السبت، 11 مايو 2024

فلاديسلاف ستشمينسكي استيعابنا البصري-عمار سلمان داود

Wladyslaw Strzeminski فلاديسلاف ستشمينسكي استيعابنا البصري
:عمار سلمان داود فلاديسلاف ستشمينسكي، لن أتحرج من اعتباره واحداً من أهم عمالقة الفن التجريدي في المنتصف الأول من القرن العشرين، كان لهذا الرجل ذكاء غير عادي في فهم بنية الصورة وقراءتها بصريا، وهو لا يقل أهمية عن فاسيلي كاندينسكي في وصفه واختباره للعمل الفني، ولولا المضايقات التي تعرض لها في بلده بولونيا، إبان العهد الشيوعي بما تضمنه من شخصيات سياسية حاكمة اتصفت بوعي بائس وفهم سيء للفن، لكان فنه وما كتبه من نصوص قد تم الحفاظ عليها منذ زمن طويل. فقد قامت المؤسسة التعليمية الخاضعة لنفوذ النظام الستاليني السوفيتي آنذاك بفصله من عمله كأستاذ في أكاديمية الفنون، وهدمت جدارية نحتية نافرة له، بتهمة خروجها عن تعاليم الواقعية الاشتراكية، وقد وجهت اليه اتهامات بخيانة النظام الشيوعي. وقد تم هذا في الزمن الأكثر صعوبة في حياته، ومن غير مراعاة لكونه مقعداً: بقدم واحدة ويد واحدة، بسبب إصابته في حادثة انفجار قنبلة يدوية أثناء عمله كضابط في الجيش البولندي، ومريضاً، حيث ابلغه طبيبه بان أيامه معدودة، ولم يكن يمض وقت طويل بعد وفاة زوجته بمرض السرطان قبل فصله من عمله، ووجد نفسه اثر ذلك مسؤولا وحيدا لابنته التي ستصبح بعد وفاته نزيلة لبيت رعاية الأيتام، كل هذا لم يكن يحرك ضمير حكام بولندا المتشدقين بإنسانية الاشتراكية وواقعيتها في تلك الفترة، ولم تردع وفاته ومأساة حياته وزارة الثقافة البولندية، ولا ايضاً واحداً من مدراء متاحفها المعروفة من نزع أعماله من متحف مدينة ووج الذي كان من أوائل متاحف أوربا المختصة بالفن الحديث، وهو الذي يحتوي اليوم على أكبر مجموعة من أعماله. ومن الجدير بالذكر أيضا، هو وجود صالة خاصة تضم ألف عمل من أعمال الفنان الألماني المعروف جوزف بويز. لقد انجز هذا الرسام واحدا من أهم الأعمال التنظيرية في الفن وهو كتابه (نظرية الرؤية) حيث يعالج بشكل موسع موضوع كيفية إبصار وقراءة كل من الفنان والمشاهد للعمل الفني، وكيف يظهر هذا الأخير لنا من خلال الإبصار، ولديه كتاب آخر بعنوان (كتابات) سيتولى فيه دراسة وتحليل مختلف المواضيع المتعلقة بالفن، وفيه يشرح نظريته حول الفن الوئامي (ننشر احدى اللوحات التي تمثل هذه الرؤية في هذا المقال). فلادسلاف ستشمينسكي كان من ضمن الناشطين البولنديين في تيار التحديث في مطلع القرن الماضي، وكان منتميا الى حركة البنائيين الفنية التي ظهرت في روسيا قبل وبعد ثورة أكتوبر، ومن رفاق الرسامين الروس المعروفين من امثال كازيمير ماليفيتش والكسندر رودشينكو ونعوم غابي وتاتلين. ومن الجدير بالذكر ان البنائية التي أسست لتقاليد رصينة في صناعة العمل الفني انتشرت في مناطق أخرى من العالم قبل أن يأتي المد الواقعي الاشتراكي ويعمل على اجتثاثها بتهمة تكريس القيم البرجوازية في الفن. ومع ذلك فقد ظلت هي ومفاهيمها حية الى اليوم وتجد لها صداً كبيراً في تجارب الفن العالمي الجديدة. ان سر عظمتها وديمومتها يكمن في اشتغالها على الأسس المادية والقيم الشكلية الباطنة في صميم الظاهرة الإبداعية من خلال مبدأ المعايشة البصرية لهذه الأخيرة واختبارها، وذلك من اجل تحديد الأنساق التي تعمل بمقتضاها، وهي بلا شك جزء من تلك الانساق التي كانت المادية الديالكتيكية تعتمدها في اختبارها للعالم من منظور الفكر الماركسي، وقد كانت تؤكد على صميمية العلاقة ما بين العالم التصنيعي والفن واهتمت أيضا بدراسة مفردات العمل الفني (بصفتها أجزاء بناء) بمعزل عن أي دور تمثيلي لها، وباعتبارها وحدات خالصة في صميم عمل فني خطابه شكلي بحت ومنزه من كل أشكال الشحن العاطفي أو الخطاب السياسي والاجتماعي. فكيف نظر ماركسيو بولندا والاتحاد السوفيتي في حقبة ستالين وخمسينيات بولندا الشيوعية الى الفن؟ هو سؤال خطير سيحيلنا الى الشعور بصدمة فعلية نتيجة المستوى المتدني للثقافة البصرية لستالين ومجموعته الحاكمة، وهي المجموعة التي أخضعت المفاهيمية الإبداعية لنسق خاضع لمعطيات الواقعية الاشتراكية وتجسيدها الرديء لرسم يطابق في اغلب الحالات فوتوغرافيا الظاهرة المعاشة تحت شعار النهوض بذائقة الطبقة العاملة وتوعيتها من خلال فن يتشبث بالشعارية والطابع السياسي الإعلاني، وهو أمر لم يعد خافيا على الكثير من المهتمين بتأريخ الفن لتلك الحقبة. والذي يحز في النفس ان مكتبتنا العربية لا تحتوي إلا على نتف بسيطة من نصوص لكاندينسكي او مالفيتش ولم أجد شيئا لصاحبنا هذا، ومع ذلك نقرأ هنا وهناك نصوصا حول سمات عصر مابعد الحداثة ونحن لم نقدم لقارئ العربية إلا القليل من ترجمات لكتابات حول الحداثة الأولى! وسيجد القارئ المهتم بطبيعة البنية الخاصة بالصورة ترجمة لنصين أولهما نشر عام 1934 في مجلة (فورما) البولندية المختصة بالفن. أما النص الثاني فقد صدر في مجلة (بلوك) البولندية عام 1924، وفيهما نتعرف على نموذج لحساسية فنان وكاتب استثنائي يتمتع بقدرة غير عادية على الكشف عن الطبيعة الحق لبنية العمل الفني ضمن بعض مساراته التاريخية. النص 1: استيعابنا البصري استيعابنا البصري، او ما يسمى ب(كمية المؤثرات البصرية المدركة من قبلنا)، لم ولن يكن كما هو عليه دائما، بل يتطور عبر تاريخ البشرية المعروف لدينا، ولهذه العملية التطورية ما يماثلها لدى كل فرد منا، بدا من فترة الحضانة وانتهاء بمرحلة النضج الكامل، وهي كفيلة بان تجعل المرء يمر بشكل متتابع بما يشبه تلك المراحل التطورية التي تخص تاريخ الرسم نفسه. ان اكثر اشكال الاستيعاب البصري المبكر هي تمييز الاشياء المصبوغة: كل بصبغة خاصة به ومفصول بحد خطي غير قابل للاختراق، هذا النمط في رؤية الاشياء كان قد طغى على الاسلوب الغوطي وعصر النهضة المبكرة ووصل في تلك المراحل الى حد الازدهار، اما الخطوة اللاحقة فكانت الانتباه الى ان لون الشيء يؤثر على لون الشيء الاخر القريب منه، ونتيجة لهذا ظهرت الانطباعية في القرن التاسع عشر. واليوم، ومع التكعيبية، نعرف ان الالوان ليست هي فقط من يحتكر التأثير المتبادل فحسب، بل إن الأشكال أيضا تفعل ذات الشيء، فمن خلال نقل البصر من احد الاشكال الى الاخر تقوم شبكية العين بحفظ اثر الشكل الاول كي ترفقه فيما بعد بالشكل اللاحق، وهكذا دواليك حتى يتمكن المتلقي من إدراك منظومة إيقاعية واسعة للعلاقات ما بين تلك الاشكال. فالشكل لم يعد سمة لوحدات ذات طبيعة منعزلة، ونحن لا نرى مجموعة اشياء موجودة لذاتها، بل رؤية تصويرية لعالم متكامل يتوافر على وحدات ذات تأثير متبادل، وفي خضم تفاعل تلك الوحدات فيما بينها، ستنحسر تلك التي تتشابه ويتم استيعابها ككلية متجانسة، في حين تعمل تلك التي تحمل سمات مؤدية الى التضاد فيما بينها من اجل خلق تتابع المادة المرئية وشكلها. فاللوحة التجريدية هي إذن تنظيم واعي وتنقية للنظم التكوينية الناتجة عن شروط استيعاب بصري محدد، ومن خلال هذا التنظيم الهادف، تتحقق شفافية ووحدة اكثر تكاملا من ذلك الذي نراه ونستوعبه في لقائنا المباشر مع الطبيعة، حيث التلقائية والصدفة هي من اهم سماتها. اما هؤلاء الذين يعتقدون بان الثراء والصدفة هما قرينان، فستمثل الصورة التجريدية لهم شيئا ليس اكثر من انهيار للرسم (بالطبع، فبالنسبة لهم ستكون هكذا، لأنها لاتقدم دائما ما هو غير متوقع من التعقيد والمفاجئة) بل ان هدفها هو اقامة نظام للمعطيات التي استوعبها بصرنا. الامر المفروغ منه هو ان كل صورة تجريدية وليدة ستتخذ لنفسها حق الحضور فيما بيننا بعد ان تتحقق فيها معطيات جديدة بالمقابل مع اللوحة التي سبقتها، ولهذا السبب يرسم الرسام الصورة التجريدية فقط في حالة كونه جاهز لقول شيء ما. اتصور ان هذا الامر لا يحكم فقط شروط الرسم التجريدي بل يتعدى ذلك الى رسم الطبيعة ايضاً النص 2: ملاحظات حول تسمية الفن الجديد 1. إن هذه الإنجازات التي اكتسبت شرعية تسميتها بالفن الجديد، هي التي عليها ان تسعى الى تكامل المفردات التشكيلية. 2. لا يمكن استخدام منهج فحص عام لتحليل العمل الفني التشكيلي من ذلك النوع الذي يمحو الاختلاف القائم ما بين الفن التشكيلي والحقول الأخرى. 3. يجب أن نشعر بتكامل العمل الفني في بنيته عينها - وليس في ان يكون انعكاساً أو خطابا لمحتوى آخر يتم تفاعلنا معه في مكان اخر وجدنا له اثراً او انعكاساً في شخص العمل الفني. 4. الفن الكلاسيكي حقق مستوى معيناً من التكامل، ولكن طموحاته الادبية ونظم التماثل فيه وما يسمى ب(بالمنحنيات النبيلة) للأشكال وقفوا كعوائق لاستمراره وتطوره. 5. يجب صياغة العمل الفني من خلال قوانينه الخاصة، فلا يمكن ان يكون نموذجاً او إتقانا فوتوغرافيا، ولا عينة من مصنوعات معملية، ولا أي شيء اخر. 6. العمل الفني لا يعبر عن شيء ولا هو علامة لشيء بل انه وجود لذاته. 7. العمل الفني هو عضوية الظواهر المكانية. 8. الديناميكية هي الفعالية الزمكانية وهي بهذا لا تنتمي الى العمل الفني التشكيلي. 9. عصرنا الحالي تخطى اتجاهات ما يسمى بالفن الجديد بما فيه: التكعيبية، المستقبلية، السوبرماتية، وهي الاتجاهات المؤسسة (بفتح الهمزة) على العامل الديناميكي. 10. التكعيبية بخروجها عن النظام الموحد (بكسر الحاء) للمتضادات، اكتشفت ثم أدخلت كل من تنوع ملامس السطوح واختلاف الهيئات والأشكال. 11. حاول الفنان في الماضي تحقيق عضوية العمل الفني من خلال اقتفاء اثر الأشكال العضوية للطبيعة أو من خلال استعارة وتمثل (البطولية الرياضية)* لفيثاغورس (في التزيين مثلا: نظام التماثل، مثلث ليوناردو دافينشي) ولكن ذلك لم يكن ممكناً، بسبب عدم التمكن من مصالحة قوانين الفن مع قوانين الطبيعة، فاما منطق الفن، او منطق الشيء. وحتى جداول فيثاغورس الغير الإبداعية، والتي لم تكن نتاجاً من صلب كيان الفن، ولكن أقحمت قسراً فيه، وهو مما أدى إلى إفلاس هذه القوانين منذ الرسوم الحائطية لرافائيل والتي بدورها تؤرخ لبداية موت نظم التماثل. 12. بتنحية العمل الفني التشكيلي من مشهد التقنية الحالية، يكون الفنان قريباً بعض الشيء من هدفه، لان كلاهما (أي العمل الفني والتقنية) هما نتاج اليد البشرية. لكن المتهم هنا، هو وجهة النظر الأدبية القديمة للطبيعة والتي تطرح مفاهيم من قبيل: الصورة تروي، الصورة تعبر، الصورة تعكس، في الوقت الذي لا تروي فيه الصورة شيء ولا تعكس أو تعبر عن شيء. الصورة حضور، الصورة وجود. ولقد تم محو التباين في الهدف، ونظم البناء. الماكينة هي كلية عضوية هدفها رقي الإنتاج. وككلية يمكن أن تكون جميلة، بالرغم من انها لا تصبو الى ذلك. غير ان العمل الفني ككلية عضوية بصرية يمكنه أن يكون جميلاً، بالرغم من انه أيضا قد لا يصبو لذلك. * كلمة منحوتة من قبل ستشمينكي يعبر فيها عن سطوة العلاقات الرياضية على الرسم.

ليست هناك تعليقات: