الأربعاء، 16 يونيو 2010

الحلم الهولندي-قصة قصيرة-بقلم ايمان البياتي-لوحات د غالب المسعودي


الحلم الهولندي*


حلم الهجرة.... مستقبلٌ جديدٌ مضيء.. أم زاوية أخرى مظلمة من العالم؟


الزمان: شتاء 2007 م.
المكان: المطار -العاصمة الأردنية عمان.

أصواتٌ مختلفة تعلو تارةً وتخفت أخرى، زحامٌ شديد ووجوهٌ كثيرةٌ حوله في كل مكان، يتحركُ ببطء وسطَ الباحةِ الكبيرة، منكسرَ النظرات منحني الظهر يحكم بإحدى يديه غلقَ أطرافِ سترته الجلدية ويدفعُ بيده الأخرى عربةَ حقائبه، لم يكن قادراً على تمييزِ أي صوت ولا التحديق في أي وجه، بدا متعباً جداً وكأن عمره قد أزداد عشرينَ عاماً خلال أيام معدودةٍ.
وقفَ، نظرَ في ساعتهِ، كانتْ لا تزال الحادية عشرة صباحاً، لماذا إذن قادته قدماه إلى المطار؟ مازالَ هنالك أكثرُ من ساعتين حتى أقلاعِ طائرته إلى دبي حيث سيبيتُ هناك ليلة أخرى قبل أن يُقلعَ في طيرانهِ الأخير إلى وجهتهِ هولندا.
شعرَ أنه بحاجةٍ إلى كوب شاي بالهيل كذاكَ الذي تُبدع والدته في إعداده كل صباح مع الفطور، وكذاكَ الذي يشربهُ عند العم يعقوب في قهوةِ الحي عندما يزورهُ أصدقاؤه فراس ومهند وكمال أصدقاءُ الصبا والشباب، حينَ يجلسُ الثلاثة يتبادلون أطرافَ الحديث ويشربون الشاي مرة واثنتين وثلاثة ويُكرمون العم يعقوب ببقشيشٍ قبلَ أن يغادروا.
تساءلَ مع نفسهِ بأسى:أين عساي سأجد شاي ست الحبايب الآن؟ وهل سيُكتب لي أن أشربه من يديها مرةً أخرى أم لا؟ (قال هذا وهو يتأملُ كوب الشاي الذي طلبه في استراحةِ المطار)، ظلَ سارحاً ينظرُ إليه ويفكر، كان جسدهُ هنا لكن قلبه هناكَ مع من تركهم خلفه في بغداد.
تساءل بحيرة: ما الذي أفعلهُ يا إلهي؟ هل هو الصواب فعلاً؟ إن كان الصوابُ فلمَ هذا الشعور العميق بالضيق؟، لمَ تلك المرارة التي لم تغادرْ حلقي منذ تركتُ ما تركتُ خلفي قبل عشرة أيام؟ ......لمَ ولمَ ولمَ؟
سرحَ متذكراً بعض المشاهد...
ولجَ اذنه صوتُ والده: بُني...يجب أن تسافر، ما عادَ لك بقاءٌ هنا، أ لم ترَ كيف قُتل أبنُ عمكَ الطبيب دون سبب؟!!!، يجب أن تتركَ بغداد بأسرع ما يمكن.....الحمد لله، جهزنا لكَ أنا وعمكَ فرصةً العمر، ستسافرُ معززاً ومكرماً، سيكون لك بيتٌ وزوجة، ستنعم بحياةٍ رغدةٍ في بلد هادئٍ وجميل.
ثم تذكرَ حديث عمه معه بالهاتف: جلال....لا تُضيع وقتكَ، مكانكَ ليس هناك، تعالَ عندي وستجدُ كل ما تتمنى ربما لا تعرف الكثير عن أمستردام، لكن ما أن تصل ستحبها، هم عادةً لا يعاملونَ الغرباءَ بودٍ لكن لن تشعر بغربة أعدك، ستجدُ نفسكَ منذ أول يوم تصل فيه هولندياً وستعاملُ على أنكَ مواطنٌ من الدرجةِ الأولى، جهزّتُ لكَ السكن المناسب، ستعملُ معي في معملِ الحديد والصلب مؤقتاً حتى أجدَ لكَ وظيفةً في إحدى الصحف، أ لم تتخرج من كلية الآداب في جامعة بغداد؟! وعملتَ محرراً للأخبار وصحفياً لبعض الوقت؟، ستجدُ هنا فرصتكَ، ستكتبُ ما تشاء فهنا ستستنشقُ الحرية وسيروقكَ طعم شهدها، قُل ما تشاء وأكتب ما تشاء ولن يضايقكَ أحد.
وانسابَ إلى أعماقهِ صوتُ والدته الحنون: فلذةَ قلبي...أنتَ الولد الوحيد الذي خرجتُ به من هذه الدنيا، رزقتُ بكَ بعد صبرٍ طويل، بعد أربعة بنات، يصعُب عليّ فراقك حبيبي....وأعرفُ أني سأبكي طويلاً كلما دخلتُ غرفتكَ وشممتُ ثيابكَ، لكن لم يعد لكَ بقاءٌ هنا يا جلال...لو أصابكَ مكروهٌ فسأموتُ بعدكَ، خد بكلامِ والدكِ وسافرْ إلى حيث عمكَ وتزوج أبنتهُ....إن كنتَ تحبُ والدتكَ أفعلْ ما أقوله لكَ.
ثم طرقَ سمعه صوتُ أخته الكبرى أم أحمد: جلال... أعرفُ أنكَ لا تريدُ الهجرة، ولن تقوى على العيشِ بعيداً عنا وعن بغداد، لكن يجبْ أن تتحملَ الأمرَ هذا مهما كانتْ قسوتهُ وأن نتحملهُ نحن معكَ، سافرْ يا أخي العزيز وتزوجْ وأستقرْ، لا تنسَ أنكَ الآن في الخامسةِ والثلاثين، متى ستتزوج؟ ومتى سيرى والدي ووالدتي أولادكَ؟ كفاكَ أحلاماً... كفاكَ مثالية... أسمعْ مني وسافر، إنها فرصةٌ ذهبية....أهربْ من نيران الجحيم التي تحيطنا من كل مكان وسافر.
تبعه صوت أخته الصغرى المقربة إلى نفسه: لا أعرفُ كيف سأطيقُ العيشَ في هذا البيت بعد سفركَ، ليتني كنتُ أقدرُ أن أغير أمراً يا ليت ....كم أتمنى أن أسافرَ معكَ.... أرجوكَ لا تبكِ أمامي، لا أقوى على رؤية دموعكَ، لستَ أخي فقط، أنتَ أخي وصديقي وكل شيء، أنتَ قدوتي يا جلال، لا أحد يفهمني في هذا البيت غيركَ، يعتبروني دوماً طفلة، إلا أنت تعتبرني ناضجةً وتعاملني بوقار.
ثم صوتُ صديقهِ فراس: لا تكنْ مجنوناً جلال! لا تقلْ لي أنكَ ستضحي بفرصة العمر هذه من أجل نور؟ هل أنتَ بكاملِ وعيكَ؟ إياكَ أن تقولَ ما قلته لي الآن لوالدكَ أو عمكَ لأنكَ ستحطم المشروع الذي جهزاه لكَ... لا تنظرْ إليَّ هكذا ولا تذكرْ لي أسم نور مجدداً، أعرفُ إنها حبُ حياتكَ، لا أحتاجُ أن تذكرني، أعرفُ بقصة حبكَ ومن لا يعرفها في الجامعة حيث درسنا جميعاً؟! .....أنتما أسطورة الحب العظمى، لطالما حسدكما الجميع على حبكما وتفاهمكما، لكن عصرنا هذا ليس عصر الأحلام الوردية، يا جلال دعنا نصمتْ لحظةً فقط، ستسمعُ صوت الرصاص أفتحْ هذه الصحيفة ستقرأ قُتل فلان ...عثرَ على جثث مجهولة الهوية ....خُطف فلان... انفجار في..... كلها دماء وقتل وعنف...كيف ستبني أحلامكَ الوردية مع نور في عالمٍ مظلم كهذا ؟؟!! إن كانتْ تحبكَ حقاً فستضحي من أجلكَ، ستقول لكَ أذهبْ وتزوج من أختارها والدكَ وكن سعيداً ومرتاحاً.
ثم صوتُ صديقه مهند: يا لكَ من شاب محظوظ يا جلال...دوماً كنتَ أفضلنا جميعاً، فرصة العمر بين يديكَ هجرة إلى هولندا مدفوعة الثمن وزوجة شابة صغيرة في الثامنة عشرة، صحيح أخبرتني مرة أن زوجة عمكَ هولندية أليس كذلك؟ إذن ستتزوج من حسناء أوربية يا رجل!
عاوده صوتُ عمه من جديد: ستسيرُ على نفسِ الطريق الذي سبقَ ومشيتُ أنا عليه في السبعينيات من القرن الماضي، مع فارقٍ واحد أني تعبتُ وعانيتُ وقاسيتُ حتى تعرفتُ على جوليان وتزوجنا فاستقرتْ أموري خلال أشهر معدودة كونها مواطنة هولندية، الأمرُ ذاتهُ سيتكررُ معكَ مع اختصارٍ مهم في الزمن والجهد، ستتزوجُ ابنة عمكَ هولندية الجنسية، فلن تكونَ بحاجةٍ إلى معاملاتِ اللجوءِ الإنساني أو السياسي بل معاملة لمِّ شملٍ لا غير، تجمعكَ بخطيبتكَ الهولندية.....جلال لن أنتظرَ منك شكراً، فقط أتمنى أن تحافظَ على أبنتي الوحيدة، أخافُ عليها من مجتمعِ أوربا المتحرر، لا أريدها أن تقعَ في خطيئةٍ أو تجر لنا المشاكل، فحتى و ان كنتُ أعيش في أوربا منذ عقود، فسأظلُ عراقياً شرقياً مسلماً وأخافُ على سمعتي و ابنتي وشرفي.
ثم صوتُ أخته الوسطى: أعرفُ لمَ أنتَ ممتعض ...لم تعجبك صور سارة أليسَ كذلك، إنها طفلة أو هكذا تظن....جلال البنتُ في الثامنة عشرة، صحيح أن عمركَ يقاربُ ضعف عمرها لكن لا عيبَ في الأمر، أنتَ رجلٌ ذكي وستعرفُ كيف تجعلها تتقبل طباعكَ...تربيتها أوربية، نعم عندكَ حق ستعاني بعض الشيء لكن كما نقول في المثل العراقي (أخذها طفلة ربيها على أيديك).
كادتْ تلكَ الأصوات وتلكَ المشاهدُ أن تسببَ له الغثيان والإغماء، لمسَ كوب الشاي كان قد برد الآن وما عادت له رغبة في شربه، هل يطلبُ آخر؟.....لا ....لا لم يعد يرغبُ بشربِ شيء.
جاءته فكرة أن يدخنَ سيجارة، هنالكَ علبة في جيبِ سترته، ها هي أول مساوئ الوحدة والغربة، فلم يعرف التدخين إلا بعد أن خرجَ من بغداد، مدَّ كفه إلى داخلِ سترتهِ ليُخرج العلبة فخرجتْ العلبة ومعها محفظة نقوده، شعرَ بحنينٍ ليرى تلك الصورة المخبأة في المحفظة، صورة نور حبيبة القلب، الفتاة التي يعشق، لم يعرفْ قلبه الحب إلا معها، أهدته هذه الصورة منذُ عامين، لم تغادرْ محفظته يوماً قط، دوماً يضعها في جيب قميصه على الجانبِ الأيسر من صدرهِ حيث مكان القلب...رغم ما يملأ قلبه الآن من أسى وهموم لكن ما أن لامستْ أنامله صورتها ووقعتْ عيناه عليها حتى رُسمتْ على وجهه ابتسامة دافئة، تخيلَ وجهها وابتسامتها وضحكاتها، تساءل: ترى كيف أنتِ الآن يا ترى يا حبيبتي؟ ما الذي أصابكِ بعد سفري؟ كم أتمنى أن أسمعَ صوتكِ، ضحكتكِ ولو لمرةٍ واحدةٍ!....لكن كيف؟!.. كيفَ.... كيفَ بعد ذلك الحوار الأخير الذي جمعنا؟؟!!
ثم أطرقَ مستذكراً مشهدَ صراخه بوجهها :
جلال: أرجوكِ قولي شيئاً، لكن لا تلوذي بالصمت هكذا، فصمتكِ يقتلني...قولي أي شيء، انعتيني بالجبان بالخائن أي شيء، فقط لا تنظري إلي بهذه النظرة، لأنها تمزق قلبي، تكلمي أرجوكِ، أتوسلُ إليكِ قولي شيئاً..
ثم مشهد تنهداتها وعينيها المغرورقتين بالدموع وصوتها المرتجف:
نور: ماذا تريد أن تسمعَ جلال؟!.... ماذا تتوقع أن تسمع؟...أحبكَ منذ سنوات وحلمتُ معكَ ورسمنا مستقبلنا، بيتنا، حياتنا، أولادنا... والآن تأتي لتقول أنكَ ستهاجرُ ولتتزوج ابنة عمك الأوربية! كيف ستظنُ أن أتقبل الأمر؟....بالزغاريد مثلاً؟....بالتصفيق؟...لك التصفيق إذن....(راحتْ تصفق له بهستيرية) .....مبروك ياأستاذ....مبروك....لم أكن أتخيل أني وحبي وزننا الهواء في ميزانك....بكل بساطة تأتي وتخبرني ...يا ليتني متُّ....متُّ على أن أسمعكَ تقول هذا الكلام.....على الأقل كنتُ سأموت وأنا أحملُ لكَ صورةً جميلةً في رأسي، أحتفظ بمشاهد حبنا بسنواتِ عشقنا وأحلامنا....لكن الآن....الآن كل ما أتمناه أن يرحمني الله ويكتبَ لي الموت سريعاً...الموتُ أهون عليّ من حياة العذاب التي بانتظاري(راحتْ تجهشُ بالبكاء وتسقطُ على الكرسي الذي خلفها)...تقربَ منها حاول لمسها لكنها صرختْ فيه: اخرجْ .... لا أريدُ أن أراكَ ولا أن أعرف عنكَ شيئاً بعد الآن.
وقُطع المشهد بصوتٍ مرتفع يأتي من كل مكان: على ركابِ الطائرة المتجهة إلى دبي....قصد الــــ ....
نهضَ من مكانه بصعوبة....كانتْ بشرته البيضاء قد أصبحت وردية، وكأن كل الدماء قد تجمعت في وجهه، عيناه أحمرتا و اغرورقتا بالدموع، أدخلَ المحفظة إلى جيبه من جديد، أحكمَ غلقَ السترة، أمسكَ بعربة الحقائب وسارَ بخطى ثقيلة إلى مقصده......قلبٌ جريحٌ مُحطم يتساءل داخل صدره: هل سيكونُ القادم حلماً هولندياً أم كابوساً؟.
ـــــــــــــــــ
* سبق ونشرت القصة ضمن كتاب (نصوص عربية) الصادر عن دار شمس المصرية للإعلام والنشر

الاثنين، 14 يونيو 2010

الفية الولد الخجول-نص وتخطيطات د غالب المسعودي


ألفية الولد الخجول
إلى الذي طاف المجرة واحتضن النجوم
ولازال ولدا خجولا
                      الفنان عادل كامل
(السكوت أعلى مراحل صياح الأنبياء)
من تراب كلماتك صغت المعنى....افتاذن لي أن ادخل سور المعبد,....كي اهدي ربطة عنق لرقبة هذا الولد الخجول المفتون بحب عرافه.وهو يزحف نحو ألفيته الثالثة بلا عكاز,غير ثمة احتلال نلعقه ومن ثم نعلفه لكسر المعنى.
(بين الخواتم ضاع حبيبي)
يبدأ نصا وينتهي وجدا
أو ينتهي حرفا(تاركا إنشاء البيادر)
قال ألنفري
(أوقفني بين أولية إبدائه واخرية إنشائه وقال لي ان لم ترني فلا تفارق اسمي)
أساطيرك من طين
وعصفورك في الفجر يعلمنا الغناء
وعندك أكثر من ذلك
أحلام تتجول
هلا عرفت ماذا تعطي للعشاق
أعطهم جمر الصخر
وعناقا لا يفنى........
حينما منَ الوادي بكسرة خوف
ساق الوردة إلى نبع الماء
اتبعها قطيع زنابق
فالوردة أنثى لا تعرف سر الخوف
أهداك الجمال خجله فتهت
وأهداني الخجل جماله فغزوت......
.....
نار سمعتها تبكي نارا...واهداب الريح تنادي
فالصحراء تخلع نطفتها الان
....

أتطلب شحاذا للرفقة
وتبحث عن لؤلؤة في قاع اليم
دفنتها أمواج عماء
هلا سمعت صوتا أعلى من صوت جهنم
أو صمتا أعلى من مناجاة غزال
من ذا بلا استئذان سرق عرسي
من آبدا وهبني الأحلام
لم يبكي الطفل حين سرقت الريح
طيارته
بل ابكي عندما سرق الخوف كلماتي
حمل يبحث عن كلب جائع
فلنرتدي الجلباب معا
ولنبحث في الغابة عن ورد ابيض كي يقطفنا
فأزلية هي المدافن...إنما احملني إلى غيمة ا ودع النجوم تحملني إلى البعيد
عندك رطب وغابات خمور
ولك عندي
يدا أضعها على صدري
وأموت......................

فصول الى ننماخ-نص وتخطيط د غالب المسعودي


فصول إلى ننماخ........
إلى التي  كنت انتظرها... الأميرة ذات الرداء الوردي... المطرز باللازورد والنجوم...الإلهة البابلية.......
حينما يحتضر الشتاء ويودعنا بحفنة برد
              يأتي الصيف بإسرار جهنم
           وها   أنت
        ربيع
          بينهما
      تسقين بشهدك
    روح العشب
 ويزهر
              وتتهادين
            كموسيقى
                       عطر
                         الورد
                                   الأحمر

الأحد، 13 يونيو 2010

الساحر قصة رمزية بقلم ايمان البياتي-لوحات د غالب المسعودي


الســــاحر*

قصة رمزية*
ليس كل ما تراهُ و تعتقدهُ صواباً هو كذلك، ففي الحياة الكثيرُ من السحر


كانت تلكَ هي المرة الأولى في حياتها التي ترى فيها ساحراً، سمعتْ و قرأتْ عن جاذبيةِ ومواهب هكذا رجال لكنها لم ترَ واحداً منهم من قبل، لم تستطع أن تقاومَ فضولها فأسرعتْ تتقربُ منه أكثر فأكثر فأكثر، لحظات وأصبحتْ تقفُ على مقربة منه ولا تبعدها عنه سوى خطوات، عيناها عليه تترقبهُ ،تتفحصهُ وكأنها تكتبُ له رسالة إعجاب طويلة مشفرة.
يا لهما من عينين ملونتين!، سرُ جمالهما أنهما لا تثبتانِ على لونٍ واحد، لم ترَ مثلهما من قبل، تارة يظهرانِ بلون أخضر يذكرها بالعُشب وأوراق الشجر في أواخر موسم الربيع حيث تكتسبُ عادة لوناً أخضراً داكناً، ثم تجدُ بعدها أن لونهما ليس بالأخضر و انما هما زرقاوان! أزرق سماوي بلون السماء الصافية في الصيف حيث الزرقة التي لا تشوبها سحابة، وتارة تظهرُ لها أنهما عسليتا اللون يلامسُ طعم الشهدِ طرف لسانها ما أن تنظرُ إليهما، وتارة أخرى بدتا رماديتين.
أسئلة كثيرة انتفضتْ داخلها بصمتٍ، والمُلفت كانت الإجابات تأتيها مع حركات يدهِ الرشيقة وهي تتراقصُ مع العصا السحرية التي كان يحملها، كأنه كان يسمعُ أحاديثَ رأسها ووساوس نفسها، فساعة فكرتْ بمن يكون، كان هو يمسكُ بطرفِ قماش لفه حول قوامهِ الطويل وجسده الرشيق ثم رفعهُ خلال لحظات لتختفي عنه ثياب الاستعراض الملونة الفضفاضة وليبدو لها واحداً من أعالي الناس حيث البزة السوداء الفاخرة والأناقة التي تقتصرُ على أشرافِ القوم، وكأنه يقولُ لها: أنا ابن عائلة نبيلة، ألم تسمعي عن (...) ؟! بعد أن شاهدتْ أناقته دارَ في خلدها هل الرُقي يرتبطُ بالثراء؟ كان هو في ذلك الحين يُمسكُ بيده صندوقاً خشبياً أجوفاً ويُريه لها وللجمهور مرات متعددة قبل أن يُغلقه بالمفتاح ويغلفّه بوشاحٍ حريريٍ ذهبي اللون للحظات، ثم بعد ضربةِ عصا واحدة يرفعهُ عنه ويعاود حلَّ الأقفالِ على عجل فتخرجُ منه دنانيرَ الذهب والفضة فيصلها صوتٌ من أعماقهِ يخاطبها: مع سمو نسبي هنالك المالُ الوفيرُ آنستي! حدقتْ فيه، إنه يخاطبها مع كل حركةٍ من حركاته، يختلسُ النظر إليها بين فقرة و أخرى، وسرعانَ ما انتهتْ اللحظات الجميلة، بإنزال الستارة واختفاء الساحر من أمام أعينِ الجميع فانتشرَ الحُضور كحباتِ عُقد قطع خيطه،أما هي فلقد تسمرتْ حيث كانتْ تقفْ شاردةَ الذهن .
انتهت الاستراحة وعادَ الجميعُ إلى مقاعدهم وبقيتْ هي حيثُ كانت واقفةً على مقربةٍ من المسرح، خارج صُفوف المتفرجين تفكرُ بكل ما رأتْ وسمعتْ.
بدا الوقت ثقيلاً، حتى رُفعتْ الستارة من جديد، وعادَ الساحر لإكمال فقراتِ عرضه وهذه المرة بدأ بالعرض الذي يحبهُ الجميع، عرضُ القبعة الطويلة السوداء، سرعان ما توجهتْ أنظارُ الجميع إلى القبعة، نجمةُ العرض إلا هي فقد كانت عيناها تراقبه هو، في ذات الوقت كانت عيناهُ تقعُ عليها.
بدأ بحركاتهِ السريعة الساحرة في الفضاء، أصابعهُ ترقصُ برشاقةٍ فوق القبعة كما لو كانت تلعبُ على بيانو في الهواء لا يراهُ سواه، يمد ذراعه فيُخرجُ من داخل القبعة الجوفاء باقةُ ورد ندية، يفاجئ الجميع بسحرِ العرض، يرفعها عالياً ملوّحاً بها ويرميها لتقعَ بين يديها، تُمسكها هي ثم تشمّها فتحتضنها، تبتسمُ له، يغمزُ لها ويتابعُ فعالياته بنشاطٍ أكبر من سابقهِ، وهذه المرة يمدُ يده داخل القبعة ويمثلُ بظرافة أنه يعاني صعوبةً في إخراج ما يمسك داخلها، ثم فجأة يبتسمُ وهو يخرجُ طائر حبٍ لونه أصفر على جناحهِ خطٌ أحمر متعرج، يرتفعُ الطائر مرفرفاً بجناحيه وفق تصفيقٍ حارٍ من الحضور، بعدها تتراقصُ مصابيحُ الإنارة على المسرح مضيفةً المزيد من المتعةِ للعين.
وينزلُ الستارُ للمرة الثانية، ليرتفعَ بعدها بدقائق ، وتبدأ عندها الفقرة الترفيهية حيث يقومُ الساحرُ باختيار واحدةٍ من النساء في القاعة لتصعدَ إليه الآن ويدخلان معاً يحتضنان بعضهما البعض إلى داخلِ صندوقٍ كبير رُفع على بعد ثلاثة أمتار فوق المسرح في زفة كزفة العرسان، يرتفعُ صوت الموسيقى بإحدى سيمفونيات بتهوفن الخالدة، تزدادُ شدة الصوت تدريجياً فتصلُ ذروتها عندما ينزلُ الساحر إليها، نعم إليها ! هكذا شعرتْ وهكذا تقولُ عينيه هو، وهكذا تثبت خطواته، فهو يسيرُ نحوها بخطٍ مستقيم تتبعهُ الأنوار من كل مكانٍ وتتقاطعُ حيثُ يقف، يصلُ إليها وينزعُ قبعته كالفرسان في عرض درامي مثير وتصفيقٍ حار ليركعَ بالقربِ من قدميها كأي عاشقٍ، يغلق يده الخاوية ثم بعد ضربة عصا واحدة يفتحها من جديد لتظهر داخلها علبة صغيرة، يفتحها أمام الجميع لتُظهر خاتماً فضي اللون يعلوهُ فص صغير من الماس، يسكنْ منحني الرأس بانتظارِ جوابها، يخفقُ قلبها إليه وهي تتخيلُ أنها ستكون جزءً من عالمه الساحر، ستدخلُ اللعبة وعالم الخيال وتكونَ جزءً من عالم الجنون والمرح والترقب والغموض ستكون جزءً من تلك الأسرار، مدتْ يدها لتلمس الخاتم وتُعلنَ عن موافقتها، وجدتْ أن هنالكَ من يسحبُ يديها كانت والدتها، والدها، أشقاؤها، أصدقاؤها الجميع يسحبُ ..ينهرُ...ينصحُ...يمانعُ...لا تخوضي التجربة، لكنها لم تكنْ تسمعُ لأحدٍ فلقد وقعَ عليها سحرُ الساحر المحترف وما باتتْ ترى أو تسمعُ غيره، حتى أصبحَ كلُ ما تفكرُ فيه الآن الفرصة! نعم جاءتها لتخوض صدفةً تلك المغامرة، تصعدُ إلى المسرح لأول مرة وتشاركُ هذا الرجل الغريب الغامض ذلك الحلم، فتغادرُ مقاعدَ المشاهدة وتكونَ أميرة العرض الكبير ونجمة هذه الليلة، نظرتْ إليه كانت عيناهُ تلمعان وتقولانِ الكثير ومع الموسيقى المتصاعدة في المكان كانت نظراتهُ تلك قد بدأت تحاكي عزف البيانو فيزيدها حماسةً وحرارة.
أمسكَ يدها واحتضنتْ ذراعه وراحا يصعدان السُلم إلى حيث الصندوق الخشبي الكبير، صعدا بهدوء فبدا السلم طويلاً كأنه يرتقي إلى السماء لا أعلى العرض فحسب! وصلا، وقفا، توقفتْ الموسيقى فبدأ قلبها بالعزف، أمسكتْ ذراعه فهو أميرها الساحر الذي سيصعدُ بها إلى القمر ليرسم قصةً ترسخُ في أذهانِ الحضور ربما لأشهر وربما لأعوام قادمة والآن لوّحا بيديهما يودعان الجميع.
ثم حانَ وقت استخدام الحواس الأربعة، أغمضي عينيكِ، لا تحتاجينَ إليها هكذا قال، أصغتْ لكلامهِ وراحتْ تسترخي كما لو كانتْ تستعدُ للنوم الأبدي، ساعدها للدخول إلى الصندوق ثم وقفَ أمامها واحتضنها، أنفاسهُ قريبة منها كما لو كانتْ تستنشقُ زفيره!.
تسمعُ جيداً الآن، ثمة أقفال تُغلقُ من الخارجِ وعادتْ الموسيقى وهنالكَ من يعد واحد...اثنان.... ثلاثة....تختفي أنفاسهُ بعدها ويدخلُ هواء بارد ثم لا تشعر بشيء وكأنها فقدتْ الوعي لتفتحَ عينيها على تصفيقٍ حارٍ كان الصندوقُ قد فُتح للتو وكانتْ تقفُ وحدها على المسرح، يساعدها بعضُ موظفي السيرك للنزول إلى الأسفل، كانتْ صامتةً، تشعرُ بخيبة أملٍ كبيرةٍ والكثير الكثير من العار، شعرتْ أنها أضحوكة وأن عرضُ الأحلامِ ليس سوى مشهد النهاية وآخر الحكاية، لقد اختفى الساحر...رحلَ...ففكرةُ الزفافِ تلك كانت الفقرة الختام التي يُودّع بها جمهوره كل ليلة والجميعُ كان يعرفُ ما هي إلا المسكينة لأنها تزور المكانَ لأول مرة!.



* سبق ونشرت القصة ضمن كتاب (نصوص عربية) الصادر عن دار شمس المصرية للإعلام والنشر 2010
* الشخوصُ والمواقفُ والأحداثُ في القصة تسمياتٌ رمزية، لا تعني ما هو متعارفٌ عليه في العموم، وإنما هي كنى لأسماءٍ أخرى وشخوص أخرى لايدركُ ماهيتها الحقيقية سوى كاتبتها.

الجمعة، 11 يونيو 2010

الفنان ناصر عساف ورحلة البداية -كتابة د.غالب المسعودي

الفنان ناصر عساف ورحلة البداية -اهوار الجبايش عام 1980
ان وظيفة الفن الكاملة هي تجميل الواقع الذي لم يعد عند الفنان الواقع الطبيعي ,وبالرغم من ان الفنان ناصر عساف فتح عينيه في مدينته الناصرية على مرارة معاناة ساكني الاهوار الا انه اثر ان يصور جماليات اخاذة تجعل المتلقي يغوص في اعماقها بحيوية الصورة والفتها. صورها بالوان احادية وحيادية وانشاء تشكيلي رائع فكانت فاتحة لمعرضه الاول في مدينة الناصرية 1980 والذي ظل يناغم مسيرته الابداعية الى الوقت الحاضر.

الأربعاء، 9 يونيو 2010

سمراء بغداد-بقلم ايمان اكرم البياتي-تخطيطات د.غالب المسعودي


سمراء بغداد*

سحرُ ليل بغداد لا يكتملُ إلا مع دفءِ أنثى خمرية

"سمراء" صفة لطالما نُعتُّ بها منذ الطفولة، في البيتِ وبين أقاربي ذهبتْ سمراء، جاءتْ سمراء، وفي المدرسة طالبتنا الذكية تلك السمراء هناك، فازتْ بالتقييم المدرسي السنوي الأعلى السمراء، أفضلُ من يرسمُ في المدرسة السمراء، أفضلُ من يُلقي الخطابة "سمراء"، حتى شعرتُ أن "سمراء" هو أسمي وليس صفة بشرتي!.
حين كنتُ في المدرسةِ الابتدائية، كثيراً ما نظرتُ للمرآة بعد سماعِ تلك الكلمة، كنتُ أحدّقُ في لوني الخمري، واسألُ نفسي لمَ خلقَ اللهُ البشرَ على ألوان؟ لمَ هناكَ الأبيض والأسمر؟ كان قادراً على خلقِ الجميعِ بلونٍ واحدٍ، وعندما سألتُ والدتي ذات مرة لمَ لمْ أولد ببشرةٍ بيضاء؟، أجابتني: اللونُ الخمري هبةٌ من الرّحمن فالبشرة الخمرية ترافقها روحٌ جميلةٌ تتركُ أثراً كعطرِ الياسمين في نفوسِ الآخرين، فنجدُ أن المرأةَ السمراء والرجل الأسمر هما صاحبا أجملَ روح، محببانِ للنفس، وأذكر أنها ختمتْ حديثها بمقولةٍ عراقيةٍ تنعتُ أصحاب البشرةِ السمراء ب (دمهم يلعب) للإشارةِ إلى أنهم يتسمونَ بالنشاطِ والحركةِ اللا اعتيادية، وفي ذلك السن لم يكنْ اللونُ الخمريُ يسببُ لي أي ضيقٍ حتى كبرتُ قليلاً وصرتُ صبية فوجدتُ أن لوني الخمري لا يناسبهُ بعضُ ألوان الثياب، أصبحتُ أرى نفسي غير جذابة باللونِ الأحمر، ووجدتُ نفسي أكتسبُ بشرةً غامقةً حين أرتدي فستاناً زهرياً، وكان هذا اللون هو أكثرُ لون تهواه البناتُ قريناتي، فبدأتُ أنزعجُ تدريجياً وأشعرُ بالامتعاض من لوني الأسمر كلما ضيّق من حريتي في اختيار فساتيني!
كبرتُ بضع سنواتٍ أخرى ومازالَ الجميعُ يناديني "سمراء"، وبعد أن كنتُ في طفولتي أعتبرُ اللون ميزةً وهبة الرّحمنِ كما علمتني والدتي، بدأتُ أعتبره نقمة، فبشرتي تصبحُ دهنيةً لامعةً مع صيفِ بغداد الساخن وكان يتوجبُ عليَّ أن أهتم بنظافتها أكثر من غيري، كما كانتْ شمسُ شهر أغسطس تُكسبني سُمرةً فوق سُمرتي، فأجدُ لوني قد أزدادَ غُمقاً وكان هذا الأمر يسببُ لي الحزن والضيق، لكن  لحسن الحظ ما أن كان يحلُ الشتاء حتى تعودتُ أن يعودَ إليّ لوني الخمري الذي ألفتهُ.
تفوقي الدراسي قادني بسهولةٍ إلى جامعةِ العاصمةِ لأجلس على مقعدِ واحدةٍ من أعرق كلياتها وأعلاها شأناً، الهندسة المعمارية وكان حُلمي أن أرسمَ عمراناً بطرقٍ مبتكرةٍ مقتدية ب (زها حديد)* ، وأصبحَ شغلي الشاغل في تلك السنواتِ الجامعية الدراسة والاجتهاد، أما قلبي كأنثى فكنتُ أتجنبُ أن اُذكرّه بالحبِ أو الانجذاب الفطري لرجلٍ ما، كان هنالكَ إحساسٌ ما يخالجُ صدري دائماً بأن لوني الخمري لونٌ مألوفٌ وليسَ جميلاً كفاية لألفتَ انتباه رجل عظيم وكنتُ دائماً أصفُ فارسَ أحلامي ب(الرجل العظيم)، اعتقدتُ بأن الرجالَ الجيدون أو الرجالَ المميزون في هذا العالم دوماً يبحثونَ عن الجميلاتِ الشقراواتِ، صاحبات البشرة ناصعة البياض، فكرةٌ قد تولدتْ واستوطنتْ في ذهني منذ المراهقة، ورسختْ شيئاً فشيئاً مع السنواتِ، وكان هذا الأمرُ يزدادُ تعقيداً داخلي كلما علمتُ أن فلاناً الرجل الثري قد أرتبطَ بتلك الفاتنة الشقراء(.......) أو فلاناً الرجل حامل الشهادة العلمية العليا قد وقعَ بحبِ الشابةِ الجميلةِ (.......) وأن الرجل الفلاني ذا الحسبِ والنسبِ الرفيعين قد أقترنَ مؤخراً بالبيضاءِ الساحرةِ (........) التي خلبتْ لبه، تلك العناوين كانتْ همساتُ صديقاتي في جلساتهنَ الخاصة وإعلاناتُ الصحفِ والمجلاتِ وهي تتحدثُ عن مشاهيرَ الرياضةِ والفنِ والسياسةِ ورجال الأعمالِ والناجحين في كلِ مجالٍ من مجالاتِ الحياة، ولأني لم أكنْ أعدُ اللون الخمري لوناً جميلاً أو ساحراً أو فاتناً فلقد كنتُ متأكدة أنَ من الأفضل أن أهتمَ بدراستي فحسبْ حتى أحصلَ على المرتبةِ الأعلى باستمرار وأسبقَ قريناتي فأتفوق بذلكَ على صاحباتِ البشرةِ البيضاءِ، كأن هنالكَ ثأراً بيني وبينهن! وكنتُ قد عزمتُ مع نفسي أن أرفعَ شعارَ العزوبية دائماً، ففي الحين الذي كانتْ فيه رفيقاتُ دراستي أو صديقاتي الجميلات ذوات البشرةِ البيضاءِ يرافقنَّ الشباب ويقعنَّ في الحبِ وينلنَّ وعودَ الخطوبةِ والزواج كنتُ أبررُ أنا انسحابي من كلِ ذلك ب : لا وقتَ لدي، العلمُ أهم، الحبُ يُعطّل العقل ويؤخرُ دراسياً، وكنتُ أحياناً أخرى أتهربُ بردٍ طريفٍ: آه ....يظهرُ أني نسيتُ أن أفكرَ بالموضوعِ لكثرةِ انشغالي! شكراً للتذكير.
حتى ظهرَ هو في حياتي فقلبَ كل الموازين مع بعض، شابٌ في الثانيةِ والثلاثين عائدٌ للتو من بريطانيا حيث أنهى هناكَ دراسة الماجستير في هندسة الطرق والجسور، وقعَ عليه بصري لأولِ مرة في معرضِ الجامعةِ السنوي لأنشطةِ الطلاب، كنتُ قد شاركتُ بمخططٍ هندسي أطلقتُ عليه (أوبرا بغداد) وكنتُ قد أنجزتُ تشكيلاً مجسماً صغيراً يمثلُ شكل مبنى الأوبرا الذي تمنيتُ أن تحظى به بغداد مستقبلاً، حاولتُ أن أنجزَ شيئاً لا تقليدياً وأبعدُ ما يكون عن شكلِ أوبرا (سيدني) التي يصفها الجميعُ بالجمالِ والسحرِ، فلقد جعلتُ تصميمي يتسمُ بروحٍ عراقيةٍ خالصةٍ، حيثُ تأريخ بغداد، وتراثُ الأجدادِ العريق في نمطٍ من الحداثةِ و العصرية، أساتذتي كانوا مبهورين بخيالي ووصفوني بالفنانة لكن أغلبهم أخبرني إنهُ كان من الأفضل أن أرسمَ عملاً أكثرَ واقعية مستشفى مثلاً، مبنى حكومياً عصرياً، شركةً، مجمعاً سكنياً، لكن!...أوبرا مع وضعِ العراق اليوم يعد أمراً مستحيلاً، فأغلبُ الفنون اليوم راحتْ تندثرُ فكيفَ مع فنٍ كالأوبرا غربي الأصل!
إلا هو!... ظهرَ وجههُ فجأةً بين الوجوه المزدحمة في ذلك المكان، لا أعرفُ أينَ كان يقفُ، فلم أكنْ قد لمحتُه وأنا أناقشُ تصميمي، شابٌ أبيضٌ فارعُ الطولِ، جميلُ الوجه يميلُ شعره للشقرة، كما لو كان بريطانياً فعلاً! يرتدي قميصاً زهرياً تحت سترة رمادية، أبتسمَ في وجهي وهو يُعلّقُ قائلاً: أنا أرى عكس ما ترون، المعذرة أيتها السيداتُ والسادة.... اسمحوا لي جميعاً، العمارةُ فنُ الخيال والحواس معاً لمَ نكبّلها بقيودِ الواقع؟! الخيالُ سُمّي خيالاً لأنه كالكون بلا حدود، كطائر بلا قيود، له الفضاءُ كله ليُحلّق......أحسنتِ آنستي، تمتلكينَ خيالاً واسعاً وجميلاً، ولو لم تكوني صاحبةَ إحساسٍ مرهفٍ وميولٍ فنية لما خطرتْ لكِ فكرةً كهذه.
كانتْ تلك هي المرة الأولى في حياتي التي أشعرُ فيها أني فقدتُ القدرةَ على النطق!، لا أعرفُ هل وسامته كانتْ السبب أم رده اللا اعتيادي؟، أم أن الدهشةَ كانتْ وليدة أسبابٍ أخرى؟، يومها تلعثمتُ ببعضِ الكلماتِ، أتذكرُ أنها كانتْ شكراً لذوقهِ فحسب!.
بعدها اختفى الوجهُ كما ظهرَ، عندما انتهى المعرضُ وجدتُ نفسي اسألُ عنه من يكونَ؟ أكان طالباً أم أستاذاً أم ضيفاً؟ هل هو فنان؟ نحات؟ تشكيلي؟ أو ربما صحفي؟ أم ماذا؟ فضيوفُ المعرضِ تختلفُ خلفياتهم الثقافية، ولم أكنْ أعلمُ بعد عندها أنه أستاذٌ جديدٌ في الجامعة، الغريبُ وقتها أني سألتُ عنه زميلاتي وزملائي، لم يشاهدهُ أحد، حتى شعرتُ لبعضِ الوقتِ أنَ شخصيته كانتْ من نسجِ خيالي الخصب فحسب!
حتى تقابلنا من جديد بعد أسبوعٍ تقريباً في أحد أروقةِ الجامعة حين استوقفني، كان ظهورهُ للمرةِ الثانيةِ أيضاً مثيراً لاستغرابي، فمن أينَ جاءَ وكيفَ وصلَ إلى حيثُ يقفُ الآن أمام عيني بهذه السرعة؟! ألقى عليَّ أرق التحياتِ وعرّف بنفسهِ هذه المرة، و اعتذرَ لأنهُ لم يتمكنْ يوم المعرضِ من فعلِ ذلك، عللَ سبب حديثه معي هذه المرة بأنه يودُ أن أصممَ له منزله الخاص!.
ضحكتُ وأنا أستفهمُ منه، لمَ تركَ مكاتبَ التصميم الكثيرة في البلادِ بل حتى العالم وهو القادم من أوربا ليطلب مني أنا أن أضعَ له المخططات؟!! وأنا مازلتُ طالبةً في المرحلة الأخيرة من دراستي الجامعية؟!! ردَّ بدبلوماسيةٍ: أثبتي جدارتكِ فقط!.
سألتهُ عن متطلباتهِ في المنزل الذي سأرسمه، فالمنازلُ تعبرُ عن أفكارِ وميولِ وحاجةِ ساكنيها، كان جوابه المقتضب: أرسمي منزلاً طالما تمنيني السكنَ فيه!.
لا يمكنني أن أنكر أن غموضه ذاكَ وإجاباته المميزة تركتْ في نفسي انطباعاً جميلاً عنه ذلك اليوم، وجعلتني أفكرُ فيه رغماً عني، وفعلاً سهرتُ ليالٍ طوال أرسم في المخطط، أرسم في منزلِ الأحلام وأنا أتخيلُ وجهاً واحداً، وجهه هو فحسب!، اتفقنا أن أسلّمه الرسوم بعد أن أنهي امتحاناتي، موعدنا سيكون في آخر زيارةٍ لي للجامعة.
جاءَ اليوم الذي كنتُ أترقبه، كنتُ سعيدةً جداً، لا أعرفُ بالضبط لماذا، هل فقط لأني أنهيت مخطط منزل الأحلام كما راقَ لي تسميته؟ أم لأني احظي بلقاءٍ جديدٍ مع رجلٍ استثنائي؟، كان حواراً قصيراً لا يمكنني أن أنساه أبداً، سألتهُ بعد أن شرحتُ له تفاصيلَ التصميم إن كانتْ المخططاتُ مناسبةً، أجابَ مع ابتسامةٍ رقيقة: وأنتِ ماذا تقولين فيه؟
سألتُ مستغربة: أنا؟!..... أنا مصممة المنزل، لذا سأرى دوماً أعمالي فريدة، وإن كانتْ خيالاً ولا تمتُّ الواقع بصلة، علّق قائلاً: جميل جداً.... و ما رأيكِ لو نحوّل الخيالَ إلى واقع ؟
سؤالهُ كان مبهماً لي، فاستفهمتُ: ماذا تقصد أستاذ سنان؟
أجابَ: ما رأيكِ لو أهديتكِ هذا المنزل؟
انفعلتُ وأجبتُ بعصبيةٍ: لا أحبُ هذا الأسلوب بتاتاً......أفضّلُ أن تتحدثَ بلغةٍ مفهومة.
أبتسمَ ابتسامةً صافية، كان هادئاً جداً مع أني كنتُ متوترةً وأنتظرُ رده: وهل دوماً النساء الخمريات بهذه السخونةِ والحدية في الإجابة؟.. لطالما اعتقدتُ ذلكَ، وأنتِ ماذا تقولين؟
ثارتْ ثورتي، انزعجتُ جداً لتطرقه ذكر لوني، أجبتُ بحزمٍ وتوترٍ: نعم.... جداً....جداً.
أعتذرَ ب(آسف) ثم تابعَ: حنان....مهندسة حنان...أنا أتقدمُ لكِ طالباً الزواج، كنتُ أتمنى أن تفهمي طلبي منذ أن سألتكِ أن تصممين منزلَ أحلامكِ.....تابعتكُ منذ يوم المعرضِ، راقبتكِ من بعيد وسألتُ عنكِ بعد أن أثرتِ فضولي وإعجابي، أنتِ امرأة مميزة، تجمعُ الذكاء والفن، أتوقعُ لكِ مستقبلاً مهنياً فردياً لو تزوجتِ رجلاً يقدّرُ هذا.
كاد يغمى عليَّ، لم أكنْ أتوقع أن أسمعَ تلكَ الكلمات أبداً، فما زلتُ أؤمن أن الرجالَ المميزون ينجذبونَ للنساءِ الفاتناتِ، وجدتُ نفسي اسألهُ بشجاعةٍ دون تردد هذه المرة وكأني بسؤالي احاولُ أن أتخلصَ من عقدةِ لوني الخمري إلى الأبد: لكن أستاذ سنان ...أنا لستُ بالجمالِ الذي قد يتمناهُ رجلٌ مثلكَ، ما الذي يجذبكَ باللون الخمري؟
أبتسمَ قائلاً: لا أخفي عليكِ...أعجبني لونكِ وذكاؤكِ بنفسِ المقدارِ.
نظرتُ إليه باستغراب، تابعَ رده قائلاً:
لا تحبينَ لونكِ، فهمتُ ذلك ... لكن اعلمي أنه ساحرٌ جداً لرجلٍ بغدادي عاش مغترباً لستة أعوامٍ في لندن، رجلٌ ملَّ الضباب والثلج، باتَ اللونُ الأبيضُ عنده مقروناً بالبرد، مقروناً بالغربةِ والوحدةِ والبعدِ عن الوطن، سؤالٌ أخير وأتمنى أن لا تنزعجي..... ما يكونُ لونكِ في الصيف الساخن عادةً؟
أجبتُ: أسمراً لامعاً.
أبتسمَ كمن توقعَ الإجابة: بل قولي برونزياً نارياً وصفٌ أدقٌ يا فنانة، إلا يعجبكِ النظرُ إلى منحوتاتِ النحاس والبرونز، ألا تشعرينَ عندما تنظرينَ إليها بأنها تكادُ تنصهرُ لحرارةِ معدنها، تمدكِ بإحساسٍ دافئ وتحفزكِ لتمدي أصابعك وتلمسيها وتتمني مع نفسكِ احتواءها؟
علقتُ ب: نعم.
أسترسلَ: سحرُ ليل بغداد عند عاشقٍ للفن مثلي، لا يكتملُ إلا مع دفء أنثى خمرية.
ـــــــــــــــــ
* سبق ونشرت القصة ضمن كتاب (نصوص عربية) الصادر عن دار شمس المصرية للإعلام والنشر 2010
* زها حديد  معمارية عراقية/بريطانية، ولدت في بغداد 1950، حاصلة على شهادة الليسانس في الرياضيات من الجامعة الأميركية في بيروت 1971 ، كما تخرجت عام 1977 من الجمعية المعمارية "AA" أو "Architectural Association" بلندن، لها العديد من الأعمال الشهيرة ومن أهمها تنفيذها لنادي مونسون بار في سابورو في اليابان وكذلك محطّة إطفاء فيترا ويل أم رين في المانيا و المتحف الوطني للفنون من القرن الحادي والعشرين في روما، مرفأ ساليرنو، أما أكثر مشاريعها الجديدة غرابة وإثارة للجدل مرسى السفن في باليرمو في صقلية، ومتحف الفنون الإسلامية في الدوحة وجسر في أبو ظبي، مركز روزنتال للفن المعاصر سينسيناتي- الولايات المتحدة و المبنى الرئيسي للمصنع بي ام دبليو في لايبزيج، مشروع متحف المتوسطية دي ريدجو كالابريا.

الفنان غالب المسعودي في معرضه الاخير-بقلم الفنان عادل كامل-لوحات المسعودي

علامات الخطاب واسلوب الرؤية-عادل كامل
بين التوقف عند خصائص العمل الفني وبين الانشغال بصانعه,علاقة متداخلة,لقد كان للتعبير منذ انفصال المرحلة الجمالية,عن العضوية علامة جديرة بالتامل,مع ذلك,ليس الفن هو (الانسان )ابدا,انه مسعاه كي يحقق غايات مختلفة,ومنها,الحفاظ على شرعية التعبير كعلاقة جدلية بين اللغة والفضيلة.
والطبيب الفنان غالب المسعودي,لا يخفي قلقه,ولا يخفي تباهيه بالازمنة !انه-كالممثل فوق المسرح-يعلن عن استمرارية النص,فلقد اعلن المسعودي,بتجاربه المختلفة,عن عاطفة شائكة العلامات,لكنهاتحاول-بحسب تدريباته-التمسك-كما يعلن-باخر السومريين:انسانا وخطابا...انه مثال ابعد من المنجز ! وقد كان كاظم حيدر,يجد متعة بتفرد كل تجربة,وكل لوحة,بل وكل لمسة,فالمسعودي يهدم الوثن(المثال) بدافع صراعات شرعية,ففي فاتحة زمن امبراطورية الخيال,في القرن الواحد والعشرين,يتهدم اليقين باليقين,ليغدو التمرد الرديكالي سمة دائمة لبناء العمل,اننا نراه يتنزه مع زمن سابق,مع السومريين,ونراه يتوقف عند تقنيات القرن الحادي والعشرين,محلية واوربيةمعا,فالشك التجريبي يعمق اماله ولا يضعفها,فثمة تمسك بما هو صادق حتى لو عارض الحقيقي,الاكثر استحالة,هذا الصدق,جعله يغلي ويقدم تجارب ذات نزعة زلزالية,متمردة,متجانسة في عدم تكرارها,لان الفنان لا يصنع اوثانه داخل منفى واحد للزهو,والتعبير,الا باستحالة اي عمل اخر.
فالتعبير في الحصيلة يغدو صنيعة للاعتراف ولكنه في ذات المنحى يتمسك بالبعد التاملي... ففي اعماله الاخيرة تتداخل الازمنة وتتوحد فضاءات الفنان,فالقصائد القديمة الى جانب حرية الاشكال,تتمسك بالتعبير في بحثه عن علاماته,ذلك الامتداد للفنان معنا,نحو الوثيقة(الشهادة).....فهناك هاجس الحوار الدائم مع الاخر,لان الجحيم,في تجريبه,يكمن في الاعماق,ولايكمن في الفن,فالفنان يقترح اسئلة,مع الحفاظ على تجريبيته(التنفيذ) واسئلة الفنان هي الاسئلة ذاتها منذ فجر الاسطورة وقد صارت لوحاته,في حدود المرئيات,تخص الجوهر,فايهما اكثر(حركة وقلقا) السطح ام محركاته؟
ان تجارب غالب المسعودي بين النزعة الشخصية والتجريدية,تعلن عن شرعية البوح,التوازن بين فن الطب, والنزعة الفنية بسياقها الجمالي...لان غايات الفنان متوحدة بخطواته نحو الامتلاء...فالزمن والافكار والرغبات,تتوحد بهاجس التمرد,وبارادة اليقين معا,فهو داخل الاسطورة,يتمسك بنوايا وجدت تحولاتها في زوايا النظر,لانه يضع ذاته في الشكل,احيانا ويتمسك بالشكل كجزء من ذات لم تفقد ديناميكيتها,فالصراع بين الحقيقي والصادق,في البحث والتامل خصائص هذه التجربة,ولا يموهها بالتكرار كاسلوب بل يجعل الافق مشرعا لتمردات قادمة, فالمستقبل يتحقق كازاحة لركام الثوابت,اننا ازاء اصوات تجد في المطرقة اشارة للتقدم .
عادل كامل

الاثنين، 7 يونيو 2010

الفن وحدود الاشكال-د غالب المسعودي-لوحات غالب المسعودي


الفن وحدود الإشكال
عاش الإنسان ألاف السنين حياة بدائية  أوضحتها لنا أدواته في صور لأتقبل الشك مؤشرة مدى الزمن الطويل الذي مضى على ظهور الإنسان فوق وجه البسيطة,كما إن  الانتقال من البدائية إلى الحضارة قد حصل أكثر من مرة في التاريخ,بيد إننا تعرفنا على التحضر بمآثر الفن الذي تركه شهود تلك الحضارات,ويبدو إننا كنا سباقين إلى تلاشي الذات وتماهيها مع المطلق وهذه السمة الأساسية التي استمرت طويلا ولازالت تمارس فعلها في حياة الشعوب تحت مسميات شتى,لقد عاش الفن كباقي عناصر الثقافة حياة هلامية في مراحل التحولات الجذرية لاتعدو إن تكون ضبابية المشهد فد سحقتها إلى ابعد مدى,والفن عموما يتماها مع المطلق باعتباره وليد لحظة توهج جمالي لا تولد إلا في محراب الحب ولا يشكل بعدا أخر لان الحب السامي عاطفة غير مصاغة بقوالب جغرافية الجسد الذي يشدنا إلى فنائه المحتوم.وهذا بمجمله ينير الطريق لنا لنفهم تجارب عمالقة الفن من عصر سومر إلى العصر الحديث, فالحب معرفة وهي متعالية على موضوعاتها,ولما كانت المساحة المتاحة للفنان هي فضاءه المعرفي فعليه إن يسمو به فوق الحدود التو صيفية.إن الفنان منذ عصور البدء مارس وعيه لحقيقته الكونية وظل يبحث عن النص الكوني ليموسق إبداعاته,مداده سلافة الروح واضعا شفراته داخل النص بصيغة سحر تأويلي,فالبشرية لم تعبر حدود انسجامها مع واقعها المر إلا بالفن,والفن السامي بعيدا عن اجترار الأخر بهوس براغماتي وتحت مسميات طالما عانت اللغة منها من دون دلالة سينوغرافية.عند عتبات الحضارة مارست التراجيديا فعل التطهير وذلك بحيوية فعل النص داخل منطقة تمركز الحدث الدرامي ومحايثته مع ما يعتمل داخل الروح من صراعات مدمرة فيزيح ثقل المأساة كمن يرمي لواعجه في ساحات اللامرئي ليمارس انطولوجيا الحب لا بمعنى الاستحواذ الجسدي بل بمعنى وعي الوجود إذ أننا نعيش لحظة بين مطلقين,وبدون إنعاش هذه اللحظة لا توجد فضيلة.
د.غالب المسعودي

الجمعة، 4 يونيو 2010

تاملات في الكتابة -د علي عبد الامير صالح-لوحات الفنان ظاهر النجار

تأملات في الكتابة الروائية
علي عبد الأمير صالح

مدفوعاً بغريزته الكتابية، يجلس الروائي إلى أوراقه، أو كومبيوتره الشخصي..
يهرب من وحل الحياة الرتيبة إلى نبع الكلمات ..
يهرب من سجن التابوات إلى فضاء الخيال..
يجلس إلى طاولته، عازماً على كتابة روايته الأولى، أو الثانية، أو العاشرة.. فقد أيقن منذ سنوات طويلة أن القصة القصيرة لم تعدْ تستوعب تطورات العصر الحديث.. ووجد ضالته في الرواية؛ هذا الجنس الأدبي أكثر اتساعاً ورحابةً للتعبير عن حركة الحياة وجوانبها وصورها المعقدة.. وفي وسع الروائي أن يجد فضاءً زمنياً ومكانياً كافياً للتحرك فيه، كما أنه يجد حريةً أكبر في التعبير.. يمكنه أن يكتب بلا قيود ولا اشتراطات.. ذلك أن المشاريع الروائية تفتح أبوابها دوماً لاستيعاب كل أشكال التجريب والمعاصرة، وبتنا نرى أشكالاً لا حصر لها من الروايات، فبعضها يبدو أقرب إلى النص الشعري، وبعضها الآخر تحليلاً نفسياً أو بوحاً حكائياً.. قد تتناول الرواية أحداثاً تاريخية جرتْ في قرونٍ ماضية، أو غالباً تصف حياة الصعاليك والمشردين، أو رحلةً خياليةً إلى القمر أو المريخ.. وقد تصف حيوات أشخاص من الحياة اليومية للكاتب.. رواية أشخاص حقيقيين أو متخيلين.. الرواية جنس أدبي يتسع لكل شيء.. يمكنك أن تدخل كل شيء في الرواية.. ما هو صحفي، المقالة، الفلسفة، الشعر الغنائي، الأمثال الشعبية، التعابير العامية، الأحداث السياسية، قصاصات الجرائد وأخبار الولادات والوفيات.. خلاصة القول: إن الرواية تسع كل شيء بشرط معرفة كيفية مزج هذه الأشياء كلها.
يجلس الروائي إلى طاولة الكتابة، فتنثال الصور، وتتزاحم الأفكار، وتنداح الذكريات، وتتلاحم الأحداث..
يجلس وفي ذهنه أن ينقل إلى قارئ رواياته طعم تجاربه الشخصية، وتجارب أبناء جيله ومعاصريه.. ربما يكون طعم هذه التجارب لاذعاً وحتى مُراً، وقد تكون رائحتها طاغية وآسرة، لكنه مع ذلك يواصل الكتابة بحماسةٍ مدفوعاً بالأمل الذي لا بد منه في أن يكون فيها طعم الحقيقة الصادقة، ورائحة الواقع ولون الأحلام والذكريات.
طيلة ثلاثة عقود من الزمن هيمنتْ عليّ غريزة الكتابة، بحيث أنني قلما استطعتُ التخلص من سطوتها.. كانت هذه الغريزة تعذبني عذاباً لا طاقة لي به عندما لا أجد وقتاً للكتابة أو مناخاً مناسباً للتأمل والإمساك بالقلم.. غير أن هذه الغريزة كانت تروّضني شيئاً فشيئاً بحيث أنني استطعتُ أن أمارس عملي الطبي ومهنة الكتابة في الجو ذاته، وتسرب عالم الأدب إلى مهنتي وصار عسيراً عليّ أن أفصل الطب عن الأدب.
استجبتُ لغريزة الكتابة في مطلع دراستي الجامعية ورحتُ أخط الكلمات في ما كان الأستاذ الجامعي يلقيّ علينا محاضرته العلمية أو الطبية.. أكتب المحاضرة بالانجليزية، وأكتب مسوّدات قصصي بالعربية..
طيلة هذه الأعوام كلها، كان يدور بخلدي دوماً أن أكون شاهد عصري، شاهد جيلي الذي ولد في النصف الثاني من القرن العشرين، أو تحديداً في سنة 1955، السنة التي عُقد فيها مؤتمر باندونغ، وانبثاق حركة عدم الانحياز.
عبر هذه الحقبة الزمنية كنتُ وما أزال أحمل ذكريات أبناء جيلي، وما زلتُ أحتفظ في تلافيف مخي بأسمائهم وملامحهم، ولون بشرتهم، وعناوينهم.
وما زلت أحمل أحلام أبناء جيلي المنكسرة، خيبات أملهم، مشاريعهم المجهضة.. وما تزال تتراءى لي عبر ضباب الماضي وسديم الحاضر أفواه الجياع والمقهورين التي تحلم بكسرة خبز، وكأس ماء و برتقالة مبللة بماء المطر.
لقد أخذت منا الحياة المُرة أعز ذكرياتنا، وسلبتنا سنوات الحرب والحصار والإرهاب والفوضى أجمل أحلامنا.. وها نحن بعد أن بحتْ أصواتنا نتيجة التعبير المستمر عن الأحزان والنوائب والمآسي، نجد ضالتنا في الكتابة.. نريد أن نطلق كل ما في جعبتنا من أفكار ورؤى وأخيلة.. نطلقها مرةً واحدةً في سماء الأدب التي لا نهاية لها ولا حد..
لقد تركتْ الكدمات آثارها الزرق على صدور أراملنا المولولات، وتحجرتْ تعابير البؤس على وجوه أيتامنا، وتجمدتْ أنهار الدمع في مآقي العشاق الرومانسيين.. أما نحن فما زلنا نحمل راية القلم، بعد أن اكتشفنا أن الكتابة هي سبيلنا الوحيد إلى الخلاص.. إلى التحرر من قدرنا المشؤوم الذي ظل يلاحقنا عاماً بعد عام، من دون أن يترك لنا فرصةً لالتقاط النَفَس أو لإعادة ترتيب أشيائنا.
في سنواتي المنصرمة، كنتُ أدوّن احتجاجاتي على الورق، غالباً أصرخ بصوتٍ عالٍ وطوراً أطلق صرخات صامتة.. لم يكنْ بمستطاعي أن أبقى ساكناً، ضعيفاً، خائر القوى، متردداً.. لقد أدخلتُ قدري المشؤوم وقدر أبناء جيلي المنحوس أيضاً إلى فرن إرادتي.. احتفظـتُ بشجاعتي، واستجمعتُ قواي، وثابرتُ وعملتُ وقرأتُ وتأملتُ وكتبتُ وشطبتُ وأعدتُ الكتابة ونقحتُ وحسّنتُ أدواتي الإبداعية وبكيتُ وعضضتُ على نواجذي ألماً ولوّحتُ بسبابتي إلى عصفور أزغب، وحمامةٍ جريحةٍ، ونخلةٍ محترقةٍ، ومدرسةٍ مهدّمة.. وأخرى يُعاد تشييدها.
فعلتُ كل ذلك كي أجد الخلاص.. طيلة سنوات عمري كنتُ أبحثُ عن الخلاص في الكتابة.. ففي الكتابة أستعيد وقائع حياتي من جديد، لكنني أستعيدها كما تبدو في أحلامي.. من دون مآسٍ، من دون محرّمات، من دون نواهٍ.. عبر الكتابة، عبر حروفها وكلماتها وسطورها،أكتشف ثانيةً، ما كان مخفياً عليّ خلال حدوثها، أكتشف أسرارها، ألغازها، مباهجها، جراحاتها، هدير قطاراتها، صيحات باعتها المتجولين، جمال حسناواتها الهزيلات، عذابات منفييها وسجنائها، ولولات أراملها اللواتي يلطمن صدورهن الضامرة بأصابع طويلة ناتئة السلاّميات، عويل أطفالها الموجوعين في ليالي الزمهرير، صراخ جرحاها في ميادين الحرب، وأنات معوقيها الذين يقرعون بعكازاتهم على أرصفة مدينتنا الكالحة الغبراء. أستعيد أوجاع ضحايا لعنة الموت التي تحوم حولنا من دون انقطاع، خرمشات مخالب السخط والجوع والغضب واليأس على جلد أبناء بلدنا، أستعيد ندم فراشات الليل اللواتي ينفرن من الروائح الكريهة لأفواه الرجال، أستعيد فرح العشاق وهم يتلذذون بالمداعبات والقُبل، أستعيد أحزان المغتربين والمنفيين والمهجرين قسراً، في عيونهم يلوح شبح التشرّد، وفي حناجرهم شهقات الحنين.. أستعيد صيحات الشحاذين في الأزقة الموحلة.. أستعيد نسائم دجلة العذبة حين يأخذني أخي الأكبر فجراً كي يسحب صنارته التي علقت بها سمكة كبيرة ندعوها بـ(البز)..
كان إحساسي بالظلم والحيف ينقلب إلى غضب.
وكان إحساسي باللاجدوى يدفعني إلى ظمأ الكتابة.
وكان إحساسي بالحزن يدفعني للتأمل ساعياً إلى العثور على أجوبةٍ شافيةٍ لأسئلةٍ سرمدية.
لم يكنْ أمامي سبيل آخر، أو خيار آخر، أو طريق آخر سوى الكتابة.. فهي وحدها التي أنقذتني من الضياع واليأس والعبث واللاجدوى وربما حتى الجنون..
معظم كتاباتي كانتْ توكيداً لذاتي الجريحة والمعذبة، ليستْ ذاتي وحدها بل ذوات أبناء جيلي ومعاصريّ.. كما كانت في الوقت ذاته إعلاءً لرغباتي المكبوتة، وكشفاً لهواجسي ومخاوفي من الموت والجوع والحرمان والتشرّد.
طيلة سنوات حياتي، كنتُ أرتعد هلعاً من البيوت الخالية الموحشة التي غادرها سكانها، ومن المحاجر التي اقتلعت منها العيون.. أمقتُ الخواء، أكره الظلام.. تورثني الريح العاتية الكآبة لأنني أتخيلها وهي تقتلع الأشجار والذكريات وتطوّح برسائل الأمهات العجائز إلى أبنائهن البعيدين..
أتخيلها تُطيرّ أكواخ الصفيح وتصفع وجوه العوانس الحزينة وترسم ظلال الأسى على وجوه العشاق.

الخميس، 3 يونيو 2010

رقص الروح في تجربة الفنان ظاهر النجار-بقلم د غالب المسعودي


رقص الروح في تجربة الفنان ظاهر النجار
(إن الواقع الحي أقوى من أي نظرية لا تستجيب له)
منذ البدء هناك صعوبات منهجية ومعرفية كبرى تقف وراء كل تعامل مع ممارسة أسلوبية لإدخال رقص الروح داخل الجسد وإخراجه من الهامشية والاستلاب في فضاء اللاوعي إلى الوعي الممكن ومن مجال المسكوت عنه إلى القول والحقيقة والفكر انسجاما مع مستوى العمل الإبداعي,ومع تعاظم الدلالة للمتخيل والمقدس في ذاكرة اللغة وامتداداتها شرعت محاولات تعلن عن نفسها بكثير من القلق عن معنى تعددية الدلالة وإنها لتمثل الصورة الأخيرة لزفرة الروح الأخذة باليباس داخل السرد الحكائي(النص التشكيلي),وانطلاقا من السيمياء التأويلية وتحليل النص داخل إطار جمالي تنكشف إمامنا رمزية تأويلية في تجربة الفنان ظاهر النجار, وإمكانات رحبة لتأويل عصري عقلي قد يقود المتلقي إلى واقع عيني يجبر الفنان إن  يتخذ ما يمنعه عن قصد من القفز فوق الظل.فالخلود ليس هو الصعود المقرر لحياة الإلهة كما ورد في الأساطير,بل هو مقاومة الإنسان للموت بوصفه نهاية طبيعية للانا....وعلى الفنان إن ينتبه إلى إن عالم الأوراق الذي يستشعره ببراءة عينيه هو في حقيقته صورة يعكس بها الوجود ويمكن لعين المتلقي إن تعي طبيعة الخطاب , والراجح إن الروح تقترب من النص بتعبيرية سامية واعين مفتوحة بما يثير الاحترام والتقديس, وهذا مايثيره الجمال في الروح عندما تكون في أقصى درجات نشوتها.