الحلم الهولندي*
حلم الهجرة.... مستقبلٌ جديدٌ مضيء.. أم زاوية أخرى مظلمة من العالم؟
الزمان: شتاء 2007 م.
المكان: المطار -العاصمة الأردنية عمان.
أصواتٌ مختلفة تعلو تارةً وتخفت أخرى، زحامٌ شديد ووجوهٌ كثيرةٌ حوله في كل مكان، يتحركُ ببطء وسطَ الباحةِ الكبيرة، منكسرَ النظرات منحني الظهر يحكم بإحدى يديه غلقَ أطرافِ سترته الجلدية ويدفعُ بيده الأخرى عربةَ حقائبه، لم يكن قادراً على تمييزِ أي صوت ولا التحديق في أي وجه، بدا متعباً جداً وكأن عمره قد أزداد عشرينَ عاماً خلال أيام معدودةٍ.
وقفَ، نظرَ في ساعتهِ، كانتْ لا تزال الحادية عشرة صباحاً، لماذا إذن قادته قدماه إلى المطار؟ مازالَ هنالك أكثرُ من ساعتين حتى أقلاعِ طائرته إلى دبي حيث سيبيتُ هناك ليلة أخرى قبل أن يُقلعَ في طيرانهِ الأخير إلى وجهتهِ هولندا.
شعرَ أنه بحاجةٍ إلى كوب شاي بالهيل كذاكَ الذي تُبدع والدته في إعداده كل صباح مع الفطور، وكذاكَ الذي يشربهُ عند العم يعقوب في قهوةِ الحي عندما يزورهُ أصدقاؤه فراس ومهند وكمال أصدقاءُ الصبا والشباب، حينَ يجلسُ الثلاثة يتبادلون أطرافَ الحديث ويشربون الشاي مرة واثنتين وثلاثة ويُكرمون العم يعقوب ببقشيشٍ قبلَ أن يغادروا.
تساءلَ مع نفسهِ بأسى:أين عساي سأجد شاي ست الحبايب الآن؟ وهل سيُكتب لي أن أشربه من يديها مرةً أخرى أم لا؟ (قال هذا وهو يتأملُ كوب الشاي الذي طلبه في استراحةِ المطار)، ظلَ سارحاً ينظرُ إليه ويفكر، كان جسدهُ هنا لكن قلبه هناكَ مع من تركهم خلفه في بغداد.
تساءل بحيرة: ما الذي أفعلهُ يا إلهي؟ هل هو الصواب فعلاً؟ إن كان الصوابُ فلمَ هذا الشعور العميق بالضيق؟، لمَ تلك المرارة التي لم تغادرْ حلقي منذ تركتُ ما تركتُ خلفي قبل عشرة أيام؟ ......لمَ ولمَ ولمَ؟
سرحَ متذكراً بعض المشاهد...
ولجَ اذنه صوتُ والده: بُني...يجب أن تسافر، ما عادَ لك بقاءٌ هنا، أ لم ترَ كيف قُتل أبنُ عمكَ الطبيب دون سبب؟!!!، يجب أن تتركَ بغداد بأسرع ما يمكن.....الحمد لله، جهزنا لكَ أنا وعمكَ فرصةً العمر، ستسافرُ معززاً ومكرماً، سيكون لك بيتٌ وزوجة، ستنعم بحياةٍ رغدةٍ في بلد هادئٍ وجميل.
ثم تذكرَ حديث عمه معه بالهاتف: جلال....لا تُضيع وقتكَ، مكانكَ ليس هناك، تعالَ عندي وستجدُ كل ما تتمنى ربما لا تعرف الكثير عن أمستردام، لكن ما أن تصل ستحبها، هم عادةً لا يعاملونَ الغرباءَ بودٍ لكن لن تشعر بغربة أعدك، ستجدُ نفسكَ منذ أول يوم تصل فيه هولندياً وستعاملُ على أنكَ مواطنٌ من الدرجةِ الأولى، جهزّتُ لكَ السكن المناسب، ستعملُ معي في معملِ الحديد والصلب مؤقتاً حتى أجدَ لكَ وظيفةً في إحدى الصحف، أ لم تتخرج من كلية الآداب في جامعة بغداد؟! وعملتَ محرراً للأخبار وصحفياً لبعض الوقت؟، ستجدُ هنا فرصتكَ، ستكتبُ ما تشاء فهنا ستستنشقُ الحرية وسيروقكَ طعم شهدها، قُل ما تشاء وأكتب ما تشاء ولن يضايقكَ أحد.
وانسابَ إلى أعماقهِ صوتُ والدته الحنون: فلذةَ قلبي...أنتَ الولد الوحيد الذي خرجتُ به من هذه الدنيا، رزقتُ بكَ بعد صبرٍ طويل، بعد أربعة بنات، يصعُب عليّ فراقك حبيبي....وأعرفُ أني سأبكي طويلاً كلما دخلتُ غرفتكَ وشممتُ ثيابكَ، لكن لم يعد لكَ بقاءٌ هنا يا جلال...لو أصابكَ مكروهٌ فسأموتُ بعدكَ، خد بكلامِ والدكِ وسافرْ إلى حيث عمكَ وتزوج أبنتهُ....إن كنتَ تحبُ والدتكَ أفعلْ ما أقوله لكَ.
ثم طرقَ سمعه صوتُ أخته الكبرى أم أحمد: جلال... أعرفُ أنكَ لا تريدُ الهجرة، ولن تقوى على العيشِ بعيداً عنا وعن بغداد، لكن يجبْ أن تتحملَ الأمرَ هذا مهما كانتْ قسوتهُ وأن نتحملهُ نحن معكَ، سافرْ يا أخي العزيز وتزوجْ وأستقرْ، لا تنسَ أنكَ الآن في الخامسةِ والثلاثين، متى ستتزوج؟ ومتى سيرى والدي ووالدتي أولادكَ؟ كفاكَ أحلاماً... كفاكَ مثالية... أسمعْ مني وسافر، إنها فرصةٌ ذهبية....أهربْ من نيران الجحيم التي تحيطنا من كل مكان وسافر.
تبعه صوت أخته الصغرى المقربة إلى نفسه: لا أعرفُ كيف سأطيقُ العيشَ في هذا البيت بعد سفركَ، ليتني كنتُ أقدرُ أن أغير أمراً يا ليت ....كم أتمنى أن أسافرَ معكَ.... أرجوكَ لا تبكِ أمامي، لا أقوى على رؤية دموعكَ، لستَ أخي فقط، أنتَ أخي وصديقي وكل شيء، أنتَ قدوتي يا جلال، لا أحد يفهمني في هذا البيت غيركَ، يعتبروني دوماً طفلة، إلا أنت تعتبرني ناضجةً وتعاملني بوقار.
ثم صوتُ صديقهِ فراس: لا تكنْ مجنوناً جلال! لا تقلْ لي أنكَ ستضحي بفرصة العمر هذه من أجل نور؟ هل أنتَ بكاملِ وعيكَ؟ إياكَ أن تقولَ ما قلته لي الآن لوالدكَ أو عمكَ لأنكَ ستحطم المشروع الذي جهزاه لكَ... لا تنظرْ إليَّ هكذا ولا تذكرْ لي أسم نور مجدداً، أعرفُ إنها حبُ حياتكَ، لا أحتاجُ أن تذكرني، أعرفُ بقصة حبكَ ومن لا يعرفها في الجامعة حيث درسنا جميعاً؟! .....أنتما أسطورة الحب العظمى، لطالما حسدكما الجميع على حبكما وتفاهمكما، لكن عصرنا هذا ليس عصر الأحلام الوردية، يا جلال دعنا نصمتْ لحظةً فقط، ستسمعُ صوت الرصاص أفتحْ هذه الصحيفة ستقرأ قُتل فلان ...عثرَ على جثث مجهولة الهوية ....خُطف فلان... انفجار في..... كلها دماء وقتل وعنف...كيف ستبني أحلامكَ الوردية مع نور في عالمٍ مظلم كهذا ؟؟!! إن كانتْ تحبكَ حقاً فستضحي من أجلكَ، ستقول لكَ أذهبْ وتزوج من أختارها والدكَ وكن سعيداً ومرتاحاً.
ثم صوتُ صديقه مهند: يا لكَ من شاب محظوظ يا جلال...دوماً كنتَ أفضلنا جميعاً، فرصة العمر بين يديكَ هجرة إلى هولندا مدفوعة الثمن وزوجة شابة صغيرة في الثامنة عشرة، صحيح أخبرتني مرة أن زوجة عمكَ هولندية أليس كذلك؟ إذن ستتزوج من حسناء أوربية يا رجل!
عاوده صوتُ عمه من جديد: ستسيرُ على نفسِ الطريق الذي سبقَ ومشيتُ أنا عليه في السبعينيات من القرن الماضي، مع فارقٍ واحد أني تعبتُ وعانيتُ وقاسيتُ حتى تعرفتُ على جوليان وتزوجنا فاستقرتْ أموري خلال أشهر معدودة كونها مواطنة هولندية، الأمرُ ذاتهُ سيتكررُ معكَ مع اختصارٍ مهم في الزمن والجهد، ستتزوجُ ابنة عمكَ هولندية الجنسية، فلن تكونَ بحاجةٍ إلى معاملاتِ اللجوءِ الإنساني أو السياسي بل معاملة لمِّ شملٍ لا غير، تجمعكَ بخطيبتكَ الهولندية.....جلال لن أنتظرَ منك شكراً، فقط أتمنى أن تحافظَ على أبنتي الوحيدة، أخافُ عليها من مجتمعِ أوربا المتحرر، لا أريدها أن تقعَ في خطيئةٍ أو تجر لنا المشاكل، فحتى و ان كنتُ أعيش في أوربا منذ عقود، فسأظلُ عراقياً شرقياً مسلماً وأخافُ على سمعتي و ابنتي وشرفي.
ثم صوتُ أخته الوسطى: أعرفُ لمَ أنتَ ممتعض ...لم تعجبك صور سارة أليسَ كذلك، إنها طفلة أو هكذا تظن....جلال البنتُ في الثامنة عشرة، صحيح أن عمركَ يقاربُ ضعف عمرها لكن لا عيبَ في الأمر، أنتَ رجلٌ ذكي وستعرفُ كيف تجعلها تتقبل طباعكَ...تربيتها أوربية، نعم عندكَ حق ستعاني بعض الشيء لكن كما نقول في المثل العراقي (أخذها طفلة ربيها على أيديك).
كادتْ تلكَ الأصوات وتلكَ المشاهدُ أن تسببَ له الغثيان والإغماء، لمسَ كوب الشاي كان قد برد الآن وما عادت له رغبة في شربه، هل يطلبُ آخر؟.....لا ....لا لم يعد يرغبُ بشربِ شيء.
جاءته فكرة أن يدخنَ سيجارة، هنالكَ علبة في جيبِ سترته، ها هي أول مساوئ الوحدة والغربة، فلم يعرف التدخين إلا بعد أن خرجَ من بغداد، مدَّ كفه إلى داخلِ سترتهِ ليُخرج العلبة فخرجتْ العلبة ومعها محفظة نقوده، شعرَ بحنينٍ ليرى تلك الصورة المخبأة في المحفظة، صورة نور حبيبة القلب، الفتاة التي يعشق، لم يعرفْ قلبه الحب إلا معها، أهدته هذه الصورة منذُ عامين، لم تغادرْ محفظته يوماً قط، دوماً يضعها في جيب قميصه على الجانبِ الأيسر من صدرهِ حيث مكان القلب...رغم ما يملأ قلبه الآن من أسى وهموم لكن ما أن لامستْ أنامله صورتها ووقعتْ عيناه عليها حتى رُسمتْ على وجهه ابتسامة دافئة، تخيلَ وجهها وابتسامتها وضحكاتها، تساءل: ترى كيف أنتِ الآن يا ترى يا حبيبتي؟ ما الذي أصابكِ بعد سفري؟ كم أتمنى أن أسمعَ صوتكِ، ضحكتكِ ولو لمرةٍ واحدةٍ!....لكن كيف؟!.. كيفَ.... كيفَ بعد ذلك الحوار الأخير الذي جمعنا؟؟!!
ثم أطرقَ مستذكراً مشهدَ صراخه بوجهها :
جلال: أرجوكِ قولي شيئاً، لكن لا تلوذي بالصمت هكذا، فصمتكِ يقتلني...قولي أي شيء، انعتيني بالجبان بالخائن أي شيء، فقط لا تنظري إلي بهذه النظرة، لأنها تمزق قلبي، تكلمي أرجوكِ، أتوسلُ إليكِ قولي شيئاً..
ثم مشهد تنهداتها وعينيها المغرورقتين بالدموع وصوتها المرتجف:
نور: ماذا تريد أن تسمعَ جلال؟!.... ماذا تتوقع أن تسمع؟...أحبكَ منذ سنوات وحلمتُ معكَ ورسمنا مستقبلنا، بيتنا، حياتنا، أولادنا... والآن تأتي لتقول أنكَ ستهاجرُ ولتتزوج ابنة عمك الأوربية! كيف ستظنُ أن أتقبل الأمر؟....بالزغاريد مثلاً؟....بالتصفيق؟...لك التصفيق إذن....(راحتْ تصفق له بهستيرية) .....مبروك ياأستاذ....مبروك....لم أكن أتخيل أني وحبي وزننا الهواء في ميزانك....بكل بساطة تأتي وتخبرني ...يا ليتني متُّ....متُّ على أن أسمعكَ تقول هذا الكلام.....على الأقل كنتُ سأموت وأنا أحملُ لكَ صورةً جميلةً في رأسي، أحتفظ بمشاهد حبنا بسنواتِ عشقنا وأحلامنا....لكن الآن....الآن كل ما أتمناه أن يرحمني الله ويكتبَ لي الموت سريعاً...الموتُ أهون عليّ من حياة العذاب التي بانتظاري(راحتْ تجهشُ بالبكاء وتسقطُ على الكرسي الذي خلفها)...تقربَ منها حاول لمسها لكنها صرختْ فيه: اخرجْ .... لا أريدُ أن أراكَ ولا أن أعرف عنكَ شيئاً بعد الآن.
وقُطع المشهد بصوتٍ مرتفع يأتي من كل مكان: على ركابِ الطائرة المتجهة إلى دبي....قصد الــــ ....
نهضَ من مكانه بصعوبة....كانتْ بشرته البيضاء قد أصبحت وردية، وكأن كل الدماء قد تجمعت في وجهه، عيناه أحمرتا و اغرورقتا بالدموع، أدخلَ المحفظة إلى جيبه من جديد، أحكمَ غلقَ السترة، أمسكَ بعربة الحقائب وسارَ بخطى ثقيلة إلى مقصده......قلبٌ جريحٌ مُحطم يتساءل داخل صدره: هل سيكونُ القادم حلماً هولندياً أم كابوساً؟.
ـــــــــــــــــ
* سبق ونشرت القصة ضمن كتاب (نصوص عربية) الصادر عن دار شمس المصرية للإعلام والنشر