بحث هذه المدونة الإلكترونية

مرات مشاهدة الصفحة في الشهر الماضي

الخميس، 8 سبتمبر 2011

قصة قصيرة-جلالة الملك:عادل كامل



قصة قصيرة


جلالة الملك

عادل كامل
لم يدر بخلد أحد ، أبان تفاقم الجفاف ، ان يدعو جلالة الملك حاشيته وأمراء الغيوم والرمال والنجوم للبت في مشكلات المملكة .. فهو لم يخرج من غرفته على مدى فصل كامل ، كما لم يغادر قصره الملكي المشيد من الذهب وعظام حوريات الكواكب البعيدة منذ عام .
كانت قاعة القصر بلا شكل محدد ، لأنها مزينة بتحف وكنوز ومحنطات تعود إلى ما قبل ظهور الإنسان فوق الكوكب ، تلك التي توهم أكبر الأخلاقيين والفلاسفة بأن العالم مازال يمتلك فرص النجاة .. بإمكانات تأجيل وقوع الكارثة.. وهذا ما كان يدور من همس بين الحضور . كان الخدم يرتدون زيهم الشفاف المصنوع من غبار الفراغ الفضائي ، ويؤدون أعمالهم بدقة اعتمدت آخر تجليات نظام المعلومات وحسابات تراكم الخبرة والضعف البشري ، وفي الواقع منذ ان يكون المرء في القصر ، لا يمتلك قدرة تذكر الأسباب التي دعته إلى هذا الاجتماع ، أو لماذا هو موجود هنا أصلاً ، فالأجهزة المتحكمة بالمخيلة والضمائر توجه نمط الحوار والأفكار .. ومثل هذه الحقيقة يشهد عليها أمير الصوت والكلام الذي ندد بنظام العالم الجائر ، هذا العالم الذي جعل للكلام معنى مقلوباً .
لم تكن الأصوات عالية .. إلا ان الحبور أمتزج بانعكاسات أضواء القاعة المتغيرة الشكل .. فقد كانت الجدران تستدير ، والسقف يغير ثرياته ، مثلما النوافذ تعرض للمدعوين شتى الأفلام النادرة عن حقائق ما بعد الوعي وما قبل شيوع مبدأ الوفاء الأبدي ، كان الجميع بانتظار جلالة الملك ، على الأقل لتقديم البركات ورؤيته بعد انتشار شائعات غامضة عن زيادة وزنه نصف ذرة .
وزع أمراء الطعام الولائم التي تسبق خطاب العرش ، وهو تقليد معمول به منذ استولى الملك على البلاد وغير أسمها وسكانها وشكلها ليناسب أسمه وشخصيته وشكله . ومنذ ذلك الزمن لم يدر بخلد سكان البلاد ان عالماً آخر يمكن ان يوجد غير عالمهم .. بل صار الجميع على يقين بأن العالم هو القصر ولا أحد له حق السيادة على موارد النبل الروحية للبشرية من الشمال إلى الجنوب ومن السماء الى الأرض ألا جلالة الملك ، مثل هذه القناعة لم تعد تناقش أو تشغل بال أحد .. فالأجهزة الجماهيرية قد أدت عملها وصنعت مملكة فولاذية لن تهزم لأنه لا أعداء لها عدا ذلك العدو الأحمر الذي ترنح وتمرغ بالوحل ومات . والعدو الأحمر في الواقع محض تخيلات صنعتها أجهزة الصوت والكلام السري من أجل إعطاء جلالة الملك هيمنة تليق بمن يحكم مليار مليار ذرة من الغبار الابدي .. لكن الناس ، بعد ربع قرن من حكمة ، غير مكترثين لشيء . أنهم سعداء لدرجة أنهم لا يفكرون بالسعادة ذاتها ، وحتى واقع الجفاف الأخير الذي مازال يهدد نصف سكان البلاد بالتحجر والموت بلا آثام معلنة قيل أنه غير أكيد أو إشاعة لكي يظهر جلالة الملك لحظات يراه فيه الناس ولم يزد ذرة من وزنه القديم .
وعلى كل ظهرت أميرة الأميرات ورقصت في ركنها الماسي تسحر الجميع ساعات وساعات . ولم تتعب ولم يتعب من معها .. كنّ من نور غريب لا هو بالسماوي ولا هو بالأرضي ، بل قيل أنهن من اختراعات جلالة الملك .. فقد كان جلالته من أشهر علماء العصور قاطبة بتحويل الهواء الى جواهر .. وتحويل السمك إلى بشر .. واختراع الذهب من الدخان .. وهو وحده الذي استطاع ان يتزوج نصف نساء المملكة وربع نساء الكوكب البعيدة وان تكون ذريته ، وان لم يرها ، بعدد رمال البلاد . فقد كان كل وليد منذ توليه العرش يعد أبناً له . أما الفتيات ، فكن يدخلن في خدمة وزراء السعادة والمسرات والخدمات المضادة للفناء البشري . وهو أيضاً الذي رسخ عقيدة ان سلالته ، بل هو شخصياً ، لن يتفسخ أو يموت . ولهذا لا توجد كلمة بديلة أو مماثلة للكلمات القديمة في ذاكرة سكان البلاد .
ولم يضجر أحد من شيء . ان أعواماً بكاملها يمكن ان تمضي دون شعور بالزمن .. ذلك ببساطة ان الزمن هو الأخر لا وجود له . قبل ربع قرن قال جلالته في خطاب إلغاء الفقراء وإلغاء الجهل وإلغاء المرض ان الزمن صنعه الأعداء . وتكفي كلمة من هذا النوع لتصير قانون الجميع المطلق . لأن الجميع مسحوا من ذاكرتهم أي عصيان يصنعه الخيال . كما ان الجميع ، في احتفال حاشد لا أول ولا أخر له ، تتنازلوا عن مهام الرأس وتم حينئذ التبرع بالأدمغة لصناعة أحد جدران القصر ، مثلما تبرعوا بأسنانهم لبناء أعظم صرح يمثل بقايا بربريات سكان الغاب . وفي الواقع لم يعد لديهم ما يتبرعون به .. وقد جعل ذلك ، حسب كتاب المملكة الكبير ، بطيب خاطر .. أما أسماء الناس ، فأنها حسب أراء العلماء ، ليست مهمة ان وجدت أو لم توجد .. لأنها في حقيقة الأمر تنتمي الى عصر ما قبل تتويج جلالة الملك .. من ثم فليس هناك مشاعر خاصة ، على الرغم من ان هناك نصف مليار طن من الورق كرست لكتابة سيرة وحياة جلالة الملك وخوارقه ، وقد شارك أبناء الصحراء والجبال والبحار الخفية فيها .. حتى ان من لم يسهم في هذه الموسوعة الفريدة التي تحمل عنوان [ آخر السلالات الحية : آخر الملوك ] يذل بوصمة عار أنه على قيد الحياة .
وفي غفلة من الزمن ، بعد انتهاء حفلات الرقص البلورية ، وخوارق السحرة المستلهمة من إبداعات صاحب الجلالة ، ظهر حفيد الملك ، وهو شاب شاحب طويل القامة ، وجلس حيث مكانه الخاص . ولم يتكلم . وقد لاحظ ان عليه ان يبذل جهداً جباراً لفهم أسرار الأب بخلق حاشية كهذه تؤدي دورها من غير حاجة إلى أوامر .. بل والى أي شيء آخر .. فالجميع رسموا في الأعماق صورة أبن الأرض الذي نوره لا يغيب .. ولم يزعجه هذا الخاطر ، لأن الابن قد ضمن البقاء حياً في عصر جلالة الملك الذي قال أنه الأخير لا في سلالته وإنما هو آخر من أمتلك أسرار اختراع الزمن وإبداع الأجساد البلورية وأنه الأخير حتى مع نفسه !
كان الحفيد الذي أنجبته عشرة نساء ، وهو الابن الوحيد منذ البدء الذي تنقل بين رحم ورحم حتى خرج الى الحياة وهو يصدر أمره الأول بحرق أرحام الأمهات .. لا يحرق في مكان محدد .. أنه يخترع المشهد الذي يشبع رغباته ، وهو الأمر الذي لا يتعارض مع إرشادات صاحب الجلالة ، وفي الواقع لم يكن يرغب بالعصيان أو التمرد .. أنه مثقل بالأوسمة وليس من رغبة ألا وتحققت قبل ان تمر بخاطره .
نظر مرة ثانية في المجهول ، وابتسم بلا مبالاة ، ابتسامة زرعت الفزع في أعماق الجميع .. فبعد لحظة وجيزة تجمد الدم في رؤوس الأمراء .. لأنهم كانوا على علم بالأوامر الصادرة من الملك نفسه . لكنه واجه الأمر بوليمة أمير وسرعان ما عاد المرح إلى الوجوه .
ولم يكن لأحد الرغبة بالحوار عن ساعة حضور جلالة الملك أو الحديث عن الجفاف أو الحذر من حرب ضد نجوم مجهولة .. فقد كانت إبداعات ما بعد الذرة تفكر نيابة عن الجميع ، الأمر الذي لم يعد فيه أي معنى للمراقبة ، فقد كانت بعض العلامات تصدر كضرورة لمثل هذه المشاهد .
وسرعان ما دارت بعض الرؤوس القديمة في الفضاء . لم يكن للمشهد من تأثير أو لغظ .. فقد كان الجميع يتفحصون لوحة بيضاء قيل أنها كانت وثيقة الصلح مع كوكب النور المشع ، ذلك الذي غدا كتلة ثقيلة سوداء الآن ، وتلك اللوحة لا أحد يعرف كيف رسمت أو بأية مادة نفذت .. فهي مشعة في العتمة ومعتمة في النور .. تظهر فيما الأشكال ثم تختفي ، كما تصير مرآة أو تتحول الى شاشة لنقل أخبار الكون السحيق .. وهي الأخبار الوحيدة التي يتداولها الناس لأنها تخص مصائرهم القادمة .. وعلى كل فأن أحداً لم يعنيه مثل هذا المصير أو ينشغل به برهة .. فبعد ان شيد أعظم نصب من حدقات الأطفال صار الأبصار ترفاً لا يتمتع بع ألا صاحب الجلالة .. وحتى حفيده الوحيد الذي أنجبته عشرة أرحام قال ان الملك وحده هو المبصر .. ثم اختفت اللوحة البيضاء ليدخل أمير المعارضة الصالة .. كان يتمتع بكراهية الجميع ، وهي الغريزة الوحيدة التي سمح جلالته لها بالبقاء كذكرى لسني الحياة البلهاء التي عاشها البدو مع جمالهم ومدرعاتهم التي زرعت في الصحراء ، ذكرى ضرورية لمقارنتها بالوضع القائم . تلك الكراهية حركت مشاعر أيام الأعدامات الجماعية التي كان الشعب يحتفل فيها مثلما يحتفل بعيد نزول الآلهة الى وديان الجبال .. فلم تكن ثمة مسرة عند العامة تفوق مشهد بتر الأعضاء وقطع الأعناق وسلخ الجلود .. وعلى الرغم من ان تلك الأعدامات كانت تمر بهدوء ألا أنها كانت تترك أثراً فريداً لدى المعارضة .. ذلك لأنها تؤكد قانون الانقسام بين البشر .. ألا ان جلالة الملك ، حسب كلمات أمير الكراهية قد أزال الفوارق وجعل الناس سواسية أمام قدرهم الأخير .. فالناس يولدون لأمر واحد هو معرفة ان الملك صنع من الصحراء جنة لا مثيل لها في كوكب آخر .. والناس يموتون لنقل أخبار جلالته الى العالم البعيد الذي لا يرجع منه ألا من بعثهم جلالته لسماع أخبار الحروب والمنازعات الدائمة بين الموتى .. فليس للعقلاء في عصره مشاكل أو خلافات ، لقد أزال من وجه الصحراء كل شقاء .. وحتى عام استنجاده بآلاف الأجساد الحديدية الغريبة محى ذكراه من رؤوس الأحفاد ولم يسمح لأحد بتذكر أي شيء من ذلك الاحتلال .. والناس في حقيقة الأمر لا تصدعهم مشاكل التذكر أو ضرورة النسيان .. فهم سعداء في حياتهم اليومية يولدون ويموتون بأمر الملك ، وليست الكراهية التي قال عنها أميرها بأنها من الماضي ألا صفحة منسية في كتاب المملكة الكبير .. إنما كان أمير الكراهية يتمتع بخصال تفوق أمير النار والتراب والموت .. فهو الوحيد الذي يحرس ويشم رائحة العمل في الظلام ضد نظام جلالة الملك ، وعلى الرغم من أنه نفي وجود جفاف يزحف من بيت الى بيت ومن إنسان الى آخر ألا أنه لفت الأنظار لوجود رائحة كريهة في الصالة لا تليق بها وأنها قد تكدر صفو مشاعر الملك الدفينة .. فالجميع يعرفون ان غضبه لبرهة من الزمن قد تودي برؤوس نصف الذكور ومئات الأمراء هؤلاء الذين سيتنازل عنهم بإشارة عابرة . وفي الواقع ان ذلك الغضب هو سمة جلالته ، لكي يعترف الشعب بأن مخلفات العصور القديمة لم تقبر نهائياً أو الى الأبد ، فالكراهية مثلاً هي مثل الدم يسري في الجسد . كذلك فهم الحشد ان من يبحث عن سعادة مختلفة سيذهب طواعية الى ساحة الأعدامات ويطلق على نفسه النار .. وهذا ما حصل قبل أيام عند اشتداد أزمة الجفاف حيث نفّذ أمير الحياة الموت بنفسه وهو يقول أنه لم يعد يحتمل البغضاء فيه التي أفسدت عليه نعيم الملك وخلود القوانين المبجلة ، كذلك قال أمير الكراهية بأن الحب ليس غريزة بل هو نظام المعلومات بالغ الدقة الذي يحرك الوسائل والغايات معاً لتحقيق أهداف وشعارات وعناوين ألف عام قادم في خطة تحقيق الوفرة لسكان الصحراء والجبال والبحار .. فليس هناك ضرورة للخيال المضطرب أو زراعة الآمال الوهمية . وأشاد بنظام الجوع عند عامة الناس مشيراً بيقين ان أمير الوفرة سيسد أفواه البشر بالقناعات والمناقشات والثقافة المتزنة والأيمان الورع بأن البشر لا يكسبون لدنياهم ماهو ألا الخير المطلوب لأخرتهم ، وان الطعام ليس ضرورة كالولع بالجمال وخوارق الكون ومشهد الفلك تحوّم بين الفضاءات اللا نهائية .. فهو يتكلم بيقين زوال الغرائز واندثار شوائب مخلوقات الجسد .. وهكذا صار الكل على معرفة ان نظام اللا جوع هو الذي سنه جلالة الملك .. وحتى أنه عندما أستنجد بالأعداء لحماية عرشه الذهبي المشيّد من كنوز الوهم وحقائق الأرض فأنه قصد ان يقول للعالم ان الغرائز كريهة .. الأمر الذي لم يفسد على الناس مسرتهم أو أعمالهم اليومية . بل قيل ان المملكة بأمر جلالته استعادت لغرائزها البهية .. وعلى الرغم من ان لا أحد كانت تعنيه الكلمات أو تأويلها فأن سرية وجلاء الكلام كان يؤخذ مأخذ التبجيل .. جميع الكلمات مقدسة حتى التي لا علاقة لها بالمعتقدات .. فكل كلمة ينطق بها جلالته هي حجارة في جدار خلود المملكة .. وهكذا كان الحوار يدور همساً وعلانية بعد ان انزوى أمير الكراهية وراح يتناول شريحة من فخذ فعلي لأمير الوهم .. كان يتلذذ برائحة اللا معنى ، وقيل أنه أستمر يتناول طعامه حتى مات .
كانت القاعة تتسع بالحشود الجديدة .. أمراء النار يأتون مع أحفادهم .. وأمراء بلا أمارة يتندرون عن شائعات الجفاف والموت المعلن في ساحات العاصمة والمدن الكبرى .. ويتندرون بأصوات مختلفة حول أمور حسبوها خالدة .. وللحق فأن أحداً ما من الحشد الكبير لم ينظر الى ساعته أو يتحدث عن الزمن .. فجلالة الملك سيأتي وسيلقي خطابه في وقت من الأوقات .. بل ثمة إشاعة سرت بين الجميع ان جلالته قد لا يأتي وإنما هو ينطق بالكلمات المتداولة ما بينهم .. فليس للحضور الجسدي ضرورة . كذلك قال أحد الأمراء لنفسه ان جلالته يكمن في سريات الروح . لكن هذا الأمير غادر القاعة مع حمايته وحاشيته نحو ساحة الأعدامات وقتل نفسه معترفاً ان الجفاف قد أصابه بلوثة .. وأنه لا يستطيع البقاء على قيد الحياة بعد ان لوثه اللا ولاء للعرش . وكانت تلك الكلمة بمثابة قانون لأن المملكة لم تسمح بوجود مثل هذه الازدواجية . فالأجهزة الجديدة صارت تعشق عملها كأنها كائنات حية ، فهي تصدر الأوامر التي ترضي مشاعر جلالة الملك ، حتى قيل أنها كانت هي التي تصور له أوامر ممارسات العادات اليومية مثل مضاجعة ألف امرأة ليلة اكتمال البدر وتناول طعام الفجر والتلذذ بخمور لا أحد يعرف كيف صنعت . لكن هذه الإشاعة دفنتها الأجهزة الإلكترونية بالغة الدقة وحسمت الأمر بأن الملك هو الذي منحها قدرة الخيال الخصب لقيادة البلاد وتلافي العثرات ان حصلت . ثم ان هذه الأجهزة ذاتها تمتلك قانون النسيان ، لأنها لا تعبر ألا عن إرادة جلالة الملك ، قبل توليه العرش ، وبعد زواله إن شاء هو ذلك ، كما أكدت آخر معلومات هذه الأجهزة ، ان الملك وحده هو الملك .
على أن حضوره لم يكن مباغتاً في فجر ذلك اليوم البارد ، بل كان صاعقة حسب من شاهده ، وهو يدخل القاعة ، من غير تاج أو أوسمة . وقد جلس في مكانه المرصع بأثمن معادن الفضاء وبجواهر لم يرها أحد من قبل ، من غير كلام .. كان يحدق في الجميع بذهول تام .. ثم نهض لينهض الجميع ، وجلس ، دخن سيكاره الماسي ، ورسم ابتسامة أعادت للجميع بعض الاطمئنان . لكنه لم يفلح بإخفاء قلقه الذي استولى عليه درجة أنه تجاهل التقاليد التي أرساها . فراح يداعب أميرة الرقص ويتحدث أليها عن جفاف الهواء في القاعة وعن أحلامه الغريبة وعن شعوره بالوهن . ولم يكن بمقدور أحد ، حتى هؤلاء المكلفين بمثل تلك القضايا ، من التدخل في وضع حد لأعراض الحمى الروحية التي دبت الى جسده ، لأنه وحده كان القادر على فعل ذلك .. وهو حر تماماً ، مثلما أعلنت الأجهزة وثبت معلومة مفادها ان الملك يعاني من الصداع النفسي .
فكر برهة ان يعلن زواجه الجديد .. لولا أنه لم يختر أو لم يعثر على زوجة صالحة أبدية .. ففي الواقع يعد جلالته الوحيد الأعزب طوال حياته على الرغم من أنه الأب الشرعي للأبناء والأحفاد الذين لا يحملون أي أسم عدا أسم المملكة .. وهؤلاء يعاملون كأمراء في العادة .. وهم الذين يعملون على حراسته الشخصية .. بالرغم من ان أمير إبادة الأعداء أعلن عن سلامة الأمة من الفوضى ومن الأعداء .. فالحب المطلق هو الذي ساد وهو الذي يتحكم بالعلاقات .. ليس هناك فقراء أو سجون أو غبن أو شرطة أو محاكم أو خرائب .. بل ليس هناك دولة أصلاً عدا المملكة التي يحكمها جلالته .. وكان الملك يعرف ذلك ، بل قالوا أنه ذاته كان قد خرج وتفقد ويلات الجفاف وتألم كثيراً لأنها حصلت خارج إرادته العليا .. وأنه لا يحلم ألا ان يرى الغيوم مشبعة بالمطر تعيد للأرض حياتها التي يتذكرها يوم كان فقيراً بلا أب ولا أم وقرر ان يحكم البلاد وان يعيد لها أسوارها التي تحميها من الأعداء . ألا ان الأمور كلها جرت على نحو مختلف .. فقد استطاع بالفعل ان يقضي على الأعداء بالأعداء .. وان يتحالف مع الظلام ضد الظلام ذاته .. ولم يكن يفكر ألا بالقضاء على الغرائز التي ، عملياً ، حسم أمرها عند العامة ولم يفلح بحسمها في جسده الملكي .
نهض وسار نحو الباب الكبرى التي طالما فتحها وتأمل شعبه المحتشد الذي كان يتجمع بانتظاره .. وقبل ان يفتح الباب ببرهة دار بخلده ان فكرة الزواج محض ملهاة فقرر بالفعل إصدار أمر بإلغاء الزواج وإنشاء وزارة تتولى الإنجاب وتعديل نظام الأسرة .. كما أصدر أمره بإلغاء الجيش والقوات المسلحة ..
كانت أوامره تنفذ من غير ان يصّرح بها أو يعلنها ، فقد كان يعاني من تعب في لسانه وثقل في فكيه .. ألا ان الأجهزة كانت تسبقه في تحقيق رغباته المتسامية .. أنها وحدها أدركت لكم هو كان يشعر بالأسى للضعف البشري الذي يدمر الذاكرة والذي لا مناص منه .
فتح الباب وحدق في الفضاء البعيد . لم يكن ثمة أحد هناك .. عدا الرمال والرياح تمر مشبعة بذكريات الماضي .. لا أحد أقترب منه .. ولا حتى حفيده الوحيد الذي أدرك ان لا جدوى من التدخل .. فالجفاف قد قضى على الأعداء مثلما آباد سكان البلاد .
في القاعة ، وفي مكانه الفسيح ، أخذ يداعب كلابه التي أسرها في آخر معاركه .. وهي معارك لا أحد يعرف متى حدثت وضد من .. لكن كتاب المملكة الكبير يشرح ذلك بإسهاب . وفي صفحاته الأخيرة دوّن بوضوح ان جلالته قد أقصى الأمراء كافة من مناصبهم ودفعهم بهدوء إلى ساحة النوم وعين كلابه بديلاً عنهم في أرفع المناصب وأكثرها حساسية .. فبعد عام الجفاف لم يعد هناك في الوجود ألا الملك وحيداً يصدر أوامره لنفسه ولا أحد سواه . وعندما كان يشعر بغرائز الضجر يخاطب أجهزته ويتسلى معها ، حتى قيل أنها ، بسبب طيشه ، أمرها بإنهاء حياته . لكنها في بادئ الأمر لم تنفذ ذلك الأمر ولم تستجب له ، فقد أعادته إلى قريته حيث ولد فيها .. وهناك ، كان جلالة الملك بلا كلاب ولا أمراء . فقد كان الجفاف يزحف اليه ، وييبس له أجزاء جسده ، وُيسكت فيه آخر الكلمات .
1991
AdeL_kameL_47@yahoo.com

ليست هناك تعليقات: