الثلاثاء، 23 فبراير 2010
ترانبم القسم الثالث بقلم الشاعر حامد كعيد ولوحات غالب المسعودي
) .
عام 1963 م أتت لمحافظة بابل عائلة مهجرة من قضاء سوق الشيوخ لأسباب سياسية ومن حسن حظي أنهم أستأجروا داراً ملاسقاً لدارنا، وأذكر أن والدهم المهجر الشيخ المهيب يذهب مساء كل يوم لمديرية الشرطة ليؤكد وجوده ببابل من خلال توقيعه أمام مأمور المركز ، وكان يدفع الرشاوي الكبيرة آنذاك ليستحصل الموافقة على الذهاب الى كربلاء المقدسة لاداء مراسم الزيارة للحسين (ع) على أن يعود فجر اليوم التالي،وشاء الله أن يتوفى هذا الرجل في الحلة وأتت عشيرته لاداء فروض الموتى وأصطحبني والدي معه لسوق الشيوخ وأدينا واجب العزاء لعشيرته ، الغريب أن زوجة المتوفى وبناتها الأثنتان بقين في الحلة بعد أن وافقت عشيرتها على ذلك ، توطدت علاقتنا بحسب الجورة مع هذه الفاضلة الغريبة التي رافقت أمي للذهاب لبيت الله الحرام وزيارة قبر الرسول الأعظم (ص) ، كل هذه المقدمة لأخلص القول أنها كانت شاعرة فطرية ترتجل البيت والبيتان مستخدمة أغلب أوزان الشعر الشعبي دون زحاف يخدش ذوق المتلقي ، وحينما رزقتُ بصبية أرادت أن تخفف وقع ذلك على زوجتي التي تمنت أن تكون ولادتها الأولى ذكراً كما هو شأن النساء بذلك وأسم أبنتي (طيف) فقالت
طيف أعدال سبع أولاد بيك وجاي من بغداد
أعليها أهل اللحه تنكاد أبن أسعود وأبن أزياد
وكل أهل الأفنديه
و(كل أهل الأفندية) ترتلها بعملية ترقيص للطفلة ، والأفندي الذي يلبس الزي الحديث (قاط ورباط) ، ويشاء الله أن برزقنا ببنت أخرى أسميناها (طيب) ، فعادت كرتها هذه الشاعرة الفطرية لتقول
إلج خشم الكصير البس عليج أيلوك
وألج ركبه التشابه ركبة الغرنوك
باجر يعتني لجلج جبير السوك
نعلاله بيه الينطيها
ولو تمعنا قليلاً ل (باجر يعتني لجلج جبير السوك) للحظنا أكثر من مؤشر فيه ، مؤشر الغربة التي توكده في (نعلاله بيه) بمعنى أنها أفرغت مافي نفسها في هذا الشطر ملمحة لرغبتها لعدم تكرار مأساتها لأمرأة أخرى، ومن ثم ملاحظة الوزن الشعري الذي أختلف عن سابقه لتؤكد قدرتها بذلك رغم أنهما من بحر واحد (الهزج) فالأول يسميه الشعراء الشعبيون (البحر الطويل) والثاني يسمونه (التجليبه) ، ويشاء الله أن يرزقنا بصبي فكانت فرحة هذه الجارة رحمها الله أكثر من فرحة زوجتي به فقالت له أبياتاً أوقع مما قالته للبنتين لتعبر عن مكنون فرحتها به
جان جان جان جان (.... ) كولي شكران
كل يوم كبل الوذان وليد وعطية رحمن
أنجان نبت خاله كاعد أبصدر الديوان
وأنجان نبت جده رضت عليه العلمان
وأنجان نبت بيه رفع عمود الصيوان
بين القوسين أسم الأم يقال بالتصغير ويمكن أن ندخل أسم أي أم لذلك ، ومعنى (أنجان نبت) أي لو سؤل عن خاله فهو المتصدر بين الرجال،وأن سؤل عن جده فقد أرضى بخصاله الحميدة حتى علماء الدين، وأن سؤل عن أبيه (رفع عمود الصيوان) أي حمل على كتفيه أثقال عشيرته.
2 : النواعي .
من خلال تتبعي ولا أقول دراستي للنواعي وجدت أنها قد تتكون من بيت واحد فقط ، ووجدت الأكثر من ذلك ، ومثال لذلك ما قالته خنساء خزاعة (فدعة) في مراثيها لأخيها (حسين) وما أكثر تلك النواعي ، ولا أريد أن أتحدث بموضوعتي هذه عن الشاعرة العملاقة وما تركته من أثر وأرث كبيرين ، ويقال أن (الشيخ نصار) الذي سميّ وزن النصاري بالشعر الشعبي بأسمه أخذه عن الشاعرة (فدعة) ، وأغلب النواعي التي جمعتها تتكون من ثلاثة أشطر ، وقسم أخر بأربعة أشطر ، ولا أدعي معرفة علة ذلك ، وحين التمحيص جيداً بهذه النواعي وجدتها مستكملة لما تريد قولته المرأة الناعية ، ومن نافل القول أن تزيد عليه بذلك وهذا أولاً ، وثانياً لسهولة حفظه من قبل الأخريات ، وبين هذا وذاك أوصلت معلومتها كاملة من خلال هذه الأشطر الأثنان أو الثلاثة أو الأكثر ،وقولنا أن مثل هذه المراثي ليست بجديدة على التاريخ العربي وكذا بتاريخ الأنسانية ، وكما قلت لاأريد أن أدخل طويلاً بذلك ولكن عودة للشاعرة الخنساء (تماضر) ومراثيها لأخيها صخر
يذكرني طلوع الشمس صخرا وأذكره بكل غروب شمس
ولولا كثرة الباكين حولي على أخوانهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكن أسلي النفس عنه بالتأسي
أوردت الأبيات أعلاه بسبب البيت الثالث (وما يبكون) لأخلص أن البكاء على الأموات تسلية وعزاءً للباكي ، ومن هنا أتت مقولة النبي الأعظم حينما ذرفت عيناه الكريمتان الدمع لذهاب ولد أبراهيم (ع) ، فقالوا له يارسول الله ألم تنهنا عن البكاء على الأموات فأجابهم (أن القلب ليحزن والعين لتبكي وأنا على ذهابك يا أبراهيم لمحزونون) ،ومن هنا لا ننكر لخنساء خزاعة الشاعره (فدعه الزريجية) بكاءها وحزنها ومراثيها لأخيها (حسين) لأنه رمز عشيرتها والجواد بقومه وسعة حلمه وعقله المتفتق وشرفه وناموسه
عالي مضيفه وشحلاته وروس الحراثي موافجاته
أخوي الثلاثة مرافجاته الكرم والمراجل والصماته
أخوي جاراته خوانه أخوي العبد والضيف أغاته
و (روس الحراثي) بمعنى الطرق الترابية التي داستها أقدام الضيوف فتركت أكثر من أثر ليدل لبيت (حسين) أخ الشاعرة (فدعة) ، وأشارة لابد من قولها (أخوي الثلاثه مرافجاته) ،حيث يزعم الباحثون أن الشاعرة (فدعة) أخذت هذا البيت من الشاعرة الخنساء التي تقول
ولا يرى حارة يمشي بساحتها لريبة أذ خلت من أهلها الدار
أو أخذته من قول الشاعر المقنع الكندي
وأني لعبد الضيف ما دام ثاوياً ومابي سواها قط من شيم العبد
فأين ما قالته الشاعرة فدعة من قول الخنساء أو المقنع أولاً ، وثانياً أن من عاش حول فدعة من أخوة وعمومة آناس أميون وكذا هي الشاعرة أمية أيضاً فمن أين لها ولهم هذه النظرة النقدية ،وما هي إلا توارد خواطر لأن البيئة المعاشة نفسها بفارق زمني كبير، وما قيل عن المراثي بشعرنا الفصيح نجده كذلك بموروثنا الشعبي الغزير أيضاً ، وسنبدأ بهذه الزوجة التي تندب زوجها المتوفي معلنة له عدم رغبتها القاطعة بالزواج بعده وأسم الزوج المتوفي (فنوخ) فتقول ،
أحطلك دين يافنوخ بالراس
كفيل الرضه ويشهد العباس
يجلد اللي لمسته عيب ينجاس
وبما أن هذه المراة لم تنجب من زوجها ولا يرغب أخوة المتوفى الزواج من زوجة أخيهم ، أذن عليها العودة لدار والدها وهناك تجبر على الزواج من شخص آخر وأن كانت غير راغبة بالزواج فعلاً ، وحينما تعلم أم (فنوخ) زواج أرملة أبنها فتندب ولدها منددة بفعلة الأرملة فتقول ،
جا وين حلفج يم الأيمان
وراج الزلم والخيل ميدان
لبستي حمر ومسرسح أردان
وكلاده لبستي وخصر مرجان
يمرت السبع يالماخذه أهدان
ودلالة (وراج الزلم والخيل ميدان) على يوم زفاف تلك الأرملة لزوجها الجديد ، والنواعي كثيرة جداً ، فهناك من تنعى ولدها ، وأخرى تنعى زوجها ، وأخرى تنعى أخا أو أباً لها ، وواحدة أخرى تنعى أما أو أختاً لها ، وهكذا ، وبما أن النصوص التي جمعتها خلال هذه الحقبة الزمنية الطويلة سأوردها وكأنها قصة تروى مشيراً لقوة السبك ووضوح المبتغى بأمثلة ليست بالكثيرة المملة ،
تمنيت بيتي كبل بيتج
ولوضاك خلكي كمت جيتج
وكبل الموذن صابحيتج
وهذه أخرى متزوجة بدار غربة وبما أن الطرق غير معبدة سابقاً ، ولا توجد الوسائط للنقل كما هي الأن ، وتسمع الأم خبراً يفيد أن أبنتها بحاجة لها والسبل غير ميسرة بيدها ، والوقت غروب والليل قادم ولا تجد من يعرف أخبار أبنتها فتقول
سمعت أبطروانه أمن الغروب
وظلت على الطارش تلوب
وعله أعيونها عج الدروب
وتنتظر الأم والبنت القادم لينقل لهن الأخبار ولا قادم بخبر يفرح القلب ويبرد غلواء البعد والفراق فتقولان كل بدارة غربتها الأم والبنت ،
علواه طارشهم يجيني
وسايله وتنام عيني ويمكن قوله كترنيمة للأطفال
وسايله ويبطل ونيني
أو
علواه يجوني كبل الغروب
وكت العشه والزاد مصبوب كذا
وتمر الأيام تتلوها الأيام والليالي الثقال فتجلس البنت وكذا الأم ووجوههن مقابل لباب دارهم وتهب نسمة منعشة رقيقة فيقولا،
كب الهوه والباب طرت
ورويحتي للدرب فرت وترنيمة أيضاً
تمنيت الحبيبه الساع طلت
ومرة أخرى تقول
حبايبي ياريح جنه
وهوه الكيظ ما ينشبع منه وترنيمة أيضاً
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
هناك تعليق واحد:
الموقع جميل
هو ليست مدونة لفنان تشكيلي
بل الزائر يكون ازاء بيئة تشكيلية متكاملة تجمع الفن والجمال والنقد والنصوص والحفر التاريخي
انا من السرور بهذا الاكتشاف ما سيدعونني الى تقديم مشاركات
ناظم السعود
إرسال تعليق