الاثنين، 23 فبراير 2015

قصة قصيرة الغزلان في السماء- عادل كامل

قصة قصيرة

الغزلان في السماء



عادل كامل
     ـ لا تتعب نفسك، فالغزلان اختفت.
فقال لها:
ـ اعرف...، أنا قلت لك ِ إنها توارت، كأنها تبخرت، ذابت...، ولكن كيف؟
    فقال الثور للأتان، وهما يراقبان الزرائب، والحظائر، وباقي الأجنحة، في الحديقة:
ـ هم يقولون إنها عبرت الحواجز، ثم قفزت الأسوار، ولاذت بالبرية..
   هزت الأتان رأسها:
ـ إشاعة!
ـ لا، هناك احتمال إنها أصيبت بأحد الأمراض...، ونفقت، فلم يتم الإعلان عن ذلك لتلافي الفوضى.
فكررت الأتان:
ـ إشاعة.
فرد الثور، بعد لحظة صمت:
ـ الاحتمال الأخير غير معقول..
ـ وما هذا الاحتمال...؟
ـ تم اجتثاثها، فأنت تعرف إنها أقدم نظريات الحكم!
ـ إفراط في السخف، وفي السخرية...، فلماذا يتم اجتثاثها، وهي غير ضارة إن لم تكن منافعها لا تحصى...؟
   فكر بصوت مسموع:
ـ ربما لأن جمالها لم يعد محتملا ً...، فثمة حسد، حسد يغيض...، يوخز، ربما سمح لهم باجتثاثها، كي لا تحدث فتنة!
ـ أيحدث الجمال فتنة...؟
   قال الثور بعد ان صفن قليلا ً:
ـ نعم، أيتها الأتان العزيزة، انه أكثر الفتن إيلاما ً...، وأذى، ففتنة الجمال الأشد مرارة من القتل!
ـ أنا تحدثت عن الجمال ولم أتحدث عن موضوع آخر...؟
ـ كلاهما، فتنة، توقد ما لا يمكن إطفاؤه!
   أجابت الأتان بصوت مرح:
ـ دعك من الجمال، إلا اذا كان علقما ً، فالغزلان مخلوقات وديعات، ظريفات، ناعمات، كأنهن بنات ذاهبات إلى المدرسة!
ـ ربما يكن ارتكبن معصية، أو قمن بالتحريض، أو دارت برؤوسهن خيالات التذمر ...؟
ـ لا أتصور..
    لامس الثور جسدها، بعد ان قرب رأسه منها كثيرا ً، هامسا ً:
ـ  أعظم السدود تخربها فأرة! وأغنى الأغنياء يقتله بخله!
ـ أنا لا اعتقد!
فكر لبرهة، وأجاب:
ـ هناك احتمال إنهن قمّن بالتخاطر مع غزلان حديقة أجنبية، أو ثرثرن، أو كشفن عن المستور، أو لم يلتزمن بتعاليم سيدنا المدير...؟
ـ لا...، فانا ثور يشم رائحة السكين قبل ان يلوّح بها هذا القصاب.... أو ذاك؟
ـ دعنا من مخاوفك، يا سيدي، فلو أحصيناها فإنها لا تحصى، كالنعم، وأسباب الرخاء!
ـ لم تبق إلا إشاعة واحدة وهي إنهن، في ليلة العاصفة، وعند اشتداد البرد، وهطول الظلمات ممتزجة بالحجارة...، وبعد إعلان النفير، ومنعنا من التجوال...، صعدن إلى السماء؟
ـ ماذا قلت؟
ـ صعدن إلى الأعالي..
ـ وماذا يفعلن هناك؟
ـ هناك احتمالات متعددة، يا سيدتي الجميلة، أما لأنهن غاضبات على إدارة الحديقة، ومديرها العنيد، وأما إنهن تلقيّن دعوة ...، وأما ذهبن للسياحة، أو لأداء فريضة، أو للمؤانسة والاستمتاع،  وأما جرت معاملتهن كمعاملة الغرقى، والمحروقين، والمغدور بهم...؟
ـ مع انك تعرف إنني حمارة ذكية، فاتنة، باذخة الحسن، ولم أنجب إلا بغلا ً واحدا ً...، ولم أتورط بالانتماء إلى أطياف الشمال، ولا إلى أطياف الجنوب، ولم تغوني أطياف الوسط، وسواها من الأطياف...، فانا بدأت اشكك...، فثمة وسواس بدأ يوسوس في رأسي.؟
ـ بغبائي؟
ـ  لا لم اقصد ذلك، بل قصدت ان الجهل، الجهل وحده، هو الذي يصنع أعظم المعجزات، فهو شبيه بالظلمات التي وحدها تستطيع ان تبصر موقع اصغر عود ثقاب متوقد...!
ـ كي يتم إطفاؤه؟
ـ يا ثوري، لا تدع عقلك النيّر، يبتل بالأوهام، ذلك لأن احتمال صعودهن إلى السماء، شبيه بنزول فيلة أو خراتيت لدك الأرض، ومحونا من هذا الوجود!
   انفجر ضاحكا ً، لبرهة، ثم أغلق فمه، وراح يحدق في عينيها العسليتين الواسعتين:
ـ لن أؤذيك بالحديث عن بغلك الابن الذي ذبح فداء ً للذئاب، بل سأتحدث عن الإفراط في حساسيتك، وعن رهافتك المبالغ بها!
ـ وماذا افعل وأنا ولدت حمارة....؟
ولم تدعه يقاطعها، متابعة:
ـ فلم أنجب حمارا ً، مثلي، ليحمل الأثقال، والأوزار، ويجر العربات، وأخيرا ً يصبح نذرا ً للأسود والنمور والتماسيح...، فأنجبت بغلا ً لن يرتكب أخطاء والده الحصان، ولن يرتكب إثم والدته الحمارة!
ـ وهل لا يصعد البغل إلى الأعالي...؟
ـ لا...، لم يصعد ولم ينزل منها ...، بل مزقته أنياب الذئاب، وصار طعاما ً لها...، فقد كان من الصعب، وربما من المستحيل، ان يحصل على أجنحة...، مع إنني بذلت جهدا ً جبارا ً مع النسور، والصقور، والغربان، وسواها من ذوات الأجنحة، فباءت جهودي، وتضرعاتي، ووسائلي المختلفة بالفشل والخيبة.
    رآها تبتعد عنه، وسمعها تولول:
ـ لم اقصد إثارة شجونك، واساك...، فنحن ولدنا للمفترسات، خاتمة أعمارنا المقررة قبل ولادتنا...، فهل كان باستطاعتنا التلاعب بالأقدار....؟
  استعادت قواها، وقالت بصوت غاضب:
ـ ولا مكان للذئاب في السماء!
وقالت ساخرة:
ـ فقد ترى النمل والنحل والبلابل ولكنك لن ترى النمور والأسود أو الضباع!
أجاب بصوت رزين، هاديء:
ـ اعرف...، ولا مكان للكلاب، ولا مكان للخنازير، ولا مكان للأفاعي أيضا ً...
ـ آ ....، قل كلاما ً يهدأ عقلي المرتبك، المشوش، المضطرب...، وإلا ماذا لو صعدت بنات أوى، والتماسيح، والفيلة، إلى السماء، فأين سنذهب...؟
ـ عدنا نفكر!
وأضاف:
ـ حذار...، فقد تكشفنا أجهزة  الذبذبات الذكية..، وتدلهم علينا: عثرنا على ومضات في رأس ثور وفي رأس حمارة في الزريبة المرقمة...، خلف حظائر ...، بجوار أقفاص ....، الأسود!
ـ لا ترعبني..، فأنت، أيها العنيد، مصاب بعقدة السكين! تنام وتستيقظ ولا تتغيب عنك رائحتها! حتى ان طيفها استحال إلى شبح!
ـ أيها الأتان، يا له من مساء كدر، حزين..، شبيه بنهاية العالم.
ـ عدت تفكر...! ألف مرة قلت لك: إذا اكتأبت، أو داهمتك الأحزان، وإذا أصبت بالشرود، أو الذهان، فأذهب حالا ً إلى زريبتك وجد أول بقرة ونزها!
ـ مللت، حتى اسودت علي ّ الدنيا.
ـ للأسف...، أنا اختلف عنك، فانا استطيع فعلها مع أول حصان، بل وحتى مع فيل! لكنك مازلت عنيفا ً، وحشا ً، فأنت أرقى مني.
ـ بماذا أنا أرقى منك...؟
ـ في الأقل، لحمك يباع، وثمنه مرتفع، وجلدك أثمن!
  ارتج جسده، وراح يحك جسده بالجدار، بقوة، حتى أدماه. اقتربت منه، هامسة:
ـ لا تغضب...، جلدك لن يذهب إلى المزابل، ولن يحرق، في المحرقة، ولن تتغذى عليه الديدان....، جلدك سيتحول إلى بساطيل في أقدام جنودنا الشجعان!
   تهيج، وازداد توترا ً، فهاج، مرة أخرى، وراح ينطح الجدار، حتى كاد يكسر قرنه:
ـ اهدأ ..، أرجوك..، فهذه هي مصائرنا، الحمير، بعد ان حملوا عليها أثقال البشر، أصبحت تعد طعاما ً للعاطلين عن العمل، لحمنا للمفترسات، وجلودك للأحذية!
   برك فوق الروث، لدقائق، ثم نهض واقترب منها:
ـ ها أنا أدرك سر غضبك، يا ثوري!
ـ ماذا دار برأسك، أيتها الجميلة، غير صحيح!
ـ ها، وماذا دار برأسي؟
ـ قلت: لا البغال، ولا الحمير، ولا الجاموس، يسمحون لهم برفع رؤوسهم أعلى من حاجز هذه الزريبة!
ـ اقسم بالمدير، وبمساعدته الببغاء، أنت ِ أذكى أتان عرفتها في حياتي.
ـ حمارة تحاور ثور لعلها تغويه!
ـ أسس! بدأت أجهزة كشف الذبذبات تعمل.
ـ إذا ً، أيها الموقر، أين اختفت الغزلان...؟
ـ إنها لم تصعد إلى السماء...، لأن أحدا ً لم يوجه لها دعوة...، ولأنها لا تمتلك أجنحة، ولم يتم اجتثاثها، ولم تمرض، ولم ترسل إلى المحرقة، ولم يسمح لها بالعمل في السيرك ...، فأين اختفت...؟
ـ لو أخبرتك...، ماذا تهديني؟
ـ قبلة!
ـ يا للقمر، ويا للنجوم، ما أبهاهما في حلكة هذا الليل...! ثور يهدي حمارته قبله!
   هز رأسه:
ـ حتى لم يعد لدي ّ قرن! غضبي سبب لي النكبات!
فقالت بحزن:
ـ وأنا رهافتي كادت تفقدني عقلي!
   صمت برهة وقال لها بصوت مرتفع:
ـ هكذا تغزل اليد بالمغزل غزلها!
ـ ماذا تقصد؟
ـ بالعربي...، الظلمات لا معنى لها إلا بنقيضها...!
ـ غير صحيح، فأنت قلت: شبيه الشيء منجذب إليه؟
ـ أكاد أقول...، أنت مثلي، كلانا اجتاز حاجز الجنون!
ـ لا، لا، لا ، فأنت قصدت: حاجز المحرمات، وكأننا نجونا من الطوفان!
   ساد الصمت فترة غير قصيرة، لتسأله بغتة:
ـ لقد ناورت طويلا ً حتى كدت لا تبوح لي بالجواب: أين اختفت، أين توارت، أين ... ذهبت الغزلان، إن لم تهاجر، ولم تهّجر، ولم تصب بداء الخنازير، ولا بالايبولا، ولا بأنفلونزا البلابل، ولا بداء فقدان الذنب، ولم تصب بداء العظمة، وبداء الكلب، ولا بحمى القنافذ...، ولم تذبح فداء ً للقائد، ولم تصعد إلى أعلى الأعالي.....؟
ـ أخاف ان أبوح، يا وردتي!
ـ وهل تراني اعمل مخبرة، وهل حديقتنا تستخدم الحمير لإعلاء مجدها...؟
ـ هذا غير سليم، ليس بدافع الاستحالة، بل لأن حديقتنا لم تعد بحاجة إلى حمير يخبروها بما يحدث...!
ـ أحسنت..، تكاد تخفف من شطحتك، وتطمأن قلبي المضطرب، بهذا الاعتذار.
همس من غير كلمات. فقالت:
ـ فهمت! أنا كنت اعرف ان السيد المدير عقد صفقة خاصة بالغزلان، وأرسلها كي تتجول في حدائق العالم! وهناك من يقول إنها أرسلت إلى المتاحف!
ـ ربما للدعاية ...، ان نفتخر بغزلاننا، وليس بالبراغيث، أو بالديدان..، أو بالصراصير؟
ـ يقال، هناك ألف سبب، ولكن السبب الأول هو: ان السيد المدير باعها! بل ويقال انه باع الحمير والبغال والثيران معها!
ـ لكنه لم يرسلنا.
ـ انتظري ...، فلم يحن زمن سفرنا بعد..!
ـ تقصد، ان السيد المدير، أنقذها، ففي الأقل، لن تذبح ولن تباع ولن تهلك في زرائبها بسبب البرد، أو الإهمال..؟
ـ آ ...، لو أسرع المدير، يا حمارتي، وعجل ببيعنا!
ـ أرجوك ...، ألا تدرك ان الأسى خيانة، والخمول نذالة، وفقدان الأمل جريمة يعاقب عليها القانون!
21/2/2015

ليست هناك تعليقات: