( الهبش ) ... مفترس الأفاعي
حامد كعيد الجبوري
نهاية القرن الثامن عشر وصل للحلة الفيحاء رجل كردي من آل ( زنكنه) أسمه ( هاشم ) ليتخذ من الحلة موطنا له ، والحلة الصغيرة آنذاك يشطرها نهرها لشطرين ، الكبير ويضم سبعة أطراف وهي (الطاك ، الجامعين ، الجباويين ، المهدية ، الأكراد ، التعيس ، جبران) ، والصوب الصغير يضم ( كريطعة ، الكلج ، الوردية) ، أشترى الرجل دارا له في محلة (المهدية) وسكنها مع زوجته القادمة معه من الشمال ، ومن الطباع الحلية الأصيلة احتضان الضيف والقادم والمستجير بها ، ولم تكن للطائفية المستجلبة حديثا تأثيرا بينا وواضحا على سلوك ساكنيها ، فالسني يشارك الشيعي بطقوسه الدينية ، ويحترم الشيعي طقوس أخيه السني ، وفي الحلة المسيحي وهو آمن على نفسه وماله ومعتقده ، وكذا اليهود ، وهناك أكثر من وشيجة تجارية بينهم وبين أهالي الحلة الكرام ، و(هاشم) القادم للحلة سني المذهب إلا أن أولاده اتخذوا من المذهب الشيعي معتقدا لهم ، مخالفون هوى والدهم الراحل ، وأنجب الرجل – هاشم – أولادا وهم (فخري وعباس انتقلا لبغداد ولا نعرف مصيرا لهم ، حسن وهو معاق توفي بالحلة ، علي الملقب ب علوكي وهو حلاق ، وحسين الذي غادر لبغداد وعاد للحلة وتوفي بها وتركت عائلته الحلة بعد وفاة أبيهم ، ومحمد موضوع حديثنا وتلقبه العامة بالهبش ) .
بداية القرن التاسع عشر ولد (محمد) في مدينة الحلة وترعرع بها ولم يحصل على نصيبه الدراسي فيها ، يقول الأستاذ (مسلم باديم ) كان محمد (الهبش) ضخم الجسم أبيض الوجه يرتدي (الدشداشة) ، ولم يكن يضع شيئا على رأسه (أمفرع) ، وكان الرجل على خلق عال جدا ، لم يتشاجر مع أحد رغم قوة عضلاته ، ولم يعتدي أو يعتدى عليه ، كان مسالما جدا وفي أحايين كثيرة يستمع لنقد لاذع من أحدهم دون أن يرد عليه بشي ، أستفاد من قوة عضلاته ليعمل في (حمام المهدية الرجالي) وعمله (أمدلكجي) – يغسل للزبائن لقاء أجر زهيد - ، ومن الطريف ذكره بهذا المجال أن رأس المال الظالم كان يستوفي نصف المكسب البسيط لتعطى لصاحب الحمام ، والغريب أن صاحب حمام المهدية لم يستوفي ذلك من (الهبش) بل أعتبره عاملا لديه لقاء أجر آخر لتسخين ماء الحمام – الصفرية – بالطرق البدائية القديمة – نفط أسود وجذوع الأشجار - ، كان ل( الهبش) أصدقاء كثر ومن هؤلاء الأصدقاء من يحتسي الخمر وجمعتهم أكثر من مائدة لذلك ، فبدأ مشوار التصعلك معه ولم يذكر أحد لي أنه أساء لفرد ما من أبناء الحلة ، أضاف (الهبش) عملا جديدا له غير العمل بالحمام وهي صنعة اصطياد الأفاعي – الحيه - ، ومعلوم أن أغلب البيوت العراقية بما فيها الحلة يكون سقف الدور من جذوع النخيل وهي مكمن آمن للأفاعي ، والأفعى مرعبة للكثير ، بداية كانت العملية تطوعا لمسك الأفعى من قبل (الهبش) ، وبعد تمكنه من هذه المجازفة بدأ يأخذ أجرا لقاء إمساكه بالأفاعي ، يقول الأستاذ (مسلم باديم) أن ( الهبش ) بعد أن يرشد الى مكانها او يجده بنفسه ، يمسك الأفعى من ذيلها ويبدأ بسحبها حتى يصل الى الرأس ، فيمسك بكامل قوته حول رقبتها حتى تموت ، وفي أحايين أخرى يضعها بعلبة زجاجية ويحكم غطاءها ويقبض ثمن مسكها ويذهب بها صوب الصيدلية الهاشمية ليبيعها لصاحب الصيدلية المرحوم الصيدلي (إسماعيل أسكندر الجبوري ) ، ويروي الكثير من أهالي الحلة أنهم سألوا (الهبش) ألا تخاف من أن تلسعك أفعى فتموت ، فيبتسم لهم الرجل ويقول أن لسعتني أفعى فستموت هي ولا أموت أنا على طريقة الطرفة ، ويضيف الأستاذ (علي هادي) وهو من أهالي (المهدية) الكرام أنه رأى ( الهبش) بعد أن يمسك فريسته – الأفعى و يبدأ بقضمها – أكلها – مبتدءا من الرأس وكان يرى دماء الأفعى تسيل من فم (الهبش) ، وهذا ما أورده الدكتور الظاهر بحديثه ولم يؤكده الأستاذ (مسلم باديم) ، ويروي الأستاذ (روؤف الطاهر) عن جدته(العلوية) الساكنة محلة (المهدية) فيقول ، ذات يوم رأت جدتي أفعى متدلية من سقف دارها فهرعت صوب (الهبش) لإمساكها والقضاء عليها واتفقا على مبلغ من المال ( مئة فلس) ، حضر (الهبش) لدار العلوية وأمسك بالأفعى وطالب بأجره فدفعت المرأة (درهم) فقط وهذا خلاف ما أتفق عليه ، قال لها (الهبش) (علوية بعد درهم) أجابته المرأة (أنت أشسويت يمه غير أكمشت الحية درهم كلش كافي) ، لم يقل لها شيئاً وأطلق الأفعى من يده لتهرب وأعاد لها ال (الدرهم) وغادر الدار ، وبدأت صعلكة الرجل أكثر فأن زاد على المقرر مما يحتسيه من خمرته يبدأ بأكل قدحها حتى تدمي فمه ، ويقول الدكتور (عدنان الظاهر) أنه كان جالس بمقهى (كاظم أبو سراج ) ودخل لها (الهبش) وهو ثمل جدا فأخرج من كمه أفعى يتلهى بها وكأنها مسبحة وطلب قدحا من الشاي وبعد أن احتساه بدأ بقضم ذلك القدح ورأيت الدم يسيل من شدقيه – الحديث للظاهر – وحضر صاحب المقهى وقال له ما هذا فأخرج منة جيبه مبلغا من المال وأعطاه لصاحب المقهى وأعتذر منه وغادر مقهاه .
قلت بداية موضوعتي عن (الهبش) أنه خلوق ولم يعكر صفو أو ود أحد من الناس ويروى عنه الطرف الكثيرة ، أيام الشتاء الممطرة والأزقة غير معبدة يطفح الماء بهذه الأزقة ولا يستطيع أحد المرور دون أن يقع في البرك الكثيرة وبخاصة الأطفال والنساء منهم ، وفي يوم شتائي ممطر أراد شيخ حارته ومختار ها ووجهيها الوصول لداره إلا أن البرك الكثيرة والحفر المغطى بالمياه حالت دون عبوره ، تقدم نحوه (الهبش) وهو القوي العضلات وقال له هل أوصلك عمي لدارك ؟ أجاب الرجل شاكرا فعلته نعم يابني ، فما كان من (الهبش) إلا حمل ذلك الوجيه (الحاج جاسم حمادي الحسن) على عاتقيه والسير به نحو داره ، منتصف الطريق قال (الهبش) لشيخ محلته (المهدية) ، عمي أختر واحدة من اثنتين ، قال الرجل ما هما يا محمد ، أجابه أما أن أنزلك من على ظهري أو تعطيني (ربع دينار كروة) ، ضحك الرجل وهو محمول على أكتاف (الهبش) وقال له حاضر ولكن حين وصولي للدار ، أجابه ( الهبش ) لا عمي (هسه) ، وقبض (الهبش) من شيخ الحارة أجره ، ولم يكن يأخذ أجرا من أحد لقاء هذه الخدمة الإنسانية وإنما أخذها من شيخه للطرفة والتندر بها ليس إلا ، تزوج (الهبش) من أرملة له بنت واحدة من زوجها الأول وولدت ل(الهبش) بنتان ، توفي الرجل بسبعينات القرن المنصرم و بداية الثمانينات ودفن بالنجف الأشرف ، حاولت جاهدا الوصول للمتبقي من عائلته أو من أقاربه للحصول على صورة شخصية له ولم أفلح ، طرقت باب أستوديو (الزنابق) المحتفظة بصور أغلب الشخصيات الحلية السياسية والاجتماعية والتراثية لنفس الغرض ولم أفلح ، ومن حسن الصدف أن التقيت بالأستاذ (باسم جاسم حمادي الحسن) عضو البرلمان السابق ، وهو أبن لشيخ المهدية وحدثته عما توصلت إليه عن هذه الشخصية التراثية ، وأكد لي المعلومات المدونة وأرشدني الى حفيده من ابنته الملقب (عامر عضلة) بسبب ممارسته رياضة كمال الأجسام ، حملت أوراقي صوب الرجل والذي يعمل مع ابنه( ضياء ) ببيع بيض المائدة قرب أسواق (الحاج مالك عبد الأخوة) ، فرح الرجل – عامر عضلة – كثيرا ولم أجد لديه ما أضيفه لمعلوماتي بل أنا قد نورته بشئ منها ، أوعدني بالحصول على صورة لجده (الهبش) من خالته التي تسكن بغداد حالياً ، لربما بقادم الأيام بعد نشر هذه الموضوعة سأجد مبتغاي .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق