الجمعة، 22 نوفمبر 2013

قضايا واراء-برج بابل / زهير صاحب-عن صحيفة المثقف

قضايا واراء

برج بابل / زهير صاحب

zouher_sahebالقى أستاذ الجيل العلامة المرحوم الاستاذ (طه باقر) محاضرة بعنوان (برج بابل): ضمن فعاليات المؤتمر العالمي للآثار..الذي انعقد ببغداد بتأريخ 15/3/1978 ذكر في مستهلها:
"غدى برج بابل الآن عبارة عن حفرة مليئة بالمياه ونبات الحلفاء.. فقد حمل اهالي الحلة القدماء كل الطابوق الذي بُني به البرج.. وبنوا بهِ بيوتهم.. ففي بيتنا القديم بالحلة.. طالما شاهدت أسم الملك (نبوخذ نصر) محفورا بعلامات مسمارية على سطوح الطابوق الذي شيدنا بهِ دارنا". ونحن نقول: ان الاشكالية بمثل هذا الفعل.. هي مشكلة نوع من (الانيميا) وسمت الثقافة العراقية في ذلك الزمن بظاهرة عدم فهم اهمية الاثر في الفكر الانساني.. فعلى هذا المنوال.. نقلت الروائع الفنية بكل اجناسها من بلاد الرافدين.. لتتوزع على متاحف العالم الشهيرة في عواصم العالم المختلفة.
لم تكن فكرة العمارة العمودية.. غريبة على انظمة العمارة في بلاد الرافدين، فجذرها التاريخي يعود القهقري الى العصر السومري المبكر (3500-2800ق.م)، إذ شيدت المعابد في الوركاء عاصمة البطل (كَلكَامش): فوق دكاك منحدرة الارتفاع.. كانت تُبنى من اللبن او الحجر الكلسي.. ويرقى اليها عادة بمنحدرات ترابية او سلالم من اللِبن.. بلغ ارتفاع بعضها زهاء خمسة عشر متراً. وكان السبب لرفع معبد الإله الى مثل هذا الارتفاع في حينهِ: هو للتسامي به عن بيوت الناس.. إذ ترمز فكرة الارتفاع الى قدسية المكان في بنية الفكر الديني الرافديني .
ثم طور السومريون في عصر نهضتهم الجديدة (2112-2004ق.م) فكرة البناء المدرج.. ليعرف بالزقورة.. اذ اكتسبت هذه الابنية العالية المكونة من ثلاثة طوابق..صفة الانتظام الهندسي.. لتتدرج في ارتفاعها بشكل ايقاعي جميل.. من اكبر الطوابق في الاسفل نحو اصغرها في الاعلى، وقد شُيد هيكلها الداخلي من اللبن.. فيما غلفت من الخارج بالطابوق.. ويرتقى اليها عادة بثلاثة سلالم: احدها محوري يتعامد مع الضلع الامامي ويصل الى الطابق العلوي، أما الآخران فجانبيان ويلتقيان بالسلم المحوري في الطبقة الاولى من البناء، وتطورت فكرة الزقورة لتصبح: بمثابة واسطة للاتصال بين السماء والارض.. فقد صُممت لتسهيل هبوط الزائر السماوي الى الارض: لحل اشكالات الناس المتنوعة او ربما المستعصية.
ويصف لنا ملك بابل القوي (نبوخذ نصر) عملية بناء البرج: "اتمنانكي، البرج المدرج لمدينة بابل، الذي قام بتنظيف موقعه ابي (نبوبلاصر)، ملك بابل والذي،.. وضع حجر اساسه، وجدرانه الخارجية الاربعة. القير والطابوق بارتفاع 30 ذراع، لكنه لم يقم بتعلية قمته،.. لكني جعلت قمته تتنافس وعلو السماء، الأقوام الساكنة في اقاصي البلاد، التي بسط حكمي عليها (مردوخ)، سيدي المنتصر إله السماء، جميع الاقطار وجميع الشعوب من البحر الأعلى الى البحر الاسفل، والاقطار البعيدة، والافراد الساكنين في الأقاصي، وملوك الجبال النائية، والجزر البعيدة في وسط البحر الاعلى والبحر الاسفل، التي جعل مردوخ، سيدي، لجامها بيدي، قد دعوتها للمساهمة ببنائه، وجعلت سلة الطابوق فوق الرأس عند بناء (ايتمنانكي)..." (محمد، 1983، ص108).
تشير مقولة الملك (نبوخذ نصر): ان أبيه لم ينجز من البرج سوى ثلاثين ذراعٍ أي ما يعادل خمسة عشر متراً من علو البرج الكلي.. واستخدم (نبوخذ نصر) رجالاً من البحر الاعلى أي البحر المتوسط.. والبحر الاسفل أي الخليج العربي.. وجلب الخامات كخشب الأرز والذهب والاحجار الكريمة المتنوعة الالوان من اماكن شتى من العالم.
نستدل من المعلومات الواردة في نتائج الاكتشافات، ان برج بابل كان من الابراج المربعة القاعدة، التي كان قياسها 91.55م × 91.55م.. وبذلك يكون ارتفاعه بنفس طول قاعدته أي 91.55م.. ويعادل ارتفاعه علو عمارة معاصرة مشيدة من ثلاثين طابقاً، وبنى هيكله الداخلي باللِبن، وغُلف من الخارج بالآجر بغلاف لا يقل سمكه عن 15م. وكان يتألف من سبع طبقات اكبرها في الاسفل.. واصغرها بالاعلى.. ويتوجها معبد صغير ازرق اللون في القمة: وذلك فعل جمالي.. يُعد بمثابة (التشفير) عن محتوى رسالة.. حاملة لفكرة (اهمية) الشارة القدسية.. المرسلة نحو القوى الماورائية.
يتم الصعود الى البرج بثلاثة سلالم.. احدها محوري يتعامد مع الضلع الامامي للبرج.. ويبلغ طوله 62م وعرضه تسعة امتار، وسلمين جانبيين يتصلان به عند الطبقتين الثانية او الثالثة.. شيدا كحل (معماري) للقضاء على أزمة ازدحام الزائرين عند السلم المحوري.. في المناسبات الدينية المختلفة .
416-babil
عرف برج بابل بالبابلية باسم (اتمنانكي) ويعني: (اسس سلم السماء والارض).. فقد كان البرج يؤلف (منصة) هائلة الارتفاع، كواسطة للاتصال بين السماء والارض.. إذ صُممت لتسهيل هبوط الزائر السماوي الى الارض. فلم يألُ اناس ذلك العصر جهدا في سبيل تهيئة مكان جديد باستقبال آلهتهم، فمعبد الترحيب ينتصب فوق قمة البرج.. ويتصل بالارض بسلالم..تصعد بواسطتها مواكب الزائرين وتهبط.. لتشكل نسقاً دائم الاتصال بين الارض والسماء.. بغية تقريب المسافة: بين الصور المثالية الخالدة العليا.. والصور الفانية الارضية.. للتخفيف من قلق الشعب البابلي الوجودي باحسن الاحوال.
يعتقد المؤرخ الاغريقي (هيرودتس) الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد.. وقدّم وصفاً اسطورياً لبرج بابل: "كان الصعود الى قمة البرج يتم من الخارج.. بواسطة سلم يدور حوله وعندما يبلغ المرء منتصف المسافة في صعوده.. فأنه يجد موضعاً للاستراحة.. إذ اعتاد الناس الجلوس بعض الوقت.. في طريق ارتقائهم الى القمة، ويوجد فوق الطبقة العليا معبد فسيح: وضع داخله سرير ذو حجم هائل من الذهب ومزين بزينة فاخرة.. والى جانبه منضدة من الذهب كذلك.. ولا يوجد أي تمثال في هذا المعبد. كما لا يشغل هذه الحجرة خلال الليل.. سوى امرأة: يقول عنها الكهنة.. ان الإله اصطفاها لنفسهِ من بين نسوة البلاد (طه باقر، 1973، ص 570). وكل ذلك مجرد (وهم) ففي واقع الحال.. لم يهبط إله ولم يصعد كذلك.. وذلك هو الحل العظيم.. الذي جاءت به الديانات التوحيدية: بفكرة الله (?): نور السماوات والارض.. الكائن في كل مسامة من مسامات الوجود.
بأختفاء برج بابل من الوجود.. يصعب علينا تصديق رواية (هيرودتس) حول طريقة إرتقاء البرج.. بسلم حلزوني يدور حول البناء.. على طريقة ملوية سامراء.. رغم ان المؤرخ الاغريقي.. قد ادعى بانه زارَ بابل وشاهد برجها المدرج. فمن المنطقي التفكير بتقنية السلم المحوري والسلالم الجانبية.. بوصفها الاسلوب الذي يعقد تواصلا مع طريقة ارتقاء الزقورات السومرية.. التي ما زالت قائمة امام (نبوخذ نصر) في القرن السادس قبل الميلاد. فالفن المعماري في بلاد الرافدين.. وكذلك اجناس الفنون الاخرى: تمثل سلسلة مترابطة الحلقات.. وكم وكيف من الموروث الحضاري الذي تمسكت به الاساليب الحضارية في تراتبيتها التاريخية المعروفة في بلاد الرافدين.
فنظام الشكل في برج بابل.. يُعد ثمرة لجهود هندسية وتقنية.. ممنهجة ومؤسسة ومنظمة فكرياً. فعملية اختيار مساحة الأرض الملائمة لتحمل ثقل البرج بارتفاعه الشاهق.. والفعل الهندسي المنضبط لتربيع القاعدة بمثل هذه القياسات الممتدة لمسافات طويلة.. والايقاع النغمي الموسيقي لتوالي الطبقات من الكبيرة في الاسفل الى الصغيرة في الاعلى: يكشف عن تقدم هام لعلم الهندسة البابلي بشقيهِ المدني والمعماري.
كما ان تغليف لُب البناء بطبقة سميكة من الطابوق (الاصفر) اللون، الذي تتخللهُ منظومة متتالية على شكل نسق معماري منتظم من الطلعات والدخلات: من شأنه ان اوجدَ منظومة من العلاقات الجمالية بين السطوح البصرية للبرج.. وضوء الشمس وكذا نور القمر.. وذلك بمثابة نوع من الحوار الجمالي.. حين تمايز سطح البناء بامواج شاعرية من الضوء والعتمة.. وكأنه إحدى اللوحات الخالدة للفنان (رامبرانت) ذلك المبدع الذي وَلَّدَ أشكالهُ من بين أطياف الظلام: بتقنية لونية عجيبة.
استثناء أبنية الأهرام المصرية.. يُعد برج بابل بمثابة احدى ناطحات السحاب في العالم القديم.. فهو بذاتهِ: انتصارٌ للعمارة العمودية.. على حساب الامتدادات الارضية الواسعة لنظام العمارة الافقية. وفي ملمح آخر: فقد اخرسَ المهندسون البابليون (صلابة) كتلة البناء.. بفعل مضايفتهِ مع الطبيعة.. إذ غرسوا أمامه الاشجار الملونة الباسقة.. كما زينّوا شرفاتهِ بالزهور الملونة.. التي تنوعت الوانها بين طابق وآخر. ولونوا طبقاته السبع بالوان متنوعة.. اذ كان برج بابل بحد ذاتهِ بمثابة (باليت) غني الالوان يؤشر الى لوحة معمارية خالدة. ترى هل من الممكن ان نتخيل جمالية هذا البرج: وهو يطل على فضاءات مدينة بابل المعمارية.. البيضاء اللون.. التي شطرتها زرقة نهر الفرات الى فضائين لونيين.. زادت من ألقها الوان أشرعة السفن الحمراء والزرقاء والصفراء والخضراء.. الراسية في مينائها. هل نحن امام لوحة انطباعية للفنان (بيسارو) رسمها لبحر المانش؟ أم في حضرة لوحة بابلية رسمها (نبوخذنصر) لوحده؟ لاشك ان الخيار الاخير هو الصحيح في كل الأحتمالات.

أ. د. زهير صاحب
كلية الفنون الجميلة – بغداد

ليست هناك تعليقات: