الثلاثاء، 23 أكتوبر 2018

كيف ولدت دولة الرفاه ولماذا تتراجع؟-صائب خليل


كيف ولدت دولة الرفاه ولماذا تتراجع؟
صائب خليل
18 تشرين الأول 2018
لكي نفهم لماذا تتراجع دولة الرفاه التي تعودنا رؤيتها في الغرب، علينا ان نفهم كيف نشأت، وهل تغيرت الظروف التي أدت إلى ولادتها وأمنت معيشتها أم أنها دورة حياة لنظام اقتصادي كغيره من الأنظمة الحية، ينشأ ويكبر ثم يشيخ ويموت؟
ظهرت دولة الرفاه في الغرب بعد الحرب العالمية الثانية، لكن بدايتها تعود في الحقيقة الى فترة الكساد الكبير الذي شمل الغرب قبل ذلك بعقد ونصف من الزمان. فقد ضرب ما يسمى "الكساد العظيم" الدول الصناعية الغربية ابتداءاً من عام 1929 وامتد ليشمل بدرجة أو بأخرى بقية انحاء العالم، وبخاصة تلك التي كانت تعتمد على الغرب في اقتصادها. واستمر الكساد لمعظم فترة الثلاثينات، ووصل الحال ببعض الأسر الامريكية الى عرض أولادها للبيع! وفي تلك الفترة العصيبة كانت ولادة دولة الرفاه.
تسبب الكساد في فقدان ثقة الشعب بالحكومات الغربية ورفض تصديق تبريرات منظري الاقتصاد الرأسمالي. وعلى العكس من ذلك بدأت الأفكار اليسارية تلقى القبول من الناس. وقد أدى هذا الوضع إلى انضمام الملايين من العمال في اميركا إلى نقابات العمال واتحادها (CIO وكذلك انضم مئات الآلاف إلى حزبين اشتراكيين وإلى الحزب الشيوعي الأمريكي.
وفي هذه الاثناء تم انتخاب الرئيس الديمقراطي روزفلت لرئاسة الحكومة. فذهب وفد من نقابات العمال والأحزاب اليسارية اليه وحذروه بلهجة تشبه التهديد، بأنه قد اصبح رئيسا بفضل أصواتهم، وانه ان أراد ان يفوز بالانتخابات التالية فعليه ان يساعدهم في وضعهم الاقتصادي المتدهور. ابلغوه بأنهم يعلمون ان الحكومة لا تملك المال والبلد في وضع اقتصادي صعب جداً، لكن هناك اثرياء وشركات كبرى في البلد، وعليه ان يسحب جزءأً من أموالها لدعمهم. واخبروه أيضا بأنه ان لم يفعل فأن الامر قد يتجاوز عدم انتخابه، ليصل الى حد اسقاط النظام الرأسمالي.
قام روزفلت بالاجتماع برجال الاعمال والأثرياء وأخبرهم بما حدث في الاجتماع، ونصحهم بالتعاون معه وإلا فقد تكون هناك ثورة ويخسرون كل شيء! فحصل روزفلت على موافقة هؤلاء ودعمهم إضافة دعم اليسار، فتمكن من تحقيق برنامج شديد الطموح لم تعرفه أميركا من قبل، وموله من رفع الضرائب المفروضة على أرباح الشركات، وممتلكات الأثرياء بشكل كبير.
وكان نتيجة ذلك ان تمكن الشعب الأمريكي من الحصول على مكاسب مدهشة. فتم انشاء شبكة الضمان الاجتماعي، ومن ضمنها ضمان رواتب البطالة، وتم تحديد الحد الأدنى للأجور، وتم تشغيل 50 مليون عاطل عن العمل بتوفير العمل عن طريق مشاريع الحكومة وبشكل مباشر.
وفي الفترة اللاحقة بعد الحرب العالمية الثانية، كان التهديد اليساري مازال قوياً، فسمحت اميركا لتوابعها في أوروبا (الغرب الأوروبي) وحتى في آسيا (اليابان وكوريا مثلا) باتباع نهج اقتصادي مخطط وحكومي وحمائي الى حد بعيد، والابتعاد عن اقتصاد حرية السوق، رغم ان ذلك بعيد عن المبادئ الرأسمالية، خشية ان يفوز الشيوعيين في تلك الدول، إن أصابها الضرر الاقتصادي.
هكذا ولدت دولة الرفاه في الغرب والشرق، ويمكننا ان نلاحظ أن السبب في الحالتين كان في إعادة توزيع الثروات بشكل اقل ظلما، وان الرأسمالية لم تلجأ إلى ذلك بسبب العطف او التفهم أو حب المواطنين او صالح البلاد، بل بسبب شعورها بالتهديد بأنها قد تخسر كل شيء!
ولنلاحظ أيضا أن هذا يبرهن أن من خلق دولة الرفاه بميزاتها المعروفة اليوم، هو ذلك “الرعب” الذي تمكن الفقراء من اثارته في الأثرياء، خاصة بوجود الاتحاد السوفيتي، وأجبروهم على تقاسم اقل ظلماً لثروة العالم. وقد اختفى هذا الرعب اليوم او انخفض بشكل كبير، فأطلق الأثرياء لأطماعهم العنان.
وشمل الهجوم على الضمان الاجتماعي والقطاع العام واللجوء الى الخصخصة، مختلف بلدان أوروبا الغربية، وعادت البطالة وانخفض الدعم العام للسلع وازدادت نسبة الفقراء ومن يعيش على الهامش في كل البلدان، رغم ارتفاع إنتاجية الفرد. فالظرف الذي أنشأ دولة الرفاه قد زال، فبدأت بالانهيار، خاصة في زمن ريغان وترمب في اميركا. ولم تحافظ على حالة الرفاه إلا الدول التي امتنعت بفضل وعي شعوبها، عن السماح للأحزاب التي تروج لحرية السوق والخصخصة بحرية القرارات، مثل الدول الاسكندنافية وهولندا على سبيل المثال.

 وفي خارج المنظومة الغربية، انتهى ايضاُ عصر "الدلال" الاقتصادي لنفس السبب، وتتعرض البدان الأضعف إلى الضغط باستخدام أسلحة مالية فعالة مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي الذان كانا يقدمان القروض بعقود تشترط خفض الضمان الاجتماعي وبشكل مخطط لتحطيم تلك البلدان واجبارها على خصخصة ثرواتها وبيعها لهم بأسعار زهيدة، ومنع أي احتمال لخلق دولة الرفاه فيها.
هذا التاريخ، سواء كان في أميركا أو أوروبا أو العالم الثالث، يدل على ان الضغط الشعبي والقدرة على إثارة قالق ورعب الرأسمال، اهم لرفاه الشعب حتى من رفع الإنتاجية وانتعاش الاقتصاد!







السبت، 20 أكتوبر 2018

سالوفة خاشقجي - ابتزاز الصديق عند الضيق-صائب خليل


سالوفة خاشقجي - ابتزاز الصديق عند الضيق
صائب خليل
20 تشرين الأول 2018
اخيراً كشفت أسرار جريمة قتل خاشقجي، ولم يبق منها سوى التفاصيل "المرعبة" للخاتمة المتوقعة، ولم يبق من شيء للإعلام السعودي عمله سوى اعمال "تقليل الخسائر المعنوية قدر الإمكان"، باختيار السيناريو الأنسب، وحماية الكبار، وهي عملية إعلامية معروفة وكلاسيكية.
قبل الكشف كتبت مقالة قمت بتعديلها مرتين، اكدت فيها على فكرة "ابتزاز الصديق" فكتبت أن "احساسي بأن القضية بالدرجة الأولى لعبة، وان السعودية، قد تكون، رغم كل جرائمها، الضحية أكثر مما هي المجرم هذه المرة
لماذا هذا الإحساس؟ أولاً هناك دافع ممتاز لهذه اللعبة التي تمارسها الولايات المتحدة وإسرائيل كثيراً: "لعبة ابتزاز الصديق". واللعبة مغرية جداً عندما يكون الصديق ثرياً جداً وضعيفاً جداً ليس له اية قدرة على الرد، ولا حتى على الزعل! وهذا هو حال السعودية. وقد قام هؤلاء بتنفيذ هذه اللعبة عليها كثيراً جداً مؤخراً.
.
ما زاد قناعتي بأن هذه الفرضية معقولة، هو أن الأدلة التي قدمت في مختلف البرامج التلفزيونية، وجميع الأفلام التي روجت، ليست فقط تافهة، وإنما أيضا يشم منها رائحة محاولة إعطائها قيمة اكبر من حقيقتها كثيراً وفرضها على الجو الإعلامي لتجميع الضغط على السعودية، ولكن بحساب يتيح لمن يديرها، التراجع
.
السعودية عبد مطيع، عدا انها مخترقة من الملك إلى ضابط الشرطة. لذلك فهي لا تتصرف بطريقة دولة تبحث عن مصلحتها، حتى لو كانت ترى مصلحتها في القتل. فإن كانت السعودية تريد قتله، ألم يكن اكثر أمانا أن تؤجر من يقتله خارجاً بدلا من قتله داخل السفارة والمغامرة باحتمال ان يكون قد احتاط لنفسه وقام بتكليف من يسجل له فيديو وصور وهو يدخل السفارة، او ان ترك شهوداً عديدين ومعروفين (دبلوماسيين مثلا) شهدوا دخوله المبنى؟ أو ان يكون قد حمل معه جهازاً قد يسجل الحديث او يرسل عملية القتل إلى خارج السفارة؟ 
ما يثير الاستغراب أيضاً ان خاشقجي لم يكن معارضاً شديداً للنظام ولم يدع لتغييره، ولذلك فان مثل هذه العملية تبدو متطرفة جداً في حماقتها. ورغم كل ذلك، فأن عدم انكار السعودية منذ البداية، دخول خاشقجي إلى القنصلية يؤكد كونه قد قتل داخلها. من الصعب ان يصدق احداً قصة ان الكامرات لم تعمل ذاك اليوم، رغم انها ليست مستحيلة نظريا، فهي تترك الطريق مفتوحاً بعض الشيء لمن يتهم السعودية، بالتراجع مستقبلاً إن تم الاتفاق.

لذلك فالاحتمال الأكثر منطقية هو أن يكون فخاً امريكيا تركيا للسعودية، يضرب به عصفوران بحجر. فالتخلص من خاشقجي الذي كان يتحدث مؤخراً عن ضرورة تغيير السعودية لقراراتها الاقتصادية، هو مصلحة امريكية أيضا، بل وقبل ان يكون مصلحة سعودية. وسيفكر الأمريكان بالتخلص منه كما انهم سيفكرون أن من الافضل ان يتم الاستفادة من تلك العملية لابتزاز هذا الصديق الثري في نفس الوقت. ومن المعقول في هذه الحالة ان تشترك تركيا في اللعبة. فالسعودية مستعدة بلا شك ان تدفع المليارات من اجل انهاء الموضوع بالصمت
وبالفعل أذعنت السعودية لطلب تركيا السماح بدخول فريق للتحقيق الى القنصلية. وفي اميركا وقع 22 من رجال الكونغرس طلباً للرئيس ترامب بالتحقيق في الموضوع، واعطيت له 120 يوما لإكمال التحقيق وتقديم تقرير به إلى الكونغرس.
.
ترامب لا يخفي ابتزازاته المافيوية المباشرة للسعودية في خطاباته، لكن الابتزاز بالخطابات لن يأت بنتيجة ما لم يساند بتهديد مقنع خاصة وان السعودية بدأت تشعر ربما لأول مرة في التاريخ، بأن امكانياتها المادية صارت مهددة لشدة الابتزاز. ومن المحتمل أن يكون السبب هو دفع السعودية لإكمال صفقات سلاح بدا ان السعودية متلكئة في إتمامها مؤخراً لنفس السبب. 
.
ما اردت من خلال تشكيكي الأولي والمراجعة، التنبيه إلى نقطتين: الأولى اننا يجب ان نبقى نطالب بأدلة كافية حتى لو كان الخبر يناسبنا وكان طعمه "لذيذا" على لساننا. والثانية هي ملاحظة عمل مبدأ “ابتزاز الصديق” الذي تمارسه اميركا واسرائيل بشكل ثابت ومستقر حتى من "اصدقائهما" الأوروبيين والحكومات المصرية المتعاقبة وغيرها.. 
عدا هذا فالموضوع كله غير مهم، لا مقتل صحفي وضيع ولا كون القاتل حكومة ليس لها إلا سجل الإجرام الطويل، ومهما تكون الحقائق فلن تغير من نظرتنا لا الى القاتل ولا المقتول.. وما يهمنا هو فهم ما يجري، والحفاظ على عقلنا سليما.