بحث هذه المدونة الإلكترونية

مرات مشاهدة الصفحة في الشهر الماضي

الثلاثاء، 28 فبراير 2012

قصة قصيرة-القصة لم تبدأ بعد-عادل كامل




قصة قصيرة
القصة لم تبدأ بعد
عادل كامل
لم تمض على رحيل الكاتب "ل" إلا ثلاثة أشهر لكي يصدر كتابه الجديد الذي يحمل عنوان " الغرباء"، وقد أستقبل الكتاب على نحو لائق، لم يحصل مع كتبه السابقة، الامر الذي دفع بالناشر، وهو رجل شعاره الربح، في عالم متحرك بحسب كلماته، الى إصدار طبعة ثانية، ولا أحد يعلم من أضاف، للطبعة الجديدة، بعض التعديلات، والهوامش، ومعلومات لم تنشر في السابق.
كانت كتابة العمل دقيقة، وصارمة؛ وقد أعدّ الكتاب بعناية فائقة جعلت فكرته تتلبس حالة الغموض والسرية . ولقد حدثت ضجة أثر صدور الكتاب، ذكرت المتابعين بحياة الكاتب، لكنها، مع هذه الضجة، لم تلفت النظر الى من قام بالتعديلات والاضافات للكتاب في طبعته المزورة، كما لم يلتفت، أكثر المقربين اليه، في الماضي، الى مغزى رحيله المبكر، فقد مات الكاتب وهو لم يبلغ الخمسين من العمر.
ونشرت المجلات والصحف تعليقات كثيرة لم تغفل الاشارة الى حياة مؤلفها الصاخبة، الضاجة، التي انتهت الى العزلة والنسيان. فقد شغل الكاتب الحياة الادبية بأفكاره ومواقفه الغريبة مدة تتجاوز عمره الزمني. فقد كان من الغزارة الى درجة أنه ذاته لم يصدق أنه كان يمتلك مهارة عشرة رجال. وتلك ملاحظة ناقد ساخر اختتمها بأن الكاتب "ل" مازال في بدء حياته الادبية، اما الكاتب فكان يردد كلمته الشهيرة: ستكون اقامتي معكم أبدية ! لكنه سرعان ما كان يملأ الجو بالطرائف وبالمفارقات . فهو لا يؤمن بما هو أزلي، لكن الزوال لم يكن يفزعه. فبعد أن مات أعز رفاق حياته لم يحزن.. بل أمضى ذلك النهار يتجول في المدينة، وهو يردد " لقد ضاع رفيقي بين الناس"، وفي مساء ذلك اليوم، لم يشرب الخمر، إلا عند انتصاف الليل، لقد صرخ "وجدتها.." ولا أحد يعرف ماذا وجد. إنما في الصباح، كانت مقالته عن صديقه قد شغلت صفحة كاملة في الجريدة، وهي مقالة معلومات، لايمكن ان تكتب بهذه العجالة، ولايمكن ان يكتبها إلا "ل" ولا غرابة .. فهو بعد أن ينتهي من كتابة أي نص، في مختلف المعارف والموضوعات، ينفصل عنه، بل لايتذكره، ولايريد ان يعود اليه . والاغرب من هذا أنه لا يريد الاصغاء الى كلمات الثناء. انه – كما قال – لن اتعجل الرحيل.
لكن المفاجأة الاولى، بعد رحيله بأشهر، جاءت أثر نشر الكتاب نفسه، مقالة حول كتابه " الغرباء " وهي مفاجأة طواها النسيان أيضاً، مثل أحداث لا تحصى في حياته، مؤشرا أن الذاكرة محض وهم.. وبعد يومين، في صحيفة أخرى، كتب دراسة مطولة عن إرتقاء النبات، الذي يمتلك ذاكرة، هي: مفتاح الشاعر والشعر قفلهما!
وراحت مقالاته، بعد ستة أشهر من رحيله، تنشر في المجلات والجرائد والدوريات التي اعتاد النشر فيها . بل نشرت مقالة له في مجلة صدرت حديثا. يضاف لهذا ان عددا كبيرا من المقابلات كانت، هي الاخرى، تأخذ طريقها الى النشر .
ففي مقابلة مع كاتب مشهور، برر الكاتب والصحفي " ل " في المقدمة، انه كان قد أعدها للنشر قبل عقد مضى .. وانه كان ينتظر الوقت المناسب لنشرها.. فالاسئلة والاجابات كلها مبتكرة، لم تفقد طابع الاثارة، والفائدة، والاغرب من هذا كله أن هناك توق
فات عند قضايا لم تحدث في حياة الكاتب، بل حدثت في أيام النشر، الامر الذي دفع الرأي الادبي، وأحاديث العاملين في حقول الصحافة والفن، للتساؤل: هل مات الكاتب " ل "حقا؟ ام انها محض خدعة .. او محاولة ما لاختراع الشهرة؟
فنشر أحد الشعراء مقالة فسّر فيها بعض الالتباسات . قال ان الكاتب " ل" لم يكن يحلم بالمجد.. ولا بالشهرة .. لقد كان يبحث عن الهدوء.. وقال ان الفنان " ل " لم يجد لعبة الارتقاء . فهو من اكثر الكتاب سذاجة في التعامل الاجتماعي، وانه أضاع مواهبه الفذة بقضايا لا معنى لها.
ومثل هذه المقالة، التي كتبها الشاعر، هدّأت الضجة، وخنقت أنفاس الحساد. فقد جاء فيها، على حد قوله، ان الكاتب " ل" كان لايعرف إلا العمل. فكان ينجز عدة أعمال في وقت واحد، ويبعث بعشرات الموضوعات والمقابلات والقصص والمقالات الى النشر، ثم لا يتذكر انه فعل ذلك . إنه كان كثير النسيان، على رغم ان ذاكرته لم تخنه ابداً .
وفي مقال نشره زميل له جاء فيه ان " ل" لايجيد السلوك الغامض أو الغريب، فهو من أكثر الناس علانية . انه شخصية مكشوفة، والجميع قد تعرف على قلقه ومخاوفه واساه… فهو كسول لدرجة انه لا يمتلك قدرة طرد كسله. وعندما ينتابه الخمول، يبدو كالمخدر، فهو قد ترك منافع الدنيا وطرد شبح الربح والخسران، فتراه يغط في النوم عدة أيام .. وتراه يبقى متوقدا على مدار اليوم .. يتحدث في الاشياء كلها، ثم يصمت، ثم يصرخ بعذوبة: ضاعت .. ضاعت.. نزهتي فوق الارض . ويتجول وحيدا .. يدخل حانة.. يكتب .. ويعود الى البيت . وقال في مقالته ان " ل " قال له ذات مرة .. " لكل الاشياء.. لكل الاشياء ذاكرة: الصخرة .. الوردة .. السمكة.. وانا وأنت.. ومليارات المخلوقات الحية فوق هذا الكوكب الصغير .. لها ذاكرتها . أي لها وجهة نظرها الفريدة " ثم صرخ، قال الكاتب " قال لي بصوت كالرعد: لا خلاص – لا خلاص – فوق كوكب محكوم بالفناء .. "، لكنه لم يعلن، لا في السلوك ولا على صعيد الافكار، اسرار قلقه.
وتلك المقالة، هي الاخرى، أيدت السنوات التي أمضاها بعيدا عن عاداته الاجتماعية، فكتب زميله القاص، صاحب فكرة ان المرأة هي المرأة، شرط ان تبقى امرأة، إن " ل" قد انزوى بارادته بعيدا عن غوغاء الكلام وفوضى الحياة .. فهو – كتب- غير جدير الا بالدفاع.. وحتى في الدفاع، لا يستنفر قواه، إلا قبيل الاندحار الاكيد.
وهكذا كان قد سوّر حياته، لا بالجدران، أو بالاختفاء، بل حتى بالاسلوب الكتابي. حصل ذلك قبل خمس سنوات من رحيله . وها هو الآن، بعد صدور كتاب " الغرباء" يعود الى الاضواء . انه – اذا ً – كتب أحدهم: لم يمت. وبالفعل نشرت أحدى الصح
ف، في ركن، مع القراء، هذا التعليق : "يقولون أن السيد ل قد مات .. ولكن هل يبعث لكم السيد ل مقالاته ودراسته من العالم الآخر؟ لكم بودي لو كتب لنا تحقيقا عن اجواء ما بعد الموت ومناخاته واسراره ! وانا لاأسخر، هنا، فمنذ عام تماما قرأت مئات الدراسات والمقالات للكاتب "ل" أي قراتها بعد عام من رحيله،إنما هذه المقالات والمقابلات والدراسات كلها كانها كتبت الان . انها طازجة، حتى اني أشعر بالشك العميق ازاء خبر موته . فهل بمقدور الميت ان يزودنا بهذا الثراء الابداعي ؟ " .
فكتب مسؤول الصفحة، في اليوم التالي، تعقيبا على هذه الرسالة .. "ان زميلنا الراحل، كما تعلمون، كرس حياته كلها للناس .. حتى ان حياته الشخصية كادت تضيع .. فترك لنا ذخيرة من انتاجه الغزير لكم .. لقد رحل على أمل أن يرد له الاعتبار.."
لكن الصحيفة ذاتها نشرت، التعقيب الاتي، في ركن القراء..لاعلاقة لي، بابداعه، فهويدهشنا دائما، على الرغم من أنه فقد صبر الحياة .. إنما هل هو ما زال على قيد الحياة .. فهو أغزر انتاجا في النشر .."انتم قلتم انه مات منذ سنتين ؟ ".
كتب محرر تلك الصفحة، في الاسبوع التالي "اننا نشعر بالاعتزاز لهذه الصلة مع كاتبنا "ل" ولكن هل هو على قيد الحياة أو أنه يقوم بدور تمثيلي، كما في الحياة،عامة، نقول للقراء الاعزاء، ان استاذنا "ل"ترك لنا مجموعة من المقالات والمقابلات والدراسات، وفي واقع الامر كنا قد دفعنا ثمنها له .. بل وكنا قد ضاعفنا له الاجر .فلماذا هذا الشك ؟ انه مات وترك لنا مجموعة من .. نقوم..الان بنشرها .. فنحن لدينا هذا الامتياز الصحفي، على أقل تقدير .. ".
إنما الصحيفة ذاتها، نشرت، في اليوم التالي، خبر الاحتفال بعيد ميلاده، ذلك لأنها نشرت رواية جديدة له . ولم تتوقف الصحف عن نشر موضوعاته .وكاد الكاتب "ل" يتحول الى قضية.. فقد صدرت له عدة كتب، في العام الثاني بعد رحيله، رواية .. ومقالات .. وثلاث مجموعات قصصية .. لكن القراء كانوا سعداء بانجازاته ..فلم يكن أمر موته أو أسطورة حياته توازي ابداعاته .. وقد أدرك أصحاب المجلات ودور النشر انه الكاتب الوحيد في مقدمة قائمة المبيعات . فبعد أن فاز بافضل كاتب، وحاز على جائزة عالمية مرموقة، أعيد طبع اعماله الكاملة، ونفدت من السوق .وبهذا الصدد نشر رئيس تحرير جريدة "شمس الشموس " مقالة مطولة تحدث فيها عن معنى أدب الكاتب "ل"وفنه ولم يغفل القول بأن جريدته كانت قد أكتشفت مواهبه منذ زمن بعيد .. وبشرت بعبقريته، أما عن أسطورة موته أوهذا الاختفاء الغريب فلم يتطرق اليه .. فالقراء كانوا ينتظرون أية مقالة له .. والجريدة كانت تبحث عن النجاح وسط مناف
سة وكساد عام للمطبوعات .لهذا قال رئيس تحرير شمس الشموس بأن الكاتب "ل" لم يكن يفرق بين العالمين .فالموتى يتركون، مثل الاحياء، جسورهم مع الكائنات الاخرى، ان "ل" ـ كتب ـ اختفى خمس سنوات كاملة ولم يظهر فيها الا فيما ندر .. وكان طوال ذلك الزمن يعمل ويعمل وقد ترك ثروة كبيرة من الابداعات .وقال ان بعض الكتاب يمتلكون قدرة استشراف الازمنة القادمة. فعالمهم لا علاقة مباشرة له بعالم الزوال والفناء .كما انهم، مثل من يطالع في كتاب، ينظرون في الصفحات الاخيرة، بينما عامة القراء يتوقفون عند الصفحات الاول .ونشر الى جانب دراسته، مقالة تتحدث عن عزلة "ل" وكيف أهمل، تماما، من قبل اكثر المقربين اليه .. وذكر حقائق منها ان عدة موسوعات لم تشر حتى الى اسمه او وجوده، على رغم انه كان يعمل على مدار اليوم بجد ومثابرة . اما الان فقد صار عمله مثار الانظار كلها . وقد شاعت في الوسط الثقافي ان مليونيرا اجنبيا زار البلاد وقابل الكاتب .. وهو الامر الذي يفسر صدور دراسة عن ويلات العالم المعاصر .. فذلك الكاتب الذي صوّر بعد رحيله بعامين يشرح فكرة إلغاء أسماء البشر، هل يحل الرقم محل الحرف.. وجاء في الكتاب ان الفردوس فوق الارض لايرضي الاطراف كافة .فالحرب الكبرى تقترب، والبشر لايمتلكون ذكاء المصالحة العادلة، موضحا ان الحتميات عمياء والناس اكثر عماء ً منها.إنها رحلة ميت في مستنقع.وقال "ل" في كتابه " صراع الاضداد " ان الحياة برمتها محكومة بالزوال، موضوعيا وعلى مستوى الخيال .فالبشر وهم ينتقلون من نوع الى نوع، سيبلغون هدفهم الذي يقودهم الى الابعد، إنها رحلة تحولات عمياء، لكنها رائعة "..الحياة .. هكذا لايتهشم سر البقاء ولاسر الصراع .فالذاكرة تتجدد. وقوى العالم تتغير لصالح بقاء مسرحها .لامعنى للاخلاق او العويل ازاء فزع البشرية من الفناء .وقال رئيس تحرير شمس الشموس ان فكرة "ل"الاساسية تكمن في انبعاث الفرد من اطلال موت الحضارات .فالصراع الواعي من اجل الفردوس، الذي خرب الامم والشعوب، سينتهي الى النقطة التي تؤدي ـ ادت ـ الى الطوفان .وفي العام الثالث، أعلن رئيس رابطة علماء الجمال، عن افتتاح المعرض الشامل للكاتب والفنان والروائي "ل" .وقد ضم المعرض مجموعة نادرة من الرسومات واللوحات والمنحوتات الغريبة .. وقد زار المعرض الاف المشاهدين والمعجبين ..حتى ان ناقدا مشهورا قال أن الاعمال الفنية العظيمة تولد تلقائيا .مفسرا ذلك بحسب عقيدة البناء الداخلي للاشياء .لكن الصحف راحت تتحدث عن التنوع والغزارة .فالفنان "ل" لم يترك مشكلة بلا معالجة .ولم يكن "ل" أنانيا أو ذاتيا ـ كتب أحد المشتغلين في الكتابة ـ بل كان استجابة لقدر عظيم .فهو حتى عندما يرسم مهازل القتل وحفلات التعذيب وويلات السلام السرية، فانه كان يبحث عن منفذ للخلاص .انه لا يعلم الناس طرق الرؤية، بل يفتح باب الموت وباب الجنة معا، فكلاهما باب لبيت واحد .وجاء العام الرابع بعد رحيله لتنشر له الأجزاء الأولى من سيرته الشخصية .. حيث كتب في التقديم بأنه سيناضل من اجل ذات شفافة، صافية، لاهي مستقرة فوق الأرض، ولاهي معلقة الى سماء . فالمشكلة قائمة ـ كتب ـ كصراع أدى الى الوعي، والوعي ينتظر الخيال .ولهذا فانا سأستمد نوري من كل طاقة عمل .هكذا أعترف لكم بأن الموت ليس سوى ومضة. والذين لا يخافون الومضة لاخوف عليهم ..والذين لايفرحون جيدا هم الموتى .فأنا أسعى للموازنة بين أبديتين، واحدة لاقرار لها واخرى لانهاية لها، كل هذا العالم الى فناء، إنما، إنما ثمة لحظة، أو لحظات، يمكن أن نطلق عليها اسم الخلود، انه الوهم المقدس، فالجوع يحرك مخاوفنا اليومية، لكنه لايزعزع آمالنا بأننا غير أرواح جميلة، لقد عشت حياة مرعبة حقا، مثل كل ذات لم تلوث بالربح والخسران، بل كانت حياتي كالبحر، كالبحر وهو يهدم سواحله، وأنا لم أكن أهدم إلا لصالح اكتشاف أسطورتنا .للحشرة، مثلما للوردة، مثلما للقاتل والضحية أسطورة .فهذا السلوك المبرر موضوعيا يتهدم بالعلم أيضاً .أنا أكتب للبحث عن الخبز .. فهل هذا هو كل شيء.. وهل للعالم اخترعنا لكي نكتشفه ؟إني لاامسك بالخيط، بل أسير فوقه .فالصلح أو الجنة أو الختام كلها خيالات رائعة .أنا أعمل بالخيال لهدم عاداتي السافلة :الحياة وكأنها أزلية .. والموت وكأنه رحلة نحو اللاشيء .أكتب لأنني بالحروف أخترع أدق زوايا مملكتي المظلمة .. وقدم رئيس تحرير شمس الشموس الكاتب "ل" الى القراء بصفته من أكثر الكتاب غزارة وتواضعا ."فهو في الواقع فاق الجميع لافي تنوعه وسحر أسلوبه وحيويته فقط، بل لاثارته الاسئلة الدائمة .. والفذة .. ".
على ان كاتباً مغمورا نشر سلسلة من المقالات، في جريدة "القمر الاسود "هاجم فيها الكاتب "ل" والصحف التي تقوم بنشر أعماله الادبية .
[فهو في واقع الامر يقوم بعمليات تزوير كبيرة ..فإذا كان "ل"حقيقة فاين تكمن هذه الحقيقة ؟ إننا منذ خمس سنوات نطالع إبداعات لشخصية مجهولة ولاوجود لها أصلا .فالذي نشر خلال هذه السنوات يفوق جهود عشرة كتاب مجتمعين .وهذا يعني أن هناك جهة ما تستثمر هذه اللعبة لصالحها ..].
وراح الهمس يدور حول شخصية رئيس تحرير شمس الشموس، التي ما زالت تقوم بنشر مقالات ودراسات الفنان "ل"ودراساته ومقابلاته .. وذلك لكون المجلة اتخذت من الاسم اللامع للكاتب المغمور، الذي مات بلا ضجة، وراحت تستثمره لصالحها ..
ومن ناحية ثانية تساءل أحد النقاد عن السر العجيب لهذه القضية الغامضة، فإذا كان "ل" قد مات منذ خمس سنوات، فمن ذا الذي يقوم بكتابة هذه النصوص ؟ إنه لم يعترض على أهميتها وتميزها، وإنما جعل يبحث عن المؤلف.فالكاتب ـ قال ـ هو الذي نبحث عنه .
لكن ردود الفعل اختلفت، وتباينت، حتى ان محاميا مجهولا أقام دعوى ضد مجلة ((شمس الشموس )) لكونها تقوم باعمال خارج سياق القانون .فالكاتب"ل" نشر المحامي هذا النص في جريدة القمر الاسود ـ ليس الا شخصية مستعارة، ورمزية، فهو ينشر ما شاء له من الاراء .. وشجاعته يستمدها من موته .أما القراء فانهم ضحايا هذه اللعبة .اذا ً اين هو "ل" ؟
لكن مقالاته عدت من أخطر المقالات،وقد نشرت في شمس الشموس، ودافع فيها "ل" عن نفسه وفنه وحياته .فكتب يقول أن الموت ليس تهمة [فأنا مازلت على قيد الحياة .أقصد أني تركت هذه النصوص تتكلم نيابة عني وعنكم .وأقول :ماذا لو كنتم جميعا موتى الان ؟اني أدرك عميقا لعبتنا نحن الأحياء الموتى .. أو الموتى الأحياء .. أدرك جيدا لماذا تتهامسون عن اللعبة القادمة .. لكنكم، للأسف، أغلقتم أفواهكم خلال حياتي الشقية . ولا أحد منكم كلف نفسه، للأسف، على مدى سنوات وحدتي وعزلتي وفقري المخيف، أن يتعرف على حياتي . لقد كنت أبصركم من ثقب صغير .و أرى أدق التفاصيل المروعة التي كنتم تقومون بها.لا أحد منكم جاء ليعرف ماذا أفعل .. بل الحق أقول أنكم كنتم فزعين مني..ولا تخافون إلا أن أفتح فمي بالحق .. إلا أنكم أجدتم لعبة عزلي ودفعي الى حافة الجنون .فإذا كنت طوال الوقت أعالج محنتي بالكلمات، لم تكن زوجتي أسطورة ولا ابنائي البؤساء .. كانوا جميعا يعانون من الفاقة .لكني للحق كنت أعمل بطاقة خيالية .. ثمة زلزال يتحرك في أعماقي . فكنت أكتب على مدار الساعات والايام وبلا كلل أوضجر . ولم اسأل نفسي السؤال القديم :ماجدوى هذا؟
أنكم ستطلعون على فكرتي لتهز مشاعركم .. وهي فكرة أني أعمل خارج قانون الربح والخسران .لقد سعيت للفن ذاته وللحياة في أبديتها حتى وأنا أراها تغيب وتتلاشى أمامي .. لكني لم أفعل ذلك بحسن نية .اني في الواقع أتذكركم لشدة النور الذي كان يحرك عقلي وعاطفتي . فعملي اليومي الدائم دفعني الى البعيد .. لهذا الزمن الشائك .اني تركت عاداتي كلها، وغادرت جسدي .كنت أمضي زمني اتسلى وانا أردد:لاتتعجل الاقامة في الوهم .وكانت أمراضي المقدسة تعرقل تنفيذ رحلاتي الفنية .. الا أني كنت في عراك أزلي، لم أخسر ولم أربح، ولم أفكر، كما في السابق، بنيل الاوسمة أو سماع قرع الطبول .لقد قرأت جميع ما لديّ ـ وما توفر ـ من الكتب . وكنت أريد أن أطالع كتب العالم كلها .. إنما ذلك محض أمنية . فأنا تعلمت ذات يوم أن الحياة جديرة بهذا التعب لانها تنمو كالاشجار، وأنا محض حبيبات نور تتجول في الفضاءات .. ].
هذه المقالة أثارت ضجة .فعاد المحامي ليكتب :أين هو السيد ((ل))الذي يتحدث عن حياتنا الثقافية وعن بؤس وجودنا .. أين هو ..؟ اني في الواقع أود أن أراه وأتحقق من وجوده .. فأنا من أكثر الناس اعجابا بما يكتب .. ولكني اعتقد بأن "ل"ليس الا وهما أو رمزا . وبهذه الدقة أعتقد أن هذا الرمز يستثمر لاغراض مالية لاأكثر ولا أقل .ربما هو مازال على قيد الحياة .. إنما هل من المعقول، أو المنطق، اننا لانستطيع أن نتعرف عليه؟ ثمة غموض في هذه القصة .فهناك جهات تستغل اسم الكاتب .. أو إنها كانت قد تعاقدت معه لاداء مثل هذا الدور .. إنما نحن نتساءل :لماذا يذهب السيد "ل" الموقر ضحية هذا التلاعب ؟ لقد تحدثنا عن الوعي ودوره فأين هو الوعي إزاء هذا كله ؟ إن القراء، مثلي، يرغبون بظهور الكاتب "ل" لمرة واحدة لكي يعترف أو يقول أو يدافع عن نفسه، في أقل تقدير، إنما هذه القضية خاسرة .. ] .
وراحت الاتهامات تنصب نحو رئيس تحرير ((شمس الشموس)) لكونه ما زال ينشر مقالات الكاتب "ل" ودراساته بعد خمس سنوات من رحيله، حتى انه، وهو يحدث، مساعديه، وسكرتيرة التحرير، أخذ يشك بالامر . قال لها :
ـ " إنهم يضعوننا في القفص .. " .
فقالت :
ـ " لكننا نعمل بوضوح تام .. لقد نشرنا ومازلنا ننشر ما نمتلك من نصوص كتبها السيد "ل".. فاين هو المسار ا المغاير..؟ ".
ـ " إني أكاد أشعر بالورطة !صحيح اننا ربحنا جيدا .. الا أني ما زلت أعتقد أن السيد " ل" على قيد الحياة .. " .
ـ "ليكن .. وماذا في الامر ..؟ "
ـ " كيف .. إننا ننشر له، منذ خمس سنوات .. وكأنه يعمل معنا ..حتى ان هناك أشياء لاتحصى كتبت وكانها كتبت توا ..فهل "ل" مات حقا أم اننا مازلنا نروّج كذبة ما .. ؟ صدقيني اني بدات أشعر بالخوف ..! " .
ـ " بالخوف .. غريب .. ان القضية لاتستحق هذا كله.. فالسيد "ل" الذي اثار كل هذه الضجة، هو المسؤول عنها .. هو.. لا أنا ولا أنت.. ان زوجته تزودنا، أسبوعيا، بمقالاته.. وفي آخر الشهر، تأتي لاستلام الراتب.. ماهو الغريب أو الغامض في هذه القضية ؟ اننا نتسلم المقالات والمقابلات وننشرها لأنها جيدة جدا.. فلو كانت لدينا مقالات أو مقابلات أخرى بهذا المستوى لكانت قد أزاحت الأولى .. فلماذا تشعر بالخوف ..؟ إننا لا نعمل ضد القانون..".
ـ " لا اقصد هذا .. بل راح فكري في مكان آخر .. ترى ماذا لو كان "ل" على قيد الحياة ..؟ ".
ـ " وماذا .. إنها مسألة عادية .. طبيعية ..".
ـ أوو…ه .. أقصد .. لماذا لا يريد أن يرى الناس .. ولماذا عزل نفسه واختفى ..".
ـ" إنها قضية لاتخص الأحياء" .
ـ " أنا لا أقصد أنه مات.. بل لماذا الحياة لديه صارت بهذا الشكل..؟".
ـ " أي شكل .. أيها السيد رئيس التحرير..؟.
ـ " هذا الغموض غير المبرر. فالسيد "ل " مات منذ خمس سنوات.. مات تاركا هذه الضجة، التي لم تحدث في حياته.. ثم إننا التزمنا، أو وجدنا أنفسنا هكذا نلتزم هذه القضية . خمس سنوات ونحن ننشر لكاتب ميت، وهو يتحدث عن أدق تفاصيل المعارض والكتب والقضايا الأخرى .. ترى من يصدق انه مات.. هل مات.. حقا..؟ " .
ـ " انك مضطرب .. ياصديقي ".
ـ " بل اشعر بالدوار .. فالاتهامات تجاوزت فائدتها.. وقد تتعرض الدار كلها الى .. الى .. الغلق!." .
ـ الغلق.. ماذا تقول .. انك تكاد تفقد عقلك ؟." .
ـ " أجل .. فقد أكون أنا الذي انتحل اسم الكاتب اللامع "ل " لأسباب شخصية .. وهذه تهمة قد أجيد الدفاع عنها .." .
وقلب بين أوراقه، وتابع قائلا :
ـ " هاهو يكتب .. اسمعي جيدا .. " .
وأخذ يقرأ بصوت عال:
ـ " اعرف جيدا ان هناك مشكلات ستثار حول موتي .. ان الناس البسطاء هم وحدهم يمتلكون نبل الأشجار. أنهم غير مضطرين للكلام أو الدفاع عن النفس .. الأبرياء.. هؤلاء، سيدافعون عني : أنا الراعي وكلماتي هي الخراف نحرس ليلنا البعيد.. " .
سكت . فقالت له :
ـ " كلام .. كلام .. أنت تعرف الكلام .. لا ضرر منه .. " .
ـ " الكلام.. منذ الآن .. تهمة .. " .
ـ أراك ترتجف .. ".
ـ " اجل .. فأنا رحت أكتب دفاعا عن الموتى .. " .
ـ " أوه .. دعني أحسم الأمر .. ياصديقي العزيز .. إن " ل " مات قبل خمس سنوات .. وترك لدينا هذه النصوص .. فقمنا بنشرها.. أو أننا كنا قد اشتريناها منه .. هذا كل مافي الامر .. ".
ـ " لكننا نشرنا قضايا حدثت بعد رحيله .. أوه .. لماذا رحلت ايها الصديق العزيز.. ؟ " .
ـ " بسيطه .. إنه كان يبصر .. أو يستبصر .. فهو موهبة نادرة، فذة .. موهبة عجيبة وتلك هي موهبة السكير " ل " .. " .
ـ " دعينا من الخمر الآن .. إن "ل" .. " .
وسكت طويلا، قالت :
ـ" ماذا يدور في رأسك ؟" .
قال بهدوء :
ـ" المحكمة على حق .. فأنا، عليّ، الآن، إثبات أنه مات.." .
ـ" وماذا علينا ان نعمل ؟.." .
ـ" أعتقد .. علينا .. أنا وأنت.. أن نذهب الى زوجته .. فقد يكون " ل " على قيد الحياة .. " .
ـ" ولكننا دفناه بأنفسنا.. ".
قال بشرود :
ـ" هل دفناه جيدا ؟ " .
ـ " أجل .. أنا رأيت المشهد كله .. كان "ل" لا يتكلم .. " .
-" ولكنه مازال يتكلم..".
في ذلك اليوم، صدر الجزء التاسع من سيرة حياته . وفي مجلة " شمس الشموس " نشر " ل " مقالة جديدة تتحدث عن ويلات القرن : هزائم مدوخة وثرثرات بلا حدود . هذه هي الفاتحة : إن الناس، كالشياطين، يتناسلون بدافع الفراغ . فالجنس ليس تهمة، ولكنه حب، وشاية: رغبات تدفن الرغبات، والخيال لم يعد إلا حيلة.. وأنا أقول هذا لفتح أبواب الظلمات.. " .
ونشرت، أيضا، مقالة لا تحمل اسم كاتبها، تتحدث عن محنة "ل " جاء فيها:
" لقد عشت معه أدق الساعات مللا من هذا الوجود.. كانت بغداد تحت مطرقة الموت . العالم كله يضرب ويقصف ويهدم ويلعن وجودنا كله. العالم كله يحاول إلغاء وجودنا كبشر . آنذاك، في أكثر الساعات قلقا، كان "ل " يصنع فخارياته ومنحوتاته، لماذا؟ سألته . قال لي : الطين سيتكلم . أنا أحرق جسدي فاتحة للمسرات..ماذا تقول ؟ قال لي : الجنة كلها تحت المطارق .يا صديقي النار انطفأت، والقلب به خوف .لوعتي لامكان لها في هذا المكان..فأحزاني أبهى من المسرات. قلت له :اتخاف من الموت ؟قال:ماذا تقول .. الموت، مسرة الالفة ..ماذا تقول ؟ قال :الطين يتكلم ؟" .
ونشرت صحيفة أخرى هجوما مباشرا تحت عنوان "لعبة الموت " قالت فيه ان عصر الدعاية، كما يبدو، حتم وجود هذا السيناريو .. فكتب رئيس تحرير "شمس الشموس " ردا يدافع فيه عن عبقرية "ل" وعن شرعية نشر تراثه .. كما تحدث عن قدرات "ل" الخارقة التنبؤية . على أنه لم يقتنع .. فقد كان .. هو الاخر، يشك بالامر .. فقرر، في مساء ذلك اليوم البارد، أن يزور، مع سكرتيرة التحرير، أرملة الكاتب، في دارها .كانت أرملة الكاتب في الخمسين من العمر .. وقد استقبلت ضيفيها، بإنشراح، وراحت تبادلهما الاحاديث الودية .
قال رئيس التحرير :
ـ "في الواقع هناك مشكلة .." .
ـ "مشكلة ؟ ".
ـ"أجل ..إنها مشكلة .. إنها مشكلة معقدة .. ".
ـ" ومشكلة معقدة ..اذا ً.." .
ـ " إنها على أية حال، مشكلة ننتظر ان تساعدينا بحلها . فقد قمنا بنشر تراث زوجك العزيز .. الذي كتبه بعد رحيله .. ".
ـ" ماذا تقصد ؟ ".
"أقصد انه كتب، مثلا، مقالات تخص المناسبات الكبرى .. وكان يكتب بدقة تفوق دقة الاحياء .. فهل كان يبعث بمقالاته من العالم الاخر ؟ ".
ـ" إنها محض مبالغة .. يا عزيزي ..".
ـ" بل إنه تحدث عن حقائق لايمكن لميت ان يكتبها إلا إذا كان على قيد الحياة ..".
ابتسمت السكرتيرة، وقالت :
ـ"ميت على قيد الحياة ..غريب ..؟!".
قالت أرملة الكاتب :
ـ"هذا يعني إننا كنا نزور مقالاته .. وكتبه ..؟"
ـ" لا.. لا.. أقصد ذلك .."
ثم صمت برهة ليتابع :
ـ"..ترى من ذا الذي يمتلك أسلوبه .. سؤال آخر، اقصد :علينا ان نكتشف الموهبة الجديدة .."
ابتسمت زوجة الكاتب، ودافعت عن نفسها :
ـ "أنا لا أجيد كتابة المقالات ولا القصص ولاأي شيء آخر .. وليس في أسرتنا من يمتلك موهبة الراحل .."
فرفع صوته مقاطعا :
ـ " حسنا .. لقد نشرنا خمس مقالا ت عن حياة الفنان الراحل "ل": مقالة في كل سنة ..وفي ذكرى رحيله .. فهل كتب الراحل هذه المقالات قبل رحيله ..حسنا .. لكنه كان يكتب عن أشياء بعد مغادرته هذا العالم .. إني لم اعد افهم خاصة إننا نتعرض الى نقد لاذع من قبل الخصوم والأصدقاء أيضا"
ثم سكت .وتكلم بشرود ذهن :
ـ "حتى المناسبات الخاصة كان يتكلم عنها وكأنه أبصرها .. ترى ماذا لو تحولت تلك المناسبات الى مناسبات مختلفة ..مثلا؟"
ـ "انه كتب عن ذلك ..وكتب ..عن .."
قاطعها :
ـ"هل كتب عن عودة الملكية حقا ؟".
ـ"لم يبشر بعودة الملكية ..ولم يدع إليها ..انه كتب عن المناسبات ..وكان يصوّر الشعب ..".
"الملكية ..غريب .. اني لم أعد أصدق إنه يعيش في العالم الاخر ..انه معنا ..بل ربما يجلس هنا، في غرفته ..اليست هذه هي غرفته ..وهذه كتبه، ولوحاته..ومنحوتاته ..؟"
ـ"نعم …اننا تركنا الاشياء كما كانت ..فلدينا قناعة بانه يزورنا يوميا ..في الفجر أو في الليل .. يجلس امام منضدته ..تلك ..ويكتب .."
ـ"وكنت تأتين لي بمقالاته التي يكتبها يوميا..؟"
ـ"كلا ..إنه لم يكن يكتب بهذه الطريقة .."
ـ "اذا ً ..كيف كان يكتب؟"
أجابت بهدوء :
ـ"لقد كتب الراحل مجموعة كبيرة من الدراسات والمقالات والمقابلات و.. ".
كانت سكرتيرة مجلة "شمس الشموس "تدون ..وكانت أرملة الكاتب، تقول متابعة:
ـ "قبل ان يرحل بشهر، أو بأشهر، قال لي في آخر أحدى الليالي :انه سيموت.كان يعرف انه سيموت .بل كان يريد ان يموت .فقد ضجر من الحياة، والعزلة..قال لي في تلك الليلة :إسمعي يازوجتي ..التجار يتركون ثروتهم..مثلما الاثرياء يتركون العقارات والمال..أما أنا فسأترك لكم هذه الأشياء: أعمالي الأدبية والفنية وكل الأشياء الصالحة لمنفعة الناس والقابلة للتداول .. ليس لدي ثروة، كما تعلمين، للأسف ..وليس لدي رصيد أو عقار أو مال ..كل ما أمتلكه أني كتبت وكتبت وهذه هي ثروتي التي أتركها لكم .وأنا على يقين بأن الاصدقاء سيفرحون بها ..وسينشرون الصالح منها .."
وتابعت بصوت حزين :
ـ "وهكذا كنت أقدم موضوعاته لكم ..فقد كتب إشارة فوق كل مادة وتاريخ نشرها ..آووه..".
ـ "وها أنت ترى، بين يدي،هذه المقابلة التي اجراها مع سيادتكم، وقد كنت.."
قاطعها :
ـ "معي ؟"
ـ"نعم ..أنظر .."
ورفعت صوتها، وهي تتكلم بثقة :
_" رئيس تحرير شمس الشموس :الازمات أزلية .. "
وشرد ذهنه . فكر . هل فعلت ذلك حقا ؟ آه. قال في نفسه، أجل،إنه أجرى معي هذه المقابلة .. كانت ليلة باردة جدا.. وكانت لعنة الحرب قاسية جدا، قلت له بماذا تفكر؟ قال: الخمر .. قلت له: انك تدمر نفسك والاعداء يفرحون لذلك، قال: لا أعداء هناك . قلت : اشرب .. اذا ً .. قال : أريد أن أغني .. وغنى بصوت مكتوم.. ثم راح يسألني أسئلة عجيبة. وكنت أتكلم بحرية، وبلا رقابة .. فأنا اعرف من هو "ل" هذا الوديع الخجول البسيط الطيب الذي وهبه الله الاشياء كلها والتي ضاعت.. وسكر.قلت له: والآن بماذا تحلم؟ قال: لقد طردت الاحلام من مملكتي، اني نفسي صرت الحلم. فأنا لم أعد أميز بين عالم وعالم . العالم واحد. الحقيقة، مثل الوهم، واحدة، وشرب. كان يكتب. يسألني ويكتب ..".
ـ " هذه هي المقابلة .. اذن .. كاملة .. " .
حدق في عينيها وسألها بشرود :
ـ "على مدار ساعات النهار والليل.."
وتابعت :
ـ "منذ عرفته ..قبل الزواج، وخلال ربع قرن، بعد الزواج، لم يتمتع براحة .في البدء حاولت منعه ..ولكن بلا جدوى .. فتركته، كان يكتب طوال الوقت ."
ونهضت ..فتحت باب خزانة كبيرة :
ـ"أنظر ..انه ترك مئات الاشياء .."
ـ "رباه ..هل هو الذي انجزها ..؟"
ـ "نعم ..هو الذي كتبها ..أنا لا أعرف الكتابة ..بل كان يقول لي :لكم أود أن أكتب جملة مرة، مشرقة آثمة،بلورية، في وقت واحد .."
رفع صوته :
ـ "ذاكرتك رائعة ..مدهشة .."
وقال، وهو يحدق في الجدار:
ـ "بالإمكان نشر كتاب جديد .."
وقال:
ـ "زوجة "ل"تتذكر.."
ابتسمت، وقالت:
ـ "عندما تنتهي المواد التي تركها، سأكتب قصته..إنما أود ان أسألك :أين كنتم طوال سنوات عزلته.."
ـ "كنا في العمل ..إننا مشغولون ..فالحياة لم تمنحنا فرصة للراحة أو التأمل..زوجك، هو الذي انسحب من الحياة ..وهو الذي قرر اختيار العزلة ..إنه قرر إختيار الموت ..وعلى أية حال، الحياة هي الحياة ..لاجدوى من الحديث عن الماضي ..إنها متحركة، بلا معنى، عدا المعنى الذي نتوقف عنده، هذا الشرف النبيل والمؤلم والمفرح الكامن داخل الافعال ..إنها متحركة وسريعة الزوال..القفل الذي يدور بالباب يكتم أسراره .تلك هي جملته.فقد كان زوجك الراحل شخصية نادرة .."
واستمر يتكلم، ثم قاطعته، بهدوء :
ـ "مات يدافع عن هذا الوهم ..تاركا أرملة وسبعة يتامى ..أليس كذلك ..؟"
ـ "كلا ..كلا أبداً ..انه ترك ثروة لاتقدر بثمن ..".
ـ "ترك أرملة وسبعة يتامى ..هذا كل ما في الأمر .."
ـ "لكنه ترك لكم الاسم ".
ـ "ماذا نفعل بالاسم ؟هو وضع اسمه الى جانب الأسماء ..أما نحن.."
ورفعت صوتها :
ـ" في الواقع كدت لاأفتح لكما الباب ..إنما .."
ـ" ما الذي حدث ..يا سيدة ..؟"
ـ" انه ترك أرملة وسبعة أفواه .."
ـ" ووصيته؟".
ـ" هذه المقالات .إنها بالكاد تكفي لشراء الخبز ..".
وانتابها الأسى ..الذي دفعها للمتابعة :
ـ"مع ذلك أنا أقدس ذكراه ..وسأكتب، ان شئت، ذكرياتي عن الراحل ..".
ـ" الراحل ..؟"
ـ" أجل ..الراحل ..الاتعتقد انه رحل عنا .."
ـ" أجل ..أجل ..هذا أكيد .."
فقاطعته، وهو يتمتم :
ـ" لقد كان ينحني ..للاسف..للريح التي كانت ستنحني له .."
وسكتت ..شعرت انها غير قادرة على الكلام .زمن مضى .لكنها نهضت، بلا وعي وجلست، كانت مضطربة .
وصارت تتكلم بسرعة :
ـ" قبل ان يموت .. اجل ..قال لي :هذه وصيتي ..وهذا هو ميراثي لكم ..كتب..مقالات ..و.."
وقالت، بعد ان هدأت:
ـ" ثم انخرط في بكاء حاد .في تلك الليلة طلب مني ان استمع اليه .. واستمعت اليه، حتى الفجر، عندما قال لي بهدوء :انتهى زمن اقامتي فوق هذه الارض ..لم اصدق ..لكنه تابع بهدوء عجيب:هل احببتك ؟ نعم ..احببتك كثيرا ..مثل حبي الشيطاني للكتابة ..احببتك الى الابد ..انما زمن اقامتي انتهى ..زمن هذا الجسد الواهن .."
ورفعت صوتها :
ـ"وبهدوء ..بعيدا عن ضوضاء البشر، وصخب حياته الاولى، رحل عنا .."
سالها رئيس تحرير "شمس الشموس " بذهول :
ـ" لقد رحل اذن ؟"
ـ" اتشك بذلك ؟"
ـ"لا..لا..انما القضية غدت .."
قالت سكرتيرة التحرير لهما :
ـ" لاغموض في القضية .لقد ترك الراحل لنا ثروة ادبية وفنية لاتقدر بثمن..وسنواصل العناية بها .."
قال بصوت مرتبك :
ـ"سنواصل ..حسنا ..سنواصل النشر ..فالراحل ترك لنا مقالات وحوارات تكفي مدة طويلة من الزمن ..لقد كتب عن الملوك والاميرات والبحار والشياطين ..لقد ترك لنا ميراثه ..اذن .."
ثم نهض ..وهو يتابع :
ـ" ساكتب ..مقال :"ل" يتكلم .."
وجاءت مقالته كعاصفة جديدة،عاتية، وسط ذاك المناخ المشحون بالاسرار والاشاعات والفكاهة السوداء ..فقد كتب :
"أنا شخصيا لم أصدق ان السيد "ل" فارق عالمنا الصاخب .عالم الوهم والمرارة والجمال،وانه، مات حقا.إنما لقد مات بالجسد الوثني، الصافي، وترك لنا أجسادنا،وذاكرتنا، وهلوستنا :شرفنا وشغبنا وجلالنا أيضا .وها نحن لانمتلك الاذلك، ماضيه وما سيغدو، بالنسبة لكم، ذكرى.إنها واحدة من الومضات،ان أمسكت بنا، أو امسكنا بها،إنما هي ومضة وسط هذا كله..وعلينا، اذا ً، ان نبدأ منهاأو بعدها،كقصة حدثت هنا،أو هناك، إنما حدثت، ومازالت تحدث،في كل ومضة، من ومضات هذا العمر،في الزمن الماضي، أو في أي زمن قد لايقدر له أن يكون .. إن " ل " فند سطوة الموت .. " .
بعد ذلك، قيل، تابعت الصحافة والمجلات والتلفاز العناية باعماله الثقافية والفنية..وقيل انه حاز على جائزة كبرى، تسلمتها أرملته ..وقيل انه أرتكب غلطة فادحة، هي غلطة العمر، ودفع ثمنها رمزيا عندما صدرت قرارات بعدم نشر مقالاته الا في جريدة واحدة .إنما كانت قصة الكاتب "ل"متداولة، مثل الحكايات الشعبية ..وقد اعترف، هو ذاته، في قصة له، ان حكايته لن تنتهي..لأنها لم تبدأ بعد وهل بدأت حقا؟


آب ـ1991


ليست هناك تعليقات: