ليس تمجيداً للفقر، ولكن رغبةً بالتشفِّي من ((نيتشه)) في عصر الإنحطاط
كتابات - باسم الماضي الحسناويّ
في الحالة التي يكون فيها النبيُّ فقيراً، فسوف يكون لنبوَّته معنى الروح قطعاً، أي أنه سيقوم بتأويل السماوات السبع والأرضين السبع تأويلاً روحياً، فلا يكون للقمر وجودٌ، ولا للشمس كذلك، ولا لما يتحدَّث عنه علم الجيلوجيا من معلوماتٍ تخصُّ طبقات الأرض وجودٌ أيضاً، فيقول عن القمر مثلاً:
إنَّ القمر ليس كوكباً صغيراً معلَّقاً في الفضاء، ومرتبطاً بالمنظومة الشمسية عن طريق الجاذبية، بل هو قلبٌ نابضٌ بحبِّ الله، ولأنه ينبض سريعاً جداً، فلربما يصاب يوماً بالسكتة القلبية نتيجة العشق المفرط للإله.
أو ربما قدَّم تأويلاً آخر فيقول:
إنَّ القمر أيها السادة قرص رغيفٍ مفقودٌ، وعلى أحلام الفقير أن تحسن اصطياده بالشعر أو بالدعاء، وإلا فإنَّ السفن الفضائية جميعها ليست قادرةً على اصطياده، حتى لو تمكَّنت من النزول فوقه، فهذا لا يعني أنها تمكَّنت من أن تصطاد القمر، لأنَّ القمر موجودٌ فقط في أحلام الفقير بوصفه رغيف خبزٍ ليس إلا.
كما يمكن أن يقول عن الأرض شيئاً آخر:
فالأرض تارةً موتٌ متمرِّدٌ على نفسه، حتى استحال في النهاية إلى معنى الحياة، لكنَّ هذا الموت الذي استحال حياةً، يأبى أن يفارق نفسه، فتعود الحياة ثانيةً إلى معنى الموت، وهكذا يظلُّ الأمر دائراً بين الحياة والموت في ديالكتيك الأرض، فإذا استقرَّ الموت على موته أبداً في النهاية، فإنَّ الأرض تتحوَّل رأساً إلى صعيدٍ جاهزٍ للقيامة، وهذا هو الذي يجعل الأرض مستبشرةً دوماً بالحياة.
وسيقول عن الكواكب غير المكتشفة حتى الآن إنها طاقة العقل المخزونة كي يتمكَّن من الإستمرار في تحمُّل الكارثة، فالعالم بمجموعه يساوي معنى الكارثة بالتأكيد، لكن مع وجود هذه الكواكب غير المعروفة حتى الآن، فإنَّ العقل يبقى محتاطاً من إصدار الحكم النهائيِّ على العالم، فلا يقول إنه محض كارثةٍ ليس غير، بل يتأنّى كثيراً، لاحتمال أن يوجد خلف العالم المنظور كواكب أخرى تكون مسؤولةً عن قلب المعنى، فيتحوَّل معنى العالم إلى النقيض، مع أنه لن يكون فردوساً مفقوداً في كلِّ الأحوال.
بعض الأنبياء لم يطيقوا الفقر، ربما لأنهم نظروا إليه من الزاوية التي تجعل منه كفراً، فرفضوه رفضاً قاطعاً، فكان لكلِّ ذلك تأويلاتٌ أخرى عندهم:
أوَّلاً: القمر/ ليس للقمر تأويلٌ آخر إلا أنه قلب العاشق، أي أنَّ النبيَّ عندما يكون غنياً لا يفارق المعنى الروحيَّ على الدوام، ولكنه يلجأ إلى تأويلٍ آخر لا يمتُّ إلى هموم الطعام والشراب بصلةٍ، ولهذا فإنَّ القمر باقٍ على حاله من جهة أنه من مشتقات الخيال والروح في كلِّ الحالات.
الثاني: الأرض/ ليست الأرض موتاً استحال حياةً لتعود موتاً في آخر الأمر ثمَّ حياةً أخرى لا تموت، بل الأرض في نظر النبيِّ الغنيِّ حياةٌ منذ البدء لا يعروها موتٌ على الإطلاق، ولهذا فإنَّ الأنبياء من هذا الفريق حتى حين يموتون يصرون على البقاء في صورة الأحياء ولو من باب الإتكاء على المنسأة، فإذا أكلت دابَّة الأرض منسأته من الأسفل وهوى أمام الجنِّ والإنس ميتاً، دخل خيال الشعراء حالاً، فصار يمارس الحياة من هذا الطريق، وعلى هذا يبقى فعلاً عصياً على الموت على الدوام.
الثالث: الكواكب غير المكتشفة الأخرى/ هذه الكواكب ليس لها دورٌ في تغيير النظرة، فسواءٌ اكتشفها الإنسان أم لم يكتشفها، فإنَّ العالم يبقى محتفظاً بمعناه، من جهة أنه لا يمثل أيَّ ضربٍ من معاني الكارثة، فالعالم حيٌّ على الدوام، وليست قيامته إلا هو نفسه، فكلُّ ما سوف يحصل هو أنَّ الروح تتكثف في العالم أكثر حتى يفقد وزنه، ويعود شفافاً جداً، إلى درجة أنَّ الجدار نفسه لا يعود حاجزاً بين الإنسان والإنسان.
أما الفقير عندما يطمح إلى أن يكون نبياً، فلا ينظر إلى جرَّة الماء البارد قليلاً، وإلى عريشته التي يسكن فيها، إلا من الزاوية التي تتيح له أن يرى العالم بوصفه طيراً، طيراً جميلاً جداً، هذا مع أنَّ القتام يحجب الرؤية عند الآخرين تماماً، لكنَّ الفقير الطامح إلى أن يكون نبياً لا يرى ببصره كما هو واضحٌ، بل يشاهد الأمور ببصيرته البعيدة الغور جداً جداً، فيتضاءل حجم العالم، وتزداد براءته إلى مستوى التحوُّل في عينيه طيراً، ولذا فإنَّ الفقير من هذا الطراز معشوقٌ من النساء جميعاً، وكلُّهنَّ يتمنَّينه زوجاً وحبيباً، إلا أنه مشغولٌ عنهنَّ جميعاً بما يعدُّه الناس وهماً من الأوهام.
لكنَّ الفقير الطامح إلى أن يكون غنياً فقط، فهو فقيرٌ دنيءٌ في الحقيقة، لأنه طاغيةٌ مؤجَّلٌ، حتى أنه ربما قتل أمَّه وأباه فيما بعد، فعلى أبناء جلدته أن يبقوه فقيراً على الدوام، لأنه لا يستحقُّ أكثر مما في حوزته من أسباب القدرة، وليس هذا الفقير مشمولاً بالسير خلف لواء الحمد يوم القيامة، فإذا حُصِّل ما في الصدور بدا فرعوناً، وسيكون على رأس القائمة في الداخلين إلى جهنَّم، لأنَّ الله عادلٌ بمستوى أن يحاسب على النوايا، وليس للفقهاء أن يعترضوا على كلامي في هذا المقام، لأني أتحدَّث باسم الإلهام، وهذا ما نفثه الله على لساني في هذه اللحظة، وأنا مجرَّدٌ تماماً من كلِّ أسباب الإنحياز.
العجب كلُّ العجب من هذا الإنسان، إلى ماذا يطمح في هذا العالم، ألا يرى شعر رأسه كيف يبيضُّ قبل الأوان في شبابه، وكيف أنَّ تغضُّنات وجهه تزداد يوماً بعد آخر، حتى أنه ربما شابه الجذع اليابس في النهاية، فإذا ما أصبح القبر له بدناً، تجمَّعت الأزبال والكلاب والصراصير حول بدنه الترابيِّ هذا، ثمَّ ينساه الناس جميعاً حتى لو كان مؤلفاً عظيماً من الطراز الأوحد، فإذا فرض نفسه على ذاكرة الناس من خلال فكره الخالد، فمن الغباء أن يعتقد أنه يلتذُّ بذلك، لأنه في جوف الأرض رسمٌ لهيكلٍ عظميٍّ منخورٍ ليس غير.
أعرف بالضبط رأي الآخرين بهذا النصّ، فهو يحرِّض على الزهد ما أمكن، وعلى هذا الأساس فإنَّ ذائقة العصر تعتبره شيئاً مقيتاً جداً، لكني لا أعاني من وجود مشكلةٍ في هذا المجال، فقد شربت كأس الحداثة حتى الثمالة فلم أجده خمراً حتى، بل وجدته سماً، لذا فضلت العودة ألف عامٍ إلى الوراء، فصرت أحدِّث الجاحظ مثلاً عن دي سوسير فيقول سحقاً له من دجالٍ أحمق، لأنه لا يعرف أنَّ كلماته شسع نعلٍ قديمٍ في المخزن المجاور لغرفتي هذه، فإذا حدَّثته عن ميشيل فوكو أو عن جيل دولوز أو دريدا تبسَّم، وقال لقد عشتَ زماناً عصيباً يا ولدي، لأنك رأيت كيف أنَّ الكلام لا يعود حكراً على الحيوان الناطق، بل كان مشاعاً إلى حدِّ أنه موجودٌ بكثرةٍ بالغةٍ حتى في أجواف القمامات.
جزى الله عنا نيتشه بما يجعله خليقاً بجهنَّم، فلقد برهن على أنَّ العقل ربما فقد رشده ولم يفارق كونه عقلاً، وذلك هو مكمن الخطر في فلسفة هذا الرجل، حتى أنَّ الفقير الذي يطمح إلى أن يكون نبياً يفرح كثيراً للنهاية التي انتهى إليها بالجنون، فلو ظلَّ عاقلاً، وظلَّ على قيد الحياة في نفس الوقت، لكنا الآن لا نرى قارئاً واحداً يقدِّر الإشعاع المنبعث من عين الفقير، ولكُنّا الآن يحمل كلٌّ منا سفوداً كبيراً ليشوي به رفيقه النائم إلى جنبه في طعام الإفطار.