اينشتاين
"لماذا الاشتراكية؟"
(الجزء الأول من
الرسالة(1) كان عبارة عن تقديم لرؤية اينشتاين عن الاشتراكية، وفي هذا
الجزء يتحدث باختصار عن علاقة الفرد بالمجتمع وتأثير الرأسمالية على تلك العلاقة
ودفعها للفرد نحو الانعزال والغربة، لينتهي إلى أن البشرية ليس مقدر عليها ان تبقى
تذبح بعضها البعض، وأن الطريق الى ذلك هو التخلص من القواعد الرأسمالية التي تدفع
بهذا الاتجاه _ صائب خليل)
"تنبه أصواتٌ لا
تُحصى منذ وقت طويل بأن المجتمع البشري يمر بأزمة, و بأن الاستقرار قد تحطم على
نحو شديد. و من دلالات هذا الوضع، أن الأفراد يشعرون بعدم الاهتمام, بل و حتى
بالعداء حيال المجموعة البشرية التي ينتمون إليها, صغيرة كانت (قومية مثلا) أم
كبيرة (تشمل الجنس البشري كله).
ولكي أوضح قصدي, دعوني أذكر
هنا تجربة شخصية لي. ناقشت مؤخراً مع شخص ذكي و طيب النية موضوع احتمال نشوب حرب
أخرى [حرب عالمية ثالثة] و التي برأيي, ستعرض وجود البشر إلى الخطر الحقيقي؛ و
بينت أن ذلك الخطر لا يمكن درؤه إلا بواسطة منظمة أممية (عابرة للدول). عندها
سألني محاوري الزائر بهدوء و ببرود تام: " و لماذا تعارض بهذه الشدة انقراض
الجنس البشري؟ "
أنا على يقين أنه حتى
قبل حقبة قصيرة من الزمن لا تتجاور القرن الواحد, ما كان يمكن لأحد أن يسأل مثل
هذا السؤال بهذه الدرجة من الاستهانة, هذا السؤال إنما قاله شخص حاول سدى، تحقيق
التوازن مع ذاته، و لكنه فقد الأمل في تحقيق ذلك! هذا يعبر عن الانزواء و الانعزال
الذين يعاني منهما الكثير من الناس في هذه الأيام, فما السبب في ذلك؟ و هل ثمة
خلاص؟
من السهل طرح مثل هذه
الأسئلة, ولكن من الصعب الإجابة عليها على نحو مؤكد بأي درجة كانت. لذا, ينبغي لي
أن أحاول ذلك, بأفضل ما أستطيع...(..)
الأنسان مخلوق فردي و اجتماعي
في آن واحد. كمخلوق فردي, فإنه يحاول حماية وجوده الذاتي و وجود الأقربين إليه, و
تطمين رغباته, و تطوير قدراته الموروثة.
وكمخلوق اجتماعي, فإنه يسعى
للفوز باعتراف و تعاطف البشر الآخرين, والمشاركة في أفراحهم, و بمواساتهم في
أتراحهم, و بتحسين أوضاعهم الحياتية. لذلك فإن الدرجة التي يستطيع فيها الفرد
تحقيق التوازن الداخلي و القدرة على المساهمة في رفاه الشعب لا تتحدد إلا بأخذ كل
هذه الحسابات و التوجهات المختلفة و المتضادة غالباً في شخصية الإنسان وتركيبها،
بنظر الاعتبار.
قد تكون القوة النسبية
لهاتين النزعتين محددة وراثياً, لكن شخصية الفرد تتأثر على نحو كبير وتتقولب بالمحيط
الذي يجد الإنسان نفسه فيه خلال نموه. فتؤثر تركيبة المجتمع الذي يترعرع فيه, و
تقاليده, و التقدير الذي يوليه ذلك المجتمع لأنماط معينة من السلوك دون غيرها.
المفهوم المجرد لـ
" المجتمع " يعني بالنسبة للإنسان الفرد: المجموع الكلي لعلاقاته
المباشرة و غير المباشرة مع الناس سواء معاصريه أو الأجيال السابقة. صحيح أن
الإنسان يستطيع أن يفكر و أن يشعر و يسعى و يشتغل بنفسه, و لكنه يعتمد كثيراً جداً
على المجتمع في وجوده المادي و الفكري و العاطفي بحيث يستحيل أن نفكر فيه أو أن
نفهمه خارج نطاق المجتمع. فهذا " المجتمع " هو الذي يزود الإنسان
بالمأكل و الملبس و المسكن, و أدوات العمل, و اللغة, و أنماط التفكير, و اغلب
محتواه الفكري؛ كما أن حياته لا تصبح ممكنة إلا بفضل عمل و منجزات ملايين البشر في
الماضي و الحاضر، وكل ما يختفي خلف كلمة " المجتمع " الصغيرة هذه.
إن اعتماد الفرد على
المجتمع هي حقيقة طبيعية لا يمكن محوها - مثلما هي الحال عند النمل و النحل. ولكن،
في حين يكون تنظيم الحياة بأكملها لدى النمل و النحل مثبت في أدق تفاصيله بالغرائز
الثابتة الموروثة, فإن النموذج الاجتماعي و العلاقات المتبادلة بين البشر تتميز
بالتنوع الكبير و بالقابلية على التغيير. فالقدرة الذهنية وإمكانية تكوين تركيبات
جديدة, وملكة التواصل الشفهي باللغة, كلها, جعلت من الممكن حصول تطورات بين البشر
لا تمليها الضرورات البيولوجية. مثل هذه التطورات تظهر في التقاليد, و المؤسسات,
والمنظمات؛ و في الأدب و المنجزات العلمية والهندسية و في الأعمال الفنية. و هذا
يشرح لنا كيف يمكن للإنسان التأثير في حياته من خلال سلوكه, و أن بمستطاع التفكير
الواعي و الإرادة أن يأخذا دورهما في هذه العملية.
يكتسب الإنسان عند
مولده, و من خلال الوراثة, نظاماً بيولوجياً (جسمانيا) ثابتاً نسبياً، ويحدد الدوافع
الطبيعية المميزة للنوع البشري عن بقية الكائنات. و بالإضافة إلى ذلك, فإن الإنسان
يكتسب خلال حياته من المجتمع نظاماً ثقافياً. ولكن هذا النظام الثقافي معرَّض
للتغيير بمرور الزمن, و هو الذي يحدد إلى درجة كبيرة العلاقة بين الفرد و المجتمع.
تعلِّمنا
الأنثروبولوجيا [علم الإنسان] المعاصرة, من خلال المقارنة مع الحضارات البدائية,
بأن السلوك الاجتماعي للبشر يمكن أن يختلف كثيراً من مجتمع لآخر، اعتمادا على
النماذج الثقافية السائدة وعلى طرق تنظيم المجتمع. وعلى حقيقة إمكانية هذه
الاختلافات، يؤسس أولئك الساعون لتحسين مصير الإنسان آمالهم: فالبشر ليس عبارة عن
مخلوقات مجبرة بسبب تكوينها البيولوجي (الجسمي) على التوجه لإبادة بعضها البعض, و
لا مكتوب عليها أن يضعوا انفسهم تحت رحمة مصير قاس يسلطونه على أنفسهم بأنفسهم."
في الجزء الثالث
والأخير يحاول آينشتاين ان يبحث التساؤل عن كيفية تغيير المجتمع، فيبين ان الانسان
لا يستطيع ان يجعل لحياته معنى خارج المجتمع، مؤكدا ان الفوضى الاقتصادية
الرأسمالية هي مصدر الشرور. ثم ينتقل بعد ذلك الى محاولة مقتضبة لشرح بعض مبادئ
الاقتصاد الاشتراكي ومفاهيم الفلسفة الماركسية.
(1) رسالة ألبرت آينشتاين:" لماذا الاشتراكية؟ (1)