شبيه أرنست همنجواي
يتحدث أبو رياض عن كيفية اكتشاف الشبه الخلقي بينه وبين الروائي العالمي (ارنست همنجواي ) فيشير إلى ان الناس والمحيطين به هم الذين انتبهوا أولا إلى هذا الأمر لاسيما بعد ان نمت ذقنه ، ويتذكر حادثة غريبة وقعت له في أعوام الستينيات ( لايتذكر بالضبط متى )، حين وجد نفسه يشهر مسدسه نحو رأسه محاولا الانتحار ، بسبب تعرضه لوضع اجتماعي قاهر ، حيث تمت الوشاية بابيه معيل العائلة الوحيد آنذاك وكانت التهمة الجاهزة الموجهة إليه انه ساعد في تهريب احد كبار تجار اليهود الأثرياء إلى خارج العراق ، إلا ان أبا رياض لم ينفذ ما اعتزم عليه ، إذ وجد ابنه ذا العامين فقط وهو يحبو إليه في ظلمة الليل ، فوضع المسدس جانبا وقرر مواصلة الحياة ، على العكس من قرينه همنجواي الذي مضى بالمهمة قدما .
ويوما بعد يوم أحس أبو رياض انه يتواشج مع شخصية ارنست همنجواي ، لاسيما في مزاياه الإنسانية وعلى صعيد المغامرات أيضا وان لم يصل إلى الحدود الدنيا من تخومها ،كما يعترف ، فقد احترف مهنة صيد الأسماك على نهر دجلة ومن ثم على نهر الحلة ، وحول سؤال وجهناه إليه فيما إذا كان يعتقد انه الشيخ في رواية همنجواي الشهيرة ( الشيخ والبحر ) أجاب أبو رياض بتواضع جم ؛ كلا ، فانا أجد نفسي الصياد في النهر ، إذ ان البحر بعيد عنا ، ولم نتعرف في حياتنا سوى على النهر .
وقد بات معروفاً لدى الجميع ان حبكة رواية همنجواي (الشيخ والبحر) استقاها بناءً على تجربة شخصية له في صيد الأسماك على الرغم من الرمزية التي غلقت هذا العمل المهم الذي أهله للفوز بجائزة نوبل للآداب أبان فترة الخمسينيات .
وإذ استطاع (همنجواي) توظيف حيثيات تجاربه الشخصية ومغامراته في كتاباته الروائية والقصصية ، فان (أبا رياض) لم يتح له ان يفعل ذلك ، على الرغم من ان عملية استنطاقه الآن لم تكن بالمهمة الشاقة أو العسيرة ، فحديثه أشبه ما يكون بالمائدة العامرة التي تتوفر على شتى صنوف الأطعمة والاشربة والمقبلات ، وان احتوى بعضها على توابل كثيرة إلا ان محدثه يستطيع ان يختار وينتقي منها ما يشاء ..
* وبالنسبة للقوة البدنية التي عرف بها الروائي الأمريكي ، والتي أهلته لان يقوم برحلاته الشهيرة في مجاهل الغابات في أمريكا وأفريقيا بغية اصطياد الحيوانات المتوحشة ، بالإضافة إلى كونه ملاكما محترفا ، فان ( أبا رياض ) أصبح سباحا ماهرا في وقت مبكر من حياته ، وعرفه نهر دجلة وكذلك شط الحلة ونهر الفرات في منطقة سدة الهندية ، وحصل على بعض بطولات السباحة واحترف الملاكمة أيضا متدربا على يد الملاكم ( محمد سلبي ) بطل العراق بالملاكمة في أعوام الخمسينيات كما برز في عدد من الألعاب الرياضية التي تتطلب القوة والجهد ، وقد حدثنا احد أصدقائه من الأدباء انهم كانوا قد خرجوا للتو منتشين من سهرة في مقر اتحاد أدباء الحلة ، فانتبهوا إلى جذع ميت لإحدى الأشجار يقف منتصبا بتحدي على مقربة منهم أثناء خروجهم فما كان من (أبي رياض ) المنتشي إلا ان أحاطه بساعديه القويتين وسط صياح الأصدقاء وتشجيعهم له بعبارة؛ همنجواي .. همنجواي ! وبعد قليل من الجهد استطاع ( أبو رياض ) ان يقتلعه من جذوره !
Oh my god أو الله حي
ما زال في جعبة أبي رياض الكثير من الذكريات التي يتوق إلى البوح بها ، وتطرق حديثه هذه المرة إلى المرحلة التي تلت تأميم النفط العراقي في أوائل سبعينيات القرن الماضي ، حين أصدرت الحكومة ما أسمته ( سندات الصمود ) آنذاك لتعطيها للموظفين وتستقطع منهم مبلغا قدره 3 دنانير من الراتب وكان هذا المبلغ يؤثر تأثيرا كبيرا على مدخول العائلة ، فنظم ( أبو رياض ) أغنية ( الله حي ) وهي موجهة إلى الخالق لكي يساعده على الخروج من هذا المأزق المادي ، وقام بتأليف الأغنية باللغة العربية والانجليزية التي يجيدها ، وبعد السقوط وبالتحديد في العام 2007 أجرى تجديدا على هذه الأغنية في مضمونها ولحنها ، إلا ان الأغنية لم تجد لحد الآن من يخرجها إلى النور سواء على صعيد النشر أو الإذاعة وهي تتعلق بحوار الأديان وضرورة تآخي الجنس البشري وفيما يلي نص الأغنية بالانكليزية :
oH My God
My god help me
Do some thing for me
I am Angle From Babylon
Please My God don't Leave Me Alon
Make The World Happy
أما النص العربي فقد صاغه كالآتي ؛
بجاه كليم الله موسى النبي
بجاه روح الله المسيح النبي
بجاه حبيب الله محمد النبي
الله حي ! oH My God
لا للتدخين
* قاد (أبو رياض) في العام 2000 والأعوام التي تلته حملة ضد التدخين وأسس منظمة باسم (لاللتدخين ) وكان شعارها ؛ ( السكائر من صنع الشيطان ، اسحقها .. اسحقها أيها الإنسان ) ، وقام بطبع بوسترات ملونة بهذا المنحى ، وتم إلصاقها في عدد من الواجهات المهمة بمدينة الحلة ، وكان نتيجة هذه الحملة ان اقلع عشرات المدخنين عن التدخين .
ومن أجل ذلك فقد شاعت في أوساط الناس في عن أبي رياض صورة المناويء والخصم اللدود لظاهرة التدخين ، وهناك عددٌ من الحكايات التي يتم تداولها ، نختار من بينها ؛
1
* في أحد الأيام قبيل الإجتياح الأمريكي للعراق في العام 2003 ، وبعد حوالي ثلاثة أيام من القرار المتعجل الذي إتخذه النظام والقاضي إطلاق سراح جميع المعتقلين والمدانين بجرائم مختلفة ، وفيما ( أبو رياض ) يجلس في مقعده داخل سيارة مزدحمة بالركاب تسير وسط العاصمة بغداد ، إذ وجد نفسه يجلس قبالة شخص يدخن بشراهة ، إغتاض أبو رياض في باديء الأمر ، وحاول أن يكتم غضبه ، ثم إلتمس من المدخن أن يُطفيء سيجارته مدّعياً أنه مريض بالربو ، إلا أن المدخن لم يأبه للامر ، وواصل التدخين بلذة ونشوة أكثر من السابق ، فلم يجد صاحبنا من سبيل أمامه إلا أن يُعلن عن سورة غضبه ، مادّاً يده الى حقيبته فاتحاً إياها بعنف قائلاً بصوته الأجش المزمجر ؛ ها أنتم تجبروننا على العودة الى السجن ثانية بعد أن تم إخراجنا منه ! ساور الركاب إحساسٌ بأنهم بإزاء مجرم خطير ، وظنوه يحاول أن يستخرج سكيناً أو خنجراً ، فأصيبوا بالخوف والهلع ، وأخذوا يتوسلون اليه أن لايفعل شيئاً ، أما بالنسبة الى الشخص المدخن ، فقد إنهار تماماً ، وأخرج علبة سجائره من جيبه وسحقها بقدمه عند أقدام ( أبي رياض) في محاولة لأسترضائه وإطفاء سورة غضبه .
2
إعتاد الناس أن يروا أبا رياض إبان مرحلة السبعينيات والثمانينيات وهو يقود باص الركاب التابع لمصلحة نقل الركاب في مدينة الحلة ، ناقلاً إياهم من مركز المحافظة الى النواحي والأقضية والقصبات التابعة للمدينة وبالعكس ، وكان هو لايتورع عن تطبيق قانونه الصارم بشأن التدخين في حافلته التي كان يعتني بها إعتناءً شديداً ، وفي أحد الصباحات صادف أن شغل المقعدين اللذين يقعان خلفه مباشرة أحدُ شيوخ العشائر وشخصٌ آخر كان بصحبته ، وما إن تحركت السيارة مسافة قليلة حتى إستخرج الشيخ علبة سجائره المطرزة بخيوط حريرية ملونة ، مقدماً سيجارة لرفيقه ، وأخذ الإثنان يدخنان بنهم ولذة ، نظر أبو رياض الى سحب الدخان التي أخذت تتشكل فوق رأسه فتراءت له على هيئة غيلان ووحوش تحاول الإنقضاض عليه ، القى نظرة في المرآة الى الشيخ الذي سمع به كثيراً ، فوجده أشبه بطائر ( الفسيفس) حين ينفش ريشه ، وساوره إحساس ٌ بأن هذا الشيخ ربما يظن أنه جالس ٌ في هذه اللحظة في صدر مضيفه ، خفف من سرعة السيارة وخاطب الشيخ بصوت مسموع ؛ هل تسمح لي أيها الشيخ الموقر أن أطلب منك شيئاً ؟ إنتبه هذا اليه ؛ نعم تفضل ، وظن في باديء الأمر أنه يطلب منه سيجارة ، فأستخرج علبة السجائر وناوله واحدة منها ، قال أبو رياض ؛ عذراً أيها الشيخ ،فأنا لاأدخن ، وأن الذي أرجوه منك هو أن تكف عن التدخين أنت وصاحبك ! إغتاض الشيخ للهجة الصارمة الآمرة التي يخاطبه بها هذا السائق الحكومي الذي ربما لم يعرف سطوته جيداً ، قال له هازئاً ؛ ومن أين لك السلطة في منعي من التدخين ؟
ـ هذه حافلتي وإن تكن سيارة حكومية ، وأنا إعتدت أن أطبق هنا قوانيني !
ـ وأنا أقول لك بكل بساطة ؛ يؤسفني أنني لاأحترم قوانينك ، فما الذي بوسعك أن تفعله ؟
لم يفعل أبو رياض شيئاً ، وإنما قلل من سرعة الباص الذي كان يقل موظفين يرومون الوصول الى دوائرهم في الوقت المحدد ، فتصايح هؤلاء ؛ ما الأمر ؟
قال أبو رياض مخاطباً الشيخ ؛
ـ ألا ترى ؟ إن هؤلاء سلاحي !
أصر الشيخ على موقفه وتملكته سورة الغضب ، عند هذه النقطة ، أوقف صاحبنا السيارة تماماً وركنها الى جانب الطريق ، ظن باقي الركاب أن ثمة عطلاً أصاب السيارة فظهر منهم التذمر والإستياء ، قال أبو رياض مخاطباً الجميع ؛ إطمئنوا فليس في السيارة سوى عطل واحد هو هذا الشخص الجالس خلفي ، والذي يُصرعلى ألإستمرار في تدخين سجائره المقيتة ، وفي هذه الحالة ، وكما تعرفون ، فلن أدع السيارة تتحرك شبراً واحدا ً ما لم يكف هو تماماً عن التدخين ،
وبأسرع من لمح البصر تحول غضب الركاب الى الشيخ الذي وجد نفسه في موقف لايُحسَد عليه ، هذا يصيح به ، وذاك ينهره ، وكاد أحدهم أن ينهال عليه بالضرب ، فتدخل أيو رياض في اللحظة المناسبة ، قائلاً للشيخ بحزم ؛ والآن من فضلك أعطني علبة السجائر، فأعطاها إياه وهو لم يكد يُفق بعدُ من ذهوله وإرتباكه ، فأخرج السجائر منها وطرحها أرضاً وأخذ يسحقها بحذائه ، ثم أعاد إليه العلبة الثمينة فارغة وإزاء هذا الموقف ، لم يجد الشيخ المغلوب على أمره من سبيل أمامه للخروج من هذا المأزق سوى أن قدم إعتذاره لأبي رياض ولباقي الركاب مصرحاً أمام الجميع ، أنه ومنذ هذه اللحظة قرر التوقف عن التدخين ، رامياً العلبة الفارغة من نافذة الباص دونما أسف !
3
يذكر المقربون منه ، أن أبا رياض عمد الى إستعمال طرائق متعددة في مكافحة ظاهرة التدخين ، ولا سيما في حافلته هذه ، ومن ضمنها أنه أشاع لدى ركابه الذين إعتاد أن يراهم كل يوم في رحلة ذهابهم وأيابهم الى دوائرهم الحكومية ، أن سيارته تم تزويدها مؤخراً بجهاز الكتروني ياباني لدى خلاياه حساسية قوية من الدخان المتصاعد من السجائر ، الأمر الذي يؤدي أن يُبطيء الباص من سرعته تلقائياً ، وكان الركاب يتساءلون فيما بينهم بين مصدّق ومكذب ؛ هل حقاً يوجد هكذا جهاز ؟ !
قنابل الزينة
يتذكر أبو رياض بوضوح ، بأنه بين عامي 1948 و 1949 وتحديداً بين شهري نيسان وأيار من العام 1949 ان المظاهرات الصاخبة كانت تجوب شوارع بغداد ، وفي منطقة الكرادة الشرقية حيث ولد ونشاً ، وكان عمره آنذاك لا يتجاوز العشرة سنوات حيث وقعت عيناه للمرة الأولى على أول تظاهرة تخرج من دار تطبيقات المعلمين وهي تهتف ؛ 0فلسطين عربية فلتسقط الصهيونية ) ، وفي تلك الأجواء الملبدة أعلنت الأحكام العرفية ، وتم قمع المظاهرات ، إلّا ان زمام الأمور كان يفلت في بعض الأحيان فحصل (الفرهود) لبيوت اليهود الموسرين من قبل بعض الناس ، وبالنظر الى ان السلطات اتخذت آنذاك اجراءً يخولها تفتيش كافة البيوت ، فقد ؛ " طلب مني ابي الذي كان يعمل تاجراً في الشورجة ان انقل قنبلتين كنا نحتفظ بهما على عادة الكثيرين من أهالي بغداد آنذاك لأغراض الزينة ، وأمرنا انا وابن عمتي الذي كان يكبرني بعامين بأن نتخلص منهما والقاءهما في نهر دجلة القريب ، والذي كانت مناسيب المياه فيه تنذر بفيضان وشيك ، حتى ان الماء ارتفع الى أعلى السدة في منطقة (السبع قصور) ، وعندما شاهدنا أفراد من العوائل اليهودية ، ونحن نسير بهذه الوضعية ، اخذوا يتصايحون بان (ابو فايق) والذي هو ابي ، يريد تفجير السدة ليغرق اليهود ، وشعر ابن عمتي بالخوف والهلع ، فطرح قنبلته في الشارع المؤدي الى نهر دجلة قريباً من بيت مدير أمن بغداد المرحوم بهجت العطية ، وولى هارباً ، فالتقطت قنبلته وحملتها على كاهلي ، وبذلك أصبحت احمل قنبلتين على كتفي الصغيرين ... "
وبعد ان يصل الى حافة النهر ، يقوم بإلقائهما ، فلم يحدث أي انفجار مثلما كان يتوجس ، وبعد مرور حوالي نصف ساعة على هذه الواقعة يمتلئ الشارع برجال الشرطة والجيش والأمن ؛ " وجلبوا معهم صياداً كي يرمي شبكته في المكان الذي ألقيت فيه قنابلي ، فأقتادوني الى مركز الشرطة القريب بصحبة والدي للتحقيق ، وبعد آن أوضح لهم ابي بأنه هو من كلفني بهذا العمل ، تم الإفراج عني وبقي هو موقوفاً لبضع ساعات ليتم الإفراج عنه بعدها بكفالة ، بعد ان استطاع إقناعهم بأن القنبلتين كانتا موجودتين في البيت لأغراض الزينة ، وكان الذي اشرف على التحقيق معه بهجت العطية بنفسه وكان حق الجيرة يحتم علية ان يفعل ذلك ، وعلى ما اذكر يضيف ابو رياض ، فان العطية كانت لديه عائلة تعيش ظروفاً اقتصادية متواضعة ، فلم يكن يمتلك بيتاً وانما كان يسكن بالإيجار ، مع الأخذ بنظر الاعتبار انه متزوج من امرأتين أحداهما تسكن معه في الكرادة الشرقية والأخرى أو الأولى فكانت تقطن في عرصات الهندية ، ومن المفجع حقاً ان أتذكر ، ان أبا غسان تم إعدامه بعد سقوط الملكية على يد محكمة المهداوي التهريجية في العام 1959 ، ويعتقد ابو رياض ان هذا الحكم انطوى على كثير من الظلم والتعسف حيث عرف عن بهجت العطية بين أهالي بغداد بأنه كان نزيهاً ومخلصاً ووطنياً في عمله ، بالإضافة إلى انه لم يتقدم ضده لتعضيد إدانته سوى شاهد واحد كان بيته مجاوراً لبيت العطية ومن بين المآخذ التي سجلها هذا الشاهد ضد العطية انه كانت لديه ثلاجة كهربائية في بيته وبعد تنفيذ الإعدام بحقه اضطرت عائلته في الكرادة ان تعيش وضعاً صعباً للغاية ، حيث لم تكن تمتلك ثمن الخبز التي تقتات به ، وكانوا يعتاشون على ما يقدمه الناس إليهم من صدقات ، كما ان والد ابي رياض الذي يمتلك شركة سيارات الحرية ، كان يقدم لهم العون المادي بين الفينة والأخرى ، أما ابو رياض نفسه فقد وجد في نفسه الحكمة الكافية لان يبكر في الخروج لصيد السمك يومياً في نهر دجلة ليعطي ما يحصل عليه الى هذه العائلة المنكوبة .
تحتشد ذاكرة (أبي رياض) بالكثير من الصور حول حادث الفيضان آنف الذكر ، من بينها إعتقادٌ ترسّخ لديه ولدى غيره من أبناء جيله أن الحكومة آنذاك قد أسهمت بهذا القدر أو ذاك في وقوع الكارثة في أماكن محددة ، ذلك أنها عمدت الى إستعمال حيلة قاسية لمواجهة سيل التظاهرات العارمة التي كانت تخرج الى الشوارع منددةً بالإتفاقية التي تم التوقيع عليها في العام 1948 بين العراق وبريطانيا ، وعلى خلفية إعلان قيام الدولة اليهودية في ذات العام ، وقد جرت العادة أن هذه التظاهرات كانت تخرج من دار المعلمين المسماة آنذاك بــ (التطبيقات) ، والواقعة في المنطقة المحصورة بين الجسر المعلق ومنطقة ( السبع قصور) ، كانت بناية المعهد نقطة إنطلاق للتظاهرات الصاخبة ، ومحفزاً لباقي المدارس الثانوية بل وحتى الإبتدائية لكي يخرج طلبتها للتظاهر ، وسرعان ما ينضم اليهم أيضاً بعض الشبان المتحمسين ، ويبدو واضحاً أن القوى الوطنية المعارضة للسلطة هي من كان يقف وراء تأجيج الموقف بين الشارع والحكومة ،وهو يرى أن الحكومة إنتهزت إرتفاع مناسيب المياه في نهر دجلة منذرة بحدوث الفيضان ، لتُحدث ( كسرة) أي فتحة في النهر في جانب الكرادة تحت ذريعة التخفيف من ضغط الفيضان ، وقد أدى ذلك الى غرق أغلب مناطق الكرادة ، وأتى على مبنى دار المعلمين الذي إنهار بالكامل ، فأتخذت الحكومة ذلك ذريعة لنقل ( الدار) الى منطقة أبو غريب البعيدة عن مركز العاصمة ، وهناك عددٌ من الصور المتفرعة عن هذه الحوادث الجسام ، ومن ضمنها أن أهالي الكرادة الذين نكبوا بالفيضان ، حيث أن غلبية بيوتهم التي دخلتها المياه قد تهدمت بالكامل ، كانوا يعمدون الى إستعمال الزوارق الصغيرة في تنقلاتهم ، وأن أصحاب الدكاكين من عطارين وبقالين وسواهم قد ملأوا الزوارق ببضاعتهم وأخذوا يتجولون بها بين المنازل ، فأصبحت الكرادة بين ليلة وضحاها أشبه بــ ( فينيسيا ) ، ولكن بالمقلوب !
رزق البزازين عالمعثرات
ومن بين الصور الأخرى، أن ذلك الأمر تزامن مع تصاعد وتيرة العداء والضغينة التي صار يحملها المواطنون المسلمون تجاه إخوانهم من اليهود العراقيين المقيمين معهم على ذات الثرى منذ أقدم العصور، والذين تشاركوا معهم في السراء والضراء وفي الأوقات العصيبة كافة ، وكان وجود هذه الشريحة الفاعلة يشكل عصب الحياة الأقتصادية والفكرية آنذاك ، لاسيما وأنه برز منهم عددٌ لايُستهان به ممن خدم البلاد في المجالات العلمية والفكرية والأدبية والفنية في بدايات إنشاء الدولة العراقية ، وإزاء تصاعد وتيرة الضغوطات الشعبية ضدهم ، لم يجد هؤلاء أمامهم سبيلاً سوى الإنكفاء والتقوقع ثم ليحصل <الفرهود> بعد ذلك ، وهو عمليات السلب والنهب التي جرت لممتلكاتهم أمام أنظارهم وأنظار الحكومة التي تقاعست عن القيام بواجبها ومسؤوليتها في توفير الحماية لمواطنيها ، فأضطر عددٌ من هؤلاء الى ترك بيوتهم ومغادرة البلاد قبل أن تتطور الأمور الى ما لايُحمد عقباه ، وقد عرض هؤلاء حاجياتهم ومقتنياتهم النفيسة ليُصار الى بيعها في مزادات علنية أقيمت في منطقة البتاويين القريبة، قبل أن تتخذ السلطات قرارها المتعسف الآخر الذي ينص على أنه لا يُسمَح للعائلة اليهودية وكذلك الأفراد الذين يقررون المغادرة بأن يحملوا معهم أكثر من 30 دولارا ، ولما كان غالبية اليهود المغادرين هم من كبار تجار الشورجة ، فقد آثر هؤلاء أن يتخلوا عن أموالهم لخدمهم وعمالهم من المسلمين ممن يضعون ثقتهم فيهم ، وبذلك فقد نشأت في بغداد وباقي مدن العراق طائفةٌ جديدة من الأثرياء الذين هطلت عليهم النعمة من حيث لايحتسبون وتماشيا مع القول المأثور ؛ ( ما رأيت نعمة موفورة إلا وبجانبها حقٌ مضيّع *)([1]) ! والمثل الشعبي الرائج ؛ رزق البزازين عالمعثرات !
صالح الفتلاوي
وثمة صورة أخرى مازالت عالقة في ذهنه ، وهي صورة التاجر اليهودي المعروف ( صالح الفتلاوي) الذي كان يمتلك بيتاً فخماً جداً مبنياً وفق الطراز الإنكليزي ، فحين خرج ذات صباح بأناقته المعهودة ، فإنه وجد بيته محاصراً بالمياه من كل جانب ، فظل وافقاً لبرهة من الوقت ، وقد بدت علامات الحيرة على وجهه ، ورآه الناس من المنطقة المجاورة وهو على هذه الحال ، فتهامسوا فيما بينهم ثم نادوا عليه بأنهم سيرسلون له زورقاً يقلّه الى مكان آمن يستطيع الذهاب منه الى متجره في الشورجة ، وبالفعل أرسلوا زورقاً يقوده أحد الأشخاص ، وما أن صعد صالح فيه وصار في وسط المياه حتى أخذ سائقه يهزه بعنف يميناً وشمالاً حتى إنقلب بهما ، فتعالى الضحك والصفير من لدن الناس الذين تآمروا على هذا المقلب القبيح وهم يرون كل أناقة وهندام صالح الفتلاوي وهي تُمرّغ هكذا .
ولم ينقض أكثرُ من شهر حتى حزم صالح الفتلاوي أمره وقرر الرحيل هو وعائلته ، ولم تسمح له السلطات أن يصطحب معه سوى مبلغ ضئيل من المال وبعض الملابس ، فأستولت أمانة العاصمة على بيته ومحتوياته ليتم تحويله الى مدرسة إبتدائية مختلطة بإسم (مدرسة) الحرية ، وكانت أول مدرسة مختلطة يتم إفتتاحها في منطقة الكرادة ، كما أنها المدرسة الأولى في العراق آنذاك التي تسمى بهذا الإسم الذي ظل هاجساً مستمراً للممسكين بزمام السلطة بعد ذلك ، ثم ليتم تجييره على نطاق واسع لخدمة أهداف وأغراض قراصنة السياسة والشعارات الطنانة التي لم تحصد منها البلاد ولا العباد سوى المزيد من الخيبات والمرارة .