الاثنين، 26 أبريل 2010

مقطع مستل من السيرة الذاتية لشبيه همنجواي الحلي-كتاب في حلقات-كتابة احمد الحلي


شبيه أرنست همنجواي

يتحدث أبو رياض عن كيفية اكتشاف الشبه الخلقي بينه وبين الروائي العالمي (ارنست همنجواي ) فيشير إلى ان الناس والمحيطين به هم الذين انتبهوا أولا إلى هذا الأمر لاسيما بعد ان نمت ذقنه ، ويتذكر حادثة غريبة وقعت له في أعوام الستينيات ( لايتذكر بالضبط متى )، حين وجد نفسه يشهر مسدسه نحو رأسه محاولا الانتحار ، بسبب تعرضه لوضع اجتماعي قاهر ، حيث تمت الوشاية بابيه معيل العائلة الوحيد آنذاك وكانت التهمة الجاهزة الموجهة إليه انه ساعد في تهريب احد كبار تجار اليهود الأثرياء إلى خارج العراق ، إلا ان أبا رياض لم ينفذ ما اعتزم عليه ، إذ وجد ابنه ذا العامين فقط وهو يحبو إليه في ظلمة الليل ، فوضع المسدس جانبا وقرر مواصلة الحياة ، على العكس من قرينه همنجواي الذي مضى بالمهمة قدما .

ويوما بعد يوم أحس أبو رياض انه يتواشج مع شخصية ارنست همنجواي ، لاسيما في مزاياه الإنسانية وعلى صعيد المغامرات أيضا وان لم يصل إلى الحدود الدنيا من تخومها ،كما يعترف ، فقد احترف مهنة صيد الأسماك على نهر دجلة ومن ثم على نهر الحلة ، وحول سؤال وجهناه إليه فيما إذا كان يعتقد انه الشيخ في رواية همنجواي الشهيرة ( الشيخ والبحر ) أجاب أبو رياض بتواضع جم ؛ كلا ، فانا أجد نفسي الصياد في النهر ، إذ ان البحر بعيد عنا ، ولم نتعرف في حياتنا سوى على النهر .

وقد بات معروفاً لدى الجميع ان حبكة رواية همنجواي (الشيخ والبحر) استقاها بناءً على تجربة شخصية له في صيد الأسماك على الرغم من الرمزية التي غلقت هذا العمل المهم الذي أهله للفوز بجائزة نوبل للآداب أبان فترة الخمسينيات .

وإذ استطاع (همنجواي) توظيف حيثيات تجاربه الشخصية ومغامراته في كتاباته الروائية والقصصية ، فان (أبا رياض) لم يتح له ان يفعل ذلك ، على الرغم من ان عملية استنطاقه الآن لم تكن بالمهمة الشاقة أو العسيرة ، فحديثه أشبه ما يكون بالمائدة العامرة التي تتوفر على شتى صنوف الأطعمة والاشربة والمقبلات ، وان احتوى بعضها على توابل كثيرة إلا ان محدثه يستطيع ان يختار وينتقي منها ما يشاء ..

* وبالنسبة للقوة البدنية التي عرف بها الروائي الأمريكي ، والتي أهلته لان يقوم برحلاته الشهيرة في مجاهل الغابات في أمريكا وأفريقيا بغية اصطياد الحيوانات المتوحشة ، بالإضافة إلى كونه ملاكما محترفا ، فان ( أبا رياض ) أصبح سباحا ماهرا في وقت مبكر من حياته ، وعرفه نهر دجلة وكذلك شط الحلة ونهر الفرات في منطقة سدة الهندية ، وحصل على بعض بطولات السباحة واحترف الملاكمة أيضا متدربا على يد الملاكم ( محمد سلبي ) بطل العراق بالملاكمة في أعوام الخمسينيات كما برز في عدد من الألعاب الرياضية التي تتطلب القوة والجهد ، وقد حدثنا احد أصدقائه من الأدباء انهم كانوا قد خرجوا للتو منتشين من سهرة في مقر اتحاد أدباء الحلة ، فانتبهوا إلى جذع ميت لإحدى الأشجار يقف منتصبا بتحدي على مقربة منهم أثناء خروجهم فما كان من (أبي رياض ) المنتشي إلا ان أحاطه بساعديه القويتين وسط صياح الأصدقاء وتشجيعهم له بعبارة؛ همنجواي .. همنجواي ! وبعد قليل من الجهد استطاع ( أبو رياض ) ان يقتلعه من جذوره !







Oh my god أو الله حي



ما زال في جعبة أبي رياض الكثير من الذكريات التي يتوق إلى البوح بها ، وتطرق حديثه هذه المرة إلى المرحلة التي تلت تأميم النفط العراقي في أوائل سبعينيات القرن الماضي ، حين أصدرت الحكومة ما أسمته ( سندات الصمود ) آنذاك لتعطيها للموظفين وتستقطع منهم مبلغا قدره 3 دنانير من الراتب وكان هذا المبلغ يؤثر تأثيرا كبيرا على مدخول العائلة ، فنظم ( أبو رياض ) أغنية ( الله حي ) وهي موجهة إلى الخالق لكي يساعده على الخروج من هذا المأزق المادي ، وقام بتأليف الأغنية باللغة العربية والانجليزية التي يجيدها ، وبعد السقوط وبالتحديد في العام 2007 أجرى تجديدا على هذه الأغنية في مضمونها ولحنها ، إلا ان الأغنية لم تجد لحد الآن من يخرجها إلى النور سواء على صعيد النشر أو الإذاعة وهي تتعلق بحوار الأديان وضرورة تآخي الجنس البشري وفيما يلي نص الأغنية بالانكليزية :



oH My God

My god help me

Do some thing for me

I am Angle From Babylon

Please My God don't Leave Me Alon

Make The World Happy



أما النص العربي فقد صاغه كالآتي ؛





بجاه كليم الله موسى النبي

بجاه روح الله المسيح النبي

بجاه حبيب الله محمد النبي

الله حي ! oH My God





لا للتدخين

* قاد (أبو رياض) في العام 2000 والأعوام التي تلته حملة ضد التدخين وأسس منظمة باسم (لاللتدخين ) وكان شعارها ؛ ( السكائر من صنع الشيطان ، اسحقها .. اسحقها أيها الإنسان ) ، وقام بطبع بوسترات ملونة بهذا المنحى ، وتم إلصاقها في عدد من الواجهات المهمة بمدينة الحلة ، وكان نتيجة هذه الحملة ان اقلع عشرات المدخنين عن التدخين .

ومن أجل ذلك فقد شاعت في أوساط الناس في عن أبي رياض صورة المناويء والخصم اللدود لظاهرة التدخين ، وهناك عددٌ من الحكايات التي يتم تداولها ، نختار من بينها ؛

1

* في أحد الأيام قبيل الإجتياح الأمريكي للعراق في العام 2003 ، وبعد حوالي ثلاثة أيام من القرار المتعجل الذي إتخذه النظام والقاضي إطلاق سراح جميع المعتقلين والمدانين بجرائم مختلفة ، وفيما ( أبو رياض ) يجلس في مقعده داخل سيارة مزدحمة بالركاب تسير وسط العاصمة بغداد ، إذ وجد نفسه يجلس قبالة شخص يدخن بشراهة ، إغتاض أبو رياض في باديء الأمر ، وحاول أن يكتم غضبه ، ثم إلتمس من المدخن أن يُطفيء سيجارته مدّعياً أنه مريض بالربو ، إلا أن المدخن لم يأبه للامر ، وواصل التدخين بلذة ونشوة أكثر من السابق ، فلم يجد صاحبنا من سبيل أمامه إلا أن يُعلن عن سورة غضبه ، مادّاً يده الى حقيبته فاتحاً إياها بعنف قائلاً بصوته الأجش المزمجر ؛ ها أنتم تجبروننا على العودة الى السجن ثانية بعد أن تم إخراجنا منه ! ساور الركاب إحساسٌ بأنهم بإزاء مجرم خطير ، وظنوه يحاول أن يستخرج سكيناً أو خنجراً ، فأصيبوا بالخوف والهلع ، وأخذوا يتوسلون اليه أن لايفعل شيئاً ، أما بالنسبة الى الشخص المدخن ، فقد إنهار تماماً ، وأخرج علبة سجائره من جيبه وسحقها بقدمه عند أقدام ( أبي رياض) في محاولة لأسترضائه وإطفاء سورة غضبه .

2

إعتاد الناس أن يروا أبا رياض إبان مرحلة السبعينيات والثمانينيات وهو يقود باص الركاب التابع لمصلحة نقل الركاب في مدينة الحلة ، ناقلاً إياهم من مركز المحافظة الى النواحي والأقضية والقصبات التابعة للمدينة وبالعكس ، وكان هو لايتورع عن تطبيق قانونه الصارم بشأن التدخين في حافلته التي كان يعتني بها إعتناءً شديداً ، وفي أحد الصباحات صادف أن شغل المقعدين اللذين يقعان خلفه مباشرة أحدُ شيوخ العشائر وشخصٌ آخر كان بصحبته ، وما إن تحركت السيارة مسافة قليلة حتى إستخرج الشيخ علبة سجائره المطرزة بخيوط حريرية ملونة ، مقدماً سيجارة لرفيقه ، وأخذ الإثنان يدخنان بنهم ولذة ، نظر أبو رياض الى سحب الدخان التي أخذت تتشكل فوق رأسه فتراءت له على هيئة غيلان ووحوش تحاول الإنقضاض عليه ، القى نظرة في المرآة الى الشيخ الذي سمع به كثيراً ، فوجده أشبه بطائر ( الفسيفس) حين ينفش ريشه ، وساوره إحساس ٌ بأن هذا الشيخ ربما يظن أنه جالس ٌ في هذه اللحظة في صدر مضيفه ، خفف من سرعة السيارة وخاطب الشيخ بصوت مسموع ؛ هل تسمح لي أيها الشيخ الموقر أن أطلب منك شيئاً ؟ إنتبه هذا اليه ؛ نعم تفضل ، وظن في باديء الأمر أنه يطلب منه سيجارة ، فأستخرج علبة السجائر وناوله واحدة منها ، قال أبو رياض ؛ عذراً أيها الشيخ ،فأنا لاأدخن ، وأن الذي أرجوه منك هو أن تكف عن التدخين أنت وصاحبك ! إغتاض الشيخ للهجة الصارمة الآمرة التي يخاطبه بها هذا السائق الحكومي الذي ربما لم يعرف سطوته جيداً ، قال له هازئاً ؛ ومن أين لك السلطة في منعي من التدخين ؟

ـ هذه حافلتي وإن تكن سيارة حكومية ، وأنا إعتدت أن أطبق هنا قوانيني !

ـ وأنا أقول لك بكل بساطة ؛ يؤسفني أنني لاأحترم قوانينك ، فما الذي بوسعك أن تفعله ؟

لم يفعل أبو رياض شيئاً ، وإنما قلل من سرعة الباص الذي كان يقل موظفين يرومون الوصول الى دوائرهم في الوقت المحدد ، فتصايح هؤلاء ؛ ما الأمر ؟

قال أبو رياض مخاطباً الشيخ ؛

ـ ألا ترى ؟ إن هؤلاء سلاحي !

أصر الشيخ على موقفه وتملكته سورة الغضب ، عند هذه النقطة ، أوقف صاحبنا السيارة تماماً وركنها الى جانب الطريق ، ظن باقي الركاب أن ثمة عطلاً أصاب السيارة فظهر منهم التذمر والإستياء ، قال أبو رياض مخاطباً الجميع ؛ إطمئنوا فليس في السيارة سوى عطل واحد هو هذا الشخص الجالس خلفي ، والذي يُصرعلى ألإستمرار في تدخين سجائره المقيتة ، وفي هذه الحالة ، وكما تعرفون ، فلن أدع السيارة تتحرك شبراً واحدا ً ما لم يكف هو تماماً عن التدخين ،

وبأسرع من لمح البصر تحول غضب الركاب الى الشيخ الذي وجد نفسه في موقف لايُحسَد عليه ، هذا يصيح به ، وذاك ينهره ، وكاد أحدهم أن ينهال عليه بالضرب ، فتدخل أيو رياض في اللحظة المناسبة ، قائلاً للشيخ بحزم ؛ والآن من فضلك أعطني علبة السجائر، فأعطاها إياه وهو لم يكد يُفق بعدُ من ذهوله وإرتباكه ، فأخرج السجائر منها وطرحها أرضاً وأخذ يسحقها بحذائه ، ثم أعاد إليه العلبة الثمينة فارغة وإزاء هذا الموقف ، لم يجد الشيخ المغلوب على أمره من سبيل أمامه للخروج من هذا المأزق سوى أن قدم إعتذاره لأبي رياض ولباقي الركاب مصرحاً أمام الجميع ، أنه ومنذ هذه اللحظة قرر التوقف عن التدخين ، رامياً العلبة الفارغة من نافذة الباص دونما أسف !



3

يذكر المقربون منه ، أن أبا رياض عمد الى إستعمال طرائق متعددة في مكافحة ظاهرة التدخين ، ولا سيما في حافلته هذه ، ومن ضمنها أنه أشاع لدى ركابه الذين إعتاد أن يراهم كل يوم في رحلة ذهابهم وأيابهم الى دوائرهم الحكومية ، أن سيارته تم تزويدها مؤخراً بجهاز الكتروني ياباني لدى خلاياه حساسية قوية من الدخان المتصاعد من السجائر ، الأمر الذي يؤدي أن يُبطيء الباص من سرعته تلقائياً ، وكان الركاب يتساءلون فيما بينهم بين مصدّق ومكذب ؛ هل حقاً يوجد هكذا جهاز ؟ !







قنابل الزينة

يتذكر أبو رياض بوضوح ، بأنه بين عامي 1948 و 1949 وتحديداً بين شهري نيسان وأيار من العام 1949 ان المظاهرات الصاخبة كانت تجوب شوارع بغداد ، وفي منطقة الكرادة الشرقية حيث ولد ونشاً ، وكان عمره آنذاك لا يتجاوز العشرة سنوات حيث وقعت عيناه للمرة الأولى على أول تظاهرة تخرج من دار تطبيقات المعلمين وهي تهتف ؛ 0فلسطين عربية فلتسقط الصهيونية ) ، وفي تلك الأجواء الملبدة أعلنت الأحكام العرفية ، وتم قمع المظاهرات ، إلّا ان زمام الأمور كان يفلت في بعض الأحيان فحصل (الفرهود) لبيوت اليهود الموسرين من قبل بعض الناس ، وبالنظر الى ان السلطات اتخذت آنذاك اجراءً يخولها تفتيش كافة البيوت ، فقد ؛ " طلب مني ابي الذي كان يعمل تاجراً في الشورجة ان انقل قنبلتين كنا نحتفظ بهما على عادة الكثيرين من أهالي بغداد آنذاك لأغراض الزينة ، وأمرنا انا وابن عمتي الذي كان يكبرني بعامين بأن نتخلص منهما والقاءهما في نهر دجلة القريب ، والذي كانت مناسيب المياه فيه تنذر بفيضان وشيك ، حتى ان الماء ارتفع الى أعلى السدة في منطقة (السبع قصور) ، وعندما شاهدنا أفراد من العوائل اليهودية ، ونحن نسير بهذه الوضعية ، اخذوا يتصايحون بان (ابو فايق) والذي هو ابي ، يريد تفجير السدة ليغرق اليهود ، وشعر ابن عمتي بالخوف والهلع ، فطرح قنبلته في الشارع المؤدي الى نهر دجلة قريباً من بيت مدير أمن بغداد المرحوم بهجت العطية ، وولى هارباً ، فالتقطت قنبلته وحملتها على كاهلي ، وبذلك أصبحت احمل قنبلتين على كتفي الصغيرين ... "

وبعد ان يصل الى حافة النهر ، يقوم بإلقائهما ، فلم يحدث أي انفجار مثلما كان يتوجس ، وبعد مرور حوالي نصف ساعة على هذه الواقعة يمتلئ الشارع برجال الشرطة والجيش والأمن ؛ " وجلبوا معهم صياداً كي يرمي شبكته في المكان الذي ألقيت فيه قنابلي ، فأقتادوني الى مركز الشرطة القريب بصحبة والدي للتحقيق ، وبعد آن أوضح لهم ابي بأنه هو من كلفني بهذا العمل ، تم الإفراج عني وبقي هو موقوفاً لبضع ساعات ليتم الإفراج عنه بعدها بكفالة ، بعد ان استطاع إقناعهم بأن القنبلتين كانتا موجودتين في البيت لأغراض الزينة ، وكان الذي اشرف على التحقيق معه بهجت العطية بنفسه وكان حق الجيرة يحتم علية ان يفعل ذلك ، وعلى ما اذكر يضيف ابو رياض ، فان العطية كانت لديه عائلة تعيش ظروفاً اقتصادية متواضعة ، فلم يكن يمتلك بيتاً وانما كان يسكن بالإيجار ، مع الأخذ بنظر الاعتبار انه متزوج من امرأتين أحداهما تسكن معه في الكرادة الشرقية والأخرى أو الأولى فكانت تقطن في عرصات الهندية ، ومن المفجع حقاً ان أتذكر ، ان أبا غسان تم إعدامه بعد سقوط الملكية على يد محكمة المهداوي التهريجية في العام 1959 ، ويعتقد ابو رياض ان هذا الحكم انطوى على كثير من الظلم والتعسف حيث عرف عن بهجت العطية بين أهالي بغداد بأنه كان نزيهاً ومخلصاً ووطنياً في عمله ، بالإضافة إلى انه لم يتقدم ضده لتعضيد إدانته سوى شاهد واحد كان بيته مجاوراً لبيت العطية ومن بين المآخذ التي سجلها هذا الشاهد ضد العطية انه كانت لديه ثلاجة كهربائية في بيته وبعد تنفيذ الإعدام بحقه اضطرت عائلته في الكرادة ان تعيش وضعاً صعباً للغاية ، حيث لم تكن تمتلك ثمن الخبز التي تقتات به ، وكانوا يعتاشون على ما يقدمه الناس إليهم من صدقات ، كما ان والد ابي رياض الذي يمتلك شركة سيارات الحرية ، كان يقدم لهم العون المادي بين الفينة والأخرى ، أما ابو رياض نفسه فقد وجد في نفسه الحكمة الكافية لان يبكر في الخروج لصيد السمك يومياً في نهر دجلة ليعطي ما يحصل عليه الى هذه العائلة المنكوبة .

تحتشد ذاكرة (أبي رياض) بالكثير من الصور حول حادث الفيضان آنف الذكر ، من بينها إعتقادٌ ترسّخ لديه ولدى غيره من أبناء جيله أن الحكومة آنذاك قد أسهمت بهذا القدر أو ذاك في وقوع الكارثة في أماكن محددة ، ذلك أنها عمدت الى إستعمال حيلة قاسية لمواجهة سيل التظاهرات العارمة التي كانت تخرج الى الشوارع منددةً بالإتفاقية التي تم التوقيع عليها في العام 1948 بين العراق وبريطانيا ، وعلى خلفية إعلان قيام الدولة اليهودية في ذات العام ، وقد جرت العادة أن هذه التظاهرات كانت تخرج من دار المعلمين المسماة آنذاك بــ (التطبيقات) ، والواقعة في المنطقة المحصورة بين الجسر المعلق ومنطقة ( السبع قصور) ، كانت بناية المعهد نقطة إنطلاق للتظاهرات الصاخبة ، ومحفزاً لباقي المدارس الثانوية بل وحتى الإبتدائية لكي يخرج طلبتها للتظاهر ، وسرعان ما ينضم اليهم أيضاً بعض الشبان المتحمسين ، ويبدو واضحاً أن القوى الوطنية المعارضة للسلطة هي من كان يقف وراء تأجيج الموقف بين الشارع والحكومة ،وهو يرى أن الحكومة إنتهزت إرتفاع مناسيب المياه في نهر دجلة منذرة بحدوث الفيضان ، لتُحدث ( كسرة) أي فتحة في النهر في جانب الكرادة تحت ذريعة التخفيف من ضغط الفيضان ، وقد أدى ذلك الى غرق أغلب مناطق الكرادة ، وأتى على مبنى دار المعلمين الذي إنهار بالكامل ، فأتخذت الحكومة ذلك ذريعة لنقل ( الدار) الى منطقة أبو غريب البعيدة عن مركز العاصمة ، وهناك عددٌ من الصور المتفرعة عن هذه الحوادث الجسام ، ومن ضمنها أن أهالي الكرادة الذين نكبوا بالفيضان ، حيث أن غلبية بيوتهم التي دخلتها المياه قد تهدمت بالكامل ، كانوا يعمدون الى إستعمال الزوارق الصغيرة في تنقلاتهم ، وأن أصحاب الدكاكين من عطارين وبقالين وسواهم قد ملأوا الزوارق ببضاعتهم وأخذوا يتجولون بها بين المنازل ، فأصبحت الكرادة بين ليلة وضحاها أشبه بــ ( فينيسيا ) ، ولكن بالمقلوب !







رزق البزازين عالمعثرات

ومن بين الصور الأخرى، أن ذلك الأمر تزامن مع تصاعد وتيرة العداء والضغينة التي صار يحملها المواطنون المسلمون تجاه إخوانهم من اليهود العراقيين المقيمين معهم على ذات الثرى منذ أقدم العصور، والذين تشاركوا معهم في السراء والضراء وفي الأوقات العصيبة كافة ، وكان وجود هذه الشريحة الفاعلة يشكل عصب الحياة الأقتصادية والفكرية آنذاك ، لاسيما وأنه برز منهم عددٌ لايُستهان به ممن خدم البلاد في المجالات العلمية والفكرية والأدبية والفنية في بدايات إنشاء الدولة العراقية ، وإزاء تصاعد وتيرة الضغوطات الشعبية ضدهم ، لم يجد هؤلاء أمامهم سبيلاً سوى الإنكفاء والتقوقع ثم ليحصل <الفرهود> بعد ذلك ، وهو عمليات السلب والنهب التي جرت لممتلكاتهم أمام أنظارهم وأنظار الحكومة التي تقاعست عن القيام بواجبها ومسؤوليتها في توفير الحماية لمواطنيها ، فأضطر عددٌ من هؤلاء الى ترك بيوتهم ومغادرة البلاد قبل أن تتطور الأمور الى ما لايُحمد عقباه ، وقد عرض هؤلاء حاجياتهم ومقتنياتهم النفيسة ليُصار الى بيعها في مزادات علنية أقيمت في منطقة البتاويين القريبة، قبل أن تتخذ السلطات قرارها المتعسف الآخر الذي ينص على أنه لا يُسمَح للعائلة اليهودية وكذلك الأفراد الذين يقررون المغادرة بأن يحملوا معهم أكثر من 30 دولارا ، ولما كان غالبية اليهود المغادرين هم من كبار تجار الشورجة ، فقد آثر هؤلاء أن يتخلوا عن أموالهم لخدمهم وعمالهم من المسلمين ممن يضعون ثقتهم فيهم ، وبذلك فقد نشأت في بغداد وباقي مدن العراق طائفةٌ جديدة من الأثرياء الذين هطلت عليهم النعمة من حيث لايحتسبون وتماشيا مع القول المأثور ؛ ( ما رأيت نعمة موفورة إلا وبجانبها حقٌ مضيّع *)([1]) ! والمثل الشعبي الرائج ؛ رزق البزازين عالمعثرات !



صالح الفتلاوي

وثمة صورة أخرى مازالت عالقة في ذهنه ، وهي صورة التاجر اليهودي المعروف ( صالح الفتلاوي) الذي كان يمتلك بيتاً فخماً جداً مبنياً وفق الطراز الإنكليزي ، فحين خرج ذات صباح بأناقته المعهودة ، فإنه وجد بيته محاصراً بالمياه من كل جانب ، فظل وافقاً لبرهة من الوقت ، وقد بدت علامات الحيرة على وجهه ، ورآه الناس من المنطقة المجاورة وهو على هذه الحال ، فتهامسوا فيما بينهم ثم نادوا عليه بأنهم سيرسلون له زورقاً يقلّه الى مكان آمن يستطيع الذهاب منه الى متجره في الشورجة ، وبالفعل أرسلوا زورقاً يقوده أحد الأشخاص ، وما أن صعد صالح فيه وصار في وسط المياه حتى أخذ سائقه يهزه بعنف يميناً وشمالاً حتى إنقلب بهما ، فتعالى الضحك والصفير من لدن الناس الذين تآمروا على هذا المقلب القبيح وهم يرون كل أناقة وهندام صالح الفتلاوي وهي تُمرّغ هكذا .

ولم ينقض أكثرُ من شهر حتى حزم صالح الفتلاوي أمره وقرر الرحيل هو وعائلته ، ولم تسمح له السلطات أن يصطحب معه سوى مبلغ ضئيل من المال وبعض الملابس ، فأستولت أمانة العاصمة على بيته ومحتوياته ليتم تحويله الى مدرسة إبتدائية مختلطة بإسم (مدرسة) الحرية ، وكانت أول مدرسة مختلطة يتم إفتتاحها في منطقة الكرادة ، كما أنها المدرسة الأولى في العراق آنذاك التي تسمى بهذا الإسم الذي ظل هاجساً مستمراً للممسكين بزمام السلطة بعد ذلك ، ثم ليتم تجييره على نطاق واسع لخدمة أهداف وأغراض قراصنة السياسة والشعارات الطنانة التي لم تحصد منها البلاد ولا العباد سوى المزيد من الخيبات والمرارة .

الأحد، 25 أبريل 2010

ايكولون غني ابفرح-بقلم حامد كعيد الجبوري

إيكولون غني أبفرح


حامد كعيد الجبوري

لم أجد أفضل من هذه العنوانة لموضوعتي التي أثارها أكثر من صديق تسائلوا لماذا لا يزال المثقفون – شعراء وكتاب - لا يجسدوا بنتاجاتهم الأدبية التي يفترض أن تشيع البهجة والسرور لدى المتلقي ؟ ، ولربما أشاطرهم نفس الرأي وأضم صوتي لما يقولون ، ولربما أتقاطع معهم وبنفس درجة التأييد التي آمنت بها بطروحاتهم ، وهذا متأتي من حالة الصراع النفسي الداخلي للأنسان العراقي حصراً ، والسؤال أياه مكرر كثيراً ، وحينما سأل الشاعر الراحل (جبار الغزي) بنفس هذا السؤال أجابهم بهذه الكلمات التي أخذها منه الملحن (محسن فرحان) وأسندها للفنان (حسين نعمه) ليطلقها لحنا لاتزال الذائقة تردده وبأستمرار

أيكولون غني أبفرح وآنه الهموم أغناي

أبهيمه أزرعوني ومشو وعزوا عليّ الماي

نوبه أنطفي ونوبه أشب تايه أبنص الدرب

تايه وخذني الهوه لا رايح ولا جاي

أيكولون غني أبفرح

******

دولاب فرني الوكت وخميت الولايات

والغربه صاروا هلي وخلاني الشمات

مابين شوك وصبر ضاعن أسنين العمر

أيكولون غني أبفرح

*************

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا ، لماذا هذا الحزن المتجذر الذي منفكَ ملازماً للعراقيين إلا ماندر ، أللهواء الملوث بالحقد والضغينة والأستئثار بكل شئ له علاقة بذلك ؟، وهل أن الماء الذي نشربه وتستقيه جداولنا يحال لحزن وألم دائميين ؟، وهل أن التربة العراقية تنتج الهموم لنحصدها كما الحنطة والشعير ؟،ويروي مؤرخونا أن الشاعر (الفرزدق) ذهب حاجاً لبيت الله الحرام ، وهناك ألتقى الأمام (الصادق ع) ، فقال له أنشدني يا (فرزدق) ماقلته بجدي (الحسين ع) ، فبدأ (الفرزدق) يقرأ أشعاره للأمام ، فستأوقفه الأمام قائلاً لا يا(فرزدق) بل أتلوها عليّ كما يتلوها العراقييون وبطريقتهم ، وكان له ما أراد وجرت عيونه حزناً لجده (الحسين ع) متأثراً بالطريقة التي تليت به القصيدة إياها كما قالوا ،ومنهم من يقول أن الحادثة إياها جرت مع الأمام زين العابدين (ع) ، وأخر يقول أنها مع الأمام الرضا (ع) والشاعر دعبل الخزاعي ، ولتكن الحادثة مع أي منهم عليهم السلام فهذا يؤكد ماأذهب اليه من أن الحزن العراقي متأصل فينا حد النخاع ، وأشيع عنا هكذا في كل البلدان العربية ولم نستمع لأغنية تطربنا إلا إذا كانت حزينة

عاش من شافك يبو حلو العيون صار مده أمفاركينه وماتجون

لا خبر والبعد طال ألمن أنودي السؤال كلنه مدري أشلون عشرتنه تهون

ولو أردتُ السؤال قائلاً لو أنكَ أستمعت للفنانة اللبنانية الكبيرة (فيروز ) وهي تردد (دخلك ياطير الوروار ) أو (حبيتك بالصيف حبيتك بالشتي) ترى هل تثير لك هذه الأغنيات هما ووجعا ؟ أم تترك لك حيزاً من الفرح والنشوة وهي على النقيض من الأغاني العراقية ؟ ، علما أن الأغاني العربية أكثر رقة وجمالية بالمفردة المستعملة ، ومثلاً متواضعاً لذلك (شتريد) ومعناها واضح ولكن ألا تلاحظ معي قساوة وحدة السؤال مقارنة باللهجة الشامية (شو بتريد) التي أجدها أكثر رقة من لهجتنا الدارجة، ولا أعرف لماذا أعتقد أن الآلات المستعملة بالغناء العراقي أكثر إيلاماً وحزناً من الآلات الموسيقية الأخرى ، ومثل ذلك (الناي والربابة) اللتان لهما ذلك الأيحاء الخفي لأختراق شغاف القلوب ، ولا أنكر أن البحبوحة المفتعلة التي أرادها النظام السابق حقبة السبعينات خلقت لنا نصوصاً مميزة دالة على الفرح وأشاعته (ياطيور الطايره ردي لهلي ياشمسنه الدايره أبفرحة هلي سلميلي ومري بولاياتنه) أو ( تانيني ألتمسج تانيني يهنا يم طوك الحياوي) ، أو (ياخوخ يازردالي بذات مالك تالي ، تانيتك ومن حومرت صار الجني العذالي) والأمثلة كثيرة ، ويضاف سبب لما قلناه غير الصراع السياسي الذي شهده العراق ، وتحوله من أحتلال بغيض لآخر أبغض ، ومن ظلم الحكام المتعاقبون ظالم يعقب ظالماً آخر (فالوطن العربي الممتد من البحر الى البحر سجان يمسك سجان) كما أطلقها الرمز العراقي الأبي (مظفر النواب) ، والسبب الذي أعنيه هو الفقر وشفيعي لذلك ما قاله سيد البلغاء (علي ع) (لو كان الفقر رجلاً لقتلته) لقناعته التامة ما يؤله الفقر على المجتمع عامة والفقير خاصة ، ولدي أكثر من شاهد لذلك متحدثاً عن نفسي بداية ، أنا من عائلة أقل من معدمة فكل الأطفال بعمري – حينها - ينتظرون عيد الله الذي سيحل عليهم – رمضان وعيد الحج – إلا أنا فماذا سألبس في هذا العيد ووالدي لا يملك من دنياه إلا كرامته ، لذا كنت ألتحف حزني ولا أغادر موضعي أيام الأعياد ، وليس لنا بيت إلا غرفة واحدة مستأجرة لا يستطيع دفع إيجارها البالغ دينار واحد سنوياً ، لم أتناول فطوراً طيلة طفولتي إلا الخبز والشاي ، وبعد أن أشتد عودي وأصبحت بالثالث إبتدائي اصطحبني جاري رحمه الله (رديف البنه) معه للعمل في البناء لقاء أجر مقداره (260) فلساً فقط أيام العطل الصيفية لأنفقها على عائلتي ولأوفر منها ملابسي وملابس أخوتي المدرسية ، طفل في الثالث إبتدائي لايستطيع حمل طاسة البناء فأوكلوا لي حمل الطابوق على قدر أستطاعتي ،ورغم فقر آباؤنا وعدم تمكنهم من إعالة أبنائهم فهم ينجبون التسعة والعشرة من الأبناء متأسين بقول الرسول الأعظم ( ص ) الذي يقول (تناكحوا وتكاثروا لأباهي بكم الأمم) ، ولست على قناعة بأصل هذا الحديث ورواته فبأي أجساد عارية سيباهي (محمد ص) الأمم الأخرى ،وأن صح الحديث فيقع اللوم على الميسورين لأنهم لم يخرجوا من أموالهم الصدقات المفروضة ، ولأني الكبير بين أخوتي فكنت الوحيد الذي لا تصبغ دشداشته بصبغ النيلي أيام العيد أكثر الأحيان ،لأن والدي أضطر لشراء دشداشة لي بسب أن دشداشتي السابقة أصبحت أقل من قياسي ولا أعرف من أين أستقرض مالها ، أما دشداشتي الحالية ستؤل لأخي الأصغر ، والأوسط من أخوتي للأصغر منه وهكذا ، وسبب صبغ الدشاديش بالنيلي لنوهمّ أنفسنا على أنها جديدة ، وبعض العوائل تصبغ ملابسها بالأسود أيام عاشوراء لعدم تمكن تلك العوائل من شراء الملابس السوداء الجديدة ، ولكم أن تتصوروا مايتركه صبغ النيلي على أجسامنا الغضة الطرية ولقد جسدت ذلك شعراً و أقول

معاميل الحزن فصل علينه أهدوم ماماخذ قياس وراسها أبعبه

وذا ثوب الحزن يطلع كصير أطويل تبادل ويّ أخوك وبالك أتذبه

وأن أضفت للفقر اليتم المبكر وفقدان المعيل وترك والدك لك حملاً ثقيلاً (كوم لحم) كما يقول المثل الشعبي وبخاصة أن كن أناث فماذا سيكتب الشاعر عن ذلك ولم أجد لذلك أجمل مما كتبه الشاعر الكبير ( كاظم إسماعيل الكاطع) مصوراً نفسه بحلم تسائل معه (أبو الطيب المتنبي) عن أحواله وأحوال الناس فيقول

سألني عن جديد الشعر هالأيام والناس أعله ظيم الصابها أشتكتب

أشتكتب والجديد البي فرح جذاب والكلك جديد أيفرحك يجذب

أمي من الزغر تنكل حطب للنار ويفوّر جدرها ومدري شتركب

مصباح اليتم صبتلي بالماعون ومن ضكت الحزن شفت الحزن طيب

ملحه أهدومنه مالات عشر أسنين موسمران بس هنه علينه ألوانهن تكلب

مبعد ياقطار الشوك وين أتريد إخذنه أوياك بلجي أبدوستك وياهم أنجلب

أخذني وياك شاعر كل رصيده أجروح يفتحلك أحساب أبأي مدينة طب

كيف يكتب (الكاطع) للناس وهذا هو حاله والأكثر من ذلك حينما يكبر ويتزوج وينجب يفقد زوجه وأبنه البكر بعام واحد فكتب قصيدة (بير المنايا) يقول فيها

تغطيت وبعدني الليلة بردان لأن مويمي أنت فراشي بارد

وينك يادفو ياجمر الأحزان أحس أبدمي بالشريان جامد

يامهر الصبر ماكضك عنان نسمع بس صهيلك وين شارد

كل ساع وتكضني جفوف بطران وأنا جلد العليه أقماشه بايد

وخير من جسد الحزن والألم والمعانات العراقية الشاعر الكبير (عريان السيد خلف) ، ومعلوم أن (عريان) من عائلة شبه ميسورة ووالده سيد قومه ويملك (علوة) لبيع وشراء الحبوب إلا أن صروف الدهر مجتمعة أفقدته أمه رضيعاً ، فكفلته أخته الكبرى وسرعان مافقدها أيضاً ، وأخذته زحمة العمل السياسي وتصدعاتها ، فنظر للمآساة العراقية بعين شاعريته الكبيرة مطلقاً قصائد عصماء تجسد الواقع العراقي المتردي بكل مفاصل الحياة ، واضعاً نصب عينيه آلآم العراقيين مبتدءاً من ستينات القرن المنصرم وصولاً للأنتفاضة الشعبانية -(الحيطان منخل والدروب أحفور ،..... هنا مصحف جلالة هنا حمامة بيت/ هنا وصلة جديلة أبجف طفل مبتور)- ومابعدها ،ولكني سأورد أبياتاً من قصيدة (صياد الهموم) لعلاقتها بموضوعتي

ضمني أبليل ثاني وحل حلال الخل شحيحه أفراحنه ودكانها أمعزل

البسمه أنبوكها من الآه والياويل وصياد الهموم أبدفتره أيسجل

حاطنك ضواري أمهذبات الناب ولا مخلص يعينك لو ردت تجفل

مصخت والضماير غبراها الغيض وأمتد الدرب وأم الفرح مثجل

مدنف فوك وكري إبطارف الصعبات وصكور الروابي العالية أتزبل

مشكلتي الفرح ماعرف بالبه أمنين وبثوب الحزن من زغر متمشكل

ناورني الدمع بأول مدب عالكاع وناغمني الحزن وّي رنة الجنجل

ضميت الصداقه أجروح تدمي أجروح وحرزت الوفه ولن مايها أموشل

دحل شعرك حبيبي الليل خل أيطول تره خيط الفجر يستعجل أمن أيهل

وتساؤلكم المشروع هذا لماذا لا يغادر الشعراء القصائد الحزينه وأستعاضتها بقصائد مبهجة ؟ ، أتعلمون أن هذا مثل هذا الطرح أثار حفيظة الشاعر المرحوم (صاحب الضويري) وشنها حرباً ضروس على شاعر كتب قصيدة ناغى بها ماتريدون فقال له مؤنباً وموجهاً وعاتباً عليه لأنه كتب هذا النص فيقول له

إي يمسعد تضحك بكل السنون ومن زمان أحنه الضحج ناسينه

ومن زمان أمشجل وأبره الضعون واليكع ماليه مهجه أتعينه

ياعيوني الماجرت مثلج أعيون وياجفن يركه الدمع صوبينه

خاف غصن الشوك ينهيه الهلاج أحنه منحر للهوه أمخلينه

أذكر الله وحوبت الوادم وراك المحمي لابد ما تزل رجلينه

ومن حقي وحقكم أيضاً أن نتسائل ونقول ، هذا الذي أوردناه كان في عهد نظام شمولي دكتاتوري عسكر كل شئ ، ولكم أن تتصوروا الحروب الرعناء التي أقحم فيها الطاغية المقبور العراق والعراقيين ،وأورثهم الضحايا والفقر والقبور الجماعية ، وما أنتجته من قصائد مجدت الموت والظلاميين حتى وصلت هذه العسكرة لكرة القدم (هاي مو ساحة لعب ساحة قتال) ، وبما أن هذه الشرذمة لفظت أنفاسها ورحلت فلماذا تصرون على البقاء على هذه القصائد الملآ بالدماء والموت والذبح ؟ ،وجواباً لهذا التساؤل أقول ، نعم لقد تغيرت الحالة الأجتماعية والمعاشية للشعب العراقي وأصبحنا نمارس الديمقراطية التي لم نعرفها سابقاً ، ولكن هل أن الديمقراطية إياها يمارسها السياسي وهو مؤمن بها ؟ أم أنها مطيته الجديدة لقيادة البلاد والعباد ؟ وبعض من المسؤلون الجدد يقول كنا وقت الطاغية (اليحجي أيموت) والأن (إحجي حتى تموت) وهذه مفارقة عجيبة ، فالنظام السابق كمم الأفواه والقادم الجديد سد أذنيه كي لا يستمع لنا ، فلم يبقى للأديب إلا التنديد المباشر او المبطن لتوعية الجمهور لذلك ، والكل يعرف الشاعر الراحل (رحيم المالكي) الذي رآى القادم الجديد غير مكترث بما يريد الشعب ، مانحاً نفسه المميزات التي لم يحصل عليها أغلب الساسة في دول العالم ،ولم يجد الشاعر إلا (حسنه ملص) وهي أشهر من أن أعرف بها ليخاطبها متخذاً من المثل الشعبي (أياك أعني وأسمعي ياجاره) فيقول

ياهو المنج أشرف حتى أشكيله ياحسنه ملص دليني وأمشيله

وشاعر آخر (علي الربيعي) يقول (وين أتروح وعدمن تنزل / الخوف أرحم من أبن آدم / أبروحك يتشظه وما يكتل / كلها أبمنجل عمرك تحصد / محد بين أسنينك يشتل ) ، ومرة أخرى يقول (هاي ياوطن يابو المراجيح / كل مره ترسم شمس وبحضنك أتطيح / ذابل وصوتك يصيح / لا تطيح ، لا تــــــطيــــح / خشبه أنت أشورطك صرت المسيح) ، ولأن الشاعر (الربيعي) فقير ولديه مايسد قوته فقط لذا خاطبه الأخرون ليحسن من حالته المعاشية ولم يجد إلا الدماء ليبيعها ودلالة الدماء هنا الحياة ولكونه أراد الحياة لمواطنيه ووطنه لذا بدء يبيع الدماء لهم فمنع من ذلك لسبب( كالوا نفحص / ردوا بعد أشويه وضحكوا / رجعوه ماينفع للناس / هذا الصنف إيهبط السوك / نسبة دمكم كله أحساس ) وهذا الدم الحساس لا ينفع مصالحهم ومآربهم الشيطانية ، وشاعر آخر (عماد المطاريحي) أمام الفقراء يقول (آنه أحس نفسي نبي هذا الزمان / معجزاتي هدومي بيض / أبوسط وادم كلها غيم / وماكو ضير من تطالبني أبكتاب آنه قرآني ضمير ) ، ولم يقل هذا إلا بعد تأكده القاطع من أن جيوب الكثير من الساسة والقائمين على أمور الدولة ملآت بأموال بطرق أغلبها غير شرعية وعن طريق السرقة والشركات الوهمية التي أبتكروها ، وحتى الغالبية من الأحزاب العلمانية والدينية شيعية أو سنية أتخذت من الدين غطاءاً لمصالحها ولكم أن تتصوروا أن النظام سقط منذ سبعة سنيين أي سبعة حجج لبيت الله الحرام وصاحبنا المسؤل في الأحزاب الدينية الأسلامية شيعية أو سنية حج بيت الله ثمان مرات ضارباً عرض الحائط فتاوى من أوصله لهذا المكان الذي لم يصل أليه بشهادة جامعية ، وأن أمتلك تلك الشهادة الجامعية فأغلبهم قد زوروها على الطريقة الأسلامية .

سأختم موضوعتي بالقول مجدداً أن هذه الأرض العراقية لاتلد إلا الألم والعناء وهاهو الشاعر (رياض النعماني) الذي غادر العراق هرباً من الدكتاتورية قال لنا نفس مقولتكم (علينا أن نذبح الظلام بالضياء وعلينا زرع شجرة جديدة بدل البكاء على شجرة ذابلة وعلينا أن ندحر الموت بالحياة وأن نوقظ القلوب بالحب لنبني للأطفال سعادة دائمة) وكان يكتب نصوصه الشعرية وهو بعالم الغربة بعيداً عن المعاناة العراقية فيقول ، (من تكبل القداح كله إيهب علي / وثيابي زفة ألوان / عبرتني الشناشيل وهلال المناير والنخل / للكاظم أتعنيت / وأعبرت الجسر / خبرهم أبات الليلة ويّ أمكحل الشمام / وخيار الشواطي / صفكه وهلاهل / والفرح طول النهر / يامدلول تانيتك عمر / حنيت باب البيت / وبوستك حدر التراجي من الزغر) بهذه الشفافية كتب الشاعر (النعماني) قصائده بالغربة ، ولكنه عندما عاد للعراق مستقراً به ثانية كتب ما نصه (أتباوع على بغداد تبجي ويبجي ليها البجي / بيها الليل حفره والبيوت أكبور / واحد على واحد ميت ومنتجي / كابوس راكس غارك أبكابوس / ياناس وين الناس / وين الهوى وذاك العمر / جنيت يابغداد أدور بيج عنج / تمشي الكهاوي أتدور أبكل درب / أتريد واحد يكعد ومالكت / وحدج وحيده والأحزاب أشكثر)

الجمعة، 23 أبريل 2010

مقطع مستل من السيرة الذاتية لشبيه همنجواي الحلي-كتاب في حلقات-كتابة احمد الحلي






مقطع مستل

من السيرة الذاتية

لشبيه همنجواي الحلي


مقطع مستل

من سيرة شبيه همنجواي الحلي

كتابة احمد الحلي

نصوص صباح شكر محمود

طبعة أولى

2009
المركز الثقافي للطباعة والنشر

The Cultural Center for Printing and Publishing C.C.P.P

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

حلة/شارع الإمام علي (ع) /عمارة علي ط2

Mob: 07801168410

Mob: 07707179956

E-mail:w_alsawaf@yahoo.com

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

حقوق الطباعة والنشر محفوظة للمؤلف ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

التنضيد الالكتروني والإخراج الفني : نبيل الحسيني

تصميم الغلاف : المركز الثقافي للطباعة والنشر

إشـــــــــــــراف : ولاء الصواف

نجمة في راحة اليد

يعد الأدب الشفهي المكتوب احد أهم مصادر المعرفة الإنسانية ، وتاريخ البشرية حافل وزاخر بالمنجزات على هذا الصعيد ، منذ الفيلسوف الإغريقي سقراط الذي لم يدون شيئاً من أفكاره وفلسفته ، والذي اضطلع بذلك هو تلميذه ومريده أفلاطون ، مروراً بالحكيم الصيني كونفشيوس، ووصولا الى العديد من الأسماء التي خلدها التاريخ وأصبحت نجوماً لامعة في سفر الإنسانية الخالد .

وفي عصرنا الراهن ، وجدنا كيف ان عدداً من الروائيين والكتّاب يستمدون رؤاهم من شخصيات لها وجودها على ارض الواقع ، فيعكسون أفكارها ورؤاها ويقدمونها طازجة الى قرائهم ، ولعل ابرز مثال على ذلك ما فعله الروائي اليوناني الشهير نيكوس كازانزاكي في روايته ( زوربا اليوناني ) .

الذي نريد ان نقوله هنا ، ان مثل هذه الشخصيات موجودة دوماً وفي أيما مكان ، إنها موجودة وحاضرة حوالينا وبيننا ، وان كل الذي يتوجب علينا ان نفعله هو ان نكسر ولو جزئياً من حدة الهالة الأرجوانية التي نحوط بها أنفسنا ، وان نتقرب بما يكفي من هذه الشخصيات ، ننفض عنها الغبار الذي علق بها بمرور الزمن ونحاورها ونستنطقها بحنو وصبر حتى نصل الى العمق المطلوب من القاع الذي سيمنحنا بالتالي ماساته الأثيرة ، واحسب ان صديقي صباح شكر محمود أو ( أبا رياض ) بطل هذا النص هو واحد من هؤلاء الذين عاشوا ردحاً طويلاً من الزمن دون ان يكلف احدٌ نفسه عناء الالتفات الى هذه الخامة الظاهرة للعيان أو المنجم القابل للعطاء .

إنها دعوة إذن ، الى ان يقوم الأدباء والكتّاب بحملة استقصاء وتنقيب ، ليس في أمكنة الآثار القديمة لعلهم يعثرون على لقية أو كسرة حجر أو رقيم يتضمن كتابات مسمارية ، وإنما بين الناس الأحياء أو الذي انطوت صفحة حياتهم منذ عهدٍ قريب ممن تحمل تجاربهم الحياتية وذواتهم معاني وآفاق تستحق ان تدوّن وتقدم الى القراء الذين هم في نهم الى قراءة هكذا مدونات تنطلق من الواقع وان رفرفت بأجنحة الخيال في بعض الأحيان .

احمد الحلي

ahmad_alhaaly@yahoo.com

الاحتفاء بـ (همنجواي الحلي ) *

علي الاسكندري

لا تقتصر الحفاوة على إقامة الندوات البروتوكولية التي تزخر بالثناء والشهادات والمديح لشخص المحتفى به بل إنني أرى إن الخروج من هذا النفق التقليدي الذي تتلاشى اثاره وفعله الإعلاني والإعلامي بمجرد أن تنتهي جلسة الاحتفال والاحتفاء إلى فضاء الكتابة والتحليل والمداولة ومن ثم النشر في وسائل الإعلام الثقافية إجراء يخلف أثرا تدوينيا يمكن أن يولد إضافة وتراكما كميا ونوعيا إلى المعرفة والثقافة والأدب ، ذلك لان تلك الوسيلة الثانية تـُـعــد ُّ الأكثر نفعا لكونها الأسهل للأرشفة والحفظ من الطريقة الأولى .. فقد يتيسر للبعض من الأدباء في الساحة الثقافية أن ينتشروا ويصبحوا وجوها تلفزيونية أو نجوما محلية على الأقل يتمتعوا برذاذ الكاريزما ولمعان الفضائيات والصحف التي تحولت إلى منابر سهلة المنال لقربهم من تلك المنابع الإعلامية أولا ولكثرتها ثانيا رغم حداثة عهدهم وتواضع منجزهم الإبداعي ،وربما مر وقت طويل ولم يشعر المتلقي بوجود تجارب لها أهميتها وحجمها وهي الأكثر أهمية من سابقاتها لكنها بعيدة عن اذرع الإعلام وربما كان لعامل الجغرافيا واحد من تلك الأسباب ونرى في الكتاب الصادر من المركز الثقافي للطباعة والنشر في بابل في نهاية 2009(( مقطع مستل من سيرة شبيه همنجواي الحلي )) لمؤلفيه الشاعرين احمد الحلي وصباح شكر محمود مثالا يكتسب أهمية واضحة لما ينطوي عليه من تجربة إنسانية تتوفر على الجمال والنفع والمتعة واحسب إن تلك العناصر الثلاث إذا ما اجتمعت في إي عمل أدبي أو إبداعي فإنها سوف تضعه موضع اهتمام المتلقي وحفاوته وباعتقادي أن الكتاب الذي اشرتُ إليه ربما حمل إلى المتلقي من جانب أخر رسالة مفادها انتشار حرية النشر والممارسات الثقافية التي لم تعد تأبه لسلطة الرقيب وأوامر المركز وحسابات المؤسسة المهيمنة التي كانت تمارس دوري الأب والراعي لكل شاردة وواردة وان كانت تلك الممارسات تصل في بعض الأحايين إلى درجة الانفلات في أنحاء البلاد ، وبالعودة إلى الكتاب موضوع المداخلة فإننا نجد بين شاطئيه وفرة الفائدة التي تضمنتها سرود الشاعر احمد الحلي الذي قدّم للكتاب ودوّن سيرة الشاعر الشفاهية كما نوّه في مقدمته ونستطيع أن نتلمس في تلافيف هذا الجزء الذي شغل نصف الكتاب الأول والذي يمكن أن نطلق عليه شعرية السيرة والمفارقة والمواقف الإنسانية التي حفلت بها حياة شاعر وفنان امتدت منذ بدايات الأربعينات في القرن الماضي ولغاية الآن ولايقتصر الأمر على الفائدة لوحدها بل إننا سوف نحصد الكثير من المتع والطرائف من خلال شخصية ( همنجواي الحلي ) تلك الشخصية الواقعية الحلية الرائعة التي تعلقت بالفنون والآداب والشعر الذي كان على رأس قائمة تلك الفنون ، إنها شخصية الشاعر صباح شكر محمود والذي يعرفه الوسط الحلي عموما بابي رياض للعلامة الفارقة التي ميزته في ذلك المحيط ألا وهي لحيته البيضاء التي أطلقها تيمنا وتشبـّها بالروائي الأمريكي ارنست همنغواي ، ونرى إن الكتاب الذي لم تتجاوز عدد صفحاته ثمانين صفحة والذي ينقسم إلى قسمين كما ذكرنا إضافة إلى انه يحمل عتبتين للعنونة ، الأولى المذكورة في مكان سابق من هذه القراءة والتي تخص لمحات من حياة الشاعر شبيه همنجواي والثانية العتبة التي تتوسط الكتاب وتتقدم النصوص الشعرية ( أحلام صياد ) والتي كتبها صباح شكر محمود ، نرى إن مدونة كهذه قد يسرت باحة من الاسترخاء والتجربة التي اعتمدت على المنابع الفطرية التي لم تخضع لمهيمنات الشروط الأكاديمية وقيود المدارس والضوابط المحسوبة على أجناس الكتابة وربما كانت جماليات السرد الذي يهتم بآداب السيرة قد امتصت الكثير من الاحتقان والتشنج الذي يتسرب إلى دواخل المتلقي إزاء السيــّر المروية والمكتوبة بتعالٍ وفوقية والذي حققه احمد الحلي في تدوينه لمواقف وطرائف السنوات السبعين التي عاشها المبدع صباح شكر محمود بدء من ولادته في الكرادة الشرقية ببغداد عام 1941 مرورا بميله إلى الموسيقى والشعر والرياضة ونزوحه إلى مدينة الحلة في أيام الصبا والشباب كدريئة وتقيــّـةٍ من بطش الآخر المتغابي والناقم لأسباب متعددة ومن ثم عمله لاحقا سائقا في مصلحة نقل الركاب في الحلة وبأسلوب مبسط وتلقائي ، وحين نتعرض للنصوص التي كتبها صباح شكر في الجزء الثاني من هذا الكتاب تحت عنونة ( أحلام صياد ) فسوف نجد نصوصا خالية من الانزياحات والمجازات إلى حد كبير لكنها تحقق شعريتها بصدق ودهشة واستفزاز من خلال المفارقة والمغالاة والمواقف الشاجبة والرافضة لامتهان الإنسان وانتهاك إنسانيته وحقوقه أينما كان فهي نصوص موقف قبل كل شئ بعيدا عن قوالب الشعر وتقنياته وبحوره وشروطه اللاحقة .. هي نصوص ملتصقة بالحياة رغم الإجراءات والتغيرات والدراسات التي أُخضع لها الشعر وتحولاته واجبر على أن يكون فنا مصنوعا أو مصنعا على طرق الحداثة أو كائنا من ضمن فنون الحاضنة التي تنتمي إلى هندسة اللغة والمعمار الصارم .. و لنذهب إلى نص المشانق ص64 (( إنها تعشق الرقاب الضعيفة .. وتمقت الرقاب الغليظة ..هل للفجر رائحة الحياة ..؟ لماذا إذن تـُـنــَـفـَـذ ُفي ساعاتهِ أحكام الموت ..؟ بعد ملامسةٍ قصيرةٍ تــَـلـدُ المشنقة ُرقبة طويلة .. ! مـم َّ تـُــصـْــنـع المشانق ...؟ من خشب الصاج أو الزان .. ..؟ ليس الأمر بذي أهمية .. الأهم أنها تقوى على حمل الجسد .. عند ولادته قطعوا حبله السري .. وعند بلوغه أعادوا له الحبل بصيغة أخرى )) إن الفطرة التي جعلت من محمد الماغوط نجما شعريا كبيرا في فضاء الشعرية العربية ومعها ظروف وعوامل أخرى ساهمت في تألق هذا الشاعر الكبير ربما لم يحظ بها صباح شكر محمود ورهط كبير من هولاء المبدعين الذين ينتمون بقوة الحياة إلى منابع الفن وروافده الخلاقة فبقوا تحت دثار السنوات العجاف بانتظار سراج يشع على سنواتهم المهدورة

_________________________________

* نشرت المقالة في جريدة الاتحاد بتأريخ 15 /2/ 2010

مقتربات أولى

تعرف مدينة الحلة ، وعلى الأقل الوسط الثقافي ومرتادو المقاهي (أبا رياض) جيداً ، بوصفه سميا وشبيها لارنست همنجواي ، ذلك الروائي الشهير ، صاحب المغامرات التي لايجرؤ أديبٌ على الخوض فيها ، كما انه صاحب الروايات التي شكلت منعطفاً في الأدب الانكليزي والعالمي ولاسيما لمرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية .

(أبو رياض) واسمه الكامل كما هو مدون في بطاقة أحواله المدنية ؛ صباح شكر محمود ، وتشير البطاقة أيضاً إلى انه مولود في مدينة بغداد عام 1941 بمنطقة الكرادة الشرقية ، أحس منذ نعومة أظفاره بان لديه ميلا فطرياً نحو الفنون والموسيقى التي جرفته باتجاه عوالمها الخلابة ،

وبدأت تباشير الرحلة الثقافية لديه مع كتاب ( ألف ليلة وليلة ) بطبعته المصرية المذهبة المتكونة من مجلدين كبيرين ، ثم وبفضل أساتذته في المدرسة المتوسطة يتعرف على الروايات العالمية المترجمة ليقرأ بشغف كل ما كان يقع في يده منها ،

شكلت الموسيقى ، كما قلنا هاجساً للفتى الصغير الحالم ، فحاولت أصابع خياله ، أن تتلمس سحرها، وتقف عند منابعها ، فشرع هو وابن عمته (سعيد) بادخار (اليومية) التي يحصلان عليها من أبويهما، وبالتالي اشتريا آلة العود الخاصة بالملحن محمد نوشي الذي كان يعمل خياطاً بالقرب من منزلهما ، غير أن نشوة الفتى بامتلاك العود العائد إلى محمد نوشي سرعان ما تبددت وتلاشت أمام هجمة الأب الشرسة محطماً الباب الذي كانا يتواريان خلفه هو وابن عمته ليتدربا على العزف، وليحطم بالتالي العود على رأسيهما ، وقد بكيا بحرقة وألم ، كما يذكر (أبو رياض) ، ليس لآلام الضرب المبرحة التي عانياها وإنما لأنهما وجدا عودهما الأثير محطماً وأوتاره مقطعة بغير رحمة ..

إلا انهما ، الفتى وابن عمته ، قررا مواصلة السير على هذا الطريق الوعر الذي سلكته قبلهما أجيال وأجيال من المبدعين الذين لم تنثني همتهم أمام عواصف الجهل والتخلف التي تحكم مجتمعنا، يتذكر أبو رياض ، كيف ان جذوة الأمل قد تم إحياؤها في نفسه من جديد على يد الفنان القدير منير بشير وأخيه الموسيقار جميل بشير ، لاسيما بعد ان تعرفا على المخاض المؤلم الذي مر به ، فرحبا به في معهد الفنون الجميلة الأهلي الذي كانا يديرانه أبان فترة الخمسينيات ، غير ان الفتى ما لبث ان ترك الدراسة في المعهد لسوء الأوضاع الاقتصادية التي كانت تمر بها عائلته واستيقظ في نفسه إحساس آخر بالانتماء إلى الأدب والشعر بصفة خاصة ، وقد تفتحت هذه الجذوة لديه منذ بداية سبعينيات القرن الماضي ، مع انه ظل محتفظاً ومتوائما مع خطه السياسي حيث قدم من كلماته وألحانه وأدائه وباللغة الدارجة أغنية ( يا مصر يا أهرام بابل بتقولك حرام ) وكانت موجهة آنذاك ضد زيارة الرئيس المصري أنور السادات لإسرائيل ، وتمت إذاعة هذه الأغنية عبر إذاعة ( صوت مصر ) التي كانت تبث برامجها من بغداد .


الهبش-مفترس الافاعي-بقلم حامد كعيد الجبوري




( الهبش ) ... مفترس الأفاعي

حامد كعيد الجبوري

كثيرا ما أستمع لحديث من هنا وهناك عن شخصية غرائبية تسميها العامة ( الهبش ) - بكسر الهاء والباء - ، وقد رأيت هذا الرجل فعلاً وأنا بمراحل الدراسة الابتدائية ، ولم أستطع تذكر ملامحه الآن ، وكنت أراه يدلف لمقهى ( كاظم أبو سراج ) والذي أتخذها اليسار العراقي شبه مقر له فترة الخمسينات والستينات من القرن المنصرم ، وقد حفزني لاستذكاره البروفيسور العراقي المغترب ( عدنان الظاهر) وهو يتحدث عن مدينته الفيحاء بابل ورجالاتها بصورة عامة ، لم أجد من يرفدني بشئ مفيد عن هذا الرجل ، ولا أعرف أحدا من أقاربه يسكن الحلة الآن ،أفادني أحدهم بالدخول الى سوق الحلة الكبير وتقصي حقيقة هذا الرجل لأن أحد أخوته كان له محلا للحلاقة بالسوق الكبير للحلة ، وفعلا نفذت ذلك فوجدت المسألة أسهل من أعقدها هكذا وأرشدت لرجل حلي والجميل أنه صديق وأخ كبير أنه (مسلم باديم) الشخصية الوطنية والاجتماعية المعروفة ، لم يبخل علي أخي أبو (عبد الله) بشئ عن هذا الرجل لأستكمل موضوعتي وعرفت منه الكثير عن هذه الشخصية .

نهاية القرن الثامن عشر وصل للحلة الفيحاء رجل كردي من آل ( زنكنه) أسمه ( هاشم ) ليتخذ من الحلة موطنا له ، والحلة الصغيرة آنذاك يشطرها نهرها لشطرين ، الكبير ويضم سبعة أطراف وهي (الطاك ، الجامعين ، الجباويين ، المهدية ، الأكراد ، التعيس ، جبران) ، والصوب الصغير يضم ( كريطعة ، الكلج ، الوردية) ، أشترى الرجل دارا له في محلة (المهدية) وسكنها مع زوجته القادمة معه من الشمال ، ومن الطباع الحلية الأصيلة احتضان الضيف والقادم والمستجير بها ، ولم تكن للطائفية المستجلبة حديثا تأثيرا بينا وواضحا على سلوك ساكنيها ، فالسني يشارك الشيعي بطقوسه الدينية ، ويحترم الشيعي طقوس أخيه السني ، وفي الحلة المسيحي وهو آمن على نفسه وماله ومعتقده ، وكذا اليهود ، وهناك أكثر من وشيجة تجارية بينهم وبين أهالي الحلة الكرام ، و(هاشم) القادم للحلة سني المذهب إلا أن أولاده اتخذوا من المذهب الشيعي معتقدا لهم ، مخالفون هوى والدهم الراحل ، وأنجب الرجل – هاشم – أولادا وهم (فخري وعباس انتقلا لبغداد ولا نعرف مصيرا لهم ، حسن وهو معاق توفي بالحلة ، علي الملقب ب علوكي وهو حلاق ، وحسين الذي غادر لبغداد وعاد للحلة وتوفي بها وتركت عائلته الحلة بعد وفاة أبيهم ، ومحمد موضوع حديثنا وتلقبه العامة بالهبش ) .

بداية القرن التاسع عشر ولد (محمد) في مدينة الحلة وترعرع بها ولم يحصل على نصيبه الدراسي فيها ، يقول الأستاذ (مسلم باديم ) كان محمد (الهبش) ضخم الجسم أبيض الوجه يرتدي (الدشداشة) ، ولم يكن يضع شيئا على رأسه (أمفرع) ، وكان الرجل على خلق عال جدا ، لم يتشاجر مع أحد رغم قوة عضلاته ، ولم يعتدي أو يعتدى عليه ، كان مسالما جدا وفي أحايين كثيرة يستمع لنقد لاذع من أحدهم دون أن يرد عليه بشي ، أستفاد من قوة عضلاته ليعمل في (حمام المهدية الرجالي) وعمله (أمدلكجي) – يغسل للزبائن لقاء أجر زهيد - ، ومن الطريف ذكره بهذا المجال أن رأس المال الظالم كان يستوفي نصف المكسب البسيط لتعطى لصاحب الحمام ، والغريب أن صاحب حمام المهدية لم يستوفي ذلك من (الهبش) بل أعتبره عاملا لديه لقاء أجر آخر لتسخين ماء الحمام – الصفرية – بالطرق البدائية القديمة – نفط أسود وجذوع الأشجار - ، كان ل( الهبش) أصدقاء كثر ومن هؤلاء الأصدقاء من يحتسي الخمر وجمعتهم أكثر من مائدة لذلك ، فبدأ مشوار التصعلك معه ولم يذكر أحد لي أنه أساء لفرد ما من أبناء الحلة ، أضاف (الهبش) عملا جديدا له غير العمل بالحمام وهي صنعة اصطياد الأفاعي – الحيه - ، ومعلوم أن أغلب البيوت العراقية بما فيها الحلة يكون سقف الدور من جذوع النخيل وهي مكمن آمن للأفاعي ، والأفعى مرعبة للكثير ، بداية كانت العملية تطوعا لمسك الأفعى من قبل (الهبش) ، وبعد تمكنه من هذه المجازفة بدأ يأخذ أجرا لقاء إمساكه بالأفاعي ، يقول الأستاذ (مسلم باديم) أن ( الهبش ) بعد أن يرشد الى مكانها او يجده بنفسه ، يمسك الأفعى من ذيلها ويبدأ بسحبها حتى يصل الى الرأس ، فيمسك بكامل قوته حول رقبتها حتى تموت ، وفي أحايين أخرى يضعها بعلبة زجاجية ويحكم غطاءها ويقبض ثمن مسكها ويذهب بها صوب الصيدلية الهاشمية ليبيعها لصاحب الصيدلية المرحوم الصيدلي (إسماعيل أسكندر الجبوري ) ، ويروي الكثير من أهالي الحلة أنهم سألوا (الهبش) ألا تخاف من أن تلسعك أفعى فتموت ، فيبتسم لهم الرجل ويقول أن لسعتني أفعى فستموت هي ولا أموت أنا على طريقة الطرفة ، ويضيف الأستاذ (علي هادي) وهو من أهالي (المهدية) الكرام أنه رأى ( الهبش) بعد أن يمسك فريسته – الأفعى و يبدأ بقضمها – أكلها – مبتدءا من الرأس وكان يرى دماء الأفعى تسيل من فم (الهبش) ، وهذا ما أورده الدكتور الظاهر بحديثه ولم يؤكده الأستاذ (مسلم باديم) ، ويروي الأستاذ (روؤف الطاهر) عن جدته(العلوية) الساكنة محلة (المهدية) فيقول ، ذات يوم رأت جدتي أفعى متدلية من سقف دارها فهرعت صوب (الهبش) لإمساكها والقضاء عليها واتفقا على مبلغ من المال ( مئة فلس) ، حضر (الهبش) لدار العلوية وأمسك بالأفعى وطالب بأجره فدفعت المرأة (درهم) فقط وهذا خلاف ما أتفق عليه ، قال لها (الهبش) (علوية بعد درهم) أجابته المرأة (أنت أشسويت يمه غير أكمشت الحية درهم كلش كافي) ، لم يقل لها شيئاً وأطلق الأفعى من يده لتهرب وأعاد لها ال (الدرهم) وغادر الدار ، وبدأت صعلكة الرجل أكثر فأن زاد على المقرر مما يحتسيه من خمرته يبدأ بأكل قدحها حتى تدمي فمه ، ويقول الدكتور (عدنان الظاهر) أنه كان جالس بمقهى (كاظم أبو سراج ) ودخل لها (الهبش) وهو ثمل جدا فأخرج من كمه أفعى يتلهى بها وكأنها مسبحة وطلب قدحا من الشاي وبعد أن احتساه بدأ بقضم ذلك القدح ورأيت الدم يسيل من شدقيه – الحديث للظاهر – وحضر صاحب المقهى وقال له ما هذا فأخرج منة جيبه مبلغا من المال وأعطاه لصاحب المقهى وأعتذر منه وغادر مقهاه .

قلت بداية موضوعتي عن (الهبش) أنه خلوق ولم يعكر صفو أو ود أحد من الناس ويروى عنه الطرف الكثيرة ، أيام الشتاء الممطرة والأزقة غير معبدة يطفح الماء بهذه الأزقة ولا يستطيع أحد المرور دون أن يقع في البرك الكثيرة وبخاصة الأطفال والنساء منهم ، وفي يوم شتائي ممطر أراد شيخ حارته ومختار ها ووجهيها الوصول لداره إلا أن البرك الكثيرة والحفر المغطى بالمياه حالت دون عبوره ، تقدم نحوه (الهبش) وهو القوي العضلات وقال له هل أوصلك عمي لدارك ؟ أجاب الرجل شاكرا فعلته نعم يابني ، فما كان من (الهبش) إلا حمل ذلك الوجيه (الحاج جاسم حمادي الحسن) على عاتقيه والسير به نحو داره ، منتصف الطريق قال (الهبش) لشيخ محلته (المهدية) ، عمي أختر واحدة من اثنتين ، قال الرجل ما هما يا محمد ، أجابه أما أن أنزلك من على ظهري أو تعطيني (ربع دينار كروة) ، ضحك الرجل وهو محمول على أكتاف (الهبش) وقال له حاضر ولكن حين وصولي للدار ، أجابه ( الهبش ) لا عمي (هسه) ، وقبض (الهبش) من شيخ الحارة أجره ، ولم يكن يأخذ أجرا من أحد لقاء هذه الخدمة الإنسانية وإنما أخذها من شيخه للطرفة والتندر بها ليس إلا ، تزوج (الهبش) من أرملة له بنت واحدة من زوجها الأول وولدت ل(الهبش) بنتان ، توفي الرجل بسبعينات القرن المنصرم و بداية الثمانينات ودفن بالنجف الأشرف ، حاولت جاهدا الوصول للمتبقي من عائلته أو من أقاربه للحصول على صورة شخصية له ولم أفلح ، طرقت باب أستوديو (الزنابق) المحتفظة بصور أغلب الشخصيات الحلية السياسية والاجتماعية والتراثية لنفس الغرض ولم أفلح ، ومن حسن الصدف أن التقيت بالأستاذ (باسم جاسم حمادي الحسن) عضو البرلمان السابق ، وهو أبن لشيخ المهدية وحدثته عما توصلت إليه عن هذه الشخصية التراثية ، وأكد لي المعلومات المدونة وأرشدني الى حفيده من ابنته الملقب (عامر عضلة) بسبب ممارسته رياضة كمال الأجسام ، حملت أوراقي صوب الرجل والذي يعمل مع ابنه( ضياء ) ببيع بيض المائدة قرب أسواق (الحاج مالك عبد الأخوة) ، فرح الرجل – عامر عضلة – كثيرا ولم أجد لديه ما أضيفه لمعلوماتي بل أنا قد نورته بشئ منها ، أوعدني بالحصول على صورة لجده (الهبش) من خالته التي تسكن بغداد حالياً ، لربما بقادم الأيام بعد نشر هذه الموضوعة سأجد مبتغاي .

السبت، 17 أبريل 2010

الفنان حسين نعمة وتجربة الفن التشكيلي -لوحات الفنان حسين نعمة


الفن التشكيلي


*هل اعتزال الفنان حسين نعمه الغناء فقط ام قاطع جميع الفنون التي تعامل معها من قبل؟

-بعد اعتزالي سوف اتجه الى الفن التشكيلي حيث خضت تجربة رائعة ومبدعة بشهادة المعنيين وربما اغني اغاني وطنية للعراق الحبيب بعد ان كنت اغني الاغانب اللاوطنية مكرها وكم عانيت وكابدت من الموقف الذي سلبت فيه وصودرت ارادتي.

عشرون مسرحية

*الغناء، السينما، المسرح، الفن التشكيلي كيف استطاع الفنان حسين نعمة ان يتعامل مع كل هذه الفنون وفي اي فن منها وجد نفسه؟

-انا مثلت على المسرح اكثر من عشرين مســـــرحية من ضمنها مسرحيات عالمية اذكـــــر منـــــها (الزواج بالاكراه) لمولير(واوديب ملكا) لسوفوكلس واعتز جدا بان الكثير من المسرحيين العراقيين المعروفين اشتركوا معي وهم من أبناء مدينتي امثال الفنان عزيز عبد الصاحب بهجت الجبوري فاضل خليل حميد الجمالي وغيرهم وكذلك مثلت بطولة فيلم (حمد وحمود) حيث ان هذه الاعمال كانت تجارب اثبت فيها بشهادة النقاد قدرتي على التمثيل اما الفن التشكيلي فقد وجدت فيه ضالتي وهنا اذكر شيء مهم في هذا الجانب الابداعي الرهيب هو اني انسجم واتعامل بحرية واحلق في فضاءات رحبة من المشاعر والالوان وخلوتي واهم من هذا حريتي الشخصية في الاختيار فانا لا احتاج في هذا الفن الى الكلمة ولا الى الملحن ولا الى السيناريو.

وبودي ان اقول كلمة اخيرة وهي ان عشقي للفن التشكيلي واندفاعي واصراري هو الذي زرع الثقة بنفسي لاعمل شيئا وان الفن التشكيلي هو الاقرب للروح وبهذا سوف اعوض عن اعتزال الغناء فوقوف المبدع عن الابداع كتوقف الحياة


الجمعة، 16 أبريل 2010

دفيني بعباتج-حامد كعيد الجبوري


دفيني أبعباتج

حامد كعيد الجبوري



يا نسمة فجر والدنيه كيظ الكيظ

يامكسر الفي أتفيض بالحنه

يامجمَن ترافه وبيرغ الخطار

مُضيفج للحبايب هاونه ورنه

يالمة عكدنه وجمعة الخلان

تعداج الردَه ويخاف يتدنه

يتنور المحله وكرصة الطيبه

وجاغج ما بُرد خطار يتمنه

يادمعة قهر مرسومَه عالخدين

ينواعي الحزينه الجلِد بجنه

يامنعمه الحُضنـج أترف من الريش

لامر أعله بالي ولا حجو عنه

تمنيت الشفاف أتصير بالرجلين

أبوس أتراب بيتج وكتحل منه

*****

دفيني أبعباتج يل عباتج بيت

أحس بيها الحَنان وخوفي أمننه

لفيني أبعباتج يل عباتج طيب

روايح من مسج قداح أشمنه

عمري أشماكبر يم حضنج أزغيرون

يكاروك الصبُر بالصبر هِِزَنه

ياخُلك النبايه وياحزن مهموم

ضَمت كل دمعهه أعيون شربنه

ياكُلّج هظيمه والهظيمه أتخاف

لوركصَت طفل وأيدين شُبكنه

يمحراب العباده وياكتاب الله

توضت من فرحنه أفروض صلَنه

يافحم الكراجي ومنقلة كانون

يابيت التراب أدموع رشَنه

ياثوب القضيلَه أمكبَع أبهيبه

غذاهه عالصبر بالعفه غمسنه

ياموسعه الدارج عامر أبطرواج

ياشمعة عُـمر الدروب ضوّنه

ينافلة الصلاة وياصيام الشوك

من وَحشة درب وسنينه ضيعنه

يانذر الأيمه وخبزة العباس

يفرحة ويهليه أعكود طشنه

يشموع الخضر وبليلة الجمعه

يشط الحله فوك الروج لعبَنه

لو كشفت صدرها للسمه تدعي

الملايك تستحي ووجوه دارنه

لو كشفت صدرها للسمه تدعي

أقسم للعرش لبجاهه بجنه

أمي كوثر وكوثر نبع صافي

وتحت أجدامها البيبان للجنه



الخميس، 15 أبريل 2010

صبر مفطوم-حامد كعيد الجبوري شعرا-تخطيط-غالب المسعودي


صبر مفطوم

حامد كعيد الجبوري



لا تنصـب حـواجـز لا تخلـي أحدود

وبوجه اليحبك بابك أتسده

تمنيني أبوصــل وأتنطرك ملهـوف

وعلى أجروفـك شتلت أعيوني من مده

أخدودك ناغمنــي وترفــض العـينين

لاتــــرخــي الحــبـل ويــايَّ و تشــــده

مبحــر و السفـينــه أتضيــع السفـان

جــزره و الغــريــق أتشـلهه الـمَـده

فـراكـين المحطه وصاح بيها الريل

ويا ريل اليجيب العـُمــر ويـــرده

تـمــر وحشه الليالي و الكمر ذبلان

يتــوجـَـه اعلى حيلـه و الشمس رمده

وردة ناز عمـري للشمـس تضحــك

يحركـها الـوصـال وتــنــتِـظـر وده

احـســبــها عـدل تـتعـشَـه بـيه أتريـد

وآنــه مـن الـفــجر من ريجَك أتـغـده

أحــذرَك آنــه شاعر مُهرتي امنـتـغـير

تــُعبــر خـنـدقَــك والحصنــك أتهــده

***

صحــيت المـواجع غافيه أمن سنين

خليــــها أبصبــرها ونـايمــه ابـمــهده

حلمــان وصحـــه يتــوسـد الذرعان

يفـوج أبكيــش خِصرَك يسبَح أبنــهده

مفطوم و رجع يرضع حليب الشوك

بيك وجلَب المفطوم شيهده

أشــفافـَـك من حلاهن يستحي البرحي

عليــل ومــن حــلاتـَـه مايع الوحـده

عتــقــت الخــمر بشــفافــك أمتــانيـك

لو عابــد يضـــوكـَـه ايتيــه الرُشده

أشـــكـد شــايــل تــرافــه يا نبع بربين

يميل امن الطراوه ويـنكسر عضــده

يـاحبــة مـسج شـــب أبـكَـلـبـهـا النار

يــفــوِّح عــنـبــره وتــتســّيـد ابـخـده

نـــحــلان الــخصر شايل ظلم نهدين

مـثــني اعــلى الردف يتوسل إيسنده

أشـجم صايم فُـطر شايف إهلال العيد

إبــن ليلـَـه وظهــورَه من فَجر زنـده

أمن أخدودك إشفافي لسه رَيانات

منـهــن شـال غـيض وتستحي الزبده

إبمـحـرابـك صلاتي وأنـذرتـلـَك صوم

خـاشــع وأنــدعي لـهــلالَـك انـعـيـده

يــارب الــدلال أتـوازه وأكـفُـر بـيـك

وأتـخُـش أبــخـطيـتي و أعـلـن الـرده

أخــاف أرتــد وخـالف قبلــة الـعشاك

وتــمنـعـني الوصال و أنــحـرُم شهده

لا فـشلـه التكضــني لا بيـاض الراس

ولا عُـمري الجزَه الخمسين وتعده

زرعـنَــه أمـراشن وكــاع البجر متبور

ويّحــد منجـل شماته العاذل إيحصده

لم طاغــوت حسنــك لا أثـور أعليـك

ريّضهــا ابـــهـــداوه وعــايــلَك رده

نــحلــة عســل آنــه عــالورد تعتاش



وأنت أمن الجدم حد راسـك الــورده

يمامة الرسام -بقلم د علي عبد الامير صالح-رسوم د غالب المسعودي-القسم الخامس

الى أكاديميتنا .. وكان الطلبة يرسمون الموس الشابة ذات الضحكة الرائقة كخرير جدول .. لم ترفض طلباً لأستاذ الرسم الذي كان يرغمها على الجلوس او الوقوف أربع ساعات يومياً .. كان طلبة الرسم يتملقونها كي يستطيعوا أن ينجزوا رسومهم , كل من زاويته هو .. مع خلفيات مختلفة , وألوان مختلفة , ومهارات متباينة , بالطبع .. بعد ذلك بعامين , اندلعت الحرب , كما تعرفين .. أمضيت ست سنوات في جبهات القتال .. ضاعت اخبار زملائي .. وفي مطلع التسعينات عندما جمعتني المصادفة مع زميل لي من احدى مدن الجنوب عرفت ان احد طلاب الرسم , وقع في هواها .. وسرعان ما تزوجها وفرا الى خارج البلد .. لم يكن قد اكمل دراسته .. كان في المرحلة الثانية , في الارجح , الا انه استطاع ان يهرب من قبضة السلطات .. انتِ تعرفين ان السفر كان محظوراً آنذاك .. لكنهما افلحا في مغادرة البلد .


بعد هذا الحديث الطويل , ساد بيننا صمت ثقيل .. كنت احاور ذاتي هل ينبغي لي ان ارسم جسد هذه الحسناء فقط .. ام يجب عليّ ان ارسم روحها الطاهرة , النقية . اليس جديراً بي ان اظهر الحوار المقدس بين الموديل وجسدها العاري .. واكشف كيف تعيش هذه المرأة مع جسدها كي افهم حقيقته وحقيقة روحها الطاهرة . كما لو كانت قدسية تمارس طقوسها بورع , ببراءة الانثى , وعفوية الطفل .. لابد لي أن أرسمها في لحظة توحدٍ صوفي مع جسدها .. لا بد لي أن أرسمها على وفق هذه الرؤية , متجنباً اثارة المتلفي – المشاهد .. كل ما عليّ أن أبرز طيبة هذه المرأة , دلالها الأنثوي , جمال روحها من خلال جمال جسدها وتناسقه .. هذه هي الرسالة التي ينبغي لي أن أوصلها الى المتلقي .. وانني حين ارسم هذه المرأة الفاتنة اليوم أو غداً او بعد اسبوع فانني اثق ثقة عمياء أو بالاحرى أؤمن أيماناً قاطعاً انه يوماً ما سيتوقف فيها كل شيء .. يكف القلب عن الخفقان , ويذبل الجسد الذي سحر الفنانين وغيرهم .. ويزول تورده الاخاذ , متخشباً ومكتسباً اصفرار الشمع .. هي ذي الحقيقة التي لابد أن أضعها نصب عيني .. وهي ذي الديدان تنتظر موتنا المؤجل كي كي تبدأ في نهشنا فهنيئاً للديدان !!

وانا افكر في هذا الامر صممت ان ارسم لوحةً فنيةً خالدةً , تبقى على مر الازمان والدهور , عملاً فنياً لا يأكله الدود .. تكونم هي بطلة العمل , أو الكائن الانساني الوحيد فيه .. اذاً لابد لي ان اجعل حياتي مذهلة , وان امتص نخاعها كل يوم , لا بل كل ساعة .. طالما ان الديدان آتية لامحالة في خاتمة المطاف .. وهكذا قررت ان ارسمها , ارسم فردوس , غادة الفنانين , واحولها الى لوحة خالدة شأنها شأن لوحات الرسامين الكلاسيكيين .. الذين تركوا لنا آثاراً فنية لا نجرؤ على نسيانها او تجاهلها مهما تقادمت الأعوام ..

وأخيراً قررت أن اكسر الصمت قائلاً وشفاي تكادان تلامسان عنقها الناعم ..

- لابد انكِ جمعتِ معلومات كافية عني .. سيرتي الذاتية , كما يسمونها الآن .. اغرب , بلا زوجه ولا أولاد .. أخوتي وأخواني قلما يزورونني هنا .. أنا اصغر أشقائي وشقيقاتي .. هم يعانون من أمراض مزمنة .. وبعضهم أجرى عمليات جراحية في العيون والمرارة والرئتين .. أنا أخمن , انكِ تشعرين بحريتكِ هنا .. كما لو أنكِ في بيتكِ .. ما من زوجة غيور تراقبكِ ساخطةً غاضبةً بعينين مفتوحتين على وسعها .. وما من احد يسرق النظر اليكِ .. المكان دافئ ومريح .. هكذا اشعر به .. ربما يبدو لكِ خانقاً ورطباً لأنكِ لم تعتادي السكن في مكان ضيق كهذا .. وعلى أية حال , يستطيع المرء أن يقضي فيه بعض الوقت , كي يريح أعصابه .. غالباً أقصد متنزهاً قريباً في الصباح الباكر , وأتمشى بين الاشجار .. أشعر أن الأنسام الطرية تبكي بين الاغصان .. أدوس الورق الاصفر المتيبس تحت قدمي .. أتذكر قول شكسبير (( يا بلادي متى تستعيدين صفائكِ ؟ )) أشعر أن العالم من حولي يضحك ساخراً مني .. هل جاء هذا الرجل الخمسيني ليعيد النظر في ماضيه , هل نتحدث عن ماضينا بندم , باستعلاء .. هل نغلفه بغلالة من الحزن هل نعيشه ثانيةً بنوستالجيا مدمرة .. أشجار المتنزة الهرمة تشعر بروحي الميتة , وطاقتي المعطلة .. ومثلما نبكي على بلادنا التي شوهت ومسخت.. يبكي الشجر فتبلل عبارته المنهمرة الممرات الإسمنتية بين صفوف الاشجار.. وأنا أتمشى بين الاشجار الخريفية , أشعر بقلبي ينزف , أصغي لخشخشة الورق اليابس المنسحق تحت قدمي , استرجع سنوات العمر المنصرم ..ذكريات الناس الذين مروا في حياتي , أو مررت في حياتهم .. أحدث نفسي قائلاً : هو ذا مصيري .. أسير متوحداً في أحزاني ، اجوب ممرات المتنزه بخطوات متعبة ، اعب النسمات الطرية التي لم تتلوث بالدخان , ابذل قصارى جهدي كي احافظ على هدوئي .. وسلامي.. في بعض الاحيان اشعر ان الاشجار تهدهدني , تمنحني اصرارها على البقاء فبالرغم من الحرائق التي تندلع هنا وهناك , ما زالت تزين حدائقنا وبساتيننا ومتنزهاتنا.. هي ما زالت شامخة , باسقة , قاتمة الخضرة .. ومازالت تصر على بقائها وحيويتها رافضةً أن تتحول الى حطب .. حطب يابس يدفئ البردانين في ليالي الزمهرير .. وها انذا الآن أجلس في مشغلي ولصقي امرأة فريدة , طاهرة الروح والجسد .. ترتدي ثوباً اسود انيقاً , يشبه كثيراً ثوب كليوبترا , ذلك الثوب الذي رآها فيه انطنيو اول مرة .. قلت لكِ قبل قليل ان هذا الثوب يناسبكِ تماماًَ .. والآن اضيف قائلاً أنا أحبكِ في هذا الثوب .. تقويرته التي تكشف جيدك الابيض كالرخام .. انني احد الموسلين لأنه يلامس جسدكِ الابيض .. لا يذهب بكِ الظن انني سأطلب منكِ ان تكوني ملكاً لي .. انا لا اريد امتلاكك , ولا استعبادك .. ولا حتى الزواج منكِ .. اريد فقط ان تكوني بجواري , قبالتي , على مقربة مني .. الى يميني أو يساري أو حتى خلفي .. أنما دوماً في مخيلتي , وفؤادي . كوني ملهمتي , موزيتي .. امنحنيني الدفء والسكينة .. لاحظي ان كلينا يشعر ان الآخر يمنحه الحنان والطمأنينة .. هذه هي العلاقة الانسانية الحقيقية بين رجل وامرأة .. علاقة حميمة , نبيلة , أصيلة .. لا أريد أن أتغزل بجمالك طلعتك , وبريق عينيك اللوزيتين , أو نعومة جيدكِ الأبيض , أو لدانة خصركِ النحيل .. مع انكِ تملكين هذه الصفات كلها .. وربما تخفين ما هو أجمل وأبهى.. اريدكِ أن تبعثي في نسغ الحياة الذي شرع يضعف , ويتباطأ .. ويكاد يتوقف .. ربما أكون بالنسبة لكِ هو الرجل الذي سيغير حياتك .. حسن , ربما أكون كذلك .. لكنني أود ايضاً ان تكوني كذلك بالنسبة لي .. انا الذي اعيش غربةً داخليةً .. في مشغلي المنزوي هذا .. لا يخطر ببال امرىءٍ ان رساماً مولعاً بالحياة يمكن ان يتخذه مسكناً له ومكاناً لإبداعه .. في هذا المكان الذي ربما ينعته احدهم بكونه لا يصلح لسكنى البشر طرأت على بالي أجمل الاحلام , واعذب الرؤى , واحلى الامنيات .. غالباً افكر بابي العلاء المعري , رهين الحبسين .. كتب ابو العلاء ( رسالة الغفران ) ليهرب من محبسه .ز لكنه بعد ان طكاف في اقطار السماء عاد الى محبسه الارضي .. اما انا فاوشك ان احلق معكِ في دنيا الخيال .. نحلق معاً في السموات السبع .. ارسمك بثوبك الاسود نفسه مع جنحين صغيرين كأي ملاك .. تراودني رغبة ملحة ان ارسمك في الف لوحة ولوحة .. كي استبقيك اطول مدة زمنية .. سنتبادل الادوار , بعكس الحكاية الشهيرة .. سأكون أنا شهرزاد وتكونين أنتِ شهريار .. لن تهدينني بالقتل ولن اخترع القصص أو ألقيها كي أطيل مدة مكوثي بين الاحياء .. سنعقد صفقةً مشتركةً , انتِ القاتل وانا الضحية الت تتوجس خيفةً من الموت الذي يتربص بها كل ليلة .. الا انها تريد ان تؤجله في كل مرة .. وفي كل لقاء .. وفي كل لوحة .. سنعيش معاً , نأكل معاً, ننام معاً .. نعم , ننام في فراش واحد ونتدثر بدثار واحد .. وأذا ما إتسخت ثيابنا نغسلها وننشرها على حبل الغسيل .. قد نبقى ساعات عدة عاريين , بريئين , طاهرين .. لن نسمح لنزوات الجسد أن توقعنا في شباكها .. سنتخلص من نزوات المراهقين , ونزق الشباب .. وسنكتفي بالابداع .. لن أجعلكِ تتبرأ من أنوثتكِ .. ولن أسمح لكِ أن تنكرين جسدكِ البض , العاجي .. مع أن الجنس هو احد التابوات الثلاثة التي سجننا فيها المجتمع , الا اننا لن نتخلى عن كوننا انا رجل وانتِ امرأة .. فكلانا يعرف الممرات السرية للرغبة .. وكلانا يعرف كيف يستسلم لأحتياج شفتي الآخر .. وطالما ود كل منا أن يستسلم لشراسة العشق .. فالعشق هو الفعل الانساني .. ستتاملين رسومي ولوحاتي وتخطيطاتي الاولية .. وسأجعلكِ تتوضعين ألف مرة ومرة .. كل لوحة تختلف عن سابقتها .. سأرسمكِ بهيئة موناليزا , وبهيئة فينوس النائمة في لوحة جورجيوني , وبهيئة جالاتيا في لوحة رفاييل , وبهيئة الام في لوحة المهد لـ بيرتا موريسو .. او حتى كواحدة من راقصات البالية في لوحات ديغا .. سأرسمكِ بهيئة شهرزاد , أو شبعاد , أو إينانا .. سأرسمكِ عاريةً , وفي لباس البحر , وبريول المطبخ , وزي الممرضة , وبدلة المحاربة , وثوب الام المرضع .. وثوب الفلاحة , وجلباب قارئة الطالع .. أريد أن أخرج من محارة العزلة التي كادت تنغلق عليّ .. أريد أن أغادر عزلتي , عبر الابداع , عبر التخيل , عبر الرؤى والافكار والاحلام .. لا أريد أن أغادر مملكتي كما فعل ابو العلاء المعري .. فلست من هواة السفر ولا من مريدي الهجرة .. أريد أن تكون رسومي من الداخل .. من داخل البلاد المحتل , بين طفولة الامكنة وشيخوخة الزمن .. لا

أريد أن يصفني النقاد مع اولئك المثقفين الذين يرتجفون هلعاً من مناخ الحرية الجديد .. أريد أن أرسم على وفق ما أشتهي .. وأن أحيا حياتي على وفق ما أشتهي .. أليس هو تناقض لافت, أن تكون حرية المثقفين في بلدٍ محتل أكثر مما كانت عليه في ضل حكومة مجانين وعملاء في الوقت نفسه .. انها مفارقة مدهشة , أليس كذلك ؟

انه شيء , مؤلم حقاً أن يراق الدم في حفلة عرس .. أو حفلة تنكرية .. الشبان والشابات يرقصون بمرح .. أذرعهم تطوق أحدهم الآخر .. يهمسون لأحدهم الآخر بكلمات شاعرية , رومانسية . كما لو أنهم في حلم .. الموسيقى تصدح منبعثةً من مكان خفي .. هنا يكمن الرعب الأعظم والسحر الأعظم .. المحتفلون في نشوة الرقص وبهجة الحياة .. يتلذذون بالأضواء الوامضة والأجساد المتمايلة .. أما المجرمون فلا يطيب لهم , ولا يسكت عواء أرواحهم سوى صور الأشلاء البشرية المحترقة , المتفحمة .. تحوم حولها أسراب الذباب , وتغلفها سحب الدخان الاسود الكثيف .

اللوحات ياعزيزتي فردوس , كالنصوص الأدبية كائنات مهاجرة .. مع أن مبدعيها غالباً ما يكونون من كارهي السفر والهجرة .. ثمة أمثلة كثيرة في بلادنا وفي أوربا وفي العالم كله .. أمنيتي أن يسافر أبداعي الى العالم كله .. وهذا يعني أن تسافر أحلامي .. أحلامي لا تختلف كثيراً عن أحلام المعري , أو هنري ردسو , أو توماس مور أو كالفينو .. فأنا من دونكِ لا أستطيع أن أفعل شيئاً البتة .. أنتِ التي ستطلقين أحلامي في الفضاء .. ستبعثين بها الى عالم الآخرين .. سيراكِ البشر في كل أصقاع الدنيا على شبكة الأنترنيت .. سيرون جسدكِ وروحكِ.. ويفهمون حزنكِ ويأسكِ وفرحكِ وهذيانكِ .. سيرون الخراب الذي حل بنا .. سيرون أجواء الف ليلة وليلة .. وسيرون الحيدر خانة .. وزقورة أور .. والجنائن المعلقة .. والاهوار التي عادت اليها الحياة .. ودجلة الذي تغزل به الجواهري . في بلدنا الذي يضيع فيه كل شيء لا أريد أن أفقد فني .. انها خسارة كبرى أن يضيع أبداعنا في هذه الفوضى .. لابد لنا أن نؤسس شيئاً ما يخلدنا .. يبقينا في ذاكرة الزمن .. أنتِ وأنا , يا عزيزتي , سنخوض هذه المغامرة الجريئة .. سنتحدى كل الظروف القاسية .. سنجوع , ونبرد , وتداهمنا الحمى .. الا اننا لن نستسلم .. سنردد مع ذلك الشاعر الروسي : (( عليك أن تبقى حياً , تبقى حياً فقط – والى النهاية ,)) مري بنا أن نجسد لوعتنا , وحرماناتنا , وحسراتنا , ومخاوفنا .. وفي المقام الاول حبنا النبيل .. لا بأس أن تتبلل فرشاتي بالدمع , وانا أرسم الحال السيء الذي آل اليه بلدنا والوضع المأساوي الذي يعيشه شعبنا .. لا تسيئي الضن بي , فتحسبين أنني لا أضمر لكِ الحب العميق , الجارف .. أن حبي لكِ اقوى من أن أطمع في وصالكِ .. سمه ما شئتِ , سمه وجداً صوفياً , حباً عذرياً , حباً افلاطونياً .. انه شيء بغيض ان ةنتخلى عن اطياف الوجد المقدسة , ونلهث راكضين خلف سراب الجسد المبهج للحواس . الذي سرعان ما يتحول الى كومة عظام نخرة .. اسمعي , عزيزتي , اليس عظمة اللسان تكمن في قدرته على الاحتفاظ بنقائه وطهره في كل الازمنة المضادة , في أزمنة الرشوة والفساد والخسة ؟ انا , يا عزيزي , اقسو على الحب إكراماً للخلف الفني .. لا أريد أن أقول لكِ أنني أشتهيكِ في مستان الموسلين عديم الاكمام هذا .. وان نهديك الصغيرين مثيرين وان المرء لا يستطيع أن يغمض عينه وهو يرى جيدكِ الرخامي .. لا , لست رجلاً ساذجاً كي اقول هذه الكلمات الرقيقة .ز لست عاشقاً مذنفاً أدرات له حبيبته راسه , وما عاج يعرف يمينه عن شماله , كما يقول الناس عندنا .. انا رجل مسكون بالأحلام , والرؤى , والفانتازيات .. بامكاني أن أرى حلماً في كل إغماضة عين .. وأتخيلكِ تلعبين دوراً ما كل دقيقة .. أقصد الهيئة التي تتخذينها .. دور الام , او الحبيبة , او الزاهدة , او الفلاحة , او عازفة الكمان , او الزوجة التي تنظر زوجها الذاهب الى الحرب .. لا أملك وقتاً كافياً لأبذره .. قماش ( الكنفا ) ينادي فرشادتي المغموسة باللون .. لابد لي أن اجترح طرائق شتى للرسم .. وأن أرسم بتقنيات مختلفة في كل مرة .. لاأريد أن أرسم موضوعاً واحداً , وبالطريقة ذاتها .. لابد لي أن أغير ألواني وموضوعاتي واحلامي .. لا أريد لألواني أن تكون مضجرة , ورتيبة , وباعثة على الغثيان شأنها شأن مسلسلات التلفاز الساذجة .

لا أعرف كيف أنتهى لقاؤنا الاول .

في يوم واحد , أنا وهي تلقينا دروساً عدة :

درساً في الحب .

ودرساً في الغواية .

ودرساً في الحياة .

ودرساً في الرومانس .

ودرساً في الرسم .

أتذكر أنني رافقتنها في سيارة اجرة اخذتنا معاً الى شقتها السكنية .. لم تكن تقيم في مكان قصي .. وصلنا بعد عشر دقائق تقريباً .. وحين اقتربنا من مسكنها طلبت من السائق ان يتوقف.. وقبل ان تودعني ببسمة طافحةٍ بالامل الا انها تشي بحزن شفيف , اشارت بسبابتها اليمنى الى ناحية الشرق قائلة : (( اسكن هناك .. في الاعالي ..)) كانت شقتها في الطبقة السابعة .. وحين شرعت تدوس بلاطات الرصيف رفعت يدها وحركت اصابعها الطويلة بتلك الحركة الرقيقة التي غالباً ما تقوم بها فتيات عصرنا .. حين يودعن زميلاتهن او أحباءهن ..

هكذا أنتهى لقائنا الاول .. كان لقاء فريداً , غريباً نادراً ما يجود القدر بمثيلٍ له ..

زارتني ثانية بعد ظهيرة يوم مشمس من أيام كانون الاول ( ديسمبر ) . لم تاتي بذلك الفستان الاسود عديم الكمين , كما توقفت انا اراها .ز بل بتنورة سوداء وتي شيرت اخضر داكن .. وهذه المرة ايضاً كان زيها مثيراً .. وكان اللون الاخضر الداكن يناسبها تماماً .. وبدت هي , الآن , وكما في اول زيارةٍ لها , غضة , طرية العود , نابضة بالحيوية ومثيرة ايضاً ..

وفي المرات التالية اكتشفت ان الالوان كلها كانت تناسبها تماماً .. وكانت ترتدي , في الاعم الاغلب , تنورات هفهافة تصل حتى الركبتين , وقمصان وبلوزات وتي شيرتات ضيقة تبرز نهديها الصغيرين .. الا انها بسبب ضيق القميص او البلوزة او التي شيرت يبدوان كبيرين.. وجذابين ..

في الزيارات اللاحقة , اكتشفت انها تعيش وحيدةً مع امها العجوز المصابة بداء السكري.. اما اشقاؤها فكانوا قد اثاروا الهجرة منذ عقد ونصف .. كانت تعيش هي وامها على الحوالات المصرفية التي يرسلها الابناء الذين ضاقت بهم مدن العالم فراحوا يتنقلون من مدينة الى مدينة ومن بلد الى آخر .

لم تكن فردوس ترفض لي طلباً .. كانت موديلاً ممتازاً , وشابة ذكية وطيعة وبسيطة وطيبة القلب .. لسوء الحظ لم تستطيع ان تكمل دراستها في علم الاجتماع .. بسبب الوضع الامني السيء .. كان قد بقى على تخرجها عام واحد .. ومع انها اجلت دراستها الا انها استمرت في مطالعة كتب علي الوردي .. وكانت تحفظ فقرات كاملة من كتابه ((مهزاة العقل البشري )).

كانت تطيعني لا كصديقة , ولا كزوجة بل كعبدة او جارية .. كانت تدلك عضلات ساقي اليسرى التي يصيبها الخدر من جراء العمل وقوفاً ..

يبدو انني سحرتها , او قل روضتها .. لانها كانت تلبي طلباتي كلها . كانت تخلع ثيابها الخارجية وتبقى بالكورسية والسروال الداخلي وغالباً بقميص النوم .. وغالباً تتعرى تماماً .. اذا تطلب الرسم ان تتوضع امامي هكذا .. لم أمسها ابداً .. ولم يكن بيننا سوى ذلك العناق الانساني الحميم والمصافحة الحارة اللذين نتبادلهما عندما نلتقي .. كانت قد اطمانت لي , وامنت جانبي لم أكن يوماً واحداً من اولئك الرجال النزقين الذين لاهم لهم سوى اشباع غرائزهم الحيوانية .. لايهمهم ما اذا كان انجازهم الفني جيداً او مقنعاً .. بل همهم الرئيس هو ارضاء حواسهم واطفاء ظماهم .

وفي الشهور التالية نذهب للتبضع ونختار ثياباً واكسسوارات وشالات من اجل رسم لوحات جديدة .. كانت ( فردوس )تحترم ذوقي كثيراً .. وانا لا اغالي اذا ماقلت ان ذوقينا كانا متشابهين , او متطابقين , في اغلب الاحيان .. كنا نختار التنورات والقمصان والفساتين والبلوزات الصوفية والمعاطف المكسوة بالفراء .. وحتى حمالات الصدر والسراويل الداخلية .. لم نكن ننتقي الفصالات المناسبة حسب بل حتى الالوان .. كانت فردوس تفضل الثياب الداخلية السوداء .. اما انا فكنت افضل تلك التي تشبه لو ن بشرتها البيضاء الشاحبة نوعاً الذي يبدو لي غالباً قريباً من لون الحمص , او البطاطا ..

ومع انني تعلقت بـ ( فردوس ) كثيراً لا لانها كانت موديلي المفضل طوال الشهور العشرة الماضية , وليس لأنها ساعدتني في انجاز ثلاثين لوحة في الاقل .. الا انني ندمت كثيراً لانني عاملتها بفظاظة غالباً , وربما بقسوة او وحشية اذا شئتم .. كانت فردوس ملهمتي .. ساحرتي .. فردوس هي المراة الوحيدة التي وقفت الى جانبي .. هبت لنجدتي .. بينما كان الريح تزمجر

وهاتان المهنتان , الانثوية والفن تهتمان نستحق عليها , في نظر السفاحين القتل والسباية في الخارج .. واتلانفجارات تتوالى .. وزجاج النوافذ يتكسر من جراء العصف .. ذلك انني ادركت من زمن بعيد ان الحب الحقيقي هو ذلك الذي ينمو ويترعرع على شفير الموت .. ومن لم يواجه الموت لا يستطيع ان يصمد امام الحب .. الموت والحب كلاهما حقيقة رهيبة , عبثية , غامضة .. لا نستطيع ان نفسرها , ولا ان نفك مغالبتهما .. اما فردوس فكانت المفتاح الذي فك كل مغاليق حياتي .. لم يعد يخيفني شيء .. لا القتل ولا الاختطاف .. ولا التعذيب ..

مرة ً او مرتين قضت ( فردوس ) ليلتها في مسكني .. نامت جالسةً على كرسي عتيق .. وفي الصباح ندمت على فعلتها تلك .. لانها عانت من تشنج عضلي في رقبتها ..

كانت تاتي الي , كدابها , ضاحكة , متهللة الاسارير .. ترمي حقيبتها الجلد على الطاولة المستديرة المبقعة باثار اقداح الشاي وتطلب من اطفىء سيجارتي لانها تكره رائحة التبغ .. اما انا فأترك عملي , وامسح بالقميص القطني المخطط , الذي يشبه كثيراً قميص بيكاسو , في صورةٍ ذائعة الصيت له .. امسح اصابعي بالقميص الملطخ ببقع الزيت والاصباغ .. اقترب منها .. اعانقها بحرارة .. ارفع الشال الحريري عن راسها .. اداعب خصلات شعرها القصير .ز نتحاور دقائق معدودات .. ثم استأنف عملي من جديد ..

كنت اوبخها بقسوة , وكنت اجلدها , اذا صح التعبير لانها لاتتخذ الوضع الذي اريده .. وغلباً تشكو من تشنج عضلي في عضلات ساقيها بسبب جلسة ما ..

والحق يقال , فردوس امراة نادرة .. وان مواضبتها على المجيء الى مشغلي في المواعيد المقررة شيء يبعث على الاحترام والتقدير .. لا ليس المجيء .. وحده , بل الاصرار على المجيء , او الالتزام بالمجيء .. لانه يندر ان ةتجد موديلاً من هذا الطراز من النساء المنشغلات دوماً بترشيق ابدانهن وتحسين مظاهرهن الخارجية ..

هي في الارجح فهمت الرسالة التي انوي ايصالها الى الملتقي – المشاهد .ز ليس هذا وحده , بل آمنت بها .. وراحت تدافع عنها .. لانها سمعت انتقادات عديدة عندما عرضت بعض لوحاتي في معرض اقامته رابطة الفنانين المشاكسين .. وهي رابطة تشكلت مؤخراً , تعرض اعمالاً فنية مثيرةً للجدل .. في المعرض التفتت نحوها الاعناق , وطاردتها نظرات فضولية واخرى شزرة من كل صوب .. كنا انا وفردوس نشهر سلاحينا في وجه القتلة ..

فردوس تشهر انوثتها .

وانا اشهر فني

الا ان تلك الانتقادات القاسية لم تستطيع ان ةتضعف حماسة ( فردوس ) للتوضع امامي .ز لا انا ولا هي كنا نكترث لمسألة الربح والخسارة .. لم تستطيع الكلمات الساخرة , والنابية غالباً , ان تحرف جسورنا .. او تمحوا اسمينا .ز اسمي واسم فردوس .. مع اننا كنا نبيع لوحاتنا لتاجر في ( الكرادة ) .ز الا ان وضعنا المادي ظل سيئاً .. وكنا نعيش غالباً عيشة الكفاف .. قررت مؤخراً , ان اترك التدخين بسبب تاثيراته السلبية على صحتي وبسبب وضعي المادي المتردي ..

انقطع التيار الكهربائي منذ يومين .. وشح الماء .. هي ذي فردوس كحمامة وديعة تهدل في مسكني .. كان من عادتها ان تترنم بالاغاني وهي تتمشى هنا وهناك حافية القدمين , آثرت ان تحتفظ بفتنتها الادبية , وعفويتها الخالدة وكشأنه , دوماً , مازال جسدها يحثني على المجيء .ز ما زال يرغمني على التورط العشقي الذي لم استطيع ان انجو منه .. كانتى تقودني دوماً , الى العشق , الى الحاضر .. اما انا فأقودها الى الفن , الى الابدية .. هي ذي .. تناديني من وراء الباب الحديد الصدىء .. فأملأ لها دلو الماء من الحنفية الوحيدة .. وحين تخرج من الحمام تكون (( كمنجلٍ صيغ من فضةٍ , يحصد من زهر الدجى نرجسا )) .. بالمناسبة كانت (فردوس) تتطلخ غالباً بعلب الصبغ بسبب ضيق المكان ..

اما انا فأقف , الآن , خلف الباب الصدىء , أحمل المنشفة التي ستلفها حول جسدها باذخ الأنوثة ..

أرجوكم , لا تتعجبوا , اذا رسمت فردوس واقفةً امام المرآة .. لا شيء يغطي جسدها سوى المنشفة البرتقالية .. اما شعرها فما زال سبللاً , كشأنه حين إلتقينا أول مرة في مساء جميل من يوم شتائي معتدل البرودة ..

هي ذي فردوس , الآن على غرار فينوس , أو عشتار ، أو اينانا , , تخصب الكون وهي تعصر شعرها الندي , شعرها الذي يتضوع منه عطر إلهي .. تتأمل صورتي المنعكسة في المرآة .. انا الذي شعرت دوماً أن لا أريد أنني أغادر عالمي .. وسأبقى دوماً في مشغلي , الذي تحول بمجيء هذه الحورية الجميلة , الندية دوماً , الى فردوس أرضي

يمامة الرسام -بقلم د علي عبد الامير صالح-رسوم د غالب المسعودي-القسم الرابع




لم أكن يوماً مهووسا بالنساء , أو الموديلات , اذا جاز التعبير . بل هن اللواتي كن يطاردنني , ويتملقنني , كي أرسمهن , ليس على وفق ما يشتهين هن .. بل على وفق ما أشتهي أنا .. الواقع , كنت أعد شروطاً أولية , وهذه الشروط يعقبها شروط أخرى قبيل البدء بالرسم , وغالباً أضيف شروطاً ثالثة خلال عملية الرسم .. في سبيل المثال أنا الذي أختار الزي الذي تتوضع به وحتى فصاله .. وأنا الذي أقترح تسريحة الشعر .. وحتى وضع الجلوس .. أو الوقوف , أو الانحناء , أو التكور , أو الاستلقاء .. وكذلك حركة اليدين والساقين .. وحركو الوجه وزاوية الرسم وما الى ذلك .. غالبيتهن , كن يقبلن بشروطي الأولى , وهي بسيطة على اية حال , الا أن بعضهن كن يرفضن شروطي التالية التي كن يحسبنها قاسية , ومجحفة , ولا شرعية .. على ان بعضهن كن ينعتنني بكلمات قاسية , فظة , وتارة يتهمنني بكوني رجلاً ظالماً , مستبداً .. على ان اكثر النعوت التي سمعتها رسوخاً في بالي هي انني رجل بارد جنسياً!!

لم أكن أتنازل عن شروطي البتة .. أبقى متماسكاً بها محتفظاً بآرائي ووجهات نظري الفنية .. أن وهم التفوق , ربما , هو الذي يجعلني صارماً , صعب المراس .. لم أضمر الضغينة لأي واحدةٍ منهن , ولم أكن أقصد الاساءة اليهن , أو أجرح كرامتهن , أو كبريائهن .. كنت أقدر عفويتهن , وبساطتهن , وجمالهن , وأنوثتهن , أناقتهن .. الا أنني من الناحية الاخرى صعب الإرضاء , دقيق في أختياراتي .. لهذا كنت أتمسك برأيي , واقترح زياً ما , أو وضعاً ما .. أو حتى الأداة المنزلية التي تمسكها الموديل , أو الآلة الموسيقية التي تعزف عليها.. أو المنشفة التي تلف بها شعرها بعد خروجها من الحمام .. أو حتى نوع الجواد الذي تركبه .. ولا عجب فإحدى موديلاتي , وهي طالبة جامعية تدرس اللغة الألمانية , كانت شابة تهوى ركوب الخيل , أقترحت عليّ أن أرسمها وهي تمتطي فرسها الأبيض زعلى رأسها قبعة عريضة الحافات أشبه بالقبعة المكسيكية التي يسمونها عادة بـ (( الصمبريرو )) .

وكي أنمي ذائقة موديلاتي وأسهل عملية إقناعهن كنت أحتفظ , دائماً , بكراسات وكتب عديدة في مرسمي تضم صوراً ملونة وأخرى بالأبيض والأسود للوحات عراقية وعربية .. رسوم لفنانين من مصر ولبنان والعراق .. حافظ الدروبي , وجواد سليم , وفائق حسن , وعدلي رزق الله , وكذلك لوحات فنية من القرون الوسطى .. لوحات لدافنشي , ورفاييل , ومايكل انجلو , ورامبرانت , وفرمير , وفيلاسكيس , وجوشوا رينولدز , وكلود لورين وغيرهم.. ناهيك عن لوحات المعاصرين امثال غويا , وبيكاسو , وماتيس , وفان كوخ .. وكانت زائراتي الفضوليات , وفي ما بعد موديلاتي , يتصفحن بطبيعة الحال , تلك الكتب والكراريس ويتأملن أوضاع الجلوس والوقوف والاستلقاء ويقترحن أن أرسمهن في أوضاع رومانسية , حالمة , أمومية , أو وهن يطالعن كتاباً أو يحلبن بقرة .. بالطبع , لم يكن بمستطاعي أن آتي ببقرة الى محترفي , كنت أرسم البقرة من مخيلتي .. أما فراولين مها (وفراولين بالألمانية هي الآنسة – أعني الآنسة مها ) فقد فقد أضطررت الى الذهاب الى قصر والدها كي أرسمها في أصطبل الفرس الكائن في مؤخرة البيت , وعلى ضفة دجلة .. والآن اذكر ان احداهن ارادت ان ارسمها على غرار تلك السيدة في لوحة (( الغادة ذات الوشاح )) لرافاييل .. واخرى آثرت ان ارسمها واقفةً تضع يدها فوق بطنها , الكف اليسرى تستقر فوق اليمنى على غرار موناليزا دافينشي . واذا كان لابد لي ان اعترف فانني اقول انة تلك الفتاة كانت على غرار الجوكندا غامضة وهادئة .. ذات ملامح هادئة وانوثة مسالمة .. على انني احسد دافنشي الآن لاننا نادراً ما نعثر على سيدات يمتلكن صفات الجوكيندا ..

آثرت أن أكسر الصمت , وأستدرجها .. فبادرت قائلاً :

- هذا الفستان الأنيق .. يناسبك تماماً .. كما لو انه خيط لكِ وحدكِ .. رسمت بسمةً صغيرةً على شفتيها , وردت بفنج انثوي :

- حقاً ؟

شعت عيناها اللوزيتان ببريق أخاذ .. الا انني واصلت حديثي قائلاً بحزن :

- دائماً نصل متأخرين الى احلامنا .. ام ان احلامن هي التي تتأخر في مجيئها .. احلامنا تتعرض الى التهديد , والنسف , والاختطاف , والاجهاض .. وهي في طريقها الينا .. وغلباً تنحرف عن السكة وتذهب بعيداً عن وجهتها وغايتها .

أصغت اليّ بانتباه .. بدا على وجهها الرضا والإرتياح .. لاح على وجهها تعبير ينم عن فهمها لما قلت .. كان في كلماتي إيحاءات واضحة راقتها .. فأردفت بعد قليل وهي تشبك أصابع يديها , ولأول مرة أنتبه الى أضافرها المطلية بلون أحمر قان :

قبل أن تسألني ، إسمي فردوس .. زميلادي في الكلية يطلقن عليّ لقب غادة الفنانين .. رداً على كلامك , أقوا هذه المرة , جاء أليك الحلم , ماشياً على قدميه , ملففاً بمعطف جلد , قافزاً فوق العبوات الناسفة , دائراً حول الاسلاك الشائكة .. ومتجاوزاً الحواجز الكونكريتية ..

في زمن عسير كزمننا , يشق علينا أن نكبت عواطفنا .. ثمة طراز من البشر لا يستطيعون الانتظار .. أنا واحد من هؤلاء .. ثمة خيول شرسة لا يمكن لجمها .. هذه الخيول تجري في دمي .. بوسعكِ أن تشبهينها بخيول فائق حسن .. انها خيول قوية , جامحة , جميلة المنظر .. رشيقة القوام .. لا سبيل الى كبحها ..

أجلس يوماً أمام شلشة التلفاز وأشاهد الانفجارات والمآسي التي لحقت بالأبرياء فأسأل نفسي عن الاسباب , والدوافع , التي جرتنا الى هذا الحضيض .. أهو الأحتلال , أهي الظروف القاسية , الحرمانات , الحروب التي سبقت الاحتلال .. هل هل منحتنا قوات التحالف الحرية فعلاً . من الذي تمتع بالحرية .. أهو الشعب البريء , المظلوم , أم الأرهابيون القساة ؟ أحاول أن أفهم ما حدث لنا تماماً .. أستعيد في ذاكرتي كل ما قاله السياسيون الا أنني لا أصل الى قناعة كاملة .. بدأ الشك يطاردني أينما حللت .. الهواجس تنتابني ليل نهار .. غالباً أقضي الليل كله مفتوحة العينين .. ليس بسبب أصوات الانفجارات ودوي المدافع حسب , بل لأنني شديدة القلق على مستقبل بلادنا .. ما زال المشهد ضبابياً .. ومع هذا أنا أؤمن بأن حياتنا ما زالت جميلة .. وما زال هناك أناس طيبون .. وأعتقد أننا معشر النساء ما نزال قادرات على تفجير الأحاسيس الجميلة في بعض الرجال طبعاً .. لأن بعضهم حجر أصم لا سبيل إلى تفتيته ..

أعجبني كلامها .. كانت تتكلم كأي امرأة واعية ومثقفة .. ومع أنها كانت ما تزال صغيرة السن , نوعاً , الا انها كانت تتحلى بإدراك عميق , وفطنة عالية .. قلت آنفاً , انني لم أستطع ان أخفي إنبهاري .. لابد انها لاحظت ذلك على ملامح وجهي .. وحين شرعت تتحدث سعدتُ أكثر .. لأن الجميلات غالباً ما يكن ضيقات الأفق , أو على قدر قليل من الذكاء , أو حتى شاردات الذهن .. وعلى أية حال , غدوتُ مبتهجاً , متورد الوجنتين .. شعرت بالدفء والحميمية التي منحتها هذه المرأة الفاتنة للجو البائس الذي كنت أعيش في كنفه .. هو ذا أنا في مواجهة الغواية .. هو ذا أنا مجرداً من الاسلحة كلها .. لاثقافتي تفيدني , ولا موهبتي تسعفني , ولا وقاري يهب لنجدتي .. ولا حتى سنواتي الخمسين التي سلختها في سنوات ملؤها الحرمان .. وفضلاً عن كل الهزائم التي تعرضتُ لها هي ذي امرأة ساحرة الجمال أقبلت لتمتحن كائناً ضعيفاً مسخته الحروب , وشوهته الحرمانات , مسلوب الارادة ؛ أو لعلها أقبلت وفي نيتها أن توقعه في شباكها من أول لحظة .. وربما لتضيف هزيمةً جديدةً الى هزائمه الكثيرة .. أو تضيف جرحاً ناغراً آخر الى جروح فؤاده الكسير .. فؤاده المفجوع .. الذي يختزن بداخله المرارات كلها , والفواجع كلها .

قرأت يوماً أن النساء عموماً يفضلن الرجل الذي كانت في حياته امرأة أخرى .. أما هذه المرأة فربما اختارتني انا تحديداً بعد ان جمعت معلومات كافية عني .. وانا في رأيها , ربما واحد من المهزومين المدمنين , أو المزمنين .. قلتُ ( المدمنين ) لأن الهزائم غالباً ما تلازم المرء فلا يستطيع فكاكاً منها .. أي انه لا يستطيع أن يتخلى عنها .. فتتثبت به كالإخطبوط ..

كان جو المشغل الصغير رطباً وخانقاً فآثرت صاحبة الفستان الأسود أن تخلع منديل رأسها الحريري .. باللون ألفسقي .. بعد ان خلعت معطفها الجلد حال دخولها وعلقته على المشجب كما ذكرت في مستهل قصتنا هذه .. ولأول مرة شعرت أن القدر منَّ عليَّ بامرأةِ فريدة , استثنائية .. وبدت في فستانها الموسليني عديم الكمين آية في الجمال والأنوثة والرقة .. وأنا أزعم أن أي امرئ يملك موهبة الرسم لن يستطيع أن يقاوم غواية الألوان وهو يرى امرأة جاءت لتزيل الرماد من فوق جمرات روحه التي أوشكت على الانطفاء ..

- لا تتعجب من جرأتي .. لست زائرة فضولية جاءت لتتفرج على لوحاتك .. أنا امراة من عامة الناس , لكنني أتذوق الفن التشكيلي .. وأرتاد المعارض ومشاغل الرسامين ..

- اهلاً وسهلاً بكِ .. ومرحباً بجرأتكِ .. هل قلتِ ان أسمكِ فردوس .. نعم .. فردوس هو إسمكِ .. يبدو لي أنني رأيتكِ من قبل .. ربما التقيتك فعلاً في زمن مضى .. او لعلك عملتِ موديلاً لأحد زملائي ..

- لا .. لم ألتقِ بك من قبل .. لكنني شاهدت لوحاتك .. وبورتريهاتك .. عملتُ مدةً وجيزةً لأحد أصدقائك .. كان هو متزوجاً من سيدة نبيلة .. وبسبب كثرة زياراتي لمشغله أصبحت غيورة جداً وهددته بترك منزلها .. كنت اسمعها وهي تنعتني بصفات قبيحة .. بالمناسبة , كانت لا تفارق مشغله عندما يكون هو منشغلاً برسمي .. كانت تعتقد أنني سأسرق زوجها منها.. لم تكن تحبذ أن ينفرد زوجها بالموديل .. أي موديل .. هكذا أخبرني هو .. يومياً تأتينا بخاتون جديدة .. هكذا كانت تصف كل امرأة تأتي الى مشغله .. لم أشأ أن أقوض حياته الأسرية .. فآثرتُ الابتعاد عنه .. رسم لي خمس بورتريهات في اوضاع شتى .. احد البورتريهات كان قليل الاحتشام نوعاً .. فغضبت زوجته وكادت ان تتلف اللوحة .. قالت له : لا يجوز لك أن ترسمها هكذا .. حفاظاً على سمعة البنت وإحتراماً لمشاعري .. كانت تعتقد انه اطلع على مفاتني .. او أنه أختار أن يرسمني وأنا أقف أمام مرآة الزينة بقميص نوم شفاف يكشف جزاً من صدري وشيئاً من كتفي اليمنى .. لم تكن تعتقد ان بوسع الرسام أن يرسم من خياله .. من دون ان يعتمد على شكل الموديل .. في الاسبوع الذي أنجز فيه هذه اللوحة كانت زوجته تؤم مستشفى قريب لمعالجة مرفق ذراعها اليسرى .. كانت تشكو من المٍ مزمن فيه .. لهذا لم تكن حاضرةً خلال التوضع .. أنا لا ألومها بطبيعة الحال .. الانثى هي الانثى .. مع أن نوال السعداوي تقول ان الانثى هي الاصل .. لوكنت في مكانها لشعرت مثل ما شعرت به .. من مسؤولية الزوجة ان تحافظ على زوجها .. والا ( طفش ) معظم الازواج حالياً يتعرضون للغواية ..

سمعنا دوي انفجار قريب .. تلته ثلاث صليات من الرصاص .. انتفضت فردوس وتلفتت مذعورة .. اقتربت منها وطوقتها بذراعيّ .. لا مست أصابعي زندها الابيض العاري الذي يعلوه زغب اشقر ناعم .. وقلت لها مطمئناً :

- لا تخافي .. عزيزتي .. الانفجار بعيد .. الرصاص سرعان ما ينقطع .. من يعيش في بلادنا ينبغي له أن يعتاد كل شيء ..

كان وجهها قد أمفهر , غابت البسمة التي وسمته , وأمست شفتاها شاحبتين ولاح الخوف على ملامحها .. غير انها قالت متلعثمة وكانها ترد تهمةً – لـ .. لستُ خا .. خائفة .. انا جريئة .. الا ان جسدي يخذلني .. غا .. غالباً ما يكون الجسد ضعيفاً , هشاً .. اما الروح فتكون صلبة , قوية ..

الانفجار وأزيز الرصاص خطفانا من أفكارنا , وقطعا علينا حوارنا .. وضعت رأسها على صدري وداعبت خصلات شعرها الناعم الذي كان ما يزال ندياً ..

بعد قليل استعادت هدوءها ورباطة جأشها .. قومت جذعت وابتسمت بسمةً رقيقةً , شفافةً.. وكأنها تعتذر لي .

- انها مجازفة , لا ريب , أن آتي الى هنا .. لكنها مجازفة لابد منها . هل ينبغي لنا أن نبقى في منازلنا منتظرين ساعة موتنا .. يدخل علينا رجل بلثام أسود ويشهر سلاحه بوجهنا ويطلق علينا الرصاص من دون أن يسألنا عن هويتنا .. ومن دون أن نعرف لماذا سينقلنا الى عالم الاموات بمجرد ضغطة على الزناد .. قبل اسبوعين سمعت عن مقتل مذيعتين تعملان في محطة فضائية عراقية .. وقبل ثلاثة ايام اختطفوا مترجمة تعمل لصالح شركة اجنبية .. ما الذي فعلته هؤلاء النسوة كي يحل بهى هذا ؟ ما هو الجرم الذي اقترفته ؟ لا أحد يغفر لكَ إختلافكَ .. انهم يغفرون لك كل شيء الا اختلافك .. حريتي هي نوع من الاختلاف عن بنات جنسي .. لا أريد أن أبقى سجينة المطبخ الكثيب .. وفي المساء أتفرج على شاشة التلفاز وهي تعرض صور الجثث الممددة وسط برك الدم , وأنا في حالةٍ لم أعرفها منة قبل : مزيج من الحزن والذهول والذعر والغثيان ..

ضممتها بحنان الى صدري .. داعبت لحم ذراعها اليمنى .. مسدتُ شعيرات أنسدلت خلف أذنيها .. داعبت قرط اذنها اليمنى .. وسألتها عن الحجر الكريم الذي زينه .. كان من العقيق الاحمر .. أخبرتني انها اضاعت قرطين جميلين نفيسين في العام الماضي عندما شقت طريقها راكضة وسط الزحام على اثر انفجار سيارة مفخخة في سوق شعبي ..

قالت لي وكانها تعترف امام كاهن :

- أشعر بالمتعة وانت تضمني الى صدرك .. أنت لا تمنحني دفء رجولتك كي تعريني بعد قليل وتبدأ: في أشباع رغبتك .. أشعر , الآن , أنك عوضتني عن حنان رجال كثيرين كانوا ينظرون الى جسدي بطمع واشتهاء .. هذه أول مرة أشعر بمعنى السكينة .. وكأنني طفلة رضيعة اعادوها الى حضن امها .. اسمح لي ان اكون طفلتك , وامنحني فرصةً كافيةً كي اشعر بدفء رجولتك ..

- فردوس , اشعر أنكِ تفهمينني جيداً .. مع اننا لم نتحاور كثيراً .. الا انني احس انه لا بد للرسام ان يقيم علاقةً وديةً مع موديله قبل ان يرسمها .. ليس بالضرورة ان يشبعها تقبيلاً وعناقاً .. الشيء المهم ان يستبطن احاسيسها , ويفهم ماساتها , حزنها .. يشاركها فرحاً , زهدها , يأسها , خيبتها , أسرارها الدفينة .. يداوي جراحها .. لا بد للرسام وموديله ان يكونا توأماً .. ان يكونا صندين .. أن يفهما أحدهما الآخر .. أن يتقاسما الطمأنينة والسلام الداخلي وراحة البال .. أن يتجاورا من دون كلام .. أن تكون لهما قضية مشتركة .. ثمة موديلات يجلسن قبالتي لا يبالين بالرسم على الاطلاق .. لا ينظرن الى اللوحة , أو البورتريه , ولا يبدين رأيهن في الألوان والخطوط .. انهن يتطلعن فقط البى ساعة الحائط .. ويتأملن حركة عقاربها .. وحين ينتهي الوقت البمحدد للرسم يطالبن بالأجر .. فيعدلن ثيابهن ويسدين شعرهن وينصرفن . أنا لا أكشف لكي سراً اذا ما قلت لكِ كنت ارسم موحسات ( الميدان ) في سبعينيات القرن الماضي .. آنذاك كنت أستأجر غرفةً حقيرتاً في زقان من ازقة ( الحيدر خانة ) .. أنتِ تعرفين , بالطبع , انه يصعب على رسامٍ شابٍ مثلي أن يستبقي بائعة هوى ساعات طوال كي يرسمها .. بائعات الهوى , كما تعرفين , غير صبورات .. وغالباً سليطات اللسان .. وتتخلل أحاديثهن كلمات فاحشة .. لكن حدث أن استبقيت احداهن .. كانت شابة في العشرين .. سمراء ذات غمازتين في الخدين وضفيرة احادية .. كانت ضحكتها اجمل ضحكة سمعتها في حياتي كلها.. يبدو انها كانت حديثة العهد في مهنتها تلك .. الا انني استطعت ان اقنعها ان تتوضع لي نحو تسع ساعات .. ثلاث ساعات يومياً .. كنت آخذها الى سطح المنزل القديم ذي الشناشيل .. وأجلسها على كرسي خشب عتيق اشبه بكرسي فان كوخ .. وابدأ بالرسم .. كان الطقس معتدلاً.. أواخر آذار ( مارس ) أو مطلع نيسان ( أبريل ) , اذا لم تخني الذاكرة .. هذه الموس الشابة أسديتُ لها معروفاً .. وأنتشلها من الحضيض الذي انحدرت اليه .. تركت مهنتها الحقيرة.. وجعلتها تقتنع بالمجيء الى أكاديميتنا .. كي تتوضع أمام طلبة الرسم .. زملائي في المرحلة الاولى والثانية .. وهكذا واضبت على المجيء الى أكاديميتنا .. وكان الطلبة يرسمون الموس الشابة ذات الضحكة الرائقة كخرير جدول .. لم