الاثنين، 5 أبريل 2010

قراءة في صحيفة المتلمس-قاسم عبد الامير عجام


قراءة في مجموعة (صحيفة المتلمس)




قاسم عبد الأمير عجام



حين يمتليء الشاعر ثقة بالقصيدة ، يحملها ما يعز عليه من أمنيات وافكار ، واذ يفعل ذلك فلان الشعر والشاعر كائنان فاعلان مؤثران ولذا يحضران في نشوة بناء القصيدة ليتخذها الشاعر معابر او رموزا لقضيته او نولا ينسج عليه فكر قصيدته . وهذا ماتجده جليا في العديد – ان لم نقل ، في اغلب- قصائد الشاعر عبد الأمير خليل مراد التي ضمتها مجموعته الموسومة (صحيفة المتلمس 1999) وإذ يمنح الشعر والشاعر المبدع كثيرا من الثقة طالما حفل بالهم الانساني ويمنحها من الحب ما يجعله يستبطن معاناة الشعر المسؤول والشاعر المبدع لينفذ من خلالها الى معاناة مجتمعه والناس في بلاده لم تجد ذلك في القصيدة التي عنوانها (الشاعر) فقط وانما اكثر من قصيدة ، ففي قصيدة (الشاعر) تلك تجد تمثيلا واعيا لاحزان الانسان العامة والانسان الذي ادركته حرفة الشعر بخاصة 00 ولذا جاءت حشد من الصور والافتراضات اقرب للتمنيات ، وتساؤلات عما سياتي او سيكون وكلها تتساند في تشكيل بنية حزن مهيب لانسان رققته المعاناة واستحال الحلم .

(( عاشق كالذبالة اذتستطيل

وكالنهر في الواحة الوارفة

وزعته المواسم في بيدر الحلم نايا

ودثره الحزن بالامنيات)) ص46

وفي قصيدة ( قطاف) حيث يكثف شاعرنا موجات من الحزن يفتتح نشيده كمن يتخنى بالقصيدة كي تستوعبه او كأنه يخشى عليها الا تستوعب حزنا بتلك الكثافة والعمق . ( باي فم ستقول القصيدة) ويختمها بالتاسي على ان ما يبقى حفنة من تراب هي مزيج من أفضل ما لدى الانسان وان القصائد والرواية هما من بين الافضل الباقي مع (الحروف الهاربة من الأصابع) وحكمة الأب ان ذلك الحضور للقصيدة كفعل للتأثير وللشاعر كمؤثر، في قصائد هذه المجموعة يفسر سر امتلائها بالصور والامال والخيبات التي تقلبنا بينها جميعا في حقول الشوك فجاءت القصائد جدائل من الشعر ان شابتها فضة الحزن فلكي يزيدها بهاء ، هو بهاء الجمر في موقد الصبر المكابر ولطالما قرن الشاعر مجموعته .

هذا الشعر / القصيدة بالجمر الذي يطرز عمرا هو (اقصر من شهقة) .. وحتى حين ينتهي عمر الشاعر فانه يخلي (القصائد سيلا على الطرقات) فالشعر كما يقول في قصيدته المهمة (تقاسيم الناي الاول) ص34-43 (يدرز روحي بناياته – ويوزع في جانحي – هتاف البراءة والامنيات) ولذلك يرى في الشعر القدرة على فهم مأساة الانسان المحاصر بالحرمان والظلم والتعبير عنها لذا ينادي في قصيدته (صوت آخر) (ايها الشعراء انصتوا للرياح التي – تصرخ الان في هيكلي – وتلم المزامير في شفتي الذابلة) ص22 .

وكجزء مما يحتشد به الشاعر من احساس بالمسؤولية ازاء الكلمة ومحنة الانسان المتشعبة ، لم يكتف الشاعر بالنص على استدعاء الشعر كفعل وانما احالنا في العديد من قصائده الى مرجعيات سامية كان للانسان وخلاصة فيها القدح المعلى ، يتقدمها القرآن الكريم وتتصادى فيها أبيات من شعر المتنبي والمعري ومواقف للنفري وغيرهم .. احالنا أليه بالتضمين او بالنسج على منوال ما يحيل اليه او استحضار صورة او دلالة مما صورته قصائدهم ، فكأنه لا يكتفي بما في شعره الحافل بالحركة من قدرة على بث طموحاته والبوح بمعاناته بل يصرح من خلال تلك الاحالات بالحاجة الى الحكمة المستخلصة من آلام الانسان نفسه ومن تلك المرجعيات .

اكثر من ذلك انه لاهتمامه بالمرجعيات تلك استقى من بعضها ما يمكن اعتباره موجها "قرائيا" افتتح به مجموعته فعرفنا بالملتمس وصحيفته الذي تمرد على مضمونها بعد ان هتك سرها ، فكأنه يدعونا للتقليب في الاوراق المطوية والتردد على ما يراد بنا من سوء المصير . وان شعره ليدعونا فعلا لنقطة تستوعب الظاهر والمخفي . ثم يضع لصحيفته مفتاحا هو ثماني مختارات من (النفري) وبيتا من شعر المتنبي يكفي وحده للإشارة الى ما وراء قصائد الشاعر او الى البؤر التي فجرت تيار شعره . فالحق ان بعض تلك المختارات كان كافيا للتنبيه الى رسالته ففي اختياره قول النفري (يا عبدي اخرج من همك تخرج من جدك) او (اذا تكلمت فتكلم واذا صمت فاصمت) حشد للانتباه وكان له فيه غنى عن غيرها .

نقول ذلك مع ثقتنا بقدرة شعره على ابلاغ رسالته دون تلك الموجهات مع أولى قصائد المجموعة (احتمالات) .. التي بدت حشدا من أحلام حراقة وتطلع مضن الى آت لا يأتي إذ هي شهقة (حلم لم ينته) ما دامت المعاناة لم تتجدد ، فتتجدد عبر مقاطعها العشر قيمة المعاناة مع الإصرار على الحلم بلغة عاشق يعلن عشقه وعذاب صبره من خلال استعارات وكنايات لا ترسم ذلك العشق فقط وإنما تحيل الى مفردات عذابه إذ يقفز القلب (الذي تدوسه حوافر العنقاء) من الصدر (كالقطط المسعورة) واذ يصبح الإعلان عن العشق / انتظار الآتي جنونا يباركه الحالم المأخوذ به .

والحق ان ثنائية الحلم والانتظار ومكابدتهما معا لا تنتهي بالشكل الذي حفلت به قصيدة (احتمالات) فالمجموعة تكاد ان تكون صورا لتلك الثنائية / المكابدة لكن الشاعر لفرط ما اصطلى بها قلبها على جوانبها المعرفية والوجودية فراح يستبطن النفس التي تتشظى بينهما فلا تخذله المخيلة ولا تعجزه الصور . ولذا عمقت قصائده التالية قضية الشاعر تلك بأكثر من اسلوب من خلال مناجاة رسم جزء من لوحته متنقلا بين ضمير المخاطب وأنا المتكلم عبر الوصف كما في قصيدة (مسافة) وبالسرد بجمل فعلية يحركها الفعل المضارع او يعيدنا اليها فعل ماض ، وبجمل اخرى اسمية يرسم أجزاء أخرى . ودائما يقودنا الى لوحته عبر استعارات وتكوينات تنبذ المباشرة والتقرير واضعا القارئ على جناح الشعر . يستعير عطش الطائر ، مثلا ليقنع به لهفة النفس الى ما يوالف ما بين الجمرة والانداء (قصيدة أكمه) وفي قصيدة (ايماءات بعيدة) صار الخوف يرتدى وللحلم أرجوحة يتفيأها العاشق ، (والرمل يستسقي ناي مواجعنا) – قصيدة الأرجوحة .

على ان الحلم الذي يشكل بنية اغلب قصائد المجموعة لا يأتينا مجرد مكابرة في وجه الرداءة وانما نستشفه من خلال تقليب الشاعر في أشواك تلك الرداءة التي تثير في المتلقي حزنا هو بعض الحزن الذي يتخذ صورة مهيبة وهو يتنقل بين مسببات الحزن والوانه فتنعقد القصائد أو بعض مقاطعها مرثيات أو ألحانا حزينة كذلك الحزن الشفيف في قصيدة الشاعر وبذا تأتي (صحيفة المتلمس) .

هذه صوتا صافيا لعبد الأمير مراد بين ضوضاء الكتابات الغارقة في دروب العتمة واللاتعيين واستعراض اللعب اللفظي ونؤكد أن امتلاء الشاعر / الشعر بقضايا مجتمعة لا يمنع أبدا قصيدة جميلة تضج بالحركة وتتصادى بين ثناياها عواطف ومعان تدعو المتلقي ليتواصل معها ، فيتواصل ولا تخيبه القصيدة .

ولعلها لذلك .. ولكل ما فيها من جماليات بنائية أخرى هي التي أغرت فنانا مبدعا هو الرسام الطيب غالب المسعودي بأن يزين المجموعة أو يشارك في متنها بعدد من لوحاته التي ألصقت صورها الفوتوغرافية بين ثنايا الديوان . وهي لوحات تشكل مجموعها اشتغالا فنيا لا يستبطن معاني القصائد ودلالاتها فحسب وانما تنفتح كل لوحة منها على آفاق انسانية فكرية تحتفل بها لذاتها وتصلح لبثها حتى لو عرضت لوحدها . وهي أيضا تمثل مرحلة جديدة في تطور هذا الفنان المثابر بعد المرحلة التي رأينا تجلياتها في معرضه الفني الأول الذي رافق الحلقة الدراسية التي أقامها اتحاد أدباء وكتاب بابل (7-9 مايس 1999) في الحلة لدراسة عطاء الناقد الراحل عبد الجبار عباس إذ اصبح لكل لوحات المرحلة الجديدة سمتها الخاصة – موضوعها وسمة عامة تجمعهم بلوحات المرحلة وهي سمة تمنحها نكهة عراقية لا من خلال النوافذ الملونة المقوسة فقط وانما ايضا من خلال لوحة صغيرة أشبه بالختم داخل اللوحة هي كتابة عربية بالحرف المسماري وهي جزء من مشروع آخر للفنان غالب نفسه يوظف الرسم المسماري في الكتابة العربية بشكل جديد .. واذ تعيد تلك الأختام كتابة بعض سطور القصيدة فإنما لتجعل اللوحة بمجملها اعادة لدلالات القصيدة بلغة التشكيل بعد أن أقامها الشعر بالكلمة موسيقى التفاعيل .

يرى المتأمل لهذه اللوحات أنها جميعا عبارة عن هيكل بشري مجرد من كل سواه لكنه متحرك بما يستبطن من دلالة القصيدة ، ودائما بجناحين .. مجسدا ثنائية الحلم / الانتظار بطريقة تجعل ذلك الهيكل الناحل اختزالا للجوهر الإنساني في اغترابه ومعاناته خاصة وان يأتي بكل حالاته (منطويا ، متحفزا ، قائما) شفافا وكأنه بلا لون بينما تمثل اللوحة (الأزرق – الأحمر – الأخضر بمختلف درجاتها وتداخلاتها) خلفية له تجسد غربته هي لوحات – معرض فني تستحق كتابة قائمة بذاتها .. أما وقد جاءت تشارك المتن الشعري فقد وضعتنا في لحظة عناق بين القلم والريشة وتؤكد عناقا آخر بين العلم والفن تشكيلا وشعرا في صنعة الشاعر والطبيب الرسام لتكون ثمرة أخرى من ثمار هذه المجموعة الشعرية الحافلة بشفافية الحزن الإنساني وهيبته المستمدة من مكابرة إنسان يرفض أن يكسره قهر الرداءة والحرمان .

ليست هناك تعليقات: