بحث هذه المدونة الإلكترونية

مرات مشاهدة الصفحة في الشهر الماضي

السبت، 7 أبريل 2012

البروفسور الذي نطق- عادل كامل



قصة قصيرة

البروفسور الذي نطق
عادل كامل
لم تمض مدة طويلة على رحيل البروفسور ل.ل..لكن مدينتنا شيدت له أكبر تمثال في قلبها . كان هذا التمثال مثار الإعجاب والدهشة ..فقد كان الأجداد يتحدثون عن رحلاته في آخر الليل، وكيف كان يتكلم، وانه شارك في معارك النجوم .للحق لم يثرني هذا التمثال الغريب ..ولكن أسطورة البروفسور ل.ل التي تجاوزت المعقول جعلتني أفكر في الآراء العجيبة التي وضعها . حدث لي هذا في عام القضاء على التلوث، وهو من أشهر الأعوام التي لا يعرف أحد قيمتها مثلما يعرفها الآباء، قبل الموت الجماعي وبعد تحرير الطاقات من نير المخاوف الغامضة، وللحق لاعلاقة لهذا كله بما أود أن أدلي به أنني شخصيا من أكثر الناس لامبالاة، إلا ان أفكار هذا الرجل، التي سحرتني على مدى نصف قرن من حياتي، جعلتني اتوقف طويلا امام النصب النحتي الشامخ، حتى انني في ليلة شديدة التوهج حسبت ان التمثال سيغادر مدينتنا ويجعلنا ننسى العالم القديم، عالم التلوث الذي اودى بحياة السكان . فجاة وجدت التمثال يطاردني، يحاصرني، يفزعني .. ومن شدة خوفي وخجلي كنت لااريد البوح بما حدث لي، ان سكان العالم الجديد، هم حسب الكتب التي لديّ أشد قسوة من المراحل السابقة فكتمت هذا السر .ولكن هل أستطيع أن اصمت في اعماق أعماق نفسي؟ في البدء أفلحت..إلا ان عالم التأثيرات الغامضة أودى بي في تلك الليلة أي الليلة التي اكتب فيها هذه الوصية الى التلوث العجيب.
فقد حدثت البروفسور شخصيا، وابديت امتعاضي له لتدخله في شؤوني الشخصية على الاقل.. أستغرب كثيرا وكشف عن طيبة غير معقولة .
انني شخصيا لم أحدثه عن مخترعاته العجيبة، كصناعة الذهب من الهواء، أو اختراع الأنظمة قبل حاجتها..أو عن إنتقال الانسان من أي كوكب الى ابعد كوكب بوساطة الضوء.. أو الاصغاء الى شخص في الماضي البعيد أو في المستقبل الذي لن ياتي..أو الاكتفاء بالصمت كغذاء يلغي الحاجات الفسلجية ..أو حرية ان يجمد الانسان نفسه عدة قرون ليستيقظ في الزمن الذي يشاء ..او عن رفاهية العقل بعيدا عن اغراءات الجنس والشهوة التي كانت من أعظم مصادر التلوث..
إنني لم احدثه عن هذا لان الرجل فعل مافعل ورحل ..ولم أحدثه عن أي شيء بسبب حياتي التي امتدت عدة قرون..فأنا، في الواقع، شبح من كائناته، كما اني قد لا اكون إلا فكرة من عمله الغزير.. إلا اني رحت أحدق فيه، في تلك الليلة، وهو يجلس في غرفتي، أمامي تماما، وجها لوجه، وهو يبكي ..لكي أسأله:
-"أيها البروفسور ماذا تريد مني..؟"
فقال:
-"ماذا تريدون أنتم مني ؟"
شعرت بالعذاب القديم؛ عذاب المخلوقات التي تتنفس التلوث وتموت في الحروب وتعاني من المجاعات، وتهددها الشيخوخة، لقد أحسست بمعنى اللا معاني وكان الرجل يعرف مالا أعرفه من أفكار لا أعرف كيف هبطت في عتمة روحي .
فجأة قال:
-"ها أنت تذكرني بأعظم حقب الإنسان !"
صرخت :
-"الانسان .. أي انسان تتحدث عنه ياصديقي؟"
لم يتكلم، كان يحدق فيّ بعينين خجولين إلا أني تابعت الصراخ :
-"من هو هذا الانسان الذي تتكلم عنه؟ الانسان الذي لايموت ولايخاف ولايحب ولا .. أم أنت تتكلم عن نجاحك بتحويل جميع الحيوانات فوق هذا الكوكب والكواكب الاخرى الى بشر يمتلكون التحكم باسرارهم ؟ أم أنت تتحدث عن الانسان الذي استغنى عن أحلامه .. وو .."
قاطعني .. وكان صوته يشبه أصوات الموتى القدماء :
ـ "ابدا .. إلا أني أحدثك بعد أن تم تحويلي الى تمثال.. إنني شخصيا لا أعرف كيف حدث ذلك .. بل لا أعرف ماذا تريدون مني " .
وتركته يتكلم .. البروفسور لايعرف كيف حدث ذلك .. غريب .. وتركته يتكلم .. وأنا اصغي بشرود ذهن :
-"كنت أريد أن أخلص نفسي من الالم .. وكنت لا أريد إلا أن أهرب من الانسان.. لقد أغلقت أبوابي ونوافذي ومت وحيدا .. وحيدا تماما .. ولا أتذكر ان أحدا بكى عليّ، أو ان التراب ساعدني على الاحلام لقد هجرت نفسي وتحولت الى مخلوق مفقود، الى حجارة داخل حجارة ".
ولا أعرف لماذا سألته، أو بالاحرى قاطعته :
-"ولكن لماذا شيدنا لك هذا التمثال؟"
قال :
-"هو ذا السؤال.."
ولهذا ..رفع صوته مقاطعا ..
-" لهذا جئت اليك .. جئت اليك لتهدم هذا التمثال "
فرفعت صوتي ايضا :
-" هل بمقدوري أن أفعل ذلك ..؟"
-"أجل ".
في تلك الليلة ذهبت الى قلب المدينة ووقفت أمام التمثال، كان المارة يلتقطون الصور التذكارية . كانوا كما شعرت، بلا أهداف، ليس لديهم أي ماض ٍ .. إنهم يتحركون .. يتحركون .. بل كانوا، جميعا حسب خبرتي على مدى قرون يتحركون من أجل ان يتحركوا، لم أصغ لبكاء طفل .. وليس ثمة عذاب فتعلمت جيدا وعميقا هذا السر الذي حولهم الى مخلوقات ليست بحاجة الى الجحيم . سر أن لا تتذكر .. وسر أن تغيب .. وسر ان تموت كأنك تولد توا ً.
في هذه اللحظات تأملت التمثال .. وهدمته .. وعدت الى بيتي .
أستقبلني البرفسور، وقدم لي يده، وقادني الى غرفتي، وقدم لي القهوة .. وراح يحدثني عن حياته .. طفولته الشقية .. وعزلته .. وموته ..
فقلت له بهدوء :
- "الآن .. عليك أن تغادر .. اليس كذلك؟" . قبل أن أنهي جملتي كان البرفسور ل.ل . قد اختفى ..
ولكن في تلك اللحظات، فتحت الباب، وكان أمامي حشد كبير من الناس .. حشد لا أعرف لماذا جاء .. وكيف .. ثم بدأ الحشد بانجاز مهمتهم .. فقد نقلوني بعربة .. عربة كبيرة .. كبيرة جدا.. وكنت اسمع الاصوات .. وأرى المدينة .. ثم بعدذلك، كنت أحمل . أفكك، وأفكك، ثم يعاد تكويني .. ولم أشعر قط بشيء ما إلا عندما أصبحت التمثال، التمثال الذي كنت أراه منذ ولدت .

ليست هناك تعليقات: