واقع أم خيال
حلاق بيد واحدة
حامد كعيد الجبوري
صبيٌ لم يتجاوز الخامسة عشر من عمره له أصدقاء كثر يلعب معهم ، أحد هؤلاء الأصدقاء أستأثر بحبه لتقارب أعمارهما ولأنهما من منطقة واحدة ، أو قل من زقاق واحد ، بيتاهما متجاوران ، عصر أحد الأيام وهم يلعبون مابينهم حدث مزاح بين صديقين له وأنتج هذا هذا المزاح تشاجرٌ بينهما ، تدخل صاحبنا ليكون الحاجز – الحاجوز - لكونهما صديقاه ، أستل أحد هؤلاء المتشاجران خنجره وأراد غرزه بخصمه الصديق طبعاً ، إلا أن القدر كان بالمرصاد لصاحبنا ، فبدل أن تكون بصدر الخصم أصابت يد الحاجز ، قرب المعصم ، والمؤلم بهذه الحادثة أنها جاءت من خنجر الصديق ، سال
الدم غزيراً ولا بد من نقله للمستشفى ، ولكن أين هي المستشفيات بعشرينات القرن المنصرم ، نعم كان هناك أقرب للمستوصف يقابل حديقة النساء في بابل –الحلة- يُدار من قبل القوات البريطانية ، أو أنشئ لهم لمعالجة حالاتهم الطارئة، وكان في المستوصف* هذا دكتور أنكليزي ، ربط اليد المصابة بشريط طبي خاص لقطع النزيف وأعطاه العلاج اللازم ، ولم يخيط الجرح لأنه غرزة لا تستحق أن تخاط ، ذهب صاحبنا لداره ولخوفه من العقوبة لم ينقل لوالده ماجرى له ، ودلف لغرفته والشريط الذي وضعه الدكتور لا يزال يشد يده لعدم معرفته بما سيؤل له بعد ذلك ، صباح اليوم التالي
رأى كف يده مسوداً ومتورماً لعدم وصول الدم اليه ، أقتاده والده بعد أن عرف مجريات الحادثة لنفس المستوصف وأنبه الدكتور الذي لا يحسن العربية على فعلته ورفع الشريط وأمرهم بالعودة إليه بعد يوم أو يومان ، في اليوم الذي يليه تورمت يده أكثر وقرر الطبيب بترها من فوق المعصم ، لم يوافق الوالد على هذه العملية لخوفه على ولده أن يكون عالة على الناس ويصبح متسولاً بالشوارع ، ساءت حالة الغلام وشارف على الهلاك و(المارضه أبجزه رضه إبجزه وخروف) ، بترت يد الصبي أو الشاب من فوق المرفق
، أما صديقه الذي طعنه فقد حكم عليه بكذا جلدة ودفع غرامة مالية – ليرات ذهبية – فرفض ذلك ولم يجلد الصديق ولم يدفع الدية المقررة ،أراد صاحبنا أن يبرهن لوالده أنه ليس عالة عليه أوعلى غيره فقرر العمل مع أخيه الأكبر الذي تعلم مهنة الحلاقة وصاحبنا كان يمارس مبتدءاً بهذه المهنة، وأصر أن يتقن فن الحلاقة سيما وأنه طالب بمراحل الدراسة الأبتدائية ، ولو علمنا أن ذلك الوقت لمن يحمل الشهادة الأبتدائية هو نصر أوفتح لا يعوض ، فيمكن له أن يعين معلماً أو موضفاً بدائرة ما إلا أن أصراره على الأستمرار بعمل الحلاقة جعله يتقن العمل سيما وأنه بيد واحدة
، ولكن من الذي يوافق أن يحلق شعره أوذقنه كما كانت العادة لديه وهو بيد واحدة ، لم ييأس الرجل وأستأجر محلاً في أهم شارع في الحلة آنذاك وهو شارع المكتبات ، مجاور لأفضل صانع حلويات في وقته إنه (صادق الشكرجي) ، وجهز صالون حلاقته بأحدث الأجهزة والمرايا والعدد الحلاقية المتنوعة وأسمى صالون حلاقته (حلاقة الزهور) ،وصالون الحلاقة يحوي كرسيان للحلاقة أحدهما لأخيه الأكبر والأخر له ، ومن المؤكد أن الزبون يقصد الأخ ولا يقصد صاحبنا مقطوع اليد اليسرى ، وفي بعض الأحيان وفي مناسبات الأعياد أو حفلات ختان الأطفال وللزخم الحاصل يضطر صاحب الحاجة
للحلاقة لديه ، بدأت سمعة هذا الرجل تنتشر رويداً رويداً ، سيما وأنه أتقن المهنة بشكل جيد ، والغريب أنه تمكن من أن يحمل مقصه ومشطه بيده اليمنى مرة واحدة ، فبعد أن يغرز المشط في شعر الزبون يبدأ بقص الشعر الزائد وهكذا ، أضف لذلك أن صالونه نظيف جداً يستقطب الطبقة المتعلمة في المدينة ، في أحد الأيام وللطرفة أيضاً دخل صالونهم معلم كردي عين في الحلة آنذاك قاصدا للحلاقة من قبل أخ صاحبنا ، وبما أنه كان مشغولاً بزبون آخر دعاه صاحبنا للجلوس على كرسيه ، شاهد المعلم الكردي أن هذا الرجل يلبس – صدريته – أذن هو حلاق أيضاً وفعلا جلس على كرسي
الحلاقة وبدأ صاحبنا عمله ، تعجب المعلم الكردي من هكذا حلاقة جميلة لم يحلق مثلها من قبل ، ذهب المعلم لمدرسته وسأله المعلمون أين حلقت هذه الحلاقة الجميلة ؟، أجاب المعلم عند الحلاق (برهي الأعرج) وكانت زلة لسان حيث أراد أن يقول عند (برهي
الأعضب) ، ضحك أصدقاءه من هذه الطرفة التي فتحت الباب ل(برهي الأعضب) فتوافد على محله أدارة المدرسة بكاملها، وبدأت شهرة هذا الرجل تصل للمدارس الأخرى ، وهكذا وصلت مهارة وفن هذا الرجل الى مديرية الشرطة فكان مدير الشرطة وضباط المركز يحلقون روؤسهم لديه ، ولكن ليس في المحل بل في دوائر المسؤلون ، وكذا متصرف الحلة أتخذه حلاقاً وصديقاً ، ولأن الرجل من عائلة معروفة ويحمل الخلق العالي والشرف والأمانة لذا أستؤمن وأطمأن الناس لديه فبدأ الحلاقة النسائية لعدم وجود صالونات للحلاقة أيام زمان ،يقال أن أكثر الحلاقون ثرثارون لكن الحلاق برهي وز أخيه
الحلاق (جاسم) لم يرثا من الحلاقين هذه العدة غير المحببة ، وأرسل لي الصديق (د . عدنان الظاهر) رسالة من سكناه في غربته يؤكد لي هذه الحقيقة ويضيف أنه كان صديقاً للمدرس الكردي الذي حلق لدى ( برهي ) وهو الذي أستمع مقولة الكردي ( حلقت عند الحلاق الأعرج ) ، وليس هذا وحسب بل كان الرجل – برهي الحلاق - يمارس الرياضة ، ويقود الدراجة الهوائية ، ويتسابق مع أصحابه سباحةً ، تزوج الرجل إمرأة فاضلة وأنجبت له ثلاثة أولاد وبنتان ، أثنان من أولاده تعلموا مهنة والدهم ، أبتنى داراً فارهة له وكل ذلك ليبرهن لأبيه بأنه ليس بعالة على الأخرين ، أنه إبراهيم محمد
عبد الرحمن تولد 1906 م والمتوفي عام 1976 م والملقب ب(برهي الحلاق) أو (برهي الأعضب) .
* : الصورة والمعلومات المدونة من ولده الحلاق أيضاً محمد برهي