) التقليدية، المدرسية، والمجربة، من ناحية ثانية.     لذا فان ثمة انتقالة من الرسم الشائع إلى الرسم بالحاسوب (الفوتو شوب)، وبالعكس، صاغ معادلا ً يسمح للمتلقي بالعثور على استثمار وحدات بالغة القدم، تقع في المدافن، وفي الطبقات الغائرة من الدماغ، في صناعة حداثة النص الفني، كحاضر غدا ماضيا ً، وكمستقبل قيد الدخول في ماضيه، لكن الإشكالية تحافظ على توترها، إزاء عالم مازالت ثمة جمرات مخبأة تجرجرنا بالنظام ذاته الذي أنتج بذور الخلق الأولى، ومنحها شروط تحديها للاندثار.
[4] السرد: دينامية الصفر
     الصورة تحكي المعنى، أم المعاني استحالت إلى صور، حضور الأشكال يعلن عن محركاتها، أم الأخيرة تنبثق عبر الأشكال، البصر ينقلنا إلى الوعي، أم الوعي لديه ما يريد ان يخبرنا به، هل المخفيات وجدت علانيتها، أم هي في الطريق إلى الغياب ..؟
    فإذا كان  احد المتصوفة يرى ان مصيره لا مقدمات له ولا نهاية، لأنه ـ هو والمصير ـ امتداد، وليس حلقة، أو حال. فهو يقول " انتم أوقاتكم مقطوعة. ووقتي ليس له طرفان" فان الفاصل بين (الوعي) و (العمل) أفضى إلى تعددية المشاهد. والمثنوية قديمة قدم زمن مراقبة المتضادات: الموت ـ الولادة/ الليل ـ النهار/ النائي ـ القريب/ الغياب ـ الحضور...الخ، فلقد جمّع عدنان المبارك 15  جزءا ً ليتسنى للمتلقي القراءة. فالنص الفني لم يتوخ عزل الحدود، ولا اعتقد انه سعى إلى دمجها. فحرية المتلقي تعلن عما دار ـ في الماضي وقد استيقظ  ـ كي نستنتج، وكي نستنبط، وكي نذهب ابعد من مهمات البحث، بالحدس، إلى قراءة تتنوع بتنوع درجات المتلقي لها. فالأخير هو المعادل للفاعل ـ الغائب ـ فهو يعيد الحفر، بأي شكل من أشكال العلاقة مع النص الفني، ولكنها ليست حرية بلا ضوابط، لأنها ـ آنذاك ـ تفقد معنى ان تكون لها وظيفة، إذا ً فثمة مسار (دائري) يتكامل بالتتابع، والتناظر، والتوازن، والتناقض، والاختلاف، ولا يغدو شكلا ً (مستطيلا ً) أو (مثلثا ً) إلا ضمن أكثر الأشكال تكاملا ً: الدائرة.  ومع ان الفنان اختار (المستطيل)، إلا ان شرعية هدمه تبقى تأذن بالدخول في  مكوناته. فإذا كان الشكل اقرب إلى خارطة بيت، فان غرفه وحدها ستعلن عن محتوياتها، وما يدور في كل غرفة، ولكن ليس للهدم، بل للإقامة ـ البناء.
   والمتلقي غير المطلع على نسق المقامات، وما تضمنته من شروحات بالصور، وصور لا يمكن عزلها عن المراد أو القصد، سيتذكر الليالي. ففي ألف ليلة وليلة، تأخذ الدائرة ـ كمدينة بغداد ـ مفهومها الهندسي، بما تتضمنه من وحدات يكمل ـ ويدحض ـ بعضها البعض الآخر.
   فهل ثمة قصد مخبأ أراد الفنان تدوّينه: ان الدائرة ليست الا وهما ً، وان ما من تقدم يذكر، للمعنى، قد تجاوز مقولة سقراط: لا جديد تحت الشمس، في الوقت الذي تكاد الأصوات تأتينا عبر الموجات اللونية، وأطولها المختلفة، ليؤدي (النص) الفني دور الوسيط من: القاص  ـ إلى المتلقي، وفي ذات الوقت، من المتلقي إلى القاص، كي يأخذ المستطيل، وهو شكل قبر، مقطعا ً سرديا ً، شبيها ً بفلم سينمائي يتم عرضه، بحسب رغبة المتلقي، كي يختار لحظة القراءة، والانتقال، والتوقف...؟
    فإذا كان عبد الكريم ألجيلي قد قال: " أنا الولد الذي أبوه ابنه" و " اجتمعت بالأمهات اللاتي ولدتني"  و " أنا الفرع الذي أنتج أصله والسهم الذي قوسه نصله " ..الخ، بما لا يتجاوز ما ورد في الليالي؛ من سوريالية، ولا معقول، ودادائية، وفنتازيا، تضمنت التلصيق، والعزل، والمفارقة، فان نص عدنان المبارك له جذوره الأقدم: التراكم.  التراكم في النص الواحد ـ من قصة الخلق إلى سفينة نوح ـ وما تراكم في رأس المؤلف: موسيقا اجتمعت فيها الأصوات بدرجات من الصفر ـ غير القابل للسمع ـ إلى الصفر ـ بعد ذلك، ولكن بالأصوات التي استطاعت حاسة السمع التقاطها.
    فالنص الفني وثيقة لم تنتجها البرية، ولا من إنتاج العصور الزراعية، بل شديدة الصلة بما يحدث في المدن المعاصرة، وإعادة قراءة كل جزء، بحسب حرية المتلقي، تسمح للتأويل ان يتسع بما تراكم في النص. فإذا كان كل جزء يمتلك قصده، فان مجموع الأجزاء، في الشكل (المستطيل) لا يتوقف عند (الصورة)، بل تغدو اللغة بعدا ً للبنائية ـ والهدم. فإذا كانت النصوص الكبرى، أو الأكثر تداولا ً، وشهرة، من المقامات إلى الليالي، ومن كتب السحر والشعوذة إلى الطب والفلك، ومن كتب الجنس المفضوح إلى سير الملوك وأشهر البغايا والقوادات والغلمان والقتلة ..الخ، لا تتوقف عند عصرها، وحكمتها بذاتها، بل بما سبقها، وما سيلحق بها، وباليات من الصعب استخلاص معناها، فان (النص) الفني الجديد ـ المستحدث، هو الآخر، يدمج الخطاب اللغوي، الشفوي و الكتابي، بالرموز والعلامات والأشكال الحرة، لأن الوعي ليس هو ان : "تعي بأنك تعي" حسب، كما تساءل عثمان المفتي كاتب كتاب [عالم َ الغيب والشهادة]، بل يأخذ الامتداد قوته بإرادة ما تتنوع بحسب المنهج كي تقهر الصفر ـ العلامة التي كلما ارتوت قالت هل من مزيد ـ وكأنها جهنم، كتعريف، تدحض كل امتلاء. وقهر الصفر ليس فعلا ً عذريا ً، عفويا ً، أو اختيارا ً، من غير محرك ما يقوده، في الفكر (المثالي/ وهو غير معزول عن علله المادية ـ التاريخية) إلى نقيضه، حيث تبلغ الدرجة إلى: ما فوق الإدراك.
    فثمة السرد؛ الكلام الذي يواجه: البصر، والسمع، والذائقة، والجسد برمته، وهو الذي  يواجه الوعي بعلاماته ـ مفرداته ـ بما عرفه، خبرته، وعاشه، واكتوى الكاتب بتحولاته، ومتغيراته، وكأنه يعيد كتابة ألف ليلة وليلة، أو مقامات الواسطي، وأي كتاب مصوّر عما كان يجري في بغداد أو أصفهان أو دمشق أو الأستانة أو القاهرة، قبل ان تتجمع ـ وتتكون ـ أدق التفاصيل في صمت المخطوطات، وفي سكون الكتابة.
   فالانشغال السردي لا يستعين بالصور، بل يسكنها، ومثلما لا سكون ـ قط ـ في الكون، أو مساحة شاغرة، بحسب اينشتاين، فان عدنان المبارك، يبقى يذكرنا بفلاسفة بابل ـ بأصولهم السومرية ـ وقد استحال إلى شقاء، بجوار نقيضه، بعدالة أبدا ً لم تجد خاتمة لها.
      فالدورات ـ في الفكر السومري وفي الفلسفة الهندية، وفي الكثير من المعتقدات ـ غير معزولة عن إشارات علماء الفيزياء المعاصرين: الطاقة بعودتها إلى كتلة، والكتلة بتحولها إلى طاقة، كدورات لا نهائية ليس ثمة شكل لها، حتى لو كان البيضوي، أو المثلث، أو اللا شكل، قد وجد من يراه اقرب إلى الرصد.
  ألا يبدو القاص ـ الروائي، اقرب إلى عدد من مفكري عصرنا، يؤدي الفن دور المشتغل بنشدان التوازن بين الجور والعدل، من غير الانحياز إلى فن، أو عزلة، أو التخصص بما هو خالص. وهو أيضا ً استذكار للكتاب العرب، قبل ابن خلدون، وبعد ابن رشد، والجاحظ، وعلي الوردي، وطه حسين، ومدني صالح..الخ، حيث الإنسان يحافظ على (أنا) كونية، جاعلا ً من مدفنه بابا ً للمرور، وليس للحجز.
    من ثم ألا يبدو الجدار المستطيل، النص الفني، في العام 2013، في عالم بلغت الديمقراطية فيه ذروة احتضارها، بجعل السلام وحده وهما ًـ سرابا ً، لا غير، شبيها ً بالجدار ذاته الذي تراكمت فوقه لوعات كائنات كانت وجدت الفن عونا ً لها بصياغة علامات الاستغاثة، تارة، وعلامات الصمت، وهو يحبل بضحاياه، تارة أخرى.
[5]المستطيل: سلطة الشكل أم دحضه
    ظهر العدد مع التراكم، كوظيفة، وعلى نحو شبيه بتضافر (تزامن) سلاسل من الأسباب التي حتمت علاقة النهايات بمقدماتها. فلم يتم اختراعه إلا كعلامة بين العلامات. فالتجريد ذروة تشذيبات صاغت آليات المنهج العلمي للحساب. فالواحد ليس رمزا ً ـ أو متعاليا ً ـ إلا لأنه أساس العملية البنائية.  وغير مفيد كثيرا ً الإحالة إلى ما قبل العدد، بالرغم من هدم الذرة، وتفكيكها، وإدراك أنها مكونة، في الأخير، من لا مرئيات ( لا مرئيات بسبب عجز أدواتنا في البحث، وبعجز آخر يذهب بعيدا ً عن العلم). فالعدد هو رمز مستمد من المشخصات، الموجودات، وفي مقدمتها: الجسد، مع ما ينتجه، عبر معادلات منتظمة بين المقدمات والنتائج.
   فلم يختر عدنان المبارك (المثلث) أو (الدائرة) أو أي شكل غير منتظم، أو مختلف، إلا ليقربنا من لا وعيه، كرهافة، ومهارات متنوعة، ليقودنا إلى وعيه، كقصد، وأحاسيس ذات صلة بالنفس.
    لم يختر (المثلث) الذي سنجده يتكرر في أجزاء نصه الفني، مستقلا ً، أو متجاورا ً، أو محورا ً، أو مموها ً ..الخ، إلا للاعتراف بأقدم ـ واحدث ـ سلطة: الهرم.
   فآليات عمل اللاوعي أدت إلى عمل الوعي بظهور المثلث بصفته علامة للنظام التراتبي: الهرم، من الرأس إلى القاعدة.
   ولا يمكن بالطبع استبعاد الدائرة ـ المربع، والشكل الخماسي، السداسي، السباعي، الثماني، كمقدمات سابقة للمثلث، في الحضارات القديمة، كالعبيد، وسامراء، حيث كل شكل هو مقاربة للغاية ذاتها ـ قبل تحديد (المقدس) بتعاليه، وعمله المركزي كمثال في" الزقورة، الهرم = المعبد/ السلطة.
    فالسلطة، لا مناص، مسؤولة عن إشكالية استحالة العثور على تطبيقات للعدالة، لأنها غير ثابتة، في الأصل، وتعمل بصفتها مقيدة بعواملها، ولم يكن لحرية (الإرادة) إلا الضوء المستحدث في العثور على إجابات. لأن (الخلود) أو (الذي لا يزول) أو (الفردوس)، كلها تصوّرات لعالم لا وجود له إلا عبر المخيال ـ والمحتمل. ليس لانه قائم في الاستحالة، فحسب، بل لأن المتغير لا يمتلك أية وسيلة للاقتراب من الثابت، خاصة ان الأخير، سابق على أدوات البحث، ومنها العدد ـ واللغة.
  فلماذا اختار الفنان (المستطيل) ولم يختر (المثلث) والكاتب ـ في منجزه القصصي والروائي والنقدي ـ مولع بموضوعات العدالة ، الاغتراب، والموت..؟ هل لأن النظام الهرمي بلغ ذروته، أم لأنه مازال يتشبث بالقانون الذي مهد لوجوده..؟ معا ً،  كانت سلطة (المركز/ الرأس) الجامعة للقوة والمكر او الحيلة وللتراكم، وحدها  سمحت بفرض تاريخها ـ وفنونها المتنوعة.
    انه تأويل دفعه لاختيار النظام غير الهرمي، كي يقربنا من العالم الزاخر بصراع لا نهائي من الإرادات، سمحت لعالمه الداخلي ان يتأسس على الأشكال، ومنها استحالة استبعاد (المثلث) في كل جزء من أجزاء (المستطيل). فالسلطة قائمة في (الرأس ـ رأس الرمح، السهم، السكين، الإبرة، وفوهة أي سلاح آخر) وهي التي تتحكم بالحركة في تصادماتها؛ سكونها وعنفها، قسوتها وديمومتها بالامتداد، فالمثلث لم يأخذ الشكل (المثالي) بالرغم من ان وجوده تتحكم به القوانين ذاتها التي صاغت مقدماته: الصياد ـ الطرائد، وقبل ذلك: الأقوى فالأقل قوة نحو الأكثر ضعفا ً، وبعد ذلك: الراعي ـ القطيع.  ذلك لأن بزوغ إرادات لا تحصى تنتج مصائرها، دخلت في صراع غايته ـ مرة بعد أخرى ـ العثور على تطبيقات للعدالة، لم تسمح للمركز (المثلث) إلا ان يتلقى الضربات، مما لم يعد للشكل إلا ان يتناثر في الأجزاء، للعثور على بدائل أنتجتها الرهافة بمنح الأمل شيئا ً ما غير الوهم، وغير القناع، وغير الايدولوجيا، مع ان خلاصات لا تحصى للحكمة لم تجد في (الحياة) أكثر من وسط وجيز وخاطف بين مجهولين. هل ثمة (ديمقراطية) ما شغلت وعي الكاتب/ المفكر، اختار لها المستطيل مساحة تؤكد ان عالمنا قرية تجمعت فيها روافدها، وان مصيرا ً ما، غاية ما، عبر الصيرورة، لها وحدها سلطتها في إعادة بناء الحضارة ..؟
   سنرى هذا أصلا ً في وجود النصوص السابقة على الفن، وفي النصوص الشبيهة بالفن، وفي الفن، وفي النصوص التي  حملت دوافع ما بعد الفن، كخطاب مهذب عمل على هدم سلطات (المركز)، إن كان بفرض سيادته على الجهات الأربع، أو متمثلا ً بالهرم: الملك/ الفرعون/ المستبد/ الرأسمالي/ الملياردير ..الخ، ليس على نحو مباشر إلا بحدود مقاومة الجور، والتوزيع غير العادل للظلم. وهو الذي منح عدنان المبارك ـ عبر تأويلي ـ هموم الباحث عن الحقيقة في أكثر مناطقها التباسا ً: التصادم. فالمستطيل غدا ممثلا ً ـ كاحتواء وفرض هيمنة ـ على رمزية دلالات المثلث ـ أو الدائرة، أو المربع، فهو الشكل المباشر لعصر يقترب من انهيار أي تراكم لا لرأس المال، أو للقوة، أو للخطاب المعرفي/ الإعلامي، حسب، بل للجسد البشري، وهو يواجه  مظاهر ضعف المناعة، يمكن رصدها بأرقام ضحاياها بوجود مليار كائن يعيش كالبهائم أو اقل، وبمليارات أخرى تعيش عند حافات الانهيار الإنساني، فضلا ً عن المجازر التي سمحت بحروب فاقت ما يحدث في البحار وفي الغابات من معارك إبادة، ومحو. حيث الفن ـ كما في أزمنة سابقة ـ فضّاح للمخفيات، بالوقوف مع المركز، أو بالعمل على تفكيكه، وهو أداة تسهم بوضع معايير للحكم.
   ومع ان النزعة الجمالية التي ـ تتوازن فيها الحدود أو القوى ـ غير محتكرة لفئة او خاصة بكائن عن آخر، إلا أنها تبقى شديدة الصلة بالرهافة ـ والحساسيات ـ لدى هؤلاء الذين يشكل الجمال ـ في الفن ـ تدريبا ً يبلغ حد الوله في معالجة ما هو فاسد، ضار، وعدواني، إلا ان استخدام الفن، لا يأتي بديلا ً لأي استخدام آخر يعزز سلطة (المركز) حسب، بل العمل على هدمها. ومع ان الفن لا يزدهر، في الغالب، إلا بشروط الوفرة، والأمن، والفراغ، والمحفزات، إلا ان توقا ً ما شبيهة برصد اضطرابات تحدث في المجرات والكواكب، يسمح  بتتبع ما هو خارج نطاق أدوات الإدراك ـ والمعرفة، حتى لو كانت بالفن، بصفته يمتلك الحدوس والتجريب في تجاوز الإعياء، أو القنوط، أو الخمول، أو حتى بإغراءات المجد.
   فالفنان ـ الكاتب عدنان المبارك يتجاوز هواية إشباع نزعته الجمالية نحو بناء منظومة من العلامات تحكي كل ما يحدث في رواية أبطالها يمتلكون (عيون) ـ كالتي نراها متناثرة في بعض الأجزاء ـ تبحث عن هذا الذي يبقى بمثابة النائي، الغائب، واللا مرئي، ولكن الذي يمنح الأمل قدرته على تجاوز الإعياء، والأسى، والأحزان.
[6] المستطيل ـ السلطة ابعد من العلامة
    المستطيل له سيادة رمزية بعيدا ً عن هيمنة المثلث ـ الدائرة، المربع، فهو ـ: شاخص، شاهد، ملصق، اثر، ومجموعة علامات، ولكنه هذا كله ليس على نحو استعادي، وكأننا نتحدث عن الماضي، بل عن: القادم ـ وضمنا ً عن مصائر تتشبث بمنح السببية عملها الرمزي في هذا المسار؛ أي ان الانشغال (الذهني) لدي ّ الرسام ـ هنا ـ هو الذي يؤكد تمسكه بتخطي عشوائيات عصره نحو نظام ـ هو ذاته كانت بذور الخلق قد شفرّت به ـ ولكنه اظهر تحديا ً لوظيفة الفن من ناحية، وللنزعة الجمالية ـ جزءا ً من مكونات الخطاب ـ بصفتها عادلة، وليسا تطبيقات للحتميات، وللثوابت، من ناحية ثانية.
    فالاختزال، حد التجريد، ووفرة العلامات، والشعارات، والإشارات، والمرموزات، والحفاظ على ديالكتيك الذاكرة بعمل المخيال، والمستحدثات ..الخ، تصوّر (حضارة) بلغت ذروتها. ربما أرى هناك من يعترض ويتحدث ـ كما فعلت أريس مردوخ نقدا ً للنزعة الأيديولوجية لدى سارتر ـ  باختيار المعنى وليس بالحديث عن الفن، ولكن هل ثمة فن من غير مستقبل ..؟ إن انهماك عدنان المبارك حد الوله في الكتابة، وهنا في حقل التشكيل، منح (المرح) النيتشوي،، ذات الدوافع التي صاغت منهج فرويد بالحديث عن المخبآت، المخفيات، واللاشعور، ببناء نص يقود إلى أكثر الأزمنة قسوة، والى أحدثها دحضا ً للجمال ـ والمُثل. فهو لا يلعب للتسلية، او يلعب من اجل اللعب، أو للمراوغة، أو يعمل على دفن الأشكال، أو تزويرها. انه يعيد صياغتها، كممر ماثل شبيه بالوسط لا تتوارى الأزمات فيه أو تستبعد، بل تستحدث، بما تمتلكه من تعديلات للتعبير، نحو حوار الأفكار.  فالواقع المعاصر ـ ككل واقع ـ لمحة في الدرب، المسار، وليس استثناء ً. والاستحداث، عمليا ً، ليس هو التأمل، بل القراءة وهي تعلن عن صخبها: طيور، عيون، رؤوس، وأشكال مختلفة تصوّر دويا ً منحها حريتها في التصادم، والتجاور، في الاتساع وفي التجّمع، مثل سجادة شرقية أعاد نسجها ولكن كي لا تداس، بل لتماثل لغز العصيان الأول: النار ـ الوحل (إبليس/ آدم).  فالمستطيل لا يبدو مساحة للتراتيل، والمقامات، والقص حسب، وإنما أيضا ً هيمن النسج كرابط للتوحد ـ والتجمع. فالمشهد الكلي ـ للتأويل ـ ينحاز بالفن نحو عالم الصدمات وهي تحكي طرفا ً لا مرئيا ً لسلسلة من الصراعات، الاشتباكات، والمتناقضات.  فالنار ـ وهي كمية الضوء وكل ما هو مشع/ باث ـ لا تنحني إلى الأسفل، للأرض، أو لعناصرها، ومنها الإنسان. ولعل لا شعور عدنان المبارك منحه نزعة الفضح، كحد بينهما، من غير إشارة لهذا العصيان، على انه سيبقى محركا ً له، كصراع بين الظلمات والأنوار. فهو يذهب ابعد من حدود المثنوية، نحو أبعاد لا تكتفي بالسرد، واختزاله، بمنح لا وعيه توقا ً سمح لعمله الفني ان يكون (مرحا ً) أو شفافا ً. إن المتلقي وحده سيكون قد ابتعد من اجل قراءة  تساعده في ترتيب العلامات، وما تريد إيصاله، وما هو بحكم الاستحالة، في الإفصاح عن المعنى.
    وهنا تحديدا ً تأخذ (المفارقة) مداها بين عمل الفنان الشرقي في نسج (نصه) أو (مخطوطته) أو (كتابه) أو (بساطه)، وبين ما هو غربي، عملي، تجريبي. وهي مفارقة ايكولوجية ومعرفية ارتقت نحو المجال الذهني، وتمت معالجتها كمساحة للاشتباك، والاختلاف.
    إن سلطة (المستطيل) سمحت للتراكم بدورة تمتد، ولا تنغلق أو تلتقي، كما في الدائرة، أو تنتهي بمركز، رأس، كما في المثلث. فالنظام الحر ـ المقيد بالتوق أو الانعتاق ـ لا علاقة له بالعشوائية، إن كانت هدامة، أو ذات مصير مجهول، بل منحت التوازن تجاور متضاداته لتتجمع في البناء (العمودي)، مما سمح لبصره ان يغادر أساطير الخلق، وتشكلها الدفين في لا وعيه، نحو صيرورة تؤدي ما هو ابعد من قيود عمل الهندسات الجينية، مشفراتها، والياتها المحكمة، بالنظر إلى الأعلى ـ أو إلى الأمام، لتحدث صدمة الدهشة، صدمة الجمالي، أثرها مع المتلقي، وهو يذهب ابعد من الحدث ـ أو ماضيه ـ وتحديدا ً لأن مسارات الضوء، رمزيا ً، وتاريخيا ً/ ماديا ً، تنشغل باستحداث عالم سيشكل اللاوعي احد منحنياته، كي لا يصبح الفن شيئا ً من الأشياء، أو سلعة، أو قناعا ً.
[7] الضوء ـ لغز الوهم وقد استحال أملا ً

   ليس لدي ّ أدوات أقيس بها ـ في هذا النص الجمالي ـ مساحة كل لون، بقياس الموجات اللونية، للتوقف عند (المعنى) غير السردي ـ بل وغير الجمالي ـ وإنما هذا الذي تتوازن فيه كمية الألوان، أو إشعاعاتها نحو الخارج، وكأشكال جاذبة أيضا ً، وكأنني الفت النظر إلى أي مشهد يرصد السماء، لنظام مجراتها ونجومها وكواكبها. فثمة درجات (قيم/تونات) لونية للأزرق تستطيع الأجهزة ان تميزها عن درجات اللون الأحمر؛ فالأولى تبتعد، بمعنى تختفي، والأخرى، تقترب، بمعنى: تزداد توهجا ً، مبنية أو مشيّدة بحكم القوانين المتجانسة مع اشتغالات (الدماغ) في الاستقبال.  فإذا كان رولان بارت تحدث عن موت المؤلف ـ الفنان ـ فانه لا شعوريا ً ـ وضمن حدود الوعي، منح المتلقي الدور الذي كاد يغيب. وهو المنطق الأقدم لتأويل أسطورة ديموزي: تُدفن البذرة كي تنبثق. فديموزي لم يقتل إلا كي يدحض الموت. ويخيّل إلي ّ ان استخدام  الألوان ـ منذ ثلاثين ألف سنة ـ كان إشارة ليس لاكتشاف النظام خارج قدرات البصر، بل لتخصص حاسة البصر في العبور من اللون الواحد، نحو الألوان، بمعالجة  قائمة على توازن ما تبثه وما تجذبه الأجسام (الأشكال) في النصوص التشكيلية؟  ففي الأساس تطلب المعنى ـ السحري القديم ـ الاستجابة لاستحداث مهارات بصرية تتوازن مع الخطاب الذي هو قيد التشكل ـ التكوّن.
   عدنان المبارك، بانتمائه إلى حقبة الرواد، في الثقافة العراقية، تمتع بحرية سمحت له ان يأخذ موقعه في الانعتاق. فإذا كانت ثيمات (الحداثة) لها جغرافيتها المستقلة عن شاب عراقي ولد في مرحلة  تأسيس قيم الفن(الحديث)، فانه لم يقيد لا وعيه في بناء خطابه البصري. ولدي ّ أمثلة عديدة مستمدة من هذا التوازن اللوني لدى: فائق حسن، محمود صبري، جواد سليم، ألدروبي، رسول علوان، بهيجة الحكيم، محمد علي شاكر، علي النجار...الخ، وهي فاتحة معالجات غير واعية (مقصودة) كي تأخذ الرهافة دورها في ما يخص المعنى، أو الذي يخاطب المتلقي.
     أنا لم أتعلم هذه الفرضية إلا من والدي ـ وثمة إشارة أخرى تعلمتها من باحث آخر لا أتذكر اسمه ـ حيث كان يقول لي ان الرسم ما هو إلا قدرة الرسام على منح التوازن بين القيم الضوئية، وكأنها تذكرني الآن بالمعادل الموضوعي لدى اليوت، بدل السماح للفوضى أو لطغيان التعبير على المهام البنائية. فعندما كنت استهلك كميات اكبر من الألوان الزرقاء والخضراء والرمادية ..الخ، كان يحثني على وضع درجات لونية مغايرة لها، كي تماثل حقيقتها في الطبيعة.  وبعد أكثر من نصف قرن على هذه الإشارة الثمينة، أجد ان مفهوم التوازن ينحاز إلى الأشكال وهي تقترب من المشاهد، وليس العكس. فالتحكم بالألوان ينحاز إلى الألوان وهي تبث موجاتها اللونية نحونا، مستحدثة استجابة مع لا وعي عمل حاسة البصر في كل ما هو: منبثق. وقد لا يكون للرمزية ـ وهي تمنح المتلقي مكانتها بين ما يحدث خارج الدماغ، وما يسعى الدماغ إليه تحديدا ً ـ لأنها المعادل الموضوعي بين (الأنا)  وما ينجزه كجزء من الخطاب المجتمعي ـ مع الآخرين، وكجزء خاص باليات العملية الفنية.
   وليس لأننا لا نرى شيئا ًعند سيادة عائلة لونية ما فحسب، وإنما لأن التعبير ـ في سيادة عائلة لونية وهي الزرقاء وما جاورها ـ لن يسمح بديمومة ما هو ابعد منه، الأمر الذي سمح للدوافع ان تأخذ ترتيبها في التوازن، وليس في سيادة لون على حساب آخر، أي: سيادة أيديولوجية حتى لو كانت مستقبلية.
   واقصد تحديدا ً ان الكاتب عدنان المبارك لم يهمل ـ في اختياره  15 جزءا ًـ وكل جزء له تكامله الذاتي ـ هذا التوازن، بتحرير لاوعيه في منح الألوان اتجاها (نحونا) إزاء ما هو اخذ بالابتعاد ـ الغياب. فاللون الداكن، في أعلى النص الفني ـ غدا مركزا ً، كأنه ـ رمزيا ً ـ ما يشبه عمل الثقب الأسود: لا يسمح إلا بمحو أي إرسال معاكس، فزمنه ينسحب نحوه حتى ينفصل عن زمن المتلقي، إنما ـ هنا ـ يحدث التوازن بين عمل الطبيعة ـ وعمل الوعي، لتأخذ الألوان الباثة، أي الأجسام وهي تقترب، تأثيرها في حمل (المعنى) تارة، أو كي تبلغ حد التجريد، وهو يستبعد السرد، والعاطفة، والزمن، تارة ثانية.  
 وبفحص اشتغالات (المؤلف/ الرسام) المكتظة، والمتنوعة بالأشكال، العلامات، الإشارات، الرموز، الأقرب إلى التوليف/ التجميع، فان منحى الاختزال، سيفسر نزعته بما يمتلكه (الوعي) ـ كالذي حصل لدى ديموزي وهو يؤكد حقيقة ان الوعي الأسطوري يتم استحداثه باليات البذرة التي إن لم تدفن، لن تُورق، وهي ذاتها قريبة من عمل عدنان المبارك بالانحياز إلى الإرسال نحو (الأمام) وهو مجموع أطوال الألوان المشعة ـ إزاء الألوان التي لها قوة الغائب، بحتمية منطق الانتظار. ففي النص الجمالي، ثمة ما يشبه استذكار الطفولة، ومباهجها، مرورا ً بالأدوار الزمنية للشخصية، وصولا ً إلى ما يبقى مأوى للحكمة وهي تقاوم وهنها، أو القبول بزمن مضاد، أو بلا تتابع، وحركة.
  وعلي ّ لفت النظر ـ هنا ـ إلى ناقد لم اعد أتذكر اسمه ـ درس مجموعات فنية صينية، بدراسة مساحاتها، وفضاءها، استنادا ً إلى وعي الرسامين وصلتهم بالمياه الجوفية، داخل الأرض، واثر ذلك في الجسور بينهما. فانا أدين بهذه المعلومة في لفت النظر إلى ان الأستاذ عدنان المبارك ـ الروائي والقاص والمترجم والناقد الجمالي ـ لم تغب عنه مكوناته العميقة: مياه وادي الرافدين التي كونت البحر في المدينة التي ولد فيها، البصرة، ثغر العراق، ولم يغب عنه ان العراق هو بلد الشمس. فهو وريث عائلة لونية تعيد إحياء أساطير ديموزي، لكن ليس للبكاء على ذكراه، أو عند مدافنه ـ وهي أصبحت علامة لوطن مكث أسير الانجذاب إلى الظلمات ـ بل لمنح (التحديث) حداثة تتمثل فيها قدرتها على التجدد.
     وقد لا نرى صدى ما لأثر شحة (المياه) أو انحسارها في وادي الرافدين، بل، ربما بما سيعانيه العراق من الجفاف، والتصّحر، والرجوع إلى المياه الجوفية ـ والأمطار، إلا ان الثروات الأعظم مازالت تأتينا من الشمس. وقد لا يكون عدنان المبارك قد صدم بالأثر (الايكولوجي) لمسارات (الماء) ـ منذ خراب سد مأرب وتحول الرسالة من اليمن إلى مكة ـ  مباشرة، إلا ان لاوعيه الأبعد، وهو لا يختلف عامة عن لغز تكّون الإنسان من الماء، والوحل، في أساطير الخلق، حيث اشتغل بمنطق التجريب، بعد تشبثه بقناعة ان الإنسان لم يخلق إلا ليصنع تاريخه، وليس محوه.
  مرة أخرى لم اعزل ـ الإيحاء أو التأويل ـ أو افصله عن أصوله التكوينية، كما يتم دراسة البنية وكأنها تمتلك قانونها ـ نظامها، بمعزل عن سياقها في أي تكوين تتجمع فيه البنى ـ وتتجمع فيه العلامات، فالألوان ليس مصدرها الشمس بمعزل عن تمتع (الدماغ) باليات عمل يتحكم الوعي فيها بمنح (الحداثة) سياقها للديمومة، وليس للحقب، لأن الأعمى مهما حاول ان يكون قدوة، فإنما هو قدوة حقا ً ولكن للظلمات، لأن الولع بـ ( الحداثة)  لدى الشاب عدنان المبارك، أوعزت له بالبحث عن منفى سيتكّون فيه، وليس عن وطن يمحوه، ويعاقبه، فالحداثة تغدو منهجا ً وليس معتقدا ً، وهو الذي سمح لرهافته ان يمنحها نصا ً للبهجة، منفتحا ً، بآليات تجعل الضوء شرطا ً لوجود الذرة، مثلما هو جزء من قانونها: الغياب ـ الحضور.  فالمعرفة في الأصل كونها لغز الإنارة ـ من الضوء إلى النار، إلى قانون آخر تنعدم العتمة فيه بانعدام السكون ـ وهو ـ بالمنهج هذا ـ يمنح المتصوف ذروة الوجد، الفناء، كمعادل إزاء الظلم البشري، وهو معادل آخر تمتع به عدنان المبارك كشرقي سكن أوربا، أي لم يصدم بالأنظمة القائمة على العمل ـ التجريب، وهيمنة المشروعات الاقتصادية: الإنتاج، التداول، الاستهلاك، الزوال، كي يحل معضلة ديكارت بين الميكانيك والحرية، عبر تمتعه برؤية لم تنغلق عند قرار أخير، فالضوء ـ بمعنى المعرفة ـ منح الفن ذات الرسالة التي حققها رسام الكهوف بمعرفة فطرية سابقة على الوعي والكتابة، وقد صاغ الكاتب الرسام منها ذات المشروع الريادي ـ في خمسينيات القرن الماضي ـ وقد بات اليوم محض ذكرى، أو أثرا ً، كحصيلة حكمة تمتع بها عدنان المبارك كي يدعها تثمر امتدادا ً لرؤية حرص ان يكون الضوء احد مفاتيحها، وليس قفا ً لها.


الجمعة، 6 سبتمبر 2013

الشعر الكردي في «بهجته السرية»-ابراهيم حاج عبدي




الشعر الكردي في «بهجته السرية»
ابراهيم حاج عبدي
الجمعة ٦ سبتمبر ٢٠١٣
لا شك في أن المهمة التي قام بها الشاعر السوري لقمان محمود في انجاز انطولوجيا الشعر الكردي في غرب كردستان (دار سردم، السليمانية 2013)، هي مهمة شاقة ومحفوفة بالكثير من العوائق والالتباسات. ولعل الالتباس الأول يأتي من العنوان الذي قد يبدو غامضاً لبعض القراء العرب، لذا وجب التوضيح أن تعبير غرب كردستان يطلقه القوميون الكرد على كردستان سورية، بينما شمال كردستان يقع في تركيا وجنوبها في العراق وشرقها في إيران. أما لماذا تكون كتابة الشعر «بهجة سرية»، فتوضيح هذا التوصيف يتجلى على ضوء القمع الذي مورس ضد الأكراد فوجدوا في القصيدة نافذة للبوح والمكاشفة والتعبير عن الأحلام المجهضة. كانت القصيدة ملاذاً وسط واقع لا يعترف بلغة الكردي وثقافته، وثمة أمثلة لا تحصى عن مخطوطات دواوين رفض اتحاد الكتاب العرب في دمشق إعطاء الموافقة على نشرها لأنها، تعلن، ويا للمفارقة، عن ثقافة ينبغي حجبها في بلاد «الرسالة الخالدة».
نحو مئة شاعر كردي سوري يحضر في هذه الانطولوجيا. لكن من هم هؤلاء الشعراء؟ ولم لا نعرف سوى قلائل منهم؟ وكيف قُيّض لمحمود، معد هذه المختارات ومترجمها، أن يجمع كل هذا الطيف الشعري الواسع؛ المتوزع يبن أجيال مختلفة، والممتد، زمنياً، منذ بدايات القرن العشرين وحتى اللحظة الراهنة. فثمة قصائد، مدرجة هنا، كتبت قبل أن تصبح سورية دولة بخريطتها السياسية المعروفة حالياً. نحن، إذاً، أمام لوحة شعرية بالغة الثراء؛ شديدة التباين. شعراء ينتمون إلى حساسيات ومرجعيات ومنابت شتى، وجدوا في هذه الانطولوجيا فسحة مشتركة تظهر نتاجاً إبداعياً تتفاوت قيمته. لكنها في مجمل الأحوال تلقي الضوء على نتاج شعري لم يحظ بما يستحق من اهتمام وانتشار.
أعفى معد المختارات نفسه من عناء أي تأطير أو تصنيف، بل سعى إلى تقديم مختارات لا يكاد يجمعها شيء سوى الحيز الجغرافي، وهو هنا غرب كردستان، اي بالتحديد الشعراء الأكراد السوريين، وهنا سنجد ان هناك من كتب بالعربية، وأن آخرين كتبوا بلغتهم الأم الكردية، وثمة من كتب بهاتين اللغتين. وسنجد، كذلك، أن هذه المختارات تضم أجيالاً شعرية مختلفة تبدأ من بعض الراحلين مثل الشاعر جكر خوين (1903 - 1985) الذي يعد مرجعاً ومدرسة لغالبية الشعراء الكُرد، وحامد بدرخان (1924 - 1996) وأحمد نامي (1906 - 1975)، مروراً بأسماء أثبتت حضوراً من خلال المنابر والصحافة العربية من أمثال لقمان ديركي، وجولان حاجي، وطه خليل، وحسين بن حمزة، ومحمد عفيف الحسيني، وعلي جازو، وإبراهيم اليوسف، وعارف حمزة، ومروان علي، وهوشنك اوسي، وجميل داري، وإبراهيم حسو، وإبراهيم محمود، وفتح الله حسيني، وأسماء مماثلة احتلت مكانة في الضفة الأخرى؛ ضفة اللغة الكردية من أمثال تيريز، وكوني رش، وديا جوان، وديلاور زنكي، وفرهاد عجمو، وفرهاد جلبي، ودلشا يوسف وأحمد حسيني وسواهم... وصولاً الى شعراء شباب ما زالوا في البدايات، ولم تنضج تجربتهم بعد.

القصيدة المختلفة
وعلينا ألا ننسى ضمن بورصة الاسماء هذه اسـمـاً شـعرياً لامعاً ألا وهو سليم بركات الذي يعد مرجعاً استطاع أن يكرس قصيدة مختلفة لم يقتصر تأثيرها في مريديه الكرد، بل امتد الى الشقيق العربي الذي اعترف بموهبته اللافتة، إذ وقع تحت سحر كلماته شعراء كثر لم يتمكنوا من التخلص من سـطوة قـصــيدته الغارقة في بلاغة تصعب مجاراتها.
هذه الأصوات الشعرية المتقاربة حيناً والمتباعدة أحياناً والمنتمية إلى أجيال ومرجعيات مختلفة، كان من الطبيعي أن تقدم نصوصاً متباينة مبنىً ومعنىً. وسط فضاءات هذه المختارات سنعثر على مواضيع ومضامين تنطلق من ذات الشاعر الفرد لتعانق رحابة الأوطان والقضايا الكبرى. قصائد تتحدث عن الهموم والأحزان والأشواق والذكريات؛ عن الصداقة والمنفى والطفولة؛ عن جمال الطبيعة وعن تضاريـس كردستان القلقة وعن هواجـس سـكانـها ومخاوفهم. نصوص تتناول لواعج العشق والصبابة والهوى مثلما تحتفي بالحرية والعدالة والمساواة، هي باختصار كتابات تتأرجح بين الأنين الخافت و «الأسى الشفيف»، بين صرخات الاضطهاد، والنزعة القومية التي تطل بنبرة صاخبة؛ هادرة كلما أمعن الآخر في محو الهوية والخصوصية القومية. بين تباريح الألم وصيحات الأمل، يجد القارئ نفسه وسط هذه المروحة الشعرية الواسعة التي لا تغفل أي شيء، ابتداء من وردة نبتت على ضفاف نهر وليس انتهاء بكردستان الكبرى، وقضايا التحرر.
وبالمقدار الذي تتنوع فيه المواضيع، فإن الأشكال والقوالب والأساليب أيضاً تتنوع، إذ سنعثر على الغامض الملغز مثلما سنجد الواضح الجلي، وسنعثر على قصيدة أشبه بالومضة الخاطفة وأخرى تعد مطولات تحتل صفحات عدة، فتكون بذلك أقرب إلى الملاحم الشعرية، وسنجد مفردات وتراكيب وجملاً تخص هذا الشاعر دون ذاك، وسنرى من يهتم بإيقاع القصيدة وموسيقاها، وآخر يكتب نصاً أقرب إلى النثر منه الى النظم، لتتجاور الأشكال والصيغ التعبيرية، كما هو متوقع، في مختارات لم تراع أي شيء سوى جذوة الابداع الغافية بين كلمات الشاعر.
يقول معد المختارات إنه فكر بهذا المشروع خلال عمله في مجلة «سردم» العربية، التي كانت تخصص باباً للشعر، وقد شجعه على تنفيذ المشروع صاحب المجلة، الشاعر الذي رحل قبل أسابيع، شيركو بيكه س الذي يعد، بدوره، مرجعاً مهماً للشعراء الكرد السوريين، وشاء القدر أن يتزامن صدور هذه المختارات مع رحيل بيكه س، فتعذر عليه أن يرى ثمرة تشجيعه ودعمه، بيد أن مقدمة الكتاب تضم مساحة واسعة تستحضر تجربة هذا الشاعر الرائد الذي خلّد اسمه بصفته أحد أبرز الرموز الشعرية المعاصرة.

الثلاثاء، 3 سبتمبر 2013

أحدث وأغرب طريقة للتظاهر ضد الأنظمة القمعية!-عن مجموعة حمورابي

 
أحدث وأغرب طريقة للتظاهر ضد الأنظمة القمعية!
 
   

لم يجد الفنان المبدع "بيتر بافلنسكي" طريقة أفضل من هذه الطريقة الغريبة ليعبر فيها عن احتجاجة لانتشار الطريقة القمعية في التعامل مع المتظاهرين.
 وقام الفنان بيتر بالتوجه إلى مبنى الجمعية التشريعية بسان بطرسبرج ليضع نفسه داخل الأسلاك الشائكة وينام على الرصيف أمام المبنى.
 وكانت رسالة بيتر مغزاها أن التعامل مع الأنظمة القمعية يأتي في إطار قبولها العجز من خلال التواجد في مثل هذه الظروف القاسية للغاية،
 لتقوم السلطات الأمنية الموكلة بحفظ المكان وحراسته بكسر الأسلاك الشائكة المتواجده أعلى منه وتغطيته وصرفه من أمام المكان.







                         

الجمعة، 30 أغسطس 2013

26 قصة قصيرة جدا ً-عادل كامل







26   قصة قصيرة جدا ً


عادل كامل
[1] لقاء
   كان، هو الآخر، يود ان يلتقي بالزملاء الذين عمل معهم، قبل عقود، عندما عادوا، بعد الاحتلال، بأسابيع.
  لم يسرع في خطاه، ولم يكن متلهفا ً، إنما ـ لرغبة ما ـ ود ان يذهب ...، وفي الركن الذي يطل على النهر، ضفاف دجلة، شاهد احدهم، من بعيد، وآخر، فدخل، ووقف أمامهم، أمامهم مباشرة. لم يلتفت أحدا ً له، فتدارك الأمر، وأكمل خطاه باتجاه زاوية معتمة. جلس ...،وجاء النادل، فقال له ان صحته لا تسمح له بتناول الكحول، فطلب شايا ً، وعلبة سكائر، وأغنية ...
   لم تكن لام كلثوم، أو لمحمد عبد الوهاب، أو لفيروز، بل أغنية قديمة طالما  توله بها، قبل عقود، برفقتهم، لسماعها، وقد انصهرت كلماتها بلحنها وبصوتها الكاتم للأنين، والأسى.
  وراح يراقب: وجوه ممتلئة، متوردة، لها لون ألجوري، وثمة ضحكات، وقهقهات، وحوارات، تأتيه مشوشة، لم تكن لتعنيه، لولا أنها إعادته إلى سنوات قديمة خلت.
    ربما الزمن مضى في غفلة، أكثر من ثلاثين عاما ً، كومضة، دار بخلده، صدمت الذاكرة، خدشتها، وتوارت، إنما شرد بصره وهو يراقب انشغالهم بتناول الطعام، بشراهة غريبة، لم يألفها من قبل، إنما شعر بالارتباك، وهو يراقب أصابعهم تمتد، وتتلوى، وتشتبك، في تناول لحم السمكة، التي رآها كبيرة، وقد لمح ان لها أجنحة، وراحت، ترفرف، محلقة في الركن ذاته الذي طالما جلس فيه، معهم، قبل ومضة تلاشت، وانبثقت، فجأة.
نهض، مشى بهدوء، مر بجوارهم، وغادر المكان، ولم يسمح للكلمات، في رأسه، إلا ان ترحل.

[2] استقبال

   ما ان اختفى أزيز الطائرات، ودوي الانفجارات، التي لم تترك إلا أعمدة من الدخان، تتمايل مع الريح، في فضاء المدينة، حتى ظهر عدد من الأشخاص، يهتفون، ويصفقون...، فسألهم العجوز:
ـ أتستقبلون هذا الخراب بهذه الزغاريد...؟
 لم ينتظر سماع إجابة أو ردا ً، بل جرجر جسده النحيل، وتركه يسقط في حفرة، مثل ـ دار بباله ـ نفاية، فقد كان لا يستطيع رؤية الدخان وهو يحجب عنه رؤية  السماء.

[3] مفارقة
    قال مدير تحرير الجريدة للكاتب العجوز:
ـ لا اعرف بالضبط ماذا تريد ان تقول ..؟
 ابتسم الآخر وقال له:
ـ وأنا مثلك السؤال ذاته طالما دار براسي..! وأضاف بعد برهة:
ـ لأنني لو كنت اكتب ما اعرفه، لما اضطررت إلى نشره، ولو كنت تفهم ما اكتبه، فما جدوى كتابته!
[4] ذاكرة
      سأل زميله الذي لم يره منذ عقود، وقد أمنت له قوات الاحتلال العودة إلى بلده:
ـ هل تعرفني ...؟
أجابه بصوت شارد:
ـ للأسف...، لا أتذكر، للأسف ...، أنا لا أتذكرك!
   لم ينطق. فقد غادر المقهى، وهو يردد مع نفسه: ولكنني أعرفك!
[5] فائضون
     فائضون ...؟ تساءل وهو يشاهد تقريرا ً مصوّرا ً يستعرض مواقع التفجيرات، وما تركته من خراب، كأنها حدثت في الماضي، وقد خلفت أكثر من ثلاثة آلاف قتيل، وآلاف من الجرحى ...، لم يحدث هذا في عام الغزو، ولا في الأعوام التالية، بل، بعد عقد تماما ً، في الأشهر الثلاثة قبل شهر آب من عام 2013.
     شرد ذهنه، فقد كانت الكلمات، في رأسه، هي الفائضة.
[6] سجناء
    لم يصدمه خبر هروب أكثر من ألف سجين، في بلد يماثل بلده، حيث الجميع سجناء. ولم يصدم، عندما هرب أكثر من 1000 سجين، من السجن الذي يقع على بعد مسافة غير بعيده، من بيته. ولكنه كتم ابتسامة ولم يدعها تظهر على محياه، عندما كان باستطاعته ان يهرب، قبل نصف قرن، ولكنه لم يفعل، ولم يدع الأسى يسحق آخر ما تبقى من قواه الواهنة، لأنه لم يكن باستطاعته ـ الآن ـ ان يجتاز حتى عتبة باب الدار.
[7] وخزات
     مازال يتذكرها، وهو يطالع تصريحات لها نشرتها إحدى الصحف. كان يمضي معها، قبل عقود، ليالي البرد، في غرفتها الدافئة، وهو يعيد صياغة ما كان يدور بخلدها.
   نهض. وعندما قابلها، استقبلته بحفاوة، وحرارة، وبادلته القبلات ذاتها التي طالما تركت فيه ذكريات غير قابلة للمحو.
ـ تفضل ...؟ قالت له. ولكنه لم يطلب منها شيئا ً، ليتركها تتكلم:
ـ اخبرني ...، ماذا فعلت بحياتك ..؟
    لم يجب، لأنها فهمت ماذا كان يريد، فقالت له:
ـ لا اعتقد أنني استطيع ان اعثر لك على عمل معنا!
   عندما ابتعد عنها، سمعها تسأل نفسها بصوت متوتر، خفيض:
ـ أكان علي ّ ان اعمل معهم، كي ابحث، بعد عقود، عن عمل..؟
   عندما رجع إلى البيت، وجلس يدوّن ما حدث له، معها، وجد أصابعه تغادره، وتحّوم، من حوله، وقد تحولت إلى ابر، ابر حادة، شبيهة بالتي تعرض إلى وخزاتها، قبل عقود..!
[8] سؤال
   لا توجد جريمة بلا أسباب. حتى انك ترى الملايين؛ تنحني، وتصفق، وتهتف للقائد الذي اجتاز حدود بلد آخر، وأنت لا تسأل: هل البطل هو من ارتدى قناع الجلاد، ولا تسال أيضا ً: لماذا يفعل الناس ذلك، ولكنك تسال نفسك، بصمت، ما شانك بذاك..؟ لأنك، في المرة الأولى، جرجروك إلى الزنزانة، وكدت تفقد حياتك، وفي المرة الثانية، أبعدوك، وركلوك، حتى كدت تغيب، والآن لم تعد تجد ثمة أسئلة كي تسأل نفسك: لماذا تخليت عن الأسئلة..؟
[9] خطر
  بعد ان نجا من المجزرة، ولم يذبح، دار بخلده: وهو يذهب إلى البعيد، أن الخطر بدأ توا ً.
[10] مرايا
    حقا ً، قال لنفسه، عندما لا تجد عدوا ً، تبدأ بالضمور، وينحدر وجودك إلى الزوال، وتلك هي الرأسمالية. متابعا أضاف، وهو يحدق في مرآة لم ير فيها محياه، أما الاشتراكية، فلا يموت الناس فيها كما تموت الكلاب. وعندما لم ير المرآة، سأل نفسه: ما الديمقراطية إذا ً ..؟ لم يجد جوابا ً، لأنه، وجد محياه يرفرف في الفضاء، مع حشد لا أول له، ولا آخر، من الوجوه.
[11] ديمقراطية
 ـ هل تستطيع ان تخبرنا ما هي الديمقراطية ..؟
أجاب القائد:
ـ قبل ان اعرفها لكم، علينا ان نعرف ما هو الاستبداد، ومن هو المستبد، أم لا ضرورة لذلك، وانتم تتمتعون بالشفافية..؟
ـ ولكنك أيها القائد العظيم لم تعّرف لنا الديمقراطية..؟
ـ عندما اترك رؤوسكم في مواقعها، فهذه هي الديمقراطية..!
فقالوا بصوت واحد:
ـ ولكن رؤوسنا بين يديك ..؟
ـ في الماضي كنتم تعرفون ان القائد هو من أمر بذلك، أم الآن ...، فانتم وحدكم من يفعل ذلك..!
[12] وتشرق الشمس
     بعد صمت وجيز، أمر بصوت جهوري، صارم:
ـ لا تتركوا أحدا ً، لا طفلا ً، ولا امرأة، ولا شجرة، ولا بقرة، ولا .....
   فكان أتباعه يأتون بالرجال، والخراف، والبقر، والماعز، والجاموس، والنساء، والأشجار، والكتب، والكنوز، والغلمان، والعاهرات، والتماثيل..الخ ويقذفون بها، وسط هتافات، وهلاهل، وزغاريد، إلى النهر.
   ولم يمتلأ النهر، ولم يتغير لونه، فقد كان الظلام حالكا ً، والريح شديدة. فيعود يصرخ، وأتباعه لم يكفوا البحث عن الرجال، والأطفال، والحيوانات، و...
فجأة سأله مساعده بصوت مرتبك:
ـ ولكن الشمس لم تستجب لأوامرك، سيدي، وتشرق!
فصرخ القائد يوبخه:
ـ ليس هذا هو هدفنا، أيها المغفل..
   كتم مساعده ما كان ينوي البوح به، وسأل نفسه: ما هدفنا ً من هذا، إذا ً ..؟
أجابه القائد، الذي حدس ما دار بخلده، وهو يقذفه إلى النهر:
ـ كي نبقى بانتظار بزوغ اشعتها!
[13] حشرة
   قال بصوت غائب يخاطب لا احد: لماذا أصبحت حشرة..؟ تذكر انه قرأ ذلك، قبل نصف قرن، ولم يتعجب، بل غضب، حتى أدرك، بعد سنوات، انه حشرة غير ضارة، تعيش وسط حشرات بالغة الأذى. ولم يسع ان يكون شيئا ً ما عدا ان يصبح حشرة أليفة. قال: حشرة صغيرة، لا تلفت أنظار احد. ولكنه، وجد نفسه يحتمي بعزلة محكمة: غرفة بحجم قبر، تدرّب ان يؤدي وظائفه اليومية فيها. ولم يقدر ان يميز ما اذا كان يمتلك قدرة على إصدار أي صوت، شبيه بالأزيز، أو الخشخشة، أو البحات، أو حتى الأنين، وإنما وجد الجدران تتقلص، حتى لم تدعه يتذكر ما اذا كان يتنفس أم لا ضرورة للهواء كي يستعيد قواه، ويتلافى الحشرات. ولكنه، وهو يغادر غرفته، عبر الزقاق، وجده لا يتسع لأكثر من شخص، حيث لاحظ ان الدرب سمح له بالتقدم، واكتشاف انه أصبح في العراء، من غير أعداء.
    عندما حاول معرفة الوقت، للتأكد من انه لم يمت، لم يجد ضرورة ليخاطب نفسه، ما إذا كان للوقت معنى أو أهمية، بعد ان أدرك ان عليه انتظار قرون، وقرون، كي يستعيد فمه، وأصابعه، وبصره، ويؤكد لنفسه انه لم يكن فائضا ً، ولا حتى حشرة أليفة..!
[14] البيان صفر
    لم يكن الخبر زائفا ً، أو محض إشاعة، أو من أعمال المنظمات السرية، الذي تتحدث عن قيام الموتى بكسر أبواب المدافن، وتحطيم أسوارها، واحتلالهم الأزقة، والشوارع، والساحات، بل سرعان ما تحول إلى بيانات تؤكد ان الموتى زحفوا نحو الكاتدرائيات، والمؤسسات، والزقورات، والأهرامات، والملاعب، والدوائر الكبرى، وإعلانهم عن قيام نظامهم الجديد. عمليا ً لم يكن هناك أحياء كي تحدث مواجهات أو فعاليات أو مقاومة، أو حتى احتفالات بما جرى، فقد أكدت البيانات إلغاء كل ما يتقاطع مع حريات الذين ماتوا، وغابوا، منذ الجريمة الأولى، حتى عصر ما بعد الحروب، وهو ما دفعهم إلى إغفال انتخاب الزعيم، أو الأمير، أو من يتحكم بمصائرهم، فالبيانات وحدها فرضت هيمنتها، ونسقها، من غير إطراء أو مدائح أو حتى شفافيات، لأنها كانت قد تخلت عن كل خلاف قد يفضي إلى التصادم، والى المواجهات. فالبيانات أكدت ان حرية الموتى وحدها تسمح للأحياء بالمشاركة، من غير تعصب، أو تطرف، رغم اليقين بانقراضهم، وعدم وجود أي نفوذ يذكر لهم، في تأسيس اكبر مساحة مترامية الحافات، لا تحدها نهايات، أو حدود، ولا تفرقها، أو تعزلها علامة.
   وجاء في احد البيانات ان الملايين التي ليس لديها ما تخسره، بعد قرون من الاستنزاف، هو وحده الذي دفع بها إلى ما بعد الوحدة؛ حيث بدأت الاحتفالات ـ بمنح كل مشارك، بعد محو الهوية وتطهيرها من آثار الماضي ـ الحق بتأسيس دولة تخلت وتخلصت ونبذت كل ما يقود إلى البغضاء، والى الكراهية.  فكما تعمل العناصر عملها في المديات الشاسعة، فان عمل دولة الموتى ذهب بعيدا ً بالتحرر من أسباب التصادم، وما يؤدي إلى العراك.
     وجاء في بيان آخر بعدم ضرورة إصدار أي بيان يتضمن مشفرات أو ملغزات قد تعمل على إحياء اثر ما مندرس لا مناص سيقود للتفكير في الأسباب ونتائجها، الأمر الذي سمح للبلاد ـ وهي اللا بلاد بالمفهوم الجديد ـ ان تحرر باقي المساحات غير المحررة، وبحسب البيانات المؤكدة، فقد تم إعلان نهاية الزمن، وتتابعاته، وتراكماته، ومخفياته، وتأسيس فضاءات  انتفت فيه أية ضرورة لدخولها في الأسفار، أو في كتب ما كان يسمى تاريخا ً.
   عدا ان مؤرخا ً مغمورا ً، مجهولا ً، وقد تم نفي الخبر، استطاع ان يضمن سلامة حياته بتقمص أقنعة الموتى، وأخلاقياتهم، ودوّن كيف لم تعد ـ حقا ًـ أية دوافع لعمله، مما سمح له للاحتفال، بحرق آخر علامة من علامات الحياة، والوجود السابق، والاندماج في عصر كان يراه يمتد، ويمتد، من غير حاجة للاحتفاء أو الاحتفال باتساعه، أو الفرح بما وراء أي مدى من مدياته، مما سمح للموت، ذاته، وليس للموتى، ان يتخذ اسما ً، مكث غير قابل للمشاهدة، أو الرصد. وقيل، وفق بيان لم يصدر، ان الموتى أنفسهم لم يعد لديهم شيئا ً ما يخسروه، بعد ان أصبحت الحياة، ذاتها، خبرا ً لا اثر له في بياناتهم، التي أصبحت خارج مفاهيم الزوال، أو الانتظار، والتجدد. وكان ذلك آخر بيان حمل الرقم: صفر، حيث العدد لم يعد لوجوده إلا وجود العناصر، طليقة، في الفضاءات.
[15]رسالة/1
    [ صديقي ....
كلما رفعت راسي قليلا ً أعلى من حافة المنضدة، المح ظل الحبل، يتمايل، رماديا ً ...، وأنت، كنت تشاطرني الجلوس في المكان ذاته، وكنا ـ للقضاء على الفراغ ـ نسترجع الأزمنة التي كان فيها البعوض يملأ المدينة، كان ذلك قبل ان يتم القضاء على الملاريا، بالكنين، هل تتذكر الأقراص الحمراء المرة التي كانت تساعدنا للتخلص من هلاوس الحمى وما كانت تسببه من خلط بين البصريات والأصوات، وهل تتذكر الغبار الذي كان يمنعنا من تنفس الهواء، ثم ...، لم أجدك معنا، فأقول لك: لم يعد لدينا ثمة حبل يتمايل، فالزمن مضى، إن كان رماديا ً أو من غير لون، بل أصبحت ـ بعدك ـ لا أميز عدد ألوان الحبال، وأشكال الموت الصامت.  فلا تكترث، فأنا تذكرت أيام الحبل، من غير ان يشاطرني آخر، بعد غيابك، المصير، كي أقول لك: لا يمكن لي ان أبقى طريدة تبحث عن ملاذ، لها، والى الأبد. فانا أصبحت استعيد لسعات العقارب، وعضات الأفاعي، لتلذذ بالسم، كعقار ناجع للتسوية مع قدرنا! ]
 وأرسل كلماته، من غير ان يضع عنوان المدينة، أو الصديق الذي لم يفلح في تذكر اسمه.
[16] رسالة/2
      أتراك تعتقد أنني استطيع ان أميز بين العدو وبين الصديق، أو بين اللون الأسود واللون البلوري، كي أميز اذا ما كنت مازلت اشعر بالخوف، أو أصبحت بعيدا ً عنه، وما اذا كان القليل من الهواء يكفي كي أتمدد وأنا غير مكترث لمن بجواري، إن كان ميتا ً، أو بانتظار الموت، كي تغيب الشروط ذاتها عنا التي سمحت، لنا، في ذات يوم، ان نحلم كما تحلم الطيور، وان نمرح، كما الأشجار في غابة، أم ربما تكون سعادتك قد بلغت ذروتها، حيث بصرك لم يعد يلمح حتى غيابي.
[17] رسالة/3
" ـ لِم َ تركتني أذهب، ولِم َ تخليت عني ...؟ "
   فكرت، لا للعثور على ذنب لم ارتكبه، بل عن آخر قد يدفع بالاتهام إلى أقصاه. فكرت، ان ما من فائدة ـ  لا بالسلب ولا بالإيجاب ـ يثمرها التفكير اذا ما كنت أنا ـ هو ـ الذي أوعز لها ان تذهب كي ابحث عنها، أو كي تبقى تحمل شوقا ً ما، لوعة، رغبة، أو توقا ً، لا يدعها تمحوني من ذاكرتها...؟ فكرت ـ ربما ـ لأن النهايات رأيتها تامة المقدمات، فلم اعترض على ذهابها ابعد من جسد مكبل، مقيد، كونته العناصر ذاتها التي كونتني، فقلت: يا لها من ملهاة ان تكون هناك غواية تستبدل ما لم يدشن بهذا الذي أبصرته بلا حضور.  فأعيد قراءة الإصغاء إلى الصوت النائي: لِم َ تركتني أذهب، ولِم َ تخليت عني ...، كي استدرك: ليس لهذا إلا ما يماثل عواء ذئب يحتضر وجد طريدته غزال يستنجد بقطرة ماء!

[18] رسالة/ 4
    " قلت لك: أنا مولع بتتبع ومضات ما ان اقترب منها حتى أجد من يحثني على الإسراع ....، وأنت ـ مع من كان معك ـ كنت تتحدث عن أهداف تركها بصرك تتوارى، وأغفلها، ولم يلتفت إليها، فكنت تناضل من اجل سواها. أنا لم أكن معك كي ابتعد عنك، لم اصفق لشعاراتك كي ألعنك أو العنها، لم أخنك كي اطلب منك الغفران. أنا كنت أتتبع تلك النداءات التي ما ان اتجه نحوها حتى أجد حياتي تذهب ابعد مما قصدت. وأقول لك ـ وأنت في منفاك ـ  لست َ اسعد مني وأنا لم أغادر الأرض التي تكونت في أدغالها بذور الخلق الأولى: فأنت كنت تحلم ببلاد لا تدكها أقدام الغرباء، ولا يسرقها اللصوص، فوجدتها ....، ولكن بعيدا ً عن المقبرة التي ولدنا فيها، وآمل ان يكون لي أحفاد لا يغفلون أنها كانت نائية، مثل حبيبة كلما ابتعدت وجدت القلب لها إشارة. أعرفت الآن لماذا كنت أتتبع ما هو ابعد منك، وابعد مني أيضا ً، ابعد من منفاك، حيث مازلت كلما رأيت الومضات واقترب منها أجد خطاي تحثني باجتياز العثرات ..."
[19[ رسالة/ 5
   قلت لك: لا تدع بصرك يذهب ابعد من مداه، وقلت لك: احرص ألا تدعه يتمرغ في الوحل. لم تصغ، وأنا لم أرك بعد ذلك ـ قبل عقود ـ عندما سرقوا أحلامنا منا . إنما مازلت أتذكر انك قلت: سأنتصر! أنا قلت لك: الحياة هي المعركة التي تلتقي نهايتها بمقدماتها ، وتتوحد أضدادها، فلا فناء يتلون بالغوايات، ولا هناك من  يتباهى بها، ولا ثمة ظلال !  وها أنت ـ في هذه اللحظات ـ تشاهد القاصفات، والصواريخ عابرة القارات ـ تنزل، بل تهطل، كالمطر، فوق بيوتنا، ورؤوسنا، وحدائقنا، هدايا! أنا ليس لدي ّما أخسره، وأنت ليس لديك ما تربحه، فأنت تشاهد وطنك ـ عبر الشاشات ـ يذهب إلى المجهول، وأنا أراك بلا وطن، أو بوطن بديل، والكل ماض ٍ إلى: أثير، وسكون تتكوم فيه الاستغاثات!
[20] رسالة/6
    كتب: " عندما شرعنا بالعمل من اجل سيادتنا، أنت لذت بالفرار..، وأنا، وضعوني وراء القضبان. بعد نصف قرن، أنت طليق، لديك العالم كله، وعشت حياتك وكأنك أنجزت ما كنا نحلم بانجازه. أنا ـ الآن ـ لدي ّ القليل الذي أتعكز، في المشي، عليه. ولدي ّ، الأقل فالأقل من الأحلام، التي كلما انبثقت في راسي، رأيتها، مدوّنة، فوق شواخص قبور لموتى بلا أسماء. فالحديقة التي اجتمعنا فيها، قبل دهر، لم تتحول إلى مزرعة، أو إلى مصنع، ولا إلى مؤسسة علمية، بل أصبحت مقبرة مترامية الأطراف. عمليا ً، في غرفتي نافذة صغيرة تطل عليها، إنما، أحيانا ً المح بعض الطيور، وأنا لا اعرف أهي مهاجرة، أم إنها اكتفت بهذا القليل، والأقل منه، برؤية دنيا ستولد، في يوم ما، خارج الجدران...؟
  ولكنه ضغط على علامة المحو، فاختفت رسالته، مستمتعا، بشرود، للمساحة  وهي تتقلص، من غير سواد.
[21] رسالة/7
    أنا لم انس، يوم صرخت: أسرع، القذائف تنهمر علينا، كحبات الحلوب، فأسرعنا، ولم نتوقف، لأنها مكثت كأنها تقصدنا. فسمعت صوتك: لماذا يستهدفون بيوتنا، وشوارعنا، وأنهارنا، وحدائقنا. فقلت لك: لا تتوقف. ثم وجدنا أنفسنا في درب مغلق. امرأة ما همست: من هنا. فسحبتك بقوة وهرولنا. كان الوقت عند الظهيرة، وكانت القذائف تتساقط بغزارة، فسألتني:
ـ هل سقطت فوق رؤوسنا ..؟
ـ لا .
وأسرعنا، فسألتني:
ـ هل أصبت ..؟
ـ لا .
وتابعنا الهرولة بحثا ً عن جدار نحتمي به، وعندما لم اعد اسمع صوتك، صرخت:
ـ هل أصبت ..؟
ـ لا .
   وهدأ القصف، فلم نعد نسمع أزيز مرور القذائف، فسألتني:
ـ كيف عرفت أنني لم اصب..؟
  فقلت لك، قبل ان تكمل عبارتك:
ـ عندما نموت، عندما نموت فقط، عندما نموت لا نعرف إن كنا موتى أو على قيد الحياة!

[22] طيور
    لمن يبوح، بل لماذا ـ دار بخلده ـ بموت المرأة التي أحبها لسنوات طويلة، حتى كادت ان تفقده عقله، وقد رحلت، أو ـ هو ـ لم يبد اعتراضا ً ـ حتى صدم بالخبر..؟ أتراها هي التي أرادت ألا يدعها تغيب، وهي، قال مع نفسه بصمت، استعدت للرحيل. ثم، فجأة، رفع صوته: تبدو كأنها تفتح النافذة وتدعو الطيور للمشاركة في الإصغاء إلى النداءات النائية.
    لا. وحزم الأمر:  فلا احد باستطاعته ان يواسيني، ولا حتى أنا امتلك قدرة الحسم. ولم يجد ـ حتى في نفسه ـ إلا ان يتتبع أصداء صوتها الخفية، تناديه، فيفتح النافذة، ليشاهد سربا ً من الطيور تحلق عاليا ً، ولم تجد تضرعاته لها لتشاركه الإصغاء، أو تجلس معه للمواساة، فقد كان يراها تدور، بمحاذاة غيوم بيض، وقد غابت عنه تماما ً.
[23] الصرح العظيم
ـ من شيّد هذا الصرح العظيم..؟
كانت حبيبته تصغي له وقد رافقته الزيارة، فابتسمت، وقالت بصوت رقيق:
ـ آلاف العبيد هم الذين شيدوه، آلاف الآلاف ماتوا كي يبدو بهذه العظمة ..!
هز رأسه وسألها:
ـ كي يكتسب هذا المجد، ويصبح رمزا ً للحضارات ...؟
   لم تجب، وقد اكتفت ان أومأت له بالصمت، وتتبع خطاها، فدار بخلده، انه ـ هو الآخر ـ لا يعرف لماذا انصاع لها، مع انه، معها، لا ينوي ان يبني إلا بيتا ً له نافذة صغيرة يراقب منها السماء.,
[24] الجنرال يحلم
  أمر الجنرال جنوده بصوت حاد:
ـ اقتلوهم، أينما تجدونهم، في الممرات، وخلف الأشجار، أو داخل الخنادق، اقتلوهم، ولا تتركوا أحدا ً منهم.
    صمت لحظة، وقال لنفسه، متابعا ً:
ـ فلو لم تفعلوا ذلك، وتنفذوا الأوامر، سيقتلونكم، أينما كنتم، في الشوارع، وفي الحدائق، أو في بيوتكم ..
   وخفض صوته، مخاطبا ً لا أحد:
ـ لأننا إن لم نقتلهم، سيقتلوننا، وإن لم نفعل فإنهم لن يدعونا نعيش بسلام...، إنها الحياة، يا أبنائي البواسل، كر وفر، دورة...، وعلى كل منا ان يؤدي دوره فيها.
    وأفاق الجنرال العجوز، فلم يجد أمامه إلا زوجته تحتضر، منذ سنوات، بعد انتهاء الحرب، فخاطبها:
ـ آن لي ان ابدأ حياتي ثانية! فالمعركة لم تنته، آسف، يا عزيزتي، لم تنته بعد، وآن لي ان ابحث عنها.
[25] عودة
   نظر إلى المجاميع البشرية التي كانت تزحف، فسأل من كان بجواره:
ـ في هذا الفجر، إلى أين تراهم يهرولون، ويزحفون، ويسرعون ...؟
ـ إلى المكان الذي لا عمل فيه ..!
ـ ولكنني اعرف أنهم، طوال حياتهم، كانوا بلا عمل!
ـ أنت سألت، وأنا أجبت.
   فخاطب نفسه بصوت مسموع:
ـ علي ّ ان أعود أنا أيضا ً إلى المكان الذي لا عمل فيه؛ أعود إلى الأرض، بعد ان كنت خرجت من رحمها، الذي كنت عاطلا ً فيه عن العمل أيضا ً.!

[26] المثلث
ـ قل لي، وأنا رأيتك تقتل جارك، هل كنت تفكر في الذهاب إلى الجنة..؟
    لم يتفوه الآخر بكلمة، بل تركه يحدق في فوه كاتم الصوت، فكان يرى الفوهة مثلثة الشكل وليست دائرية، فابتسم، من غير قصد، أو أراده، فصرخ الآخر فيه:
ـ أتسخر من الجنة أيضا ً..؟
ـ لا..بل من المثلث!
  قرب رأسه قليلا ً منه، وسأله:
ـ أي مثلث تقصد ..؟
ـ الذي لم اعد أراه الآن ..!
   فضحك الآخر ساخرا ً، لسبب ما، وغادره. فناداه، وهو غير مصدق انه نجا من الموت:
ـ إلى أين ...؟
ـ ابحث عن آخر اقل جنونا ً منك، كي أرسله إلى العالم السعيد!
 30 آب 2013

الأحد، 11 أغسطس 2013

طارق الشبلي تحت وطأة المرض الثقيل-كاظم فنجان الحمامي

طارق الشبلي تحت وطأة المرض الثقيل
 
 
 
كاظم فنجان الحمامي
 
من منكم لا تدمع عيناه ويهتز طرباً وهو يستمع إلى إحدى هذه الأغاني البصرية المفعمة بالأنغام الجنوبية الأصيلة, المشبعة بالأحاسيس العراقية الصادقة: يفر بيه هوى المحبوب يا يمة/ لو تحب لو ما تحب هي وحدة من أثنين/ بحال الصفصاف تخلوني/ أكول الله على العايل/  بالله سلم سلام/ لا تلوموني قلبي ما يحمل ملام/ بعدك بالقلب بعدك/ شوف اشسوه هجرانك/ راح العزيز وروحي راحت/ لعيونك أنت يا حلو/ إبهيده هيده/ واجب بالروح أشريك يحبيب واجب/ هلا بجيتك/ قلي شنو الصار/ امكبعة/ مستاحش/ لالي يا قمر لالي مر بوطنه/ مكحلات العيون/ شوقي خذاني/ زغيرة كنت وأنت زغيرون/ مثل نجمة والقمر/  لاموني لاموني/ ومئات الألحان التي غناها رياض أحمد, وسعدون جابر, وقحطان العطار, وصلاح عبد الغفور, ورضا الخياط, ومحمد الشامي, وفؤاد سالم, وسيتا هاكوبيان, ومحمود أنور, وقصي البصري, وعبد الله رويشد, وراشد الماجد. .
كان هذا الفنان الرقيق, الذي لحن هذه الروائع الموسيقية الجميلة, وصاغ أنغامها على الإيقاعات الجنوبية الراقصة, التي تنبض بالدفء والصدق والعفوية, هو الموسيقار البصري الكبير طارق الشبلي, عراقي حتى النخاع, ووطني مخلص لوطنه, ولد في البصرة ولم يغادرها حتى يومنا هذا, ذابت روحه في بساتين مدينته ونخيلها وشواطئها وأنهارها الخالدة, ولولا موهبته العظيمة ومواهب أمثاله من كبار المبدعين لما كان للبصرة وضواحيها تراث غنائي تفخر به وتتغنى بألحانه. .
طارق الشبلي هذا الإنسان البسيط المتواضع, الذي ينتمي إلى الطبقة العمالية الكادحة, ويسكن في أحياء المعقل الفقيرة, في دار صغيرة من الدور التي شيدها مزهر الشاوي رحمه الله. .
لم يقف على أبواب المسؤولين, الذين انشغلوا بمهاتراتهم السياسية, وخصوماتهم الطائفية, ولم يستجدي منهم العون والإسناد, لكنه لم يستنكف من قيامه بتوفير رزقه ورزق عائلته من عمله الشاق الدءوب كسائق في سيارة للأجرة يجوب بها شوارع مدينته. .
طارده رجال الأمن, ولاحقته السلطات المستبدة, فزجت به في سجون الأحكام الثقيلة, لكنها أفرجت عنه لعدم ثبوت الأدلة, ثم عادت لتضعه مرة ثانية خلف القضبان, فعذبوه وضربوه وصادروا مقتنياته, وانتهكوا حرمة بيته, وأدرجوا اسمه في قوائم التهميش والإقصاء, فلم يفقد موهبته الفنية, ولم يساوم على كرامته, فاختار العمل اليومي المرهق ولم يرضخ للذل, وفضل الكفاح على الليالي الملاح, رافضا كل المغريات حتى أنهكه المرض وأقعده في داره, فلم يبرحها إلا عند الضرورة وفي المناسبات الخاصة. .
ثم باغتته الأورام الدماغية, فدمرت جهازه العصبي, وقيدت حركته ولم ترحمه, فكان لابد من إجراء العمليات الجراحية في مستشفيات أربيل على نفقته الخاصة, وكان لابد من مواصلة العلاج السريري بالعقاقير المستوردة المكلفة ماديا, وذلك قبل خوض المزيد من عمليات الجملة العصبية لاستئصال الأورام المتبقية. .
لم تقف معه منظمات المجتمع المدني, ولا نقابة الفنانين, ولا المؤسسات الثقافية, ولا المراكز الحكومية في العراق الديمقراطي الجديد, ولم يتذكره أصحاب المقامات العالية. .
ويبقى السؤال المؤلم المتجدد يلح علينا, فنردده مع أنفسنا بهستريا المقاهي المهجورة, فنقول: لماذا نحن في العراق وحدنا من بين شعوب كوكب الأرض ندوس على مبدعينا بقسوة, فنخنقهم ونمنعهم من الإبداع, ونحرمهم من التألق, ونشيح بوجوهنا عنهم, فنتجاهلهم في محنتهم, ونخذلهم في مرضهم, ثم ندوس على أرواحهم بعد مماتهم, لكننا نظل رغم كل أفعالنا الغبية ومواقفنا الجاحدة, نتغنى بألحانهم وأغانيهم وأناشيدهم, ونمجد آثارهم, بينما نرى غيرنا من حكومات العواصم العربية القريبة, يوفرون لأنصاف المبدعين والمبتدئين كل وسائل الدعم والإسناد والراحة, ويشملونهم برعايتهم, ويغدقون عليهم, ويبالغون في الاهتمام بهم, تماماً مثلما يرعى جماعتنا عناصر حماياتهم وجنودهم وحراسهم وسواقهم وخدامهم وسياراتهم المدرعة. .
يرقد الفنان طارق الشبلي الآن وحيداً في بيته, معتكفاً في عزلته, محبوساً في سريره, مضطجعاً تحت وطأة المرض الثقيل, بانتظار إجراء سلسلة من العمليات الجراحية المقررة على نفقته الخاصة في البلد الذي يعوم فوق أكبر بحيرات النفط والغاز, من دون أن تؤازره المنظمات الثقافية ولا الفنية ولا الإنسانية. .
زرته في بيته في اليوم الثالث من أيام عيد الحزن المتفجر بالمفخخات والعبوات والمجازر العشوائية, وكنت بصحبة المشاور القانوني السيد عمار العطية, ورئيس المهندسين محمد جواد توفيق, فصعبت عليّ حالته, ورحت أكتب بقلمي المرتعش كلمات هذه الصيحة اليائسة لكي القي الحجة على المؤسسات الفنية والثقافية والإنسانية النائمة فوق جراحنا, عسى أن تحس بمعاناة هذا الشيخ المبدع, فتنتشله من عزلته, وتعينه على شدته. .
غادرناه والألم يعتصر قلوبنا, ويخنق أنفاسنا, وكان واقفا متكئا على جراحه, كشجرة صفصاف كبيرة وقفت تقاوم الشحوب والعطش وتتحدى كثبان الجحود والإهمال, فأخذت أردد بصوت مبحوح كلمات أغنيته الشهيرة:
تخلوني بحال الصفاف تخلوني
ترضون أبهيمة تخلوني
ذبلان الشوك البعيوني
ذبلن وردات الحب ذبلن
نهرين عيوني وما روّن
يا هو السوّه
ولا هي مروّة
تخلوني بحال الصفاف تخلوني
-- 

نوري مصطفى بهجت جماليات التجربة وريادتها *-عادل كامل

نوري مصطفى بهجت
جماليات التجربة وريادتها  *




عادل كامل
    عندما أبصر نوري مصطفى بهجت النور، عام 1924 لم تكن بغداد، ومعظم المدن العربية، تحلم بأكثر من ديمومة الانتماء إلى الماضي: قرون امتدت حتى كادت  لا تترك أثرا ً لها، كالذي أنجزته بغداد، قبل ألف عام، في عصرها الذهبي. وهذه ليست مفارقة، ان يأخذ التمرد مداه تحت تيار (التحديث) أو ان يضع حدا ً ـ بلا مبالغة ـ حمل عنوان: الريادة، بل، برنامجا ً مازالت قراءته مؤجلة، بما أنجزته من تدشينات رائدة، بعد قرون من الظلمات.
     على ان مشروع (التحديث)، بعد الحرب العالمية الأولى، سيشكل ظاهرة استدعت تضافر مكوناتها. فالمدينة، بغداد، للمرة الأولى، لم تعد معزولة عن تيارات التغيير، والتحولات، لأنها، في هذا السياق، سمحت لظهور من يعيد الحياة إليها، ليس وفق تعاليم القرون الوسطى، وعصور محاكم التفتيش، والحروب الأهلية، بل بحسب التحول للعبور نحو عالم قائم على: الابتكارات،  والتدشين، ومغادرة الرضا بالخمول، وكراهية المعرفية!  
   ولأن نوري مصطفى بهجت، في نشأته البكر، وما بعدها، وجد مساحة للتقدم، وليس للردع، فانه لم يغامر في الاكتشاف، وفق مفهوم الكسب أو الخسران، بل أعاد ـ عبر لاوعيه ـ مفهوم بناء الحضارات المخبأة/ المستترة، التي كوّنت خارطة عمل جيناته الوراثية، مع حاضره، كي تتوازن فيهما عناصر البناء، مع مفهوم التدشين، أو الابتكار، في عصر الحداثات الأوربية، بغزارة تنوعها، وعملها على نسج دروب المستقبل، وليس الارتداد، أو البقاء في الصفر. فوجد انه إزاء عالم شبيه بعمل المنقب الاثاري في الكشف عن المخبآت، والمخفيات، وفك طلسماتها، ومشفراتها، فكان الوعي بما سينجز، قاده للحفر في أكثر المناطق غموضا ً: الوعي بالحياة ـ أي الوعي بجمالياتها ـ وإنها لم تخلق للغياب، بل كي تتجانس فيها ديناميتها، وعلاماتها، مع كل تقدم لا يتطلب موهبة معزولة عن الجهد فحسب، بل مثابرة تحكي ذات العناد الذي تمتلكه البذور في مد جذورها داخل أقسى المناطق صلابة.
    فالنشأة، وولع بهجت بالفنون، مهدت له ممارسة رسّخ فيها شروطها النظرية، والفكرية، فالخيال لديه، لم ينفصل عن الممارسة العملية، إزاء متغيرات تطلبت عناد البذرة، ولغزها في الأخير. فالرهافة تجذّرت كممارسة ليس لقراءة المشهد، بل للديمومة الإقامة في مناطقه الخلاقة: الحياة بصفتها مشفرة بتاريخ طويل للتحولات من الأرض (الآلهة الأم)، إلى اليد، ومن ثم إلى الوعي، الفكر، وقد اجتمعت لصياغة الوعي بتضافر هذه الأزمنة في زمنها المستحدث، وتكامله، كحياة غير فائضة، وجديرة بالإضافات: التدشينات.
    وبقراءة الأسماء المميزة لمرحلة الرواد ـ منذ ثلاثينيات القرن الماضي وصولا ً إلى خمسينياته ـ فان وعيا ً بالتركيب أو التوليف، والتنوع أو التعددية، كان ممهدا ً للخروج من الصفر ـ تقريبا ًـ نحو مدينة ترغب ان تنسج مصيرها، من الداخل، رغم عثرات الماضي وتراكمات سلبياته، من ناحية، والتيارات الحديثة الوافدة أو التي مازالت غريبة، من ناحية ثانية. بل كان على بغداد ان تستثمر موروثاتها الخلاقة المدفونة، وما كان يحدث في العالم، على نحو يعيد إليها هويتها، ومعالمها الحقيقة، كمدينة لم تمت، ولم تدفن بعد.
   فكان نوري مصطفى بهجت يمتلك استعدادا ً كي يكون: رساما ً، أو نحاتا ً، مثلما كان هذا الاستعداد ـ بالفطرة ـ ان يصنع منه موسيقيا ً، وبالاستعداد ذاته لم يكن الطب معضلة، إن لم يكن حرية أكدت ان قسم (ابوقراط) فلسفيا ً، قبل ان يكون معنيا ً بمهمات الطبيب، منهجا ً لسبر أغوار المناطق الجديرة بالاكتشاف، والدخول في أبعادها النائية. فالحياة ـ بلغزها ـ تمتد، ولا تغيب، لان حضورها سيعيد ـ من غير تكرار ـ سر عبور ما هو جدير ان يقاوم هذا الاندثار، وكأن الزوال، عبر الحضور، غياب شبيه بامتداد العدم، وقد أصبح حضورا ً تاما ً. فاللعبة تلعب وكأنها كتمت فضائح الغوايات، وصاغت منها، قانون الديمومة، ومقاومة الخمول، أو التراخي، ليصبح عملها تحديا ً دائما ً، وكأن سيزيف ليس معاقبا ً، بل قائما ً على انتظار ما قد يكون انتظاره ليس عبثا ً، أو هدرا ً لرمزية الإنسان، ووجوده في الأصل.
      كانت فلسفة الشاب نوري مصطفى بهجت، قائمة على الوعي بما يمثله المستقبل للمدينة، وسكانها، فقد كانت بغداد تستعيد هويتها بالتعددية، وبحريات لم تكن وهمية، أو زائفة، مقارنة بالقرون التي عاشتها خارج التاريخ، وبعيدا ً عن أداء رسالتها.
  وهذا ما تفصح عنه قراءة يوميات الطبيب ـ الفنان، أو الفنان ـ الطبيب، لتجربة امتدت أكثر من ستين عاما ً، وهو يعيد تدوينها، كحياة نعيد قراءتها، مرة بعد أخرى، بصفتها قدوة، أو نموذجا ً لإنسان نسج تاريخه، وجعل منه علامات إبداعية، في حقل الطب، وفي مجال الفنون الجميلة أيضا ً.
     فإذا كانت (السلعة) تكتسب ثمنها بالجهد المبذول فيها، إضافة إلى عوامل لا تحصى مخبأة فيها، فان الجهد الذي بذله نوري مصطفى بهجت، غادر حدوده الشخصية، نحو المدينة ـ بغداد ـ وحضارتها. وذلك لأنه لم يصنع (سلعا ً) بل صاغ علامات تؤكد ان موت (الفن) ـ بتحوله إلى سلعة  أو بضاعة أوالى  شيء من الأشياء ـ ليس إلا نسقا ً قد لا يدوم طويلا ً، ما دام الفن ـ والإنسان في الأصل ـ لم يستجب إلى تحول العالم إلى سلاسل من التصادمات، بل، بما يشبه عمل القدر، تحديا ً آخر يعيد تعريف الخلود، بقلب الأبدية، إلى مفهوم  ليس للإنسان فيه وقت للآسف، كما قال بطل ساغال، في رواية: الموت حبا ً.
      ففي هذه اليوميات، ما يقود إلى: لغز ـ التاريخ، لغز المتعة، أو اللعب، وهو احترام العقول بالدرجة الأولى، وليس إلى الربح، فثمة منفعلة لا مناص إنها غير منفصلة عن ميتافيزيقاها، لكن ليس للغطس فيها، بل للتحرر من التباساتها. فالمنفعة ليست مستقلة، مثلما لا يوجد جمال في ذاته، حتى لو كان تام العلة، أو من غير أسباب، كما في فلسفة بعض المثاليين. فثمة توازن بينهما، يمد بالإقامة، لا على حساب المتعة، أو على حساب الجمال، بل بتضافرهما لصياغة الأداء في الممارسة (الطبية)، من جهة،  وعبر بناء النصوص الفنية، من جهة ثانية.  فالرؤية لدى الطبيب الفنان تدحض النفع، وتخالف مفهوم الإنتاج ـ الاستهلاك، نحو المعنى، وقد غدا فعلا ً انطولوجيا ً ـ بيئويا ً، ينبني ويتجذّر بالبناء، وقد غدا فعلا ً مستحدثا ً، ضمن أزمنة تميزت بما تركته أزمنة الرداءة، فضلا ً مواجهة الحاضر بقدرات نادرة على التجاوز، والتقدم. 
    ففي التفاصيل الاستثنائية التي يرويها عن قرى العراق النائية، عبر عمله، كطبيب، وفي تأسيسه المبكر لمشروعات العلاج الطبيعي، ودوره في التجمعات الفنية، من الرسم إلى الموسيقا إلى التجمعات الفنية، والثقافية، لا يغرق، أو يغطس، حيث الشيطان يكمن فيها، بل على العكس، نحيا الحياة بصفتها تحديا ً دائما ً يمنحها ديناميتها ـ وديمومتها.
    فالطبيب لم يختر إلا دحض (المهنة) أو (الوظيفة) كي يجعل الوسائل مندمجة بغاياتها، ويجعل منها رهافة ترتقي بالفعل نحو رمزيته، وما يمتلكها من مُثل، وجماليات.
   فهل كان هذا محض مصادفة، أن يظهر جيل أسهم فيه رواد: الطب، العمارة، القانون، الشعر، الفنون التشكيلية، المسرح، الموسيقا، الرواية، العلوم الاجتماعية، النقدية، والفكرية..الخ، أم كان استجابة لبلد انتظر قرونا ً كي يغادر ظلماته ويتلمس ما سينسجه تحت الشمس؛ مصيره إزاء عالم يتأسس على التحديات، وليس على الانتظار..؟
    يوميات الفنان الطبيب، أو الطبيب الفنان، وقد اشرف على تحريرها شاب دؤوب موهوب شديد الحرص على مفهوم ديمومة الابتكار، الأستاذ معتز عناد غزوان، ستأخذ موقعها ليس في الذاكرة، أو في تاريخ الثقافة الحديثة في العراق، فحسب، بل في الاستجابة لاستكمال تدشينات لو لم تجد، مفازتها، وحلقاتها، وروادها، فان خطر الارتداد ليس مزحة!  
    وهنا ستأخذ القراءة ممرات كل منها يقود إلى النتيجة ذاتها: الهوية. وإذا لم أكن معنيا ً كثيرا ً بالطب ـ رغم انه احد أكثر شروط الحياة حيوية ـ فان النصوص الفنية للطبيب، ستبقى مميزة بانحيازها لعمل اجتمعت فيه الدوافع الفنية ـ الجمالية، بالنسق الايكولوجي. فقد قدم لنا، مع جيل الرواد ـ واعني بهم الجماعات التي ظهرت منذ نهاية ثلاثينيات القرن الماضي حتى خمسينياته ـ خلاصات شكلت تاريخ مفهوم الفن الحديث في العراق. تاريخ لا يروى حسب، بل غدا مرئيا ً، لتضافر روافده العالمية، بموروثاته الزاخرة بالمشفرات، وبحاضر قاوم غيابه.
   فالانحياز إلى الطبيعة: الهواء والمكان ليس استعارة من مدرسة من المدارس، قدر الانحياز ذاته للبيئة بتنوعها الفريد، على اتساع المساحة التي عاشها من أعالي جبال كردستان إلى اهوار الجنوب في الصحين والحمار، كما ان انحيازه إلى أية مدرسة فنية ـ وهذا ما حصل للأستاذ حافظ ألدروبي ـ لم يكن إلا نسقا ً شبيها ً بالانتقال من الشفاهية إلى التدوّين، ومن الإصغاء إلى التأليف على صعيد الأصوات، كمثال لتجريبية استبعدت العشوائية نحو وحدة تضمنت تنصيصات كي تثمر توليفاتها الانطباعية، لكن ليس بالمعنى الانفعالي ـ اللحظوي ـ إلا كي تعزز رؤيته الواقعية في علاقة الفنان بالمكان، وتاريخه، وأساسا ً في منح الروحي شفافية متحررة من القيود.       وربما كان هذا واحدا ً من الأسباب التي سمحت له ان يشترك مع فائق حسن والشيخلي والقصاب ومحمود صبري في جماعة الرواد (1950)، وليس في جماعة الانطباعين العراقيين، انتماء عفوي لبدائية معاصرة قائمة على الخبرة، وليس على التلقائية، أو المصادفات، مما سمح له ان يدوّن ـ بالرسم ـ تاريخه الروحي، إلى جانب التاريخ الذي عاشه مولعا ً بالوطن كانتماء إلى الحضارة، وليس للأرض حسب.
   ذلك لأن هذه الوحدة، بين التاريخ والذات، شبيهة برؤية الفنان إلى سلامة الجسد/ الفكر، عبر تخصصه الريادي، ومن ثم، فان رؤيته، كطبيب، أكدت ان الحياة من غير فن، كعلامة منفصلة عن سياقها، فالجدل، وربما (الصيرورة)، في هذا النسيج، لخص ّهذه الوحدة، كانسان لم يفرط بما كان يراه ينتظر هذه التعددية ـ وهذا التكامل.
   إننا إزاء مثال للرهافة ـ إنسانيا ً وجماليا ً ـ والقائمة على ضرب نادر من أدوات التعبير، من غير إسراف، وبحكمة منحته هذا الثراء، وهذا العنوان: الريادة، من الطب إلي الفن، ومن المرئيات إلى ما تخبأه الحياة من مشفرات صاغها كمن أراد للموسيقا، والموسيقا أبدا ً، ان تحفر جذورها ـ وبراعمها ـ في الإنسان ـ كعلامة ـ وهو يكّون حضوره، بمثل هذا التهذيب، والأمانة، ومن غير تذمر، أو حتى شكوى.

* مقدمة لكتاب حول فن نوري مصطفى بهجت، قيد الطبع، تحرير د. معتز عناد غزوان