الاثنين، 7 يونيو 2010

الفن وحدود الاشكال-د غالب المسعودي-لوحات غالب المسعودي


الفن وحدود الإشكال
عاش الإنسان ألاف السنين حياة بدائية  أوضحتها لنا أدواته في صور لأتقبل الشك مؤشرة مدى الزمن الطويل الذي مضى على ظهور الإنسان فوق وجه البسيطة,كما إن  الانتقال من البدائية إلى الحضارة قد حصل أكثر من مرة في التاريخ,بيد إننا تعرفنا على التحضر بمآثر الفن الذي تركه شهود تلك الحضارات,ويبدو إننا كنا سباقين إلى تلاشي الذات وتماهيها مع المطلق وهذه السمة الأساسية التي استمرت طويلا ولازالت تمارس فعلها في حياة الشعوب تحت مسميات شتى,لقد عاش الفن كباقي عناصر الثقافة حياة هلامية في مراحل التحولات الجذرية لاتعدو إن تكون ضبابية المشهد فد سحقتها إلى ابعد مدى,والفن عموما يتماها مع المطلق باعتباره وليد لحظة توهج جمالي لا تولد إلا في محراب الحب ولا يشكل بعدا أخر لان الحب السامي عاطفة غير مصاغة بقوالب جغرافية الجسد الذي يشدنا إلى فنائه المحتوم.وهذا بمجمله ينير الطريق لنا لنفهم تجارب عمالقة الفن من عصر سومر إلى العصر الحديث, فالحب معرفة وهي متعالية على موضوعاتها,ولما كانت المساحة المتاحة للفنان هي فضاءه المعرفي فعليه إن يسمو به فوق الحدود التو صيفية.إن الفنان منذ عصور البدء مارس وعيه لحقيقته الكونية وظل يبحث عن النص الكوني ليموسق إبداعاته,مداده سلافة الروح واضعا شفراته داخل النص بصيغة سحر تأويلي,فالبشرية لم تعبر حدود انسجامها مع واقعها المر إلا بالفن,والفن السامي بعيدا عن اجترار الأخر بهوس براغماتي وتحت مسميات طالما عانت اللغة منها من دون دلالة سينوغرافية.عند عتبات الحضارة مارست التراجيديا فعل التطهير وذلك بحيوية فعل النص داخل منطقة تمركز الحدث الدرامي ومحايثته مع ما يعتمل داخل الروح من صراعات مدمرة فيزيح ثقل المأساة كمن يرمي لواعجه في ساحات اللامرئي ليمارس انطولوجيا الحب لا بمعنى الاستحواذ الجسدي بل بمعنى وعي الوجود إذ أننا نعيش لحظة بين مطلقين,وبدون إنعاش هذه اللحظة لا توجد فضيلة.
د.غالب المسعودي

الجمعة، 4 يونيو 2010

تاملات في الكتابة -د علي عبد الامير صالح-لوحات الفنان ظاهر النجار

تأملات في الكتابة الروائية
علي عبد الأمير صالح

مدفوعاً بغريزته الكتابية، يجلس الروائي إلى أوراقه، أو كومبيوتره الشخصي..
يهرب من وحل الحياة الرتيبة إلى نبع الكلمات ..
يهرب من سجن التابوات إلى فضاء الخيال..
يجلس إلى طاولته، عازماً على كتابة روايته الأولى، أو الثانية، أو العاشرة.. فقد أيقن منذ سنوات طويلة أن القصة القصيرة لم تعدْ تستوعب تطورات العصر الحديث.. ووجد ضالته في الرواية؛ هذا الجنس الأدبي أكثر اتساعاً ورحابةً للتعبير عن حركة الحياة وجوانبها وصورها المعقدة.. وفي وسع الروائي أن يجد فضاءً زمنياً ومكانياً كافياً للتحرك فيه، كما أنه يجد حريةً أكبر في التعبير.. يمكنه أن يكتب بلا قيود ولا اشتراطات.. ذلك أن المشاريع الروائية تفتح أبوابها دوماً لاستيعاب كل أشكال التجريب والمعاصرة، وبتنا نرى أشكالاً لا حصر لها من الروايات، فبعضها يبدو أقرب إلى النص الشعري، وبعضها الآخر تحليلاً نفسياً أو بوحاً حكائياً.. قد تتناول الرواية أحداثاً تاريخية جرتْ في قرونٍ ماضية، أو غالباً تصف حياة الصعاليك والمشردين، أو رحلةً خياليةً إلى القمر أو المريخ.. وقد تصف حيوات أشخاص من الحياة اليومية للكاتب.. رواية أشخاص حقيقيين أو متخيلين.. الرواية جنس أدبي يتسع لكل شيء.. يمكنك أن تدخل كل شيء في الرواية.. ما هو صحفي، المقالة، الفلسفة، الشعر الغنائي، الأمثال الشعبية، التعابير العامية، الأحداث السياسية، قصاصات الجرائد وأخبار الولادات والوفيات.. خلاصة القول: إن الرواية تسع كل شيء بشرط معرفة كيفية مزج هذه الأشياء كلها.
يجلس الروائي إلى طاولة الكتابة، فتنثال الصور، وتتزاحم الأفكار، وتنداح الذكريات، وتتلاحم الأحداث..
يجلس وفي ذهنه أن ينقل إلى قارئ رواياته طعم تجاربه الشخصية، وتجارب أبناء جيله ومعاصريه.. ربما يكون طعم هذه التجارب لاذعاً وحتى مُراً، وقد تكون رائحتها طاغية وآسرة، لكنه مع ذلك يواصل الكتابة بحماسةٍ مدفوعاً بالأمل الذي لا بد منه في أن يكون فيها طعم الحقيقة الصادقة، ورائحة الواقع ولون الأحلام والذكريات.
طيلة ثلاثة عقود من الزمن هيمنتْ عليّ غريزة الكتابة، بحيث أنني قلما استطعتُ التخلص من سطوتها.. كانت هذه الغريزة تعذبني عذاباً لا طاقة لي به عندما لا أجد وقتاً للكتابة أو مناخاً مناسباً للتأمل والإمساك بالقلم.. غير أن هذه الغريزة كانت تروّضني شيئاً فشيئاً بحيث أنني استطعتُ أن أمارس عملي الطبي ومهنة الكتابة في الجو ذاته، وتسرب عالم الأدب إلى مهنتي وصار عسيراً عليّ أن أفصل الطب عن الأدب.
استجبتُ لغريزة الكتابة في مطلع دراستي الجامعية ورحتُ أخط الكلمات في ما كان الأستاذ الجامعي يلقيّ علينا محاضرته العلمية أو الطبية.. أكتب المحاضرة بالانجليزية، وأكتب مسوّدات قصصي بالعربية..
طيلة هذه الأعوام كلها، كان يدور بخلدي دوماً أن أكون شاهد عصري، شاهد جيلي الذي ولد في النصف الثاني من القرن العشرين، أو تحديداً في سنة 1955، السنة التي عُقد فيها مؤتمر باندونغ، وانبثاق حركة عدم الانحياز.
عبر هذه الحقبة الزمنية كنتُ وما أزال أحمل ذكريات أبناء جيلي، وما زلتُ أحتفظ في تلافيف مخي بأسمائهم وملامحهم، ولون بشرتهم، وعناوينهم.
وما زلت أحمل أحلام أبناء جيلي المنكسرة، خيبات أملهم، مشاريعهم المجهضة.. وما تزال تتراءى لي عبر ضباب الماضي وسديم الحاضر أفواه الجياع والمقهورين التي تحلم بكسرة خبز، وكأس ماء و برتقالة مبللة بماء المطر.
لقد أخذت منا الحياة المُرة أعز ذكرياتنا، وسلبتنا سنوات الحرب والحصار والإرهاب والفوضى أجمل أحلامنا.. وها نحن بعد أن بحتْ أصواتنا نتيجة التعبير المستمر عن الأحزان والنوائب والمآسي، نجد ضالتنا في الكتابة.. نريد أن نطلق كل ما في جعبتنا من أفكار ورؤى وأخيلة.. نطلقها مرةً واحدةً في سماء الأدب التي لا نهاية لها ولا حد..
لقد تركتْ الكدمات آثارها الزرق على صدور أراملنا المولولات، وتحجرتْ تعابير البؤس على وجوه أيتامنا، وتجمدتْ أنهار الدمع في مآقي العشاق الرومانسيين.. أما نحن فما زلنا نحمل راية القلم، بعد أن اكتشفنا أن الكتابة هي سبيلنا الوحيد إلى الخلاص.. إلى التحرر من قدرنا المشؤوم الذي ظل يلاحقنا عاماً بعد عام، من دون أن يترك لنا فرصةً لالتقاط النَفَس أو لإعادة ترتيب أشيائنا.
في سنواتي المنصرمة، كنتُ أدوّن احتجاجاتي على الورق، غالباً أصرخ بصوتٍ عالٍ وطوراً أطلق صرخات صامتة.. لم يكنْ بمستطاعي أن أبقى ساكناً، ضعيفاً، خائر القوى، متردداً.. لقد أدخلتُ قدري المشؤوم وقدر أبناء جيلي المنحوس أيضاً إلى فرن إرادتي.. احتفظـتُ بشجاعتي، واستجمعتُ قواي، وثابرتُ وعملتُ وقرأتُ وتأملتُ وكتبتُ وشطبتُ وأعدتُ الكتابة ونقحتُ وحسّنتُ أدواتي الإبداعية وبكيتُ وعضضتُ على نواجذي ألماً ولوّحتُ بسبابتي إلى عصفور أزغب، وحمامةٍ جريحةٍ، ونخلةٍ محترقةٍ، ومدرسةٍ مهدّمة.. وأخرى يُعاد تشييدها.
فعلتُ كل ذلك كي أجد الخلاص.. طيلة سنوات عمري كنتُ أبحثُ عن الخلاص في الكتابة.. ففي الكتابة أستعيد وقائع حياتي من جديد، لكنني أستعيدها كما تبدو في أحلامي.. من دون مآسٍ، من دون محرّمات، من دون نواهٍ.. عبر الكتابة، عبر حروفها وكلماتها وسطورها،أكتشف ثانيةً، ما كان مخفياً عليّ خلال حدوثها، أكتشف أسرارها، ألغازها، مباهجها، جراحاتها، هدير قطاراتها، صيحات باعتها المتجولين، جمال حسناواتها الهزيلات، عذابات منفييها وسجنائها، ولولات أراملها اللواتي يلطمن صدورهن الضامرة بأصابع طويلة ناتئة السلاّميات، عويل أطفالها الموجوعين في ليالي الزمهرير، صراخ جرحاها في ميادين الحرب، وأنات معوقيها الذين يقرعون بعكازاتهم على أرصفة مدينتنا الكالحة الغبراء. أستعيد أوجاع ضحايا لعنة الموت التي تحوم حولنا من دون انقطاع، خرمشات مخالب السخط والجوع والغضب واليأس على جلد أبناء بلدنا، أستعيد ندم فراشات الليل اللواتي ينفرن من الروائح الكريهة لأفواه الرجال، أستعيد فرح العشاق وهم يتلذذون بالمداعبات والقُبل، أستعيد أحزان المغتربين والمنفيين والمهجرين قسراً، في عيونهم يلوح شبح التشرّد، وفي حناجرهم شهقات الحنين.. أستعيد صيحات الشحاذين في الأزقة الموحلة.. أستعيد نسائم دجلة العذبة حين يأخذني أخي الأكبر فجراً كي يسحب صنارته التي علقت بها سمكة كبيرة ندعوها بـ(البز)..
كان إحساسي بالظلم والحيف ينقلب إلى غضب.
وكان إحساسي باللاجدوى يدفعني إلى ظمأ الكتابة.
وكان إحساسي بالحزن يدفعني للتأمل ساعياً إلى العثور على أجوبةٍ شافيةٍ لأسئلةٍ سرمدية.
لم يكنْ أمامي سبيل آخر، أو خيار آخر، أو طريق آخر سوى الكتابة.. فهي وحدها التي أنقذتني من الضياع واليأس والعبث واللاجدوى وربما حتى الجنون..
معظم كتاباتي كانتْ توكيداً لذاتي الجريحة والمعذبة، ليستْ ذاتي وحدها بل ذوات أبناء جيلي ومعاصريّ.. كما كانت في الوقت ذاته إعلاءً لرغباتي المكبوتة، وكشفاً لهواجسي ومخاوفي من الموت والجوع والحرمان والتشرّد.
طيلة سنوات حياتي، كنتُ أرتعد هلعاً من البيوت الخالية الموحشة التي غادرها سكانها، ومن المحاجر التي اقتلعت منها العيون.. أمقتُ الخواء، أكره الظلام.. تورثني الريح العاتية الكآبة لأنني أتخيلها وهي تقتلع الأشجار والذكريات وتطوّح برسائل الأمهات العجائز إلى أبنائهن البعيدين..
أتخيلها تُطيرّ أكواخ الصفيح وتصفع وجوه العوانس الحزينة وترسم ظلال الأسى على وجوه العشاق.

الخميس، 3 يونيو 2010

رقص الروح في تجربة الفنان ظاهر النجار-بقلم د غالب المسعودي


رقص الروح في تجربة الفنان ظاهر النجار
(إن الواقع الحي أقوى من أي نظرية لا تستجيب له)
منذ البدء هناك صعوبات منهجية ومعرفية كبرى تقف وراء كل تعامل مع ممارسة أسلوبية لإدخال رقص الروح داخل الجسد وإخراجه من الهامشية والاستلاب في فضاء اللاوعي إلى الوعي الممكن ومن مجال المسكوت عنه إلى القول والحقيقة والفكر انسجاما مع مستوى العمل الإبداعي,ومع تعاظم الدلالة للمتخيل والمقدس في ذاكرة اللغة وامتداداتها شرعت محاولات تعلن عن نفسها بكثير من القلق عن معنى تعددية الدلالة وإنها لتمثل الصورة الأخيرة لزفرة الروح الأخذة باليباس داخل السرد الحكائي(النص التشكيلي),وانطلاقا من السيمياء التأويلية وتحليل النص داخل إطار جمالي تنكشف إمامنا رمزية تأويلية في تجربة الفنان ظاهر النجار, وإمكانات رحبة لتأويل عصري عقلي قد يقود المتلقي إلى واقع عيني يجبر الفنان إن  يتخذ ما يمنعه عن قصد من القفز فوق الظل.فالخلود ليس هو الصعود المقرر لحياة الإلهة كما ورد في الأساطير,بل هو مقاومة الإنسان للموت بوصفه نهاية طبيعية للانا....وعلى الفنان إن ينتبه إلى إن عالم الأوراق الذي يستشعره ببراءة عينيه هو في حقيقته صورة يعكس بها الوجود ويمكن لعين المتلقي إن تعي طبيعة الخطاب , والراجح إن الروح تقترب من النص بتعبيرية سامية واعين مفتوحة بما يثير الاحترام والتقديس, وهذا مايثيره الجمال في الروح عندما تكون في أقصى درجات نشوتها.

هل الغناء فسق وفجور--بقلم حامد كعيد الجبوري



حامد كعيد الجبوري
     بعد سقوط صنم الدكتاتورية في العراق فتحت أمامي أكثر من باب ثقافي وإعلامي ، ترأست إتحاد الشعراء الشعبيين في بابل لأكثر من ستة سنين ، وكلفت بتحرير صفحة الأدب الشعبي في جريدة الفيحاء الحلية ، إضافة لتقديم ثلاثة برامج للشعر الشعبي من إذاعة بابل العائدة لشبكة الإعلام العراقي وإذاعة الفراتين وأخيرا إذاعة إتحاد الشعب التي تبثها محلية بابل للحزب الشيوعي العراقي ، ومن المعلوم أنني أتناول القصائد الوطنية والوجدانية والغزلية ، استوقفني أحدهم ليعلن لي سخطه عن قراءة القصائد الغزلية من على هذه المنابر الإعلامية الثقافية ، قائلا لي عليك مغادرة بث القصائد الغزلية لأنها فسق وفجور ، نظرت له نظرة استهزاء لهذا الطرح المتخلف ولم أرد عليه بأي شئ استخفافا لهذا الطرح اللامعقول، مسك بيدي قائلا ألم تلاحظ أني قد هزمتك من الجولة الأولى ؟ ، أجبته بأني لم أهزم ولم أرد على طرحك هذا لأن الرد يحتاج لشواهد وبراهين واقعية وهذا ما ستستمع له من خلال برنامجي بستان الشعر الشعبي من إذاعة بابل ، وكان هذا الرجل قد تحدث من نفس الإذاعة ومن خلال برنامج الباب المفتوح عن هذه المسألة وجوبـِهَ بالرفض من أغلب المتذوقين للشعر الشعبي ، حزمت أمري على رده مستفيدا من شواهد تاريخية وحقائق تملأ صفحات الكتب .
    إبتداءاً أني إبن للعراق وللحلة الفيحاء التي تربيت بأحضانها وترعرعت بطرقها ومدارسها ، وأمهات الحلة أمهاتي ، ونسائها أخواتي وبناتي وعماتي وخالاتي وجداتي فهل يمكن أن أسئ الى هذه المسميات الجميلة ، أم  أخدش حيائهن بألفاظ نابية بعيدة عن الذوق والعرف الاجتماعي ، وحين مراجعتي للحلقات المقدمة وخلال هذه السنين لم أجد أي نص يحمل مواصفات الإساءة ، بل هو غزل برئ بعيد عن التبذل والانحلال والإساءة الى أقدس مخلوق وهي المرأة ، ثم ألم يستمع الرسول الأعظم لقصائد غزلية ، وأجاز قائلها ودليلي الشاعر كعب بن زهير بن أبي سلمى ، ومعروف أن الشاعر كعب هجا رسول الله (ص) بإحدى قصائده مما تسبب بهدر دمه ، وحينما علمت قبيلة كعب بذلك أمرته أن يعتذر لرسول الله (ص) ، وفعلا دخل كعب المسجد النبوي ليعتذر للرسول عن فعلته ، فأستل المسلمون سيوفهم ، وأمرهم النبي بغمدها ووقف كعب إزاء رسول الله قائلا
  بانت سعاد فقلبي اليوم متبول
  متيم إثرها لم يفد مكبول
  وما سعاد غداة البين إذ رحلو 
 إلا أغر غضيض الطرف مكحول
لنهاية القصيدة فما كان من الرسول الأعظم إلا أن يخلع بردته ويهديها للشاعر كعب بن زهير دلالة لرضاه عنه ولتكن الشاهد على ان الرسول (ص) عفا عنه ، ولم يعارضه ويقل له أنها فسق وفجور وفيها – القصيدة – ابيات لمدح الرسول الأعظم (ص) يقول في جزء منها
  نبئت أن رسول الله أوعدني
    والعفو عند رسول الله مقبول
  مهلا هداك الذي أعطاك نافلة
   القرآن فيها مواعيظ وتفصيل       
الى نهاية القصيدة ، ولو تصفحنا بطون الكتب ووصلنا للشاعر السيد الشريف الرضي والذي عاش بدولة بني العباس ، وأخذناه أنموذجا لكان يفترض به أن يغادر كتابة النصوص الغزلية لأنه من آل الرسول أولا ووالده نقيبا للطالبين ثانيا ، ومع ذلك فقد كتب النصوص الغزلية التي تعتبر من عيون الشعر الغزلي
ياظبية البان ترعى في خمائله
  ليهنك اليوم أن القلب مرعاك
 هامت بك العين لم تطلب سواكِ هواً 
 من علم العين أن القلب مرعاك
فهل نقول له قف أيها الشريف الرضي فالغزل فسق ومجون ، ومعلوم صرامة واعتزاز الشريف الرضي بنسبه العلوي وكما هو معلوم أن خطب نهج البلاغة نقلها عن رواتها السيد الشريف الرضي ، ومعلوم موقفه حينما أراد الخليفة العباسي الحط من قدره أمام جلاس الخليفة بعد أن قال له الخليفة ناولني الدواة ، فما كان من الشريف الرضي إلا الانتفاض بوجه الخليفة مرتجلا الأبيات التالية معبرا بها عن رأيه
 مهلا أمير المؤمنين فإننا
في دوحة العلياء لا نتفرق
 إلا الخلافة فرقت ما بيننا
  أنا عاطل عنها وأنت مطوق
والشريف الرضي كسائر الشعراء يتناولون كافة أغراض الشعر ولم يقل له أحد من جيله أو الجيل الذي بعده أن الغزل فسق ومجون ، وهو من رثى جده الحسين بقصائد عصماء خلدت لأيامنا هذه وتردد من كافة المنابر الإسلامية عامة ومن عيون رثاءه قصيدته المقصورة والتي يقول فيها
 كربلا لا زلت كربا وبلا 
  ما لقي منك آل المصطفى
  كم على تربك لما صرّعوا  
من دم سال ومن نحر جرى
  يا رسول الله لو عاينتهم 
    وهموا بين قتيل وسبى
 الخ القصيدة ، ولو رجعنا قليلا وأيام دخول القوات البريطانية للعراق ونهوض المرجع الديني الثائر محمد سعيد الحبوبي فقد كتب الخمريات والغزل معا ولم يقل لنفسه أو يقال له ، أن الغزل فسق ومجون وهو القائل
 يا معير الغصن قدا أهيفا
    ومعير الريم مرضى الحدق
هل الى وصلك من بعد الجفا
 بُلغة تنعش باقي رمقي
                  ***     
فأسقني كأسا وخذ كأسا إليك
  فلذيذ العيش أن نشتركا
وإذا جدت بها من شفتيك
     فأسقنيها وخذ الأولى لكا
أو فحسبي خمرة من ناظريك
   أذهبت نسكي وأضحت منسكا
وأنهب الوقت ودع ما سلفا
    وأغتنم صفوك قبل الرنق
أن صفا العيش فما كان صفا  
 أو تلاقينا فقد لا نلتقي
                 ***
وأكثر من ذلك فهو يتغزل بمسلمة تؤدي مناسك الحج فيقول
كل غيداء سعت للمشعر  
    قد جلا معصمها رمي الجمار
وأنثنت في بدنها للمنحر
     ولها أشفار عينيها شفار
وقد تعدى السيد الحبوبي ذلك فتغزل بحسناء مسيحية دخلت ديرا لها فيقول
أوميض يشع أم مقباس
      أم على دير راهب نبراس
معبد (ام معبد) فيه حلت
    فهو فيها كنيسة وكناس
وحينما قيل له أنك أفرطت بخمرياتك أيها السيد الجليل فكان جوابه لهم شعرا فيقول
 لا تخل ويك ومن يسمع يخل
     أنني بالراح مشغوف الفؤاد
أو بمهظوم الحشا ساهي المقل
     أخجلت قامته السمر الصعاد
أو بربات خدور وكلل
            يتفننَ بقرب وبعاد
أن لي من شرفي بردا ضفا
       هو من دون الهوى مرتهني
غير أني رمت نهج الظرفا
      عفة النفس وفسق الألسن
           ***
ولو تجاوزنا السيد الحبوبي وأخذنا قصيدة المرجع الديني المعروف السيد محمد رضا الهندي وكوثريته التي عدت من خوالد المدح للعترة الطاهرة والتي يبتدأها متغزلا كأسلافه الشعراء الجاهليون وشعراء صدر الإسلام ، ولم تقتصر على الغزل وحسب بل تناول فيها الخمرة ويخلص أخيرا لمدح علي (ع) والتي يقول فيها
 أمفلج ثغرك أم جوهر
   ورحيق رضابك أم سكر
قد قال لثغرك صانعه
   أنى أعطيناك الكوثر
أو ذاك الخال على خد
  فتيت السك على مجمر
الخ القصيدة العصماء، ولسنا ببعيدين عن الشاعر الذي كتب عيون الغزل وهو السيد جعفر آل كمال الدين الحلي الذي لا تزال المنابر الإسلامية جمعاء تردد قصيدته التي يرثي بها العباس بن علي (ع) والتي يقول فيها
 ما راعهم إلا تقدم ضيغم
   حيران يعجم لفظه ويدمدم
 قلب اليمين على اليسار
 وغاص بالأوساط يحصد بالرؤس ويحطم
فلو أستقى نهر المجرة لأرتقى
   وطويل ذابلها إليها سلم
وهو نفس الشاعر الذي أخذ عنه المطرب العراقي الشهير ناظم الغزالي قصيدة الرشا المهفهف وحين غناها الغزالي رحمه الله أعتبرت القصيدة إياها من الشعر الذي يحاكي شعر الجاهليين أو الشعر العباسي ويقول فيها
  يا قامة الرشإ المهفهف ميلي
   بظماي منك لموضع التقبيل
  رشأ أطل دمي وفي وجناته
    وبنانه أثر الدم المطلول
  يا قاتلي باللحظ اول مرة
     أجهز بثانية على المقتول
  مثل فديتك بي وأن بك مثلوا
 شمس الضحى لم أرض بالتمثيل
ولم يقل له أحد أن شعرك فسق ومجون بل على النقيض من ذلك فقد أستمع إليه كُبار المثقفين حينها .
  ولو تجاوزنا الشعر العربي الفصيح وذهبنا صوب الشعر الشعبي لوجدنا أمثلة غير قليلة بهذا الباب ولنأخذ مثلا الشاعر الذي كرس كتاباته لمدح ورثاء العترة الطاهرة وهو الشيخ عبد الحسين صبره الحلي ، وأعتقد أن قصيدته للعباس (ع) جابت المنابر الإسلامية مشارق الأرض ومغاربها ولا تزال حية تردد
  إشحال بينك يعباس وبيني
                       ماني أخوك أحسين كوم أحميني
            *******
 كوم حاميني علي دارت الناس
وأعلم أمن الناصر أكطعت الأياس
إمحشم ونخاي جيتك يعباس
كوم شوف العسكر موازيني

    ****
وهو نفس الشاعر الذي كتب قصيدة عام 1935 م بحشاشتي سهمك مض لتصل لأسماع المطرب الفنان العراقي الراحل رياض أحمد وغناها وكانت من أجمل ما غنى يقول فيها
 بحشاشتي سهمك مض
    ***
 بحشاشتي سهمك مضه
وعكبك علي ضاك الفضه
اللي حظه بوصلك حظه
والماحظه يا ول حظ
***
وأخيرا أقول أن عالما دينيا إسلاميا نجفيا كتب قصيدة غزلية وقرأ قسما منها على خلص أصحابه ومزقها ، ولكنها وصلت للفنان المبدع ياس خضر وغناها وكانت جواز سفره للدخول الى الإذاعة العراقية
الهدل أمنين أجيب إزار للزيجه هدل
أشلون يتزرر الشايله جبل
******

الأربعاء، 2 يونيو 2010

ناظم السعود في اتحاد ادباء كربلاء


ناظم السعود
حين دعيت قبل شهر أو أكثر( لا تنجح ذاكرتي المنتهكة بتحديد الزمن) الى ندوة
شعرية أقامها اتحاد أدباء كربلاء للشاعر المبدع عبد الحسين خلف ألدعمي تمنّيت
وقتها ان تخصّص الندوة للنظر و الجدل والبحث في القصيدة النورسية ..تلك القصيدة
التي ابتكرها الشاعر عبد الحسين ألدعمي في زمن ليس للشعر!!.
وتكمن أهمية وفرادة هذه القصيدة بكونها جاءت في مرحلة كاسدة للنوع الشعري
وهناك تزاحم من قبائل الشعر على فنون الاجترار والاستلاف والنهل من تجارب محلية
وغير محلية بحجة المثاقفة والتناص والأثر والتأثر وسوى ذلك من عناوين ومصطلحات
لا تعني الا درجات من الخواء والجدب وربما ... اللصوصية!.
وقد أدرك الشاعر ألدعمي هذا المأزق الشعري الذي وقع فيه شعراء سابقون ومجايلون
ظلوا عقودا يدبجّون المعاني والبحور ضمن خانات تحيلهم فورا الى مفهوم شعراء الظل!
واحدس بما يقرب من الحقيقة الشعرية ان عبد الحسين ألدعمي قد وعى مقولة سارتر
المعروفة والتي ترى ( ان المضمون الجديد يحتاج شكلا جديدا) وهذا ما دفعه قبل ربع قرن
ويزيد ان يتوغل في تجاربه ويهضم الأشكال الشائعة والمطروقة ( في كتابة القصيدة
بجناحيها الفصيح والعامي) حتى يحقق تميّزه وكينونته بل وقطيعته بما يرتع الآخرون
فيه ويتغالبون على ما ليس لهم ..إفرادا وجماعات!.
وأي متابع حقيقي للشعر العراقي في عقوده الثلاثة الأخيرة يدرك مبلغ نجاح الشاعر
ألدعمي في مشروعه التجديدي للشكل الشعري وشحن القوالب الساكنة للجسد الشعري
بدماء موّارة بالإضافة والحداثة والانفلات من دوائر النمط ، وهكذا ولدت القصيدة
النورسية التي يراها الشاعر والناقد علي الفتال ( قصيدة مبتكرة يتحّد فيها حرف
الشعر مع نبض الوتر وتتزاوج المفردتان العامية والفصحى بانسيابية تامة مع الاحتفاظ
بالدفق الموسيقي المتصاعد مع الحدث .... والشاعر بهذا يتحدى المقاييس التي وضعها
النقاد !) وقد فطن الفتال بحذق الى ما أحدثه ألدعمي من بناء جديد للقصيدة الحديثة
ولكنه عوّل كثيرا على جهود مستقبلية يمكن ان يقوم بها نقاد ودارسون للكشف
والتعريف بآفاق هذه القصيدة المبتكرة وملامح جدّتها وافتراقها عن تجارب نظيرة.
والحقيقة أنني شغلت كثيرا بهذا ( التعويل ) وان كنت لا أحسن الظن به أو لا انتظر
منه الكثير نتيجة تراكم تجارب شخصية وعامة تنبئ ان هناك مشكلة كبرى في تلفي
تجارب الابتكار والتحدث وفداحة الرؤية السلبية التي تواجه التجارب المؤسسة وأصحابها!
وقد ساءني كثيرا ان تنبلج تجارب ريادية خارجة من أفق البلادة والتوجس والكراهة
لكل جديد ،مؤسس،ولا تجد استقبالا لائقا ولا أنصارا ذائدين، هكذا واجهت تجربة الروائي
المجدد طه حامد الشبيب صنوفا من التشكيك والعداء والغض الرخيص، وشبيها من
هذا واجهته تجربة التشكيلي غالب المسعودي برغم ريادتها المعروفة في تطويع الحرف
السومري للمنظومة الحروفية العربية.
ولذلك ،حين أقبلت على ندوة ألدعمي توقعت ان يكون هناك تغير نوعي في كيفية
التعامل مع التجارب المؤسّسة ( كما الأمر مع القصيدة النورسية) أو في الأقل أجد
رؤية متعافية من علل مؤسسات المركز وإشكالية الهامش المقصي ،غير ان أيّا من هذه
الأماني لم يتحقّق للأسف الشديد برغم الجهد الواضح الذي بذله الزملاء في الاتحاد
المحلي، فلم تزل الرتابة والتعامل الفوقي واجترار الكلمات الخطابية تهيمن على
منهاج احتفالاتنا حتى أصبحنا نعرف مسبقا ماذا سيقدم قبل وقوعه!!.
وكما كتبت أكثر من مرة فان الثقافة العراقية تفتقد على الدوام ما اسميّه ( فن
الاحتفاء) بالرموز والتجارب وان القائمين على تنظيم الندوات والاحتفالات لايعرفون
شيئا من أسرار ذلك الفن ولهذا تأتي مبادراتهم شاحبة وواهية من كثرة التنميط!
والواقع أنني خرجت من الندوة محزونا ، كسيرا لأنني لم أجد ما عوّلت عليه وكان
الزملاء في اتحاد كربلاء كحال زملائهم في بغداد وبقية المحافظات لا يحسنون الاحتفاء
بالإبداعات الجديدة وبجهود الأسماء المتنورة ، وستبقى النيّات البيض هي اللافتة
المرفوعة .. وأخشى ان أقول الوحيدة فوق القاعات الباردة !!