الأربعاء، 19 ديسمبر 2012

قصة قصيرة-أصابع وأصابع



قصة قصيرة



عادل كامل
    عندما قرأت خبر وفاتي في أكبر الصحف، وعن مرض عضال، وتم تشييعي إلى مثواي الأخير، صدمت، في بادئ الأمر، لكنني هدأت نفسي وحسبت ان نشر الخبر محض مزحة أو خطأ من الأخطاء التي تحصل. على أنني توصلت إلى قناعة مفادها أنني لست المقصود .. فأنا أتنفس .. وأدخن .. ومازلت مولعا ً بقراءة الصحف والكتب  الخاصة بالغابات، وما يخص المتحجرات، والفضاءات النائية، بعيدا ًعن اهتمامات زملائي، وما زلت أذهب إلى السينما أحياناً .. وأحلم عندما لا أكون مراقباً.  
   لكنني عندما راجعت تلك الصحيفة، والتقيت السيد المسؤول عن النشر، أكد لي صواب الخبر،  وأكد بثقة عالية أنني أنا ـ هو ـ المقصود، وأن صحيفتهم لا تقع في مثل هذه الأخطاء.

-
ماذا تقول؟
-
هذا ما أقول .. وهذا هو الصواب.
غادرت الصحيفة، في ذلك الصباح، وذهبت إلى دائرتي.
فقالت موظفة الاستعلامات لي:
 -
تفضل ؟
-
 قلت متسائلاً:
هل منعوني من الدخول إلى دائرتي؟
-
كلا !..
-
حسناً .. لماذا .. أذا ً ..؟
قاطعتني:
 -
لكنك لم تعد على قيد الحياة ..
صرخت:
-
 من قال ذلك؟
 -
الخبر! ..
ثم أضافت، بهدوء:
 -
أنهم يتحدثون عن رحيلك .. جميعاً .. وليس الذنب ذنبي في الأخير.

    غادرت الدائرة .. الدائرة التي عملت فيها أكثر من ربع قرن .. وذهبت إلى مقهى شعبي .. جلست وحيداً .. دخنت ..وشربت الشاي .. ورحت أسأل نفسي: لماذا حدث هذا كله؟ لم أجب. وصرت في حالة مربكة أن لم تكن مقرفة. فانا لم أمت. ولكنهم لم يسمحوا لي حتى بدخول دائرتي .. وحتى الصحيفة التي نشرت الخبر أكدت صوابه .. وكدت أصدق ما حدث .. بل كدت أستسلم للخبر الذي هزني. لقد كانوا يقولون أنني أعاني من كآبة غامضة، ومثيرة للضحك، أي الضحك الخيالي القاتل..وكانوا يقولون، بشماتة، أنني آخر من يرحل عن .. هذا .. العالم! وكانوا يقولون، بشماتة، أني سأعيش إلى الأبد.! وكنت أدرك، على نحو غامض، تلك السخريات المقصودة .. فأنا، منذ ربع قرن، كيفت حياتي .. وصرت أتنزه وحيداً مع نفسي، وأحيانا ً بمعزل عنها.

  
بالطبع لست خيالياً أو مصابا ً بمرض الوهم .. ، ولا بالفصام،  حتى ان تلك اللحظات التي كنت أختنق فيها ليست سوى مشاعر معتمة تهبط عليَّ من المجهول، ثم بعدها، ترحل إلى مكان آخر .. فأعود إلى عزلتي العذبة وأرتب حياتي اليومية، مع العائلة .. والأهل .. وفي الغالب لا أتظاهر بالقناعة .. فأنا ولدت قنوعاً .. حتى أصبحت قناعتي مصدر إزعاج لعدد لا يحصى من زملاء العمل أو الجيران أو سكان الزقاق.

  
على كل، غادرت المقهى .. وذهبت إلى البيت. لم أفكر في شراء صحف جديدة. خفت، للحق، أن أطلع على أشياء أكثر فنتازيا .. ثم لماذا اقرأ وأنا قد مت. ضحكت ملء فمي .. وضربت الأرض وهرولت .. توقفت أتأمل الناس .. يا لهم من ظرفاء .. أتراهم يعتقدون بأنني رحلت إلى العالم الذي لم يعد منه أحد؟ تعرق جسدي كله .. فقد انتابني وسواس مرعب لو كانوا يشعرون، مثلي، بأني مجرد خيال أو ضوء أو ظل.
  
أسرعت. لقد شعرت بأنهم يفكرون بقتلي: يا للرعب .. فأنا لم أؤذ أحداً قط طوال حياتي. لماذا أؤذي غيري؟ لكني أسرعت .. باتجاه البيت. تخلصا من هذا الرهاب .. أو هذه الحالة التي أفسدت عليَّ سلامة التنفس .. فأنا في هذه الحالة أعاني من الاختناق وكأن هواء العالم نفد تماماً .. فأضطر لبذل جهد خارق كي لا أسقط. ربع قرن وأنا أتصّور أن شيئاً ما سيحصل .. مثل الموت الغامض الذي يحدث للمخمورين. وأرتج جسدي مرة ثانية .. وفكرت بحالة الموت .. أتراني مت حقاً؟ هرولت .. أن أفضل طريقة للتخلص من هذا الوضع ..هو الهرولة.. إنها رياضة تقلل من حالة الرعب..لكنها رياضة إنسانية! وأنا أحب الهرولة..لدرجة أني شاهدت البشر يهرولون، جميعاً.. يهرولون.. حتى كدت أنسى السبب..ربما يهرولون لأنهم موظفون.. أو ربما كان هناك قرارا ً ما أو توجيهات بهذا الصدد.. من ذا الذي يعرف.. ثم أنني رجل ميت!
       على أنني بدل ان اذهب إلى البيت، عدت إلى دائرتي.. فانا أحب الوظيفة حد الموت.. ولا استطيع مفارقة غرفتي .. والكرسي العنيد الذي لم استبدله.. والناس.. والدخان... والثرثرة.
ومرة أخرى كنت أتحدث مع موظفة الاستعلامات:
ـ أنا السيد ..
ـ اعرف.. أنا اعرف انك السيد..
قاطعتها:
ـ حسنا ً.. دعيني ادخل إذا ً .. أرجوك..
لكنها قالت بهدوء:
ـ آسفة ..
وأردفت في الحال:
ـ ثم أني لست المسؤولة ..أبدا ً.. أيها السيد..
ـ من المسؤول إذا ً..؟
لم تجب..أو ربما قالت أشياء لا تحصى .. لكنها صفعتني بقولها:
ـ هل تكذب الصحافة؟!
اهتز جسدي كله وصرت ارتجف ..لا .. كلا .. وأضفت: لا ..لا .. لا.
    ثم غادرت دائرتي حتى أنني نسيتها.. بل نسيت أني كنت حيا ً بين الأحياء. أمس أو قبل شهر كان صديقي البرفسيور الاثاري يسألني عن عالم ما بعد الموت.. فقلت له: ماذا عن هؤلاء الذين لم يرجع منهم أحداً..لا شيء..لا أحد يحق له الكلام. ثم أنهم هناك..هل هم في الفضاء أم في الأرض؟ لا أعرف..الذي أعرفه أني ما أزال أتنفس. وأدخن. والذي أعرفه على نحو واضح، أنني ما زلت أهرول. هو ذا الرعب..كلا، عليّ أن أتحول إلى مخلوق آخر..ماذا؟ كدت أموت..نعم..نعم..ماذا تقول لنفسك يا رجل؟ أهذا سؤال أم..أم.. ؟
   وعاودني الدوار مرة ثانية، حتى حسبت أني غير قادر على المشي. هرولت. فعدت أرى، وأشم رائحة الأرض..بل كدت أشم رائحة الغيوم..وهكذا هرولت مرة ثانية، مثل الطوابير البشرية..دون أن التفت إلى جهة ما..كنت أشعر بسعادة غامضة..بل بمسرة لا أسباب لها..صحيح أنني لم اسقط، ولم أتحول إلى (فرجة) للناس، ألا أني لم أعد اعتقد ان حياتي أفضل من حياة البشر في العالم السفلي؛ العالم الذي لم يعد منه احد.دخنت، وتأملت المارة: فتاة تغازل فتاها، وعجوز وحيدة تمشي في الطريق، أطفال يرقصون، لكنني وجدت نفسي ابكي، لماذا طردوني من العالم؟ قلت لنفسي: أنا لا أحب إلا الأشجار، والأسماك، والمتحجرات، والنباتات التي علمتني لغتها ؛اجل، قلت قبل سنوات: أنا الوحيد، بين أقراني، الذي تعلم لغة الأغصان وهي تشكو من البرد، والبراعم عندما يحل الليل، أجل، وقد اكتشفت أنها تشعر بالخجل أيضا ً، من ذا الذي يعرف ذلك؟ ان هناك لغة للأعشاب البرية، وأخرى للورود، لغة لا يعرفها إلا رجل مخبول مثلي! وكدت أموت رعبا ً يوم سمعت النبات يكلمني، فخجلت، لكن البراعم كبرت، والأشجار شاخت، والمتحجرات تفتت، وأنا لم اهرم! صرخت فجأة:
ـ كفى، من ذا الذي يعذبني..؟
   لم أجد من يكلمني..لقد شعرت شعور المطرود من العالم. شعرت كأنني طردت من الفردوس بالرغم من أنني لم احلم بالحصول على هذا الامتياز، ولماذا احصل عليه وباقي البشر يرسلون إلى الجحيم! .بيد أنني  أحسست وكأن الناس لا علاقة لهم بي حتى لو كنت ميتاً، وقد أصبح وجودي وعدمه سيان.
  
وكنت أقف أمام باب بيتي، مصادفة، واتجهت إلى الداخل، لكن السيدة زوجتي، وهي الوحيدة التي تعرف أنها فاقت زوجة سقراط نذالة، وخسة، وبلادة، وجهلا ً، ورداءة، فقد  قالت لي:
-
 ماذا تفعل..؟
-
 لقد عدت..
-
 لا يمكن..لا أستطيع أن أصدق..لقد رحلت...
-
 ماذا أفعل؟
-
 عد إلى مكانك..لا ترعبنا...
-
 أين أذهب؟
-
 إلى عالمك..
-
 لكني لم أمت..
-
 لكنهم جميعاً يتحدثون عن موتك يا زوجي..
-
وأنت ِ؟
-
اتركنا الآن..
-
 متى نتكلم إذا ً؟
-
 في وقت آخر..
-
 متى؟
 -
في وقت آخر..
-
 متى؟
-
 في وقت آخر؟ 
  
وعدت أمشي وحيداً..ماذا أفعل؟ سألت نفسي، ثم هرولت مثل الجميع..مثلهم تماماً..على أني فكرت طويلاً في الذي حصل لي..كلا..وهل كنت أفكر؟ شعرت بدوار. وأتذكر أني سقطت أو كدت أسقط أو أني تعثرت وسقطت فوق أرض صلبة..صلبة جداً..ثم نهضت..لا أتذكر أين ذهبت..أو أين يمكن أن أذهب بعد أن ملأ الظلام المدينة. لم يسألني أحد عن هويتي أو يعترض طريقي لدرجة أني صدقت الخبر الذي لم يعد مزحة..إلا أن قناعتي جعلتني أصدق أن الخبر كان قد نشر قبل أكثر من ربع قرن..وليس يوم أمس..فأنا قد مت منذ..منذ.
  
صرخت: كلا.
  
لأن ثمة فكرة براقة، وغامضة جالت في خاطري..ومضت تلك الفكرة تتوغل في رأسي،  وأنا أتأمل صمت الليل وهو يتلاشى مع أمواج النهر..النهر الذي أعرفه وأحبه منذ نصف قرن..أي منذ ولادتي تماماً، في سن المراهقة، يوم كان أعظم تسلية لنا..تلك الفكرة التي راحت تكبر، مثل بذرة آخذت تنمو..وتنمو..لتصبح، في لحظات، شجرة آن أوان قطاف ثمرها..المر..أو المر حد الحلاوة التي لا توصف..الحلاوة المستحيلة. كنت أتكلم مثل خطيب وحيد في جمهور ميت..أو مثل ميت كان يخطب في ملايين الأحياء، أو الذين سيولدون، أو الذين لا بد ان يولدوا في يوم من الأيام..تلك الفكرة  ومضت من الظلام العميق للأزمنة ..من العمق السري الملغز للحياة والموت..من الوهم الأبعد..والخيال الخصب الممتزج بكراهية لا حدود لها..عفواً بالضجر المقدس الذي ينتابني إبان لحظات الإحساس بنشوة الحياة وغوايات جذلها النائي. سخف. للحق همست في نفسي: سخف أن يقتل المرء نفسه..و..ومجاناً..
  
وأخذت أضحك، للمرة الأولى، منذ يومين. كنت أضحك ملء صدري..ملء روحي. أضحك بلا أذى..أضحك وأنا أستعيد فكرتي بالتخلص من الحياة..من هذا الجسد..ومن الأشياء التي لا يمكن أن توصف ألا بالمذلة، والصماء..حسناً..قلت بصوت مسموع، أمام النهر الهادئ:
-
حسناً..أنا الذي سيؤكد صواب الخبر..أنا، وليس أي إنسان آخر.
    ثم بدأت أدخن، فبعض المنتحرين الكبار لا يجازفون بفعلتهم إلا بعد الاستمتاع بدخان سيكار يتميز بمرارة سحرية!..فأنا كنت أريد أن أثار لحياة مضت..لهذا رحت أدخن..ما ألذ أن يشعر المرء بأنه حر، في لمحة واحدة مسروقة من الزمن، أنه يدخن.. بل يتنفس هواء الليل، ويشم رائحة النهر، ويرى الأشجار، والأشباح، ذلك النخل..وتلك المخلوقات الأسطورية التي كفت عن حوارها معي..والأسماك المنقرضة..أن الليل وحده كان يقدر مدى ما أعاني من صراخ مكث غاطسا ً في أعماقي..الليل الذي شجعني، بنبل ساحر، على اتخاذ قراري.
  
تقدمت من النهر..كانت الضفة غرينية..تقدمت خطوة، خطوة..وبهدوء..ذلك لأنني كنت أريد البرهنة لنفسي على أنني لم افقد شجاعتي تماما ً..فتقدمت. يا أيها الكون كم أنا خفيف، مثل طيف، وشفاف مثل غيمة،  ومثل نسيم هواء الفجر، مثل براعم ربيع لن أراها بعد هذا اليوم.
    
لكنني، فجأة، سمعت حركة من خلفي..فكدت ارمي بجسدي إلى الماء، لولا..لا أعرف ماذا حدث لي..وقبل أن استدر، أحسست بأصابع تمسك بي، من الجهات كلها، وتضغط عليّ.. تضغط عليّ وبقوة. لم أنطق..لم تتح لي فرصة الكلام..لأن تلك الأيدي، ولا أعرف عدد أصابعها، كانت قد قذفتني إلى الماء..قبل..قبل..  ان أتلاشى وأزول!

16/3/1986


 
 

لميعة الجواري-من الطبيعة إلى التجريد- عادل كامل



معارض بغداد
لميعة الجواري
من الطبيعة إلى التجريد
   



 عادل كامل
   هل تحلت لميعة الجواري بذلك الانشغال الذي جعلها تعمل في مواجهة العنصر الذي لا يقهر، أم إنها، لم تجد شجاعتها إلا وكأنها غير مكترثة للنتائج...؟
   مادمت اكتب لإثارة أسئلة جديرة ان لا تهمل، كسؤال: هل هذا المنجز التشكيلي يقع تحت عنوان: فن، وهو لم ينتج إلا في مجالات محدودة، وأثره، في الغالب، لن يقهر زمن الحداثات ـ وما بعدها ...

   يقينا ً لم تغب الذاكرة عن تذكر جهود فنانات رسخّن دور الفن بصفته احد أنماط السلوك التداولي للعلامات الجمالية، من المعمار إلى بناء المدن إلى أدق مكونات البيت، وهن يسترجعن ويثبتن، بشجاعة، تقاليد عصور سابقة على الفن، بما هو عليه اليوم، فضلا ً عن مواجهتهن لمعضلات العادات، ومحاولتهن التمسك بتعددية تقهر عوامل القهر، ليس جنسانيا ً، بالمعنى المتداول، بل لأن (الأنثوي) إن تعرض للقهر، وخلل التوازن، فان سلطة الآخر، كما برهن تاريخ الاشتباك، ستتعرض للهدم، أو تغدو أحادية، وتسلطية.
     فأين يمكن وضع تجربة الفنانة لميعة الجواري التي دأبت على المشاركة، والدراسة، منذ عقدين، في الأقل، في هذه الخارطة الزاخرة بأسماء رائدات، وأسماء كبيرة، وأخرى وجدن في الفن، كما وجدها الآخر، دعامة لوجود له هيمنته، ومظاهره، حتى لو كانت وهمية، ومخادعة ..؟
   فإذا كانت لميعة الجواري قد بدأت حياتها بالحصول على دبلوم فنون تطبيقية ـ قسم التصميم، فإنها ستدرس الرسم، وتحصل على بكالوريوس رسم، ثم، لتكمل دراستها في الرسم، وتحصل على الماجستير في الجامعة (البريطانية)، وماجستير في طرائق التدريس، إلى جانب إقامتها لثلاثة معارض شخصية، ومشاركات في المعارض الجماعية، منذ العام 1992، وحتى يومنا هذا: 2012.
   بمعنى إنها لم ترسم كهواية، أو للفت النظر، أو لسد ساعات الفراغ، مع ان أعظم التجارب تضمنت تلك العوامل، إنما، منذ تجاربها برسم الطبيعة، والموضوعات الاجتماعية، والإنسانية، ومنها ما يخص المرأة، والطفولة، ستكرس معرضها الثالث الذي حمل عنوان [المرأة وعاء الكون] أسلوبا ً جاء ثمرة اختزال دفعها إلى ضرب من التجريد ـ الرمزي، للتعبير عن عاطفتها إزاء عالم تتداخل فيه القيم، والمعايير، والثوابت، حد ان نصوصها الكرافيكية ستحمل طابع اللقى، أو العملة القديمة، أو الأثر الذي توارت داخله عوامل الاشتباك، وما سيشكل تحولا ً للعلامات الواقعية، والمشخصة، إلى ما يشبه الإيماءات، والإشارات، والرنين، وما يقترب من تصوير البقايا، والمخلفات التي تعرضت للحذف، والتشذيب، أو المحو ...الخ، ففي هذه التجربة ـ كما كتب صلاح عباس: تلميحات " عن الحالات المختلفة وربما تتضمن مرموزات عن القضايا العامة الكبيرة كالوطن والخصب والحب المتعالي والأمومة والتواصل. بيد ان المرأة لدى لميعة الجواري جاءتنا باعتبارها نزوعا ً ذاتويا ً معبرا ً عن فرديتها، فثمة شعور قاس بالغربة والعزلة بدلالة وجود امرأة وحيدة ويكتنفها شعور طاغ بالحزن..." مما منحه ان يقول بان مشروعها " يجيء كعلامة فارقة في خارطة الفن التشكيلي النسوي في العراق، ذلك لأنها مستوفية لأغراضها الأدائية والتقنية المعززة بالفهم لمعنى الفنون التعبيرية المعمول عليها في العالم"* وليس باستطاعة زميلي صلاح عباس ـ وهو فنان ومشتغل في الحقل التشكيلي ـ ان يذهب ابعد من الإشارة بتجربة فنانة حرصت ان تعمل وتبني تجربتها معرفيا ً، مع زميلات لها، يشتركن معها بالتعبير عن هموم حقيقية توجه المرأة ـ والمجتمع بأسره ـ رغم ان خرائط الفن لم تعد تعمل إلا بتقاليد القرن التاسع عشر، أو فاتحة القرن العشرين ـ في بلدان تبلغ نسبة الأمية إلى ثلث السكان، وتبلغ ساعات عمل الموظف الحكومي 10 دقائق في اليوم، مع 6  دقائق قراءة للفرد خلال العام الواحد، وفي بلدان تواجه صراعات غير مسبوقة حول الموارد، والخسائر البشرية الباهظة، ونهب منظم للكنوز، سببت بهجرة غير مسبوقة أيضا ً، وبتراجع للتنمية، والأمن الاجتماعي ..الخ، ان فنانة تمتلك هذا الموقف لا تتشبث بوهم الاعتراض على تراجع المعايير الجمالية ـ والثقافية، بل، على العكس، تؤكد أهميتها في عالم ينبني وفق التعددية/ وحريات التعبير، وضمانات العمل بشرعية القوانين..الخ، عبر اختيارها للخطاب التشكيلي، كخطاب تحقق عبره ذاتيتها، وحرية مخيالها، تربويا ً، وجماليا ً، ضمن ما يواجهه مجتمعها من تحولات، ومتغيرات، وتصدعات تتطلب الكثير كي ينتقل إلى العصر الذي ينتج فيه الإنسان حريته ـ وليس ان يستهلك أوهامها، ينتجها في مواجه استيراد الأفكار ـ ضمن سياق استيراد90% من السلع الأساسية لضروريات الحياة اليومية.
    وسيقال: وما علاقة هذا بـ (الكتابة الفنية)...، فأقول: لقد سبق لي ان أكدت أنني لا اكتب للنخب التي تعيش في كوكب آخر، ضمن خطابها الفخم والأنيق والأحادي، بل أشيد بجهود شجاعة في مواجهة حتميات يبدو أنها غير قابلة للقهر!
___________________________________________________-
* المعرض الشخصي الثالث/ وزارة الثقافة/ دائرة الفنون ـ 2012 ـ المقدمة كتبها صلاح عباس.


 *لميعة الجواري

ـ ولدت في بغداد. ـ دبلوم فنون تطبيقية قسم التصميم.ـ بكالوريوس فنون جميلة قسم الرسم. ـ ماجستير فنون تشكيلية قسم الرسم/ الجامعة البريطانية. ـ ماجستير تربية فنية/ طرائق تدريس. تعمل في وزارة الثقافة/ دائرة الفنون. وعضو في جمعية ونقابة الفنانين العراقيين، ورابطة الفنانات التشكيليات، وكهرمانة للفنون التشكيلية. ـ المعرض الشخصي الأول/ قاعة التحرير ـ بغداد 1992. والثاني في عمان 2001، والثالث في بغداد 2012. كما شاركت في المعارض المقامة على قاعات دائرة الفنون منذ العام 1986 وحتى اليوم. لها مشاركات في المعارض الدولية، وحازت على عدد من الجوائز والشهادات التقديرية.


د.شوقي الموسوي-فنان وناقد تشكيلي-4× حوار




4× حوار
 د.شوقي الموسوي
فنان وناقد تشكيلي
    ثمة شراكة حداثوية في انتاج النص البصري بين مؤلف النص (الفنان) ومفسره (المتلقي) ساعدت على اعادة انتاج المعنى .. فتعددت التأويلات بفعل تعددية القراءات لحظة الاشتباك مع النص التشكيلي ...؛ حيث نجد ان هذه الشراكة اعتمدت على قدرة الفنان العراقي على وجه الخصوص على الابتكار ومن ثم الابداع فضلاً على قابلية وفاعلية المتلقي على تفكيك وتركيب المعنى وإعادة صياغته وفق مايمتلكه من تراكمات الامس معرفية كانت ام بصرية ،لأجل استرداد المعنى الغائب . هذه التعددية في القراءات وجدناها حاضرة في معرض أربعة فنانين عراقيين ينتمون الى جيل واحد ، جمعتهم قاعة حوار ببغداد (2012) فقدموا تجارهم المحتفلة بالشحنات العاطفية الذي احتواها فضاء معاصر اعتمد الرؤية الذاتية في طرح الافكار فتعددت الامكنة وتكاثرت الأزمنة  وتوحدت موضوعياً بحدود تداعيات الجسد والانفلات من المعاني الظاهرة باتجاه الاعماق .
أسامة حسن : ملامح وأقنعة
      حيث تمسك الفنان أسامة حسن بطاقات اللون الرمزية في تجربته الاخيرة في المعرض عندما التزم بتأكيد الايقاع الحركي في بنية التكوين العام لأجساده الحالمة لأغلب مشاهده التصويرية المحتفلة بالتعبير والتعبيرية على حساب التقرير أو التشبيه .. فنلاحظ ان الجسد بشكل عام وملامح وجوهه بشكل خاص قد هيمن على تجربة الفنان ؛ اذ تم استنطاق الصمت اشارياً والبوح عن المسكوت عنه ، فانتج تكوينات محتفلة بالرومانسية والتعبيرية ذات النزعة الانسانية الخالصة ، تترجم المعاني والقيم الانسانية الجوهرية القابعة خلف الاقنعة الى ملامح دراماتيكية ترفض النسيان . هذه التراكيب الوجدانية التي يتجاور بها الرجل مع المرأة في جسد واحد في أغلب اعمال الفنان أسامة حسن وجدناها قد أعطت ثمارها في البوح بالذكريات البكرية وبمختلف الابعاد السايكولوجية (الحب – الخوف – العشق – الحياة – الموت – الامل ..) للكشف عن الاسرار والمشاعر المؤجلة التي تؤكد الامساك بالفكرة او القيمة الجمالية لمعنى الوجدان بعيداً عن تأثيث الجسد المادي لانتاج فضاءات رحبة للآخر تسيح به الى مناطق الاعماق .
حيدر صدام : اشارات الجسد بين التجريد والتعبير :
      بعيداً عن التفسيرات المباشرة نجد الفنان حيدر صدام في تجربته الاخيرة في قاعة حوار قد انتج أسئلته النبيلة التي امتلكت مشروعيتها جمالياً  في اللحظة المعاصرة ، محاولاً استنطاق أجساده زمانياً  عندما احتكم الى التجريد والتعبير والترميز لترسيخ مبدأ الشفافية في الحوار مع الآخر والمنطلقة بفعل التسطيح والتحزيز والتلصيق والتخريم والتكثيف في اللون والخط على المستوى التقني والاظهاري من أجل تشييد جماليات ذات دلالات رمزية تمتلك خصائص حضورها فتكشف عن الاعماق . الفنان حيدر صدام بانتهاجه الاسلوب التعبيري التجريدي وجدناه قد عمق أفكاره المثالية الى حد ما والتي أطاحت بقوانين المرئي المادي المحتفظ بالتفاصيل منذ ادراكه لوحدة التعبير فنلاحظ ان موضوعة الجسد العاري (رجل وامرأة) ذات الطابع الحركي (الرقص) قد تسيدت في تجربته المتأخرة ؛ حيث حاول التعبير عنها رمزياً من خلال تسطيحها لاجل تطهيرها من اللواحق المادية للتعبير عن الحالات الوجدانية المحتفلة ايضاً بالرومانسية التي تخرج من الشيئية باتجاه الشمولية .فالفنان حيدر سعى الى تبسيط مشاهده بقصدية واعية تتبنى مهمة توسيع النظام العلاماتي المتمرحل بالذاكرة البكرية من الطبيعي الى المجرد ..كمحاولة من قبل الفنان الى اضفاء بعض اشارات المثال والمثالية على مرئياته المفعمة بالحركة بحثاً عن الحريات .
زياد جسام :طقوس وانطباعات وجدانية 
    ثمة خطاب رومانسي واضح المعالم في تجربة الفنان زياد جسام قد تواجدت بقوة في المعرض ، منح الآخر صوراً للروح بفعل تداخل فعل الانطباع مع التعبير ، فأكسب مشاهده قيماً جمالية تعتمد تشكيل فضاءات لونية هارمونية تحتضن الاجساد المتعانقة (رجل وامرأة) بفعل لحظة القـُبلة التي وجدناها تتكرر فتخترق الافكار وجدانياً  فيتم احالة المُعلن (الايقون) المتمثل بالاجساد الى قيمة وجدانية تستنشق حالة الوجد والهيام وبعض من الفرح برغم الاحتلال !! فتلامس الروح هذه اللحظات فترتقي بالوجدان الى مستويات الوطن .هذه الغنائية التي استعان بها الفنان زياد جسام في تأثيث تكويناته قد امتلكت عفويتها أدائياً وجمالياً وثقافياً فيصبح الجسد هنا الوسيط الذي يحوي الانفعالات باعتباره جسداً انفعالياً متفاعلاً برمته مع المحيط بحثاً عن لحظة التوازن ؛على اعتبار ان الفنان قد تيقن بان حواس الجسد تتجه بالذهن الى المحيط الخارجي لأجل الشعور بالحالة الوجدانية التي تدرك وجودها لحظة الوجد .فالفنان في هذه التجربة قد اطلق العنان لمخيلته بحثاً عن التكوينات التي تمارس طقوسها لمقاومة الصمت الذي يحيط به .
مراد ابراهيم : ذاكرة المدينة
     تمحورت تكوينات الفنان مراد ابراهيم حول الاحتفال بمرئيات الرؤية ذات الصلة الحميمية بالواقع المعاصر ليصبح الفن لديه بمثابة ذاكرة توثيقية تمتلك مشروعيتها في الحضور ، تقترب من مظاهر التمثل الذي يًناهض القطيعة مع الطبيعي او الثقافي بالرغم من تمسكه بفعل الاختزال والتبسيط في بعض فضاءات اشكاله التصويرية ... إلا انه حافظ على ملامح مرئياته (تفاصيل) ولكن بتعبيرية حالمة ترصد افكار الواقع فتمنح اعماله انتقادات للآخر الداخلي الذي يعبث بعالمه الجميل بفعل الاحتلال .الفنان هنا وجدناه قد استغرق في الذكريات كامتداد لذاته المعاصرة منحت تكويناته طاقات التعبير وجماليات الانطباع التي تهتم بمفردات الواقع والطبيعة الجغرافية المحيطية (مدن – أزقة – شناشيل – اسواق بغدادية – طرق مزدحمة – أجساد – وسائط نقل – طبيعة ...) التي لاتغادر أمكنتها وأزمنتها الواقعية المرتبطة بمدينته العصرية (بغداد) ، محتفلة بالنزعة الانسانية التي وجدناها حاضرة في أغلب مشاهده التصويرية تعمل على ايصال خطابها الذي يرفض النسيان .
    من خلال هذا المعرض الذي احتوى اربعة تجارب في فن الرسم ، اشتركت في الاستعانة باليات وجماليات التعبير في حدود موضوعة الجسد كذاكرة وكثقافة عصر جديد ، نجدها مشحونة بطاقات اللون الرمزية التي استحوذت على المشهد العام للمعرض باتجاه المعاني الوجدانية المحتفلة بالجوهر والمنبثقة من تصورات الفنانين للواقع الانساني مابعد الحرب والمقترن بالقيم المستورة وراء المرئيات والتي تمسكت بمفهوم الحرية في طرح الافكار بحثاً عن الاطياف .
   

الدكتور حسين غباش – من دولة الإمارات العربية المتحدة- عن الهجرة والاستيطان والمستقبل الغامض

اختلال الخليج
الدكتور حسين غباش – من دولة الإمارات العربية المتحدة
 يتأكد يوما بعد يوم أن المجتمعات الخليجية الصغيرة قد دخلت، بسبب من تعاظم الوجود الآسيوي فيها، في أتون مأزق تاريخي يصعب تصور امكانية الخروج منه. لم يعد الأمر يهدد الهوية الثقافية التي همشت، والثوابت الوطنية التي اهتزت، بل يشكل خطرا مستقبليا على ما تبقى من الوجود البشري العربي ذاته. بعيداً عن المشهد الخارجي المبهر، فإن الصورة من الداخل تثير القلق، بل الريبة. الشوارع تعج بكل الجنسيات، إلا بالمواطنين، وبشكل خاص في الإمارات وقطر. الأغلبية هندية، تليها الباكستانية، البنغالية، الأفغانية، الفيليبينية، والإيرانية، ولحقتها مؤخرا الهجرة الصينية.
 هناك اليوم 16 مليون آسيوي تقريبا في بلدان مجلس التعاون الستة، ومن المرشح أن يصل إلى 30 مليونا في عام 2025 تبين الاحصائيات الرسمية وشبه الرسمية لعام 2006 ـ 2007، الخارطة الديموغرافية كالآتي: تصل نسبة العمالة الأجنبية في الكويت إلى 60%. البحرين 50%. السعودية 40 إلى 50%. عمان 30%. أما في قطر فتصل إلى 85%. وتصل نسبة المهاجرين في الإمارات إلى 90%. هناك اليوم قرابة سبعة ملايين آسيوي في الإمارات وحدها. تشكل نسبة الهنود 60% من مجموع تعداد السكان، أي قرابة أربعة ملايين، مقابل 800 ألف مواطن فقط. يتبين من هذه الأرقام الناطقة، إذاً، أن خلف المباني الشاهقة وبريق الثراء ثمة مأساة وطنية وقومية في طور التحقق.
 إذ لم تعد المسألة، كما جرى وصفها سابقا، مسألة «خلل» في التركيبة السكانية، بل تحولت، بعد ثلاثة عقود من الوجود الفاعل، النشط، إلى مسألة استيطان آسيوي واضح وطاغٍ. لا جدال في أننا أمام مشهد مقلق جدا. يقول مجيد العلوي، وزير العمل البحريني السابق، «إن الهجرة الأجنبية تهدد وجودنا...
 وإذا لم يتحقق هذا التهديد اليوم فسيتحقق في الجيل القادم». والجيل القادم يعيش بيننا الآن. إذاً، لم يعد التغيير السياسي إلا مسألة وقت قصير. إنه داهم على الأبواب تمثل الإمارات وقطر أضعف حلقتين في المنطقة، تليهما الكويت والبحرين. على الأقل توجد في الكويت جالية عربية كبيرة. هناك استثناءان. عُمان تبدو محصنة بثقافتها وتاريخها العريق، وربما يحمي المملكة السعودية مركزها الديني المميز من المصير المجهول. بيد أن الوجود الأجنبي ينخر في الجسم العربي الخليجي، وأي تغيير سياسي في أي بلد من بلدان المنطقة سيكون له تداعيات كبيرة على الأقطار الأخرى.
 لن يسلم الخليج كله من ذلك. كانت الأسئلة المؤرقة للإنسان الخليجي، هي: كيف وصلت بلدان الخليج العربي إلى هذا المأزق التاريخي؟ من هو المستفيد الأول من هذا التحول الديموغرافي الدراماتيكي؟ كيف تم كل ذلك بصمت محير؟ هل الأمر نتاج تطور طبيعي أم إن ثمة محركا خارجيا؟ لكن تلك كانت أسئلة الأمس، سؤال اليوم هو: هل ثمة مخرج؟ تُساق جملة من العوامل تسببت، في مجملها، في إيصال المجتمعات الخليجية إلى هذا المأزق التاريخي. أهمها، كما قيل، تعداد السكان الصغير، والثروة الهائلة. بيد أن هذه الادعاءات، على حقيقتها، لا يمكن ان تمثل عوامل سلبية، بل على النقيض، هي عوامل إيجابية لتحقيق التنمية الوطنية. هي عوامل تضمن، منذ البدء، نجاح التنمية. ستكون الإشكالية حقيقية لو كان العكس صحيحا. كما ان الثروة الوطنية لا يجب، في الظروف الطبيعية، ان تتسبب في تهميش المجتمعات الصغيرة وتلغي هويتها. لكن الإشكالية الحقيقية تكمن في التوجهات التنموية، في الفكر التنموي ذاته. إذ شكلت السياسات التنموية، التي طبقتها الحكومات الخليجية طوال العقود الثلاثة الأخيرة، وعلى نحو متفاوت، الإطار العام الذي أحدث هذا التحول الكبير. فالتركيز الكلي على قطاع البناء والإعمار وتشجيع الاقتصاد الريعي والحداثة الزائفة، أهمل حقائق الديموغرافيا والجغرافيا والتاريخ. لم تأخذ هذه «التنمية» في حساباتها حاجات المجتمعات المحدودة في المنطقة. فتنمية هذه المجتمعات الصغيرة لا تحتاج إلى هذه الملايين من العمالة الأجنبية. فضلا عن ذلك، لم ترافق هذه السياسات «التنموية» رؤية تنموية اجتماعية وثقافية. لم تراعَ مسألة الهوية الوطنية والثقافية. لم تأخذ في الحسبان مسألة الأمن الوطني والاستراتيجي للمنطقة ككل.
 والنتيجة، اليوم، نرى هذا التراجع في الحضور العربي والتهديد الجاد والماثل للمستقبل العربي في المنطقة بأكملها. المستقبل بطبيعته مجهول، مشحون بالتحديات، وفي عالمنا العربي، ملغم بكل صنوف العثرات. ومن أهم أهداف التنمية هو أن تؤسس لمستقبل آمن ومستقر. يبقى ان أي «تنمية» لن تكون تنمية وطنية ما لم تتمحور حول الإنسان كوجود وقيمة. المفترض منها ان تبني الذات الوطنية، ان تثبت حضور الإنسان على أرضه، أن تعزز لغته وهويته، تصون تراثه وثقافته. وأخيرا، تحصن السيادة وتحمي الاستقلال الوطني ذاته. والتنمية، كما يقال، خطوة في الحرية. بالطبع، لم تقتصر الهجرة على العمال، بل شملت مهنيين وحرفيين في مختلف المجالات. كما ضمت التجار من كل المستويات. وقد تمكنت شرائح واسعة من الهنود والباكستانيين من الإمساك بمفاصل الاقتصاد. فهم اليوم مدراء البنوك وشركات التأمين، وهم التجار المتربعون على كل أنواع التجارة الكبيرة منها والصغيرة، ومنها تجارة الأغذية والأدوية والملابس والالكترونيات وغيرها. وأخيرا، فتح لهم مجال التملك العقاري في بعض الإمارات الخليجية. هذه إجراءات نوعية تفتح على دعوتهم للاستيطان، ووضع الأسس لضمان مستقبل أجيالهم القادمة. ونعلم، ان الاقتصاد والتجارة هما من شرايين الحياة، ولهما منطقهما القاهر. فمن بيده مفاتيح الاقتصاد يملك، بالضرورة، تأثيرا مباشرا على القرار السياسي، وهو بالتأكيد قادر على تحديد مسار المستقبل بالطبع، لكل وجود استحقاقاته. وإذا أخذنا الإمارات وقطر كنموذج، فسنجد أن التغيير الاجتماعي قد تم، ولا زال يتثبت ويقنن يوما بعد يوم. الثقافة الآسيوية سادت. والفضاء الثقافي العربي تراجع كثيرا. لم يبقَ من الثقافة إلا الفولكلور للسياح. اضعفت اللغة العربية الركيكة اصلا، وأصبحت الرابعة أو الخامسة. وهمشت الثقافة العربية الضامرة، ومزق النسيج الاجتماعي الهش هو الآخر. حطمت ثوابت المجتمع ومناعته، وبدأت مرحلة الانقراض. ألا تمثل نسبة المواطنين، التي تتراوح بين 2 و3 و4%، أو قل حتى 10%، في بعض الإمارات سوى بقايا عرب؟ أما عن السياسة فهي مسوقة، بحكم قوة الواقع، بأن تتبع التحول الاجتماعي والاقتصادي. أليست السياسة تعبيرا عن الواقع؟ الواقع السياسي يتبع الواقع الديموغرافي. والتغيير السياسي هنا ليس الا تحصيلا حاصلا، ذلك انه عندما تتغير القاعدة البشرية للسلطة تضعف السلطة ذاتها وتكون عرضة للسقوط.
 من يهمش قاعدته يُهمش. ومن يُضعف شعبه يضعف معه. أليست قوة النظم والحكومات من قوة وتماسك شعوبها؟ أم إن هذه المعادلة قد تغيرت؟ إذا كانت الشعوب قد تم استبدالها في غضون ثلاثة عقود سريعة، كم سيحتاج تغيير الحكومات؟ عقدا أم عقدين؟ العقد القادم هو إذاً، عقد الهوية. عقد أن نكون أو لا نكون. إنه آخر عقد لعرب الخليج. إما ان يعود الخليج عربيا كما كان، أو أن يكون آسيويا. بعض مراكز الأبحاث الأوروبية، والفرنسية تحديدا، تتوقع ان يتم التغيير خلال العقد القادم، وتوحي بأن بعض الحكام العرب المعاصرين هم آخر حكام عرب للمنطقة. وقد وضعت فعلا السيناريوهات التي يمكن ان يتم من خلالها تحويل المسألة الديموغرافية إلى مسألة سياسية. وعناوين التغيير حاضرة. أهمها حقوق العمال والمهاجرين. وفعلا لقد طرحت الهند ذلك في أكثر من مناسبة. فإعطاء المهاجرين حق التجنس ومن ثم فرض الديموقراطية، سيفضي حتما إلى حكم الأغلبية. إنها معادلة حسابية لا تقبل المكابرة أو الإنكار. وإن شاءت الولايات المتحدة وقدرت أن الوقت قد حان لاستبدال المشهد السياسي، فستجد ان الأرضية البشرية والثقافية جاهزة ومهيأة. المسألة هنا مسألة توقيت وحسابات استراتيجية دقيقة. فعندما نضجت الأمور في سنغافورة عام 1964، فصلت عن ماليزيا وسلمت للغالبية الصينية المهاجرة إليها. وهكذا الأمر في فيجي، التي يحكمها اليوم هنود جلبتهم بريطانيا للعمل فيها، وهم للمناسبة لا يشكلون إلا 50% من تعداد السكان الأصليين. أي أقل من هنود الخليج لا شك أبداً، بأن ضرب الهوية العربية في هذه المنطقة الهامة كان هدفاً في ذاته. هو مؤشر على مخطط إستراتيجية واضحة يهدف إلى السيطرة الكاملة على مخزون النفط الخليجي. فحكم أقليات آسيوية يلغي الوحدة الخليجية العربية، ويسحب قرار النفط إن كان لا يزال مستقلا. باسم الديموقراطية، إذاً، تمزق العراق، وباسم التنمية، وفي غفلة من الزمن، وبصمت محير، يتحول الخليج العربي إلى خليج هندي.
 الخليج أمام أزمة تاريخية مركبة ومعقدة.
 والمعالجة أضحت أكثر من ملحة. أولها، بالطبع تغيير التوجهات التنموية. ومن ثم فتح الباب واسعا للعمال والمهنيين العرب، فهم كثر وعاطلون، وبشكل خاص من عمان واليمن، مخزن الخليج البشري، ومصر. وسيمثلون جميعاً خشبة نجاة لعروبة الخليج وأمنه ثم لماذا لا يجنس العرب المقيمون في الخليج، والذين خدموا المجتمعات الخليجية منذ عقود وفي أكثر من مجال. الجيل الأول الذي شيد دويلات الخليج تخرج من الجامعات المصرية والعراقية، وكان تعليمهم مجاناً. قبل ذلك، عبد الناصر أرسل البعثات لتعليم أبناء الامارات (ساحل عمان سابقاً)، على حساب مصر الناصرية. ولماذا لا يستفاد من الطاقات العربية المميزة والمشتتة في كل أصقاع الأرض؟ في الختام، إن الاصرار على النهج والتوجه التنموي ذاته، الذي شوه الروح العربية للمنطقة، لن يبقي المنطقة امام مفترق الطرق، بل يفرغها مما تبقى من هويتها الوطنية والثقافية، وينتزعها بالتالي من عالمها العربي.

السبت، 15 ديسمبر 2012

حقائق اليونيسيف المرعبة:


9 ملايين و600 الف طفل يتعرضون للعنف الجسدي في العراق! أظهر مسح اجرته منظمة اليونيسيف بالتعاون مع عدة وزارات عراقية معنية، عن وضع الاطفال والنساء في العراق، حقائق مرعبة عن تفشي ظواهر وامراض وسلوكيات تهدد الطفولة والاسرة العراقية. وجاء في نتائج المسح العنقودي متعدد المؤشرات،ان 37 طفلاً من كل 1000 ولادة حية يموتون دون سن الخامسة، 20 منهم يموتون قبل ان يكملوا الشهر الاول. واظهر المسح ان 1 من كل 4 اطفال يعاني من التقزم، و7% من الاطفال تحت سن الخامسة يعانون من هزال حاد او متوسط. واشر المسح تفشي ظاهرة الزواج المبكر في المجتمع العراقي، متوصلاً الى ان واحدة من كل خمس نساء بعمر 15- 19 سنة، اي نحو 21% متزوجات حالياً. وفي مجال عمالة الاطفال افادت نتائج المسح الى ان 500 الف طفل باعمار 5-14 عاماً منخرطين في العمل اغلبهم في المناطق الريفية. اما العنف ضد الاطفال فقد قدم المسح حقائق مرعبة بالارقام، اذ أظهر ان 9 ملايين و600 الف طفل اي 80% بعمر 2- 14 سنة يتعرضون الى شكل من اشكال العنف كأسلوب للتأديب او ضبط السلوك كالضرب والصفع، مشيراً الى ان 1 من 3 اطفال اي نحو ثلاثة ملايين و300 الف منهم يتعرضون للعنف الجسدي الشديد كالعض والحرق. وفي ما يتعلق بوضع المرأة، لاسيما العنف المنزلي او العنف ضد المرأة، اظهر المسح ان 56% من النساء بعمر 14- 49 سنة يتعرضن للعنف الجسدي سواء على ايدي الزوج او الاب او الاخ. وبحسب مسح (MICS)، فان المعلومات الديموغرافية عن العراق اشارت الى ان عدد الاطفال واليافعين يبلغ 16 مليون و600 الف نسمة، منهم 5 ملايين و 600 الف نسمة هم اطفال تحت سن الخامسة. --