بحث هذه المدونة الإلكترونية

مرات مشاهدة الصفحة في الشهر الماضي

الأربعاء، 13 يوليو 2011

مقابلات-لودميلا بيتروشيفسكايا - بدلاً من الحديث الصحفي-إعداد كريستينا روتكيرخ



مقابلات
لودميلا بيتروشيفسكايا - بدلاً من الحديث الصحفي

إعداد كريستينا روتكيرخ

ترجمة د. تحسين رزاق عزيز-
تعريف


ولدت لودميلا ستيفانوفنا بتروشيفسكايا في 26 مايس 1938 في موسكو، في عائلة استاذ في جامعة موسكو الحكومية. تخرجت في عام 1961 من كلية الصحافة في جامعة موسكو الحكومية. عملت منذ عام 1972 محرراً في الستوديو المركزي للتلفيزون. بدأت في منتصف الستينيات كتابة القصص القصيرة. نشرت أول قصتين في مجلة ((أفرورا)) عام 1972 و صارت منذ منتصف السبعينيات تقدم عروضاً مسرحية. و قد اخرج رومان فيكنوك في عام 1977 مسرحية بتروشيفسكايا ((دروس الموسيقى)). نشرت مجلة ((المسرح)) في عام 1979 ((الحب)) و هي مسرحية من فصل واحد كتبتها بتروشيفسكايا في عام 1974 و عرضها مسرح تاغانكا في موسمهِ المسرحي لعام 1981 – 1982.

تم في عام 1983 عرض مسرحيتها ((قدح ماء)) و ((دروس الموسيقى)) في مسارح موسكو، و مسرحية ((ثلاثة فتيات يرتدين الأزرق)) في مسرح ((لينكوم)) نالت بتروشيفسكايا شهرة كبيرة بعد عرض مسرحيتها على خشبة مسرح ((المعاصر)) في عام 1985. و لم تتمكن لودميلا بتروشيفسكايا من نشر أول مجموعة نثرية لها بعنوان ((الحب الخالد)) إلاّ في عام 1987. و حازت بتروشيفسكايا فيعام 1991 على جائزة بوشكين الألمانية. حصلت الكاتبة على جائزة البوكر الأولى (القائمة النهائية). ألفت الكاتبة مجموعة كبيرة من القصص القصيرة و الروايات و المسرحيات إضافة الى عدد من سيناريوهات افلام الكارتون. قامت دار نشر ((أ س ت)) المسكوفية و ((فيليو)) في خاركوف في عام 1996 بنشر ((مجموعة نتاجات)) بتروشيفسكايا بخمسة مجلدات.
صدرت في عام 2004 للكاتبة رواية ((الرقم واحد، أو في حدائق الأمكانيات الأخرى)).


*


كيف تصبح كاتباً: مهمة الكتابة في الواقع هي الوحيدة من بين كل المهن الأبداعية التي تتطلّب أبسط انواع الأعداد. القضية و ما فيها انك يجب أن تتعلّم القراءة و الكتابة. و لو أن تجتاز دورة الصفّين الأولِيْن في المدرسة الأبتدائية (بينما يتطلّب اعداد الموسيقيين و الرسامين و الممثلين دراسة تخصصيّة).
كان، في الفترة السوفيتية، من يريد ان يصبح كاتباً (أو بالأحرى عضواً في اتحاد الكتاب السوفيت) – بأستطاعته أن يكون كاتباً. كان عليه فقط أن يعرض أفكاره بصورة مترابطة و يكتبها وفق قواعد فكرية محددة.
عادة ما يسبق ذلك حب للقراءة و ميل للكتابة و هوس بها. و غالباً ما يجب على الكاتب الموعود، عندما يذعن لهذه الرغبة أن يجتاز المرحلة الأولية. أي أن يبدأ بتأليف القصائد الشعرية الغبيّة و بعد أن يلاحظ عدم رغبة جميع المحيطين به سماعها – أنذاك يتحوّل الشاعر الفاشل الى النثر. (يمكن اعتبار الفرد شاعراً عندما ما يمدحه الناس الغرباء و عندما يكونون مستعدين لسماع أشعاره، لا أن يقوم بذلك أمه و أبوه).
لكن الحال هنا أبسط. فكل من تُطبع كتاباته يمكن أن يكون كاتباً. طبعاً اذا ما وجد من هو على استعداد للمجازفة و تقديم نثره.
و الحق إننا جميعنا نعرف كم يطول انتظار مثل هذه الفرصة. كافكا، على سبيل المثال، لم يطل به العمر حتى يرى ذلك.
بيد أن الكتاب الموعودون في الزمن السوفيتي كان طريقهم بسيط بما فيه الكفاية فما عليهم إلاّ كتابة رواية عن المصنع او البناء أو عن الحياة العملية للشباب. و يجب أن يبرز في الرواية درو سكرتير المنظمة الحزبية بطيبتهِ و حكمته. و قال بهذا الصدد الشاعر السوفيتي تفاردوفسكي، المضمون يجب ان يكون بسيطاً: ((النائب متخلف، و الرئيس مربي، و الجد يدخل في تنظيم الحزب الشيوعي)) (الكلام هنا يدور عن جمعيّة تعاونية فلاحية - كلخوز-، و رئيس الجمعية و نائبه). كان يمكن جلب هكذا نتاجات الى رئاسة التحرير و بألحاح مُعَيَّن يتم نشرها. بعد نشر روايتين من هذا النوع يصبح الفرد عضواً في اتحاد الكتاب و يكون بأمكانه السفر في مأمورية على حساب الدولة بما فيها الى خارج البلاد، و بأمكانه كذلك ان يسكن في دور المبدعين على البحر و يأمل الحصول على شقة مجانية و سيارة و اثاث و ثلاجة (مقابل ثمن و لكن بدون الانتظار بالدور) و منزل صيفي فضلاً عن الثلاجة، كانوا يقدمون طلباً و بعد ذلك يدخلون في القوائم ثم ينتظرون بالدور لعدة سنوات في اماكن عملهم. و إذ ما غير الفرد مكان عمله كان يتم شطبه من القائمة و يتوجب عليه الدخول بالدور من جديد.
هذه هي فائدة عضوية اتحاد الكتاب السوفيت الذي كانت توزع فيه الخيرات بكرم كبير. كان الكثير من الناس يسعون للانضمام اليه.
أما المؤلف الذي يكتب عن صعوبات الحياة و الحب في الظروف السوفيتية فليس بأستطاعته ان يصبح عضواً في اتحاد الكتاب. أي ان الموضوع و الموقف الصحيح فكرياً كانا السبب الرئيس للاعلان عن كاتب جديد.
حدث امام نظري ان قاص شاب هو (ن.ن.) ألف قصة عن كاهن و جلبها الى مجلة ((العالم الجديد)). و قد استحسن الجميع في القسم هذه القصة لأن الموضوع جديد تماماً في ستينيات القرن العشرين. لكن لم يستطيعوا نشرها لأسباب مفهومة لأن المؤلف الشاب كان يتعاطف مع خدم الكنيسة ( وكأن أحد أقاربه كاهناً). و بعد معاناة و طراد لم يتمكن من إقناع من ينشر قصته. آنذاك فهم الكاتب الشاب القضية و أتي الى مجلة ((العالم الجديد)) بقصة أخرى عن مشاكل الكنيسة و لكن هذه المرّة بانتقاد لها. و كأنه يفضح في نتاجه الأدبي القُسس البخلاء مرتكبي المعاصي سارداً حقائق فضيعة. لكن قسم النشر في ((العالم الجديد)) لم يحبّذ مثل هذا التحوّل السريع للكاتب الجديد و أعادوا له مخطوطته بأستياء و كادوا يلومونه على النفاق و الغش.
الحقيقة أن في ذلك الزمان كان نشر قصّة عن حياة الكنيسة غير ممكن بل مستحيل. بينما هذا الكاتب الشاب لم يفهم الموقف جيداً و كتب عمّا يعرفه هو جيداً.
و كان بمقدوره أن يكتب بنجاح رواية عن حياة بائعات الهوى في الموانئ و لتمت قراءة عملة في رئاسة التحرير لكن لن يجرؤ أحد على نشر ذلك سواءً تعطاف مع بطلاته أو على العكس لو شجب دعارتهن و فسقهنَّ. لأن مواضيع مثل الكنيسة و الحياة الجنسية للشعب السوفيتي كانت مواضيع ممنوعة من النشر حالها حال الاضطهاد و معسكرات الاعتقال و تدمير البيئة و تدهور صحة المواطنين و مشاكل السن و الأيتام و الأمهات الوحيدات و المطلقات و الأطفال و النساء المهجورات و قلة المواد الغذائية و شحة البضائع الاعتيادية مثل الأحذية و الملابس ناهيك عن الباسطرما و الجبن التي كان الناس يصطفون بالدور لساعات طوال للحصول عليها إضافة للتفاصيل المريعة لحياة الأقليات القومية. الحقيقة كلها كانت ممنوعة.
كانت الواقعية الاشتراكية و هي المذهب الرئيسي في الأدب السوفيتي، تفترض رومانسية مزعومة تصوّر الإنسان السوفيتي و ظروف حياته بشكل مثالي تقريباً. و إن أهم ما مطلوب من الكاتب المبدع التعلّق السامي بالحزب و القيادة. و قد حدد الأديب البارع زينوفي بابيرني منهج الواقعية الاشتراكية بأنه ((مدح القيادة بصيغة مفهومة لها)).
لكن لسوء حظنا إن هذا الكاتب الناشئ ن.ن. كان مصّراً إن يصبح عضواً في اتحاد الكتاب. و بعد إن طرق جميع الأبواب و استفسر عن الموقف خطا الخطوة التالية فقد كتب رواية عن الأشخاص التقدميين في المصنع و بطريقة ذكية عمل على إن تقع هذه المخطوطة على مكتب السكرتير الأول لإتحاد الكتاب غ. ماركوف.
و تحقق كل شيء على يد ماركوف و هو شخصية هزيلة ترك الكتابة منذ فترة طويلة و كان يكتب روايات عن حياة الملائكة غير المجنحين، أي عن القادة الحزبيين. قام ماركوف بقراءة هذا النتاج الأدبي الجديد و فرح بتدفق القوى الجديدة الشابة و دخولها في مجال الأدب و سرعان ما سلم الرواية إلى النشر ثم قبل بطلنا في عضوية اتحاد الكتّاب، ثم أرسله بمأمورية إلى سيبريا و من ثم أوفده إلى الخارج، في البداية إلى أفغانستان حيث كنّا في تلك الفترة، بمساعدة الطائرات و الدبابات و المشاة، مُضَحَّينَ بحياة الشباب الروس، نقوم بمساعدة الشعب الأفغاني لتحقيق مستقبله السعيد بوصول حزب طالبان إلى السلطة.

و هكذا قام بطلنا بكتابة رواية عن أفغانستان. و تشجيعاً له أرسلوه إلى أفريقيا إلى أحدى البلدان التي كانت تقاتل من اجل الشيوعية. حيث أصدر كذلك رواية مشابهة بطلب من الحزب و المخابرات. ظهر انه كاتب متمكن جداً. و صار طريقهُ الإبداعي منيراً و واضح المعالم. و من ثم ترأس أحدى دور النشر المعادية للساميّة. إنما ذكرت هذه الحكاية لأبرهن على انه في الفترة السوفيتية كان بأمكان كل فرد أن يصبح كاتباً إذا كانت لديه رغبة كبيرة علاوة على إتمامه الدراسة في الصف الثاني الابتدائي.
أحببت في طفولتي الأدب الروسي جداً لأن المكتبة لم تحوي غير هذا الأدب. و كنت أتمتع بقراءة هذه الروايات الضخمة (لم اعرف آنذاك إن مؤلفيها يزيدون عدد الصفحات لكي يدفعوا لهم أكثر). لقد إلتهمت انواع الكتب حول الزراعة و مصانع التعدين و شعوب الشمال و الرويات التاريخية التي تتحدث عن الملوك الجوجيين و المجلدات التي تصف الحرب اليابانية و خاصة الكتب التي تتناول ملاحم نضال الشيوعيين في الخارج من اجل حقوق شعوبهم ببناء الاشتراكية في باريس و برلين. إما حصولي على كتاب عن الجواسيس فكان يمثل نجاحاً لا يوصف! و كم من مرة نهرتني والدتي محاولة سحب هذه الكتب الشبيهة بكتل الطابوق الثقيلة، التي أخفيتها تحت الوسادة في الليل، لأنها ترى إن الطفل يجب إن ينام مبكراً! و لم يدر بخلدها إن ذلك كان تعليماً ذاتياً لكاتب موعود، لا يتم دون البدء بقراءة الأدب الرخيص. لقد كنت خبيرة في المهن الفنية أمثال عمّال سباكة الصُلب و عرفت المصطلحات الفنية مثل ((فرن الصهر)) و ((قوالب الصب)) و أطلعت على أحوال المزارع التعاونية و عرفت مواسم بذار و حصاد الغلات و إن الحلابات يرتدين صداري بيض. و فهمت التفاصيل الداخلية للحزب، و استطعت تميز السكرتير الأول للجنة المحلية عن السكرتير الأول للجنة المنطقة للحزب.

كنت في طفولتي طلائعية متعلمة. و تعلقت بالكتب بصورة كبيرة بحيث قرأت كل كتاب وقع في يدي. و لم يبعده عني لا مضمون باهت و لا لغة غبية و لا شخصيات كارتونية. و بعد انتهاء الدوام في المدرسة لم أذهب إلى البيت أو اتغدى أو العب مع الأطفال في الفناء بل اذهب إلى مكتبة الأطفال. و لو كانت المكتبة مغلقة كنت أجر قدميَّ إلى ما يسمى ((مكتب التوعية الحزبية)) التابع للجنة المنطقة للحزب في شارع تشيخوف إلى غرفة متربة فيها دورق زجاجي فيه ماء مسموح للجميع الدخول فيها (و لم يدخلها أحد غيري سوى بعض الأولاد اللذين كانوا يلعبون الشطرنج فيها أيام الصقيع القارص). و كان يوجد في هذه الغرفة دولاب يحتوي على كتب و مجلات. و قد قرأتها جميعاً منذ زمان لكني رغم ذلك كنت اختار منها مجلد ما و انكب على قراءته من جديد. و لم يهمني سوى القراءة فقط. إما مجلات ((التمساح)) و ((الشعلة)) فقد كدت أحفظها على الغيب (ولم يدر بخلدي أني شخصياً يوماً ما سأنشر فيها كتاباتي).
بعد إن أنهيت الدراسة الثانوية استمريت الصيف كله بالذهاب إلى مكتبة الأطفال، و أعددت نفسي لامتحان التقديم إلى الجامعة. و مع إن أمينات المكتبة القاسيات عاملنني بتجهم (لم يعطينني كتباً عن الجواسيس للقراءة بل طالبنني إن استعير كتب المناهج المدرسية) – لكن قلب احدهن رقّ لي عندما جئت لتوديعهن بعد دخولي الجامعة. فاخرجت بطاقة استعارة الكتب خاصتي المنتهية صلاحيتها و شطبت السطر الأول الذي يحمل اسمي و أدارتها بيدها دون ان تنظر إلي و قالت: ((هل تعرفين انك قرأت عندنا كتباً أكثر من الجميع منذ إنشاء المكتبة. إذ إننا دائماً ما نجري إحصاءا. زورينا))...
فقد قرأت الأدب السوفيتي كله – قرات لجميع الكلاسيكيين (غوركي بنتاجاته الفضيعة عن نهضة الوعي عند البروليتاريا النسوية، اعني روايته ((ألام))، و رواية ((السعادة)) لبافلينكو التي لا تقل عنها فضاعة، عندما يضطجع البطل و البطلة في المقطع الأخير و تقول له هي: (و سنسمي ابننا ((يوسف))، و في كل مرة تجتاحني الرغبة لإكمال العبارة ((يوسف فيساريونوفج))) ( اسم ستالين يوسف فيساريونوفيج – المترجم) . و قرأت رواية ضخمة بعنوان ((ال جوربين)) لا أتذكر كاتبها، و رواية ((اليتيت يذهب إلى الجبال)) أيضا لا أتذكر كاتبها ألان، و ((موسم الحصاد) لغالينا نيكولايفا عن المزارع التعاونية و كتابها عن عمال صهر الحديد، أما فادييف بصراحة، فلم يعجبني لان كلا روايتيه نهايتهما غير جيدة. و أنا أفضل النهايات السعيدة. لهذا أحببت كتاب فيدين ذا المجلدين الذي لا أتذكر عنوانه الآن. إما ليونيد ليونوف فقد قرأت نتاجاته و أتذكر عبارته ((لقد لحس الملعقة و صارت شفته اكبر من حجمها بخمس مرات)). تراءت هذه العبارة لي كلاماً حاذقاً. و فكرت كثيراً بمغزاها و فهمت منها جوهر اللعب بالكلمات. و تصورت إن إمامي ربما تكون رائعة من روائع الأدب لم أشاهد لها شبيهاً حتى ذلك الوقت بعد ذلك قررّت إن ماياكوفسكي عبقري. حدث لي ذلك و أنا بنت أربع عشرة سنة، عندما يبدأ الشباب بالاهتمام بالشعر. فقد توصلت إلى إن مثل هذه القوافي لا يمكن إن يقولها أي احد! و على العموم حتى لو بذلت اكبر جهد لا يمكن إن أتوصل إلى مثل ذلك – لهذا فهو ليس مثلي أو مثلنا جميعنا لأنه عبقري.
و هكذا فقد نشأت بين نصوص الكبار التي افهمها بصورة مطلقة و لا تثير لدي أي توتر ذهني مهما قلّ. و التهمت هذه النصوص كما يلتهم السمك الماء و كما يلتهم المشاهد الصبور مجموعة المسلسلات في كل مساء.
حيث إن نتاجات بلاتونوف و بابل و بولغاكوف كانت ممنوعة و أخفيت روائع الأدب في مدافن الحزب العميقة أو دفنت تحت المتاريس القذرة و المعتمة لسونامي الحزب مثل ما دفنت أرواح ملايين البشر حَمَلَة الفكر الأخر و الثقافة و الأخلاق الأخرى.
إما الكتاب العمالقة الأجانب المسموح بعرض نتاجاتهم في فترة شبابي – فهم ليسوا كافكا ولا بروست، بل توماس مان و همنغواي، و فيتسجيرالد.
و تعرضت إلى هزة من الصميم عندما تعرفتُ على أليوشا و شكلو فسكي و تينيانوف و قد أسرتني نضريتهم في الغرابة. نعم! أنها تجبر القارئ على الدهشة من أول عبارة و تقلب أفكاره رأسا على عقب و يأخذ بالانشغال بالمجاز و بالمقارنة. و قد كتبت أول قصة قصيرة بصورة مبتكرة لدرجة كبيرة بحيث حشوت في كل عبارة عدة صيغ. فقد صوّرت الرموش المزينة و كأنها براثن الصراصير و شبهت القطار الكهربائي و هو ينطلق إلى الإمام كالخوذة، إما اللفافة حول الايس كريم فجعلتها تنتفخ و كأنها بدله رقص البالية... الخ.
غير إن ذلك كله اعتبرته مرحلة تمهيدية، و كأني ابحث عن طريقي الخاص و أسلوبي. هكذا جرت الأمور. عملت لسنين طوال على النصوص و كنت أطبع و أطبع على الآلة الكاتبة ملازمة بيتي حتى أني لم أغادر البيت في المساء، و في الوقت نفسه كنت اعمل في أحدى المجلات و كانت فيها نشرة جدارية هزلية بمناسبة رأس السنة يكتبون فيها أشياء عن الجميع و ماذا حققوا و قد كتبوا فيها عني أني لم احقق شيئاً سوى أني كسرت حرف ((ب)) في الآلة الكاتبة التابعة لهيأة التحرير!
لكن في أحدى المرات سمعت من زينا و هي مهندسة الصوت عندنا قصة عن جارتها، التي كانت مومساً، قد تعرضت في طفولتها للاغتصاب على يد والدها و غادرت منزلها ثم وقعت في الأيدي القذرة. و هزت مشاعري هذه القصة. كتبت قصة قصيرة بعنوان ((هذه الطفلة)). كتبتها بصورة مبسطة جداً بلا إسهاب و بلا شخصيات. لم تكن بالضبط قصة تلك الطفلة الضحية، بل كانت مونولوجاً لأمراة يخونها زوجها. و لا اعلم لماذا ظهرت القصة بهذا الشكل.
كأن القصة كتبت نفسها. و هذا الأسلوب لا يحتاج أي تصحيحات. حدّد ذلك عملي المستقبلي و صرت اكتب دائماً، من ذلك الوقت، بمنتهى البساطة دون بذل أي جهود لجعل ما هو جميل و بهي يبدو بصورة مغايرة. و لم تظهر عندي أي إشكالات أو صعوبات و توقفات – و أخذت اكتب القصص واحدة بعد أخرى ببساطة و كأن أحدا يمليها عليَّ.
أعود إلى نطاق قراءتي في الطفولة – مفهوم إن ذوقي مع الزمن قد تغير كثيراً، و صرت اهتم بما لم يكن موجوداً ضمن نطاق قراءتي و بالذات صرت اهتم باللغة الدراجة بلغة الناس المحكية.
ربما كان الفرق كبيراً بين ما قراته في الطفولة و بين الحياة الواقعية. إن تربية الإنسان المثالي هذه بمساعدة كتب المنهاج المدرسي للحياة المثالية، ربما أعطت في نهاية المطاف نتيجة مذهلة بقوتها. فقد أرادت أمينات المكتبة تعلمي عن طريق الكتب كيفية العيش على شاكلة أبطال الروايات (الأدب) اللذين كانوا يعضون – ممنوع الكذب و النفاق و يجب الدفاع عن وجهة نظرك مهما كان الثمن. و لو كنت جاسوساً في معسر الأعداء فأثبت حتى النهاية.
و قد رَبَّوني شخصاً متحمساً و مبدئياً و جعلوني عدواً لا يلين و لا يستكين لهذا الأدب و هذا النظام الاجتماعي. و لكوني جاسوساً مُحَنّكَاً، فقد أخفيت حقيقتي لسنوات طوال لم أتحدث في أي مكان و لم اعمل أي مؤتمرات صحفية و عندما أرادوا إن يسجنوني في أحدى المرات لم يستطيعوا إن يثبتوا أني مُنشقّة و لم ارغب بالهجرة بأب ثمن.
و لحد الآن لم اكشف سرّي هذا. و هكذا يمكن اعتبار حديثي هذا أول اعتراف لي.

ليست هناك تعليقات: