الأحد، 3 فبراير 2019

لماذا يجب ان تهمنا فنزويلا؟


لماذا يجب ان تهمنا فنزويلا؟
صائب خليل
1 شباط 2019

ما يجري على فنزويلا يبدو ظالماً، لكن لماذا يجب ان يهمنا أي ظلم في العالم؟ لماذا لا نكتفي بالاهتمام ببلدنا ونرفع شعارات مثل: "العراق اولاً" أو "مصر أولاً" أو "لبنان أولا"؟.
دعونا ننظر كيف "يعمل" هذا العالم، ولنأخذ فنزويلا نفسها مثالاً أولا.
لنبدأ بالتأكد من أن فنزويلا تتعرض إلى ظلم حقيقي، فالتشويش من الشدة ان يطال أشد الأمور وضوحاً. الغرب يحاول ان يروج أن مادورو ليس رئيساً شرعياً للبلاد، وأن رئيس البرلمان هو الشخص الشرعي لهذا المنصب. لكن هناك بضعة حقائق أساسية لا يمكن لتشويش أن يطمسها، أولها أنه لا يوجد في الدستور الفنزويلي مثل هذه الطريقة لاختيار رئيس الجمهورية، والثانية هي أن الانتخابات التي انتخب فيها مادورو كانت قانونية وشفافة، وحسب وصف الرئيس الأمريكي السابق كارتر: "أفضل انتخابات من بين الـ 92 انتخابات قمت بمراقبتها". أما الثالثة فهي حقيقة ان مادورو قد حصل في تلك الانتخابات على ما يقارب الـ 68% من أصوات الشعب الفنزويلي! وهي نسبة أكبر بكثير من نسبة أي من الرؤساء الغربيين الذين يدعون عدم شرعيته!
إذن ما حدث في فنزويلا أمر غريب على التاريخ وخطير، حين يعلن عميل امريكي، بعد يوم واحد من اتصال احد المسؤولين الامريكان به، رئيسا لبلده، وبدون أية انتخابات، فتقوم الولايات المتحدة ومعظم دول الاتحاد الأوروبي وأميركا الجنوبية بالاعتراف به رئيسا!

تكمن خطورة هذا الحدث في أنه يعني أن العالم دخل مرحلة أنه لا يستطيع الاحتفاظ برئيس انتخبه إن لم تكن أميركا راضية عنه، مهما كانت عملية انتخابه شفافة ومهما كانت نسبة الشعب الذي انتخبه. أي ان ما تريده اميركا للبلاد هو ما يقرر سياسة البلاد وليس ما يريده شعبها. والشعب الفنزويلي يذكر تاريخه ويعلم ما تريده له الولايات المتحدة من حكومات تابعة للشركات الأمريكية. ويذكر الشعب الفنزويلي أن تلك الشركات بقيت تستخرج النفط لأكثر من عقد من الزمان دون ان تعطي البلاد دولاراً واحداً!

يمكننا إذن أن نفهم انه صراع حياة أو موت بين الشركات والشعب الفنزويلي. وهو بلا شك مشابه لصراعات الشعوب الأخرى في القارة الجنوبية تجاه اميركا وشركاتها، لكن موقفاً بمثل هذه الجرأة والوقاحة لم يكن ممكن الحدوث لولا أن سبقه تحول للقارة الامريكية الجنوبية، من اليسار والحكومات الوطنية، إلى دول تابعة لأميركا تحطمها عصابات نازية مثل البرازيل اليوم.

لماذا لم يكن ممكنا؟ لأن البرازيل وغيرها كانت ستقف مع الرئيس الحقيقي وتجعل محاصرته مستحيلة، وسيتحول ذلك الانقلاب إلى مسخرة وفشل امريكي، مثل مؤامرة أميركا في خليج الخنازير في كوبا.
إذن فالشعب الفنزويلي يجب ان يعتبر سقوط البرازيل بيد الأمريكان، خطراً على حرية واستقلال فنزويلا ومثله كل الشعوب في كل دول اميركا الجنوبية! وبالتالي فلو هتف واحد من الفنزويليين، يوم سقوط البرازيل، بأن لا شأن لنا بها، و "فنزويلا أولاً"، فسيكون واهماً. ففي حالة العدوانية الأمريكية الشديدة في كل العالم، فان وجود ما يكفي من الخصوم في أية منطقة، أمر ضروري لاستقلال بلدانها جميعاً وحريتهم في اختيار طريقهم وسياستهم الاقتصادية ومواقفهم السياسية، ولو بشكل نسبي.
إن خلو المنطقة من خصوم اميركا يسهل عليها معاقبة اية دولة تخرج عن الخط الذي ترسمه لها، وبالتالي فهو يهدد سيادة جميع الدول على قرارها السياسي.

إنه يشبه حالة عائلة فيها أخ كبير متسلط. فمن يريد الاحتفاظ باستقلاله من اخوته، سيرى في استسلام أي اخ أو اخت للأخ الكبير، خسارة لقضيته وفرصته في النجاة من ضغط الأخ الكبير.
والحقيقة أن نقص خصوم اميركا في العالم كله، تهديد لاستقلالية العالم كله، وليس في منطقة معينة فقط، ووجود خصوم "أقوياء" لها ضرورة لتحقيق نسبة من الحرية والاستقلالية في العالم! فحتى الدول الأوروبية، تشعر بالضغط الأمريكي اليوم، أكثر بكثير مما كانت تشعر به أيام الوجود السوفيتي. وقد توضح ذلك من خلال اجبار أوروبا على انتهاج سياسات اقتصادية اشد رأسمالية مما يناسب تلك الدول، ومما كانت اميركا تضغط به على حلفائها أيام وجود الاتحاد السوفيتي.

دعونا نأخذ مثالا آخر لنرى تطبيق هذا المبدأ على الاقتصاد. ولنأخذ أسعار النفط لأنها تهمنا وتهم فنزويلا بشكل خاص. ما الذي يحدث لسوق النفط عندما تسقط دولة نفطية جديدة (مثل فنزويلا) تحت سلطة اميركا؟
لكي نعرف ذلك لننظر إلى ما تريده اميركا بالنسبة لأسعار النفط. المسالة ليست صعبة: اميركا تريد أسعار نفط أخفض ما يمكن، كما عبر عنه ترامب اكثر من مرة، بشكل ضغوط على السعودية بشكل خاص لتزيد انتاجها من النفط وتغرق السوق وتخفض الاسعار. وهذا ليس غريباً، خاصة بعد ان ازدادت صادراتها عن وارداتها من النفط في العام الماضي. لكن السبب الرئيسي لهذا الحماس لإغراق الأسواق هو ان اميركا معنية بتحطيم معظم الدول المنتجة للنفط حاليا: روسيا، إيران، فنزويلا، والعراق أيضا.
وبالفعل استجابت السعودية فزادت الإنتاج وانخفضت أسعار النفط بشدة، رغم ان هذا ليس من مصلحة السعودية طبعا.
والسؤال هنا: ماذا سيحدث لو سقطت دولة نفطية أخرى تحت السلطة المباشرة لأميركا؟ المتوقع المزيد من زيادة ما يسمى بالإنتاج، واغراق السوق وانهيار جديد للأسعار! أي أن سقوط دولة أخرى تحت سلطة اميركا هو كارثة لكل الدول المصدرة للنفط! ولنلاحظ هنا، ان هذه الدول لا تحتاج ان تكون اشتراكية لتقف ضد اميركا في هذا، بل يكفي ان يكون لها حكومة تهتم بمصلحة بلدها، حتى لو كانت اشد رأسمالية من اميركا نفسها!
هذا سبب آخر لنقف مع فنزويلا مادورو ضد هذا التسلط الأمريكي الجديد.

لقد أوضحت في مقالة سابقة كيف ان وجود الاتحاد السوفيتي هو ما كان وراء منح أوروبا مساعدات مشروع مارشال الذي ساعد في إعادة بناء أوروبا بعد الحرب الثانية، ووجود الشيوعية هو ما كان وراء تأسيس دولة الرفاه الاقتصادي الديمقراطية التي تعتمد الاقتصاد الكينزي، الذي سارع الرأسماليون بإزاحته واعتباره اشتراكيا، بمجرد انخفاض مستوى التهديد السوفيتي. فوجود خصم قوي للرأسمالية الامريكية يهدد بتحويل العالم إلى اشتراكي، اجبر أميركا على انتهاج سياسة الطف بكثير مما ترغب فيه لو كانت مطلقة الحرية في العالم، ليس فقط تجاه اعدائها وليس فقط تجاه خصومها، بل تجاه كل شعوب العالم، حتى شعوب الدول الحليفة وحتى تلك التي يحكمها عملاؤها، بل وحتى الشعب الأمريكي نفسه! فلا يمكن مقارنة قوة الشعب الأمريكي أيام ما سمي بـ "العقد الجديد" مع حاله اليوم وهو يصارع بشدة من أجل تحقيق التأمين الصحي الذي يتمتع بأفضل منه بكثير، كل الدول المتقدمة بلا استثناء، وبعض الدول الفقيرة أيضا.

من عالمنا العربي، عندما تم اغتيال عبد الناصر وسقطت مصر بيد اميركا وإسرائيل، استغلت إسرائيل الفرصة واجتاحت لبنان! ولم يكن ذلك بهذه البساطة لو لم تكن مصر قد سقطت. إذن من الطبيعي ان يقلق اللبناني عندما تسقط مصر في يد أميركا، ويكون احمقاً إن قال: وما لي انا ومصر؟ "لبنان أولاً". فمصلحة لبنان تقتضي وجود مصر كما اثبت التاريخ، ومن يرى بالفعل "لبنان اولاً" عليه ان يهتم بحالة بقية الدول. أما حين يستخدم البعض ذلك الشعار كدعوة انعزالية، فإن دولته ستكون أول الضحايا.
إن انتصار الثورة الإسلامية في ايران بالمقابل، هو ما جعل تحرير لبنان ممكناً، كما يقول محرروها انفسهم! وبالتالي فاللبناني يجب ان يشعر بالخطر إن تمكنت أميركا من إزالة الحكومة الإيرانية والإتيان بعملائها مكانهم. ومن يقول: مالنا نحن وايران.. "لبنان أولا"، هو مغفل في افضل الأحوال وبفرض حسن النية. ولهذا السبب بالذات نجد الضغط الإعلامي الأمريكي والإسرائيلي للترويج لهذه الشعارات ولتقديم ايران كعدو بديل للعرب، كما سبق ان قدمت لهم الشيوعية ليحاربوها بدل محاربة من يهدد مصالحهم وحياتهم.

التأثير المذكور عابر للقارات. فعندما كانت فنزويلا والبرازيل والعديد من الدول الأمريكية الجنوبية الأخرى يسارية، كان بإمكان احمدي نجاد أن يتحرك ويعقد الصفقات والاتفاقات معهم ويشعر بالأمان أن من الصعب ان يحاصر أو يهاجم. كانت لديه فسحة اكبر ليختار بنفسه كممثل لشعبه، القرارات السيادية التي يراها مناسبة. لكنه لو عاد اليوم، لوجد الوضع اصعب، بسقوط معظم تلك الدول تحت القبضة الامريكية من جديد.
وجود الاتحاد السوفيتي أتاح للعراق ان يقوم بثورته في 1958 ولا يخشى الجيوش الغربية. ووجود منظومة اشتراكية أتاح له لاحقاً ان يتخذ قراراته بتأميم أراضيه غير المستغلة أولاً، وتأميم كل ثرواته النفطية لاحقاً، بمخاطرة أقل كثيراً مما لو جاءت تلك القرارات في عالم تسيطر عليه اميركا تماما. لذلك فوجود الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية، كان امراً مهما للسيادة العراقية، ومغفل من يقول: وما لي أنا والدول الاشتراكية؟ "العراق أولا"!
لكن الأمور تحسنت كثيراً بالنسبة لأميركا في العالم، وهي تريد إعادة الوضع على ما كان عليه، وتكلف رجالها الذين يبدون أكثر جرأة في التصريح بنواياهم، مثل تصريح رئيس الحكومة المنصب بشكل غير دستوري على العراق، عادل عبد المهدي، باستهجانه القرارات الاقتصادية "الجائرة" (كما وصفها) لثورة العراق تلك، وهو ما يشي بأنه مكلف بإعادتها الى ما كانت عليه. ولم يكن قانون "شركة النفط الوطنية" الذي لعب عبد المهدي دور مهندسه، إلا خطوة كبيرة في هذا الاتجاه، لولا ان تمكن عدد من الشرفاء من التصدي له في آخر لحظة.

إن انفراد أميركا في العالم، يغير موازين الأمور فينعكس ذلك بتأثير سلبي حتى على عملائها وتوابعها واصدقائها، الذين تصوروا في غفلة منهم أن قوتها تعني قوة لهم بالضرورة. لقد كان صدام حسين أحد هؤلاء المغفلين، لأنه كان يعتبر الشيوعية عدواً وجودياً له، وأميركا حليفاً ثابتاً. لقد احتفل رسمياً بسقوط الاتحاد السوفيتي وزواله من خارطة العالم. لكنه ادرك كم كان مغفلا حين هجمت جيوش اميركا عليه في الكويت، ثم في عقر داره، وهو ما لم يكن ممكناً في الماضي. وشملت هذه الغفلة ليس فقط كل من احتفل بسقوط السوفييت في العالم، بل حتى من قال: مالي وللشيوعيين. بلادي أولاً.
واشد غفلة من هؤلاء من يقول اليوم في العالم العربي، وخاصة العراق: لا علي بإيران، أو لا علي بسوريا، "العراق أولاً". فمع تناقص الدول المستقلة عن القرار الأمريكي، واحساس البقية بالضعف تجاهها، أصبحت اية دولة باقية خارج تلك السلطة، ولو بدرجة نسبية، دولة مستهدفة بالنسبة لأميركا، وشيئا ثميناً لبقية الدول والشعوب التي تريد المحافظة على استقلال قرارها أو بعضه. فحتى لو لم تكن إيران أو سوريا مستعدة للمساعدة، فوجودها في المنطقة يمثل نوعا من الحماية بوجه تعاظم الابتزاز الأمريكي. وقد يستغرب الكثيرون من هذا القول، إلى ان يأتي اليوم الذي تسقط فيه ايران، ويلتفت الى العراق، ذلك الوحش المهول قائلا: ها قد صرتم وحيدين! النفط لي.. الآن! .. افتحوا سفارة إسرائيل.. الآن!
وقد يستغرب البعض حين أقول أن حتى السعودية وحتى حكامها، سوف يشعرون بحماقتهم لو سقطت الدولة الباقية في المنطقة بيد أميركا، رغم انهم يبذلون الأموال الهائلة لإسقاطها! فكل ما سيحدث هو انهم سيكونون أكثر عرضة للابتزاز الأمريكي الذي لم يوفرهم، كما يعلمون. فعندها لن يكون لرضاهم أو رأيهم أية أهمية، وسيلتحقون بالضحايا غير القادرة على التسبب بأي خدش مهما كان صغيراً لمن يمتص دمها، ولن يجد الامريكان والإسرائيليون أي سبب لإبقاء قطرة دم او نفط واحدة لهؤلاء.

نقطة أخيرة في قائمة الاضرار المتأتية عن انهيار فنزويلا للضغط الأمريكي، هي "تطبيع التسلط الأبشع" للقوة المهيمنة على العالم، وتعود قبول اعتداءاتها على الدول الأخرى دون ان يثير ذلك الاشمئزاز. إن الهجوم على فنزويلا اليوم يثير الكثير من الاستهجان والرفض والخوف، لأنه الأول من نوعه. لكن مروره بسلام، سيكون له تأثير "تطبيعي" لهذه العلاقة الخطرة بين اميركا ودول العالم، ولن يحتج أحد حين تهاجم الضحية الثانية كما يحتج الآن على الهجوم على فنزويلا. أي ان العالم سيكون في منظومة أخلاقية أكثر خطورة على الدول الأضعف، إضافة إلى ما ذكرنا سابقا.

لقد كان المرحوم كاسترو على خلافات كثيرة مع الاتحاد السوفيتي، لكنه كان يدرك الحقائق جيداً، فكان يقول: يكفي الاتحاد السوفيتي ان يكون موجودا لنكون له شاكرين! لذلك، فحتى لو لم ننظر للأمر من وجهة نظر إنسانية تأمل بالحق والكرامة للبشرية وتكره الظلم في كل مكان كما يفعل جيفارا، وحتى لو لم يهمنا سوى بلدنا وحياتنا، فيجب أن تهمنا إيران وتهمنا سوريا وتهمنا روسيا وتهمنا الصين وتهمنا كوبا.. وتهمنا فنزويلا، تهمنا حتى لو لم تكن لها وقفاتها المشرفة من فلسطين وكل القضايا العربية!
إنها ليست شعارات فقط، بل حقيقة واضحة: أن كل انتصار لمقاوم في هذا العالم، يعطي قضيتنا فرصة أكبر، وكل هزيمة له في أي مكان، يضيق علينا فرصتنا نحن. وكلما ازدادت الهزائم وازداد عدد الدول التي تسقط، ازدادت بالنسبة لنا، قيمة من بقي منها صامدا، وفنزويلا جزيرة للصامدين في بحر هائج يحيط بها.