الدكتورة المغتربة الشاعرة العراقية سارة سامي
• وجدتُ في قِصص الانبياء نَبعاً لا ينضَب من الصُور الشِّعرية
• أنا نَخلةٌ عراقية لا أشابهُ أشجارَ الصُنوبر في شوارعِ المنفى
شابة نقشت حروفها على ألواح الطين السومري وكتبت قصائدها ببراعم أشجار النارنج وقداحها، لتهب الحرف نبضاً جديداً يتنفس رحيق إيحاءاتها ولتجتمع فيها عذوبة ماء الرافدين ونوارس شط العرب وحلاوة تمر البصرة وبساطة أهلها. جميلة، رقيقة، شجاعة وطموحة. إجتمعت فيها صفات الحورية الجنوبية وعذوبتها. تقاطعت ممرات حياتها بين حي الجزائر في البصرة وأروقة المدينة المذهبة حيث فناء منزل جميل إحتواها من ركام القذائف والشظايا.
طفلة صغيرة ترحل ساره عن البصرة مودعةً بذلك أغصان شجرة البمبر ورائحة الطين، لتحتضنها اشجار البرتقال وحمائم الحرمين، ومن ثم لتهاجر في أواخر التسعينيات مع أهلها الى اسكندنافيا.
حاورتها واقتنصت من بين شفتيها الموردتين حواراً عذباً
• قبل ان نبدأ الحوار هل لك ان تحدثينا عن شخصك بشكل موجز
- أنا إنسانةٌ بسيطة وعَفوية جِداً، حالِمة وطُفولية. أعشقُ الطبيعة والألوان وكُلُّ شيءٍ جميل. حَقيبتي تَمتلئ بِصُور الأزهار والفراشات والتُوتِ والحشائِش.
• ماذا تحبين في الحياة؟
- أحِّبُ الطبيعة والفن والشعر. مكتبتي تَمتلِئ بقصصِ الأطفال والحِكايات والأساطير وخِزانَتي تَضُمُّ أنواعَ الفساتينِ المُلَّونة والمزركَشة. شخصَّيتي تكادُ تُشابه شَخصيَّة أميرة حالِمة من أميراتِ ديزني
. • لديك ثقافة حديث مميزة فماذا تحملين من شهادة جمعت فيها هذا النسق المتكامل بين المهنة والكتابة؟ وكيف تنسقين بين دراستك والشعر؟
- لديَّ بكالوريوس طِب بَشري من جامِعة كوبنهاكن. وحالياً قدمت على الدراسات العليا Master Degree in Medicin. أكتب الشِّعر في أوقاتِ فراغي وأحيانا تُباغِتُني القَصيدة أثناء تَصَفُّحي لكُتُب الطِّب او أثناء عُبوري الشارع أو جُلوسي على كُرسي الإنتظار في مَحطَّة.
• لكل شاعر طفولة مليئة بالحب والشوق وربما هناك ابعاد اخرى، فما هي أبعاد طفولة الشاعرة وكيف التقيت بكراسة الشعر؟
- لا شكَّ ان لِطفولتي أثرٌ كبير على تَبلوُر شَخصيَّتي ومِيولي فأنا وُلدتُ في مدينةِ البصرة، تلك المَدينة الشاعرَّية الجميلة ذاتِ التاريخ والأصالة والَّتي ضفائِرُها من نخيلِ أبي الخَصيب وعُيونها بِصفاءِ شطِّ العَرب. البَصرة الأُم الَّتي أنجبَت العُلماء والأُدباء فلا عَجَب ان أجدَ إلهامي في شناشِيلها وعشّارها وكورنيشِها. لقد بَدأتُ بالقراءة منذ نُعومةِ أظفاري وإلتقيتُ بكراسِّ الشِّعر حين وقع بيدي ديوانٌ للسيّاب من مكتبةِ والدي الزاخِرة بالكُتب والمؤلفات
• هل للعائلة تاثير على طفولتك وهل هناك من شجعك على ممارسة الكتابة الادبية
- نعم لوالدي تأثيرٌ كبير على مَسيرتي ليسَ فقط في المَجالِ الأدبي فحسب بل والعِلمي كذلك فهو النَبع الَّذي نهلتُ منه مُختلف أنواعِ العُلوم والآداب لما رفَد بهِ مكتبتنا من كُتب ومُؤلفات. ناهيكَ عن إنَّه يمتلِك قلماً جميلاً وعقلاً نيِّراً. أبي فِعلاً موسوعة علمية وثقافية وأكثر شخص أستمتِعُ بالحديثِ معه
• البعد والشوق والحرمان والسلام هي مفردات الشاعر, فما هي مفردات شعرك؟
- مُفردات شِعري لا تكادُ تنحصر بِرؤى مُعيَّنة فقد كَتبتُ عن الحُب والفُراق، عن الغُربة والحَنين الى الوَطن ولدَّي قصائد مُستوحاة من قِصص الأطفال والأدب الاسكندنافي. كما اني وجدتُ في قِصص الانبياء نَبعاً لا ينضَب من الصُور الشِّعرية وإستخدمتُها لتوظيفِ التشبيه والتَّجريد والاستعارة
• لكل شاعر بعد يميزه عن الآخرين فما هي أبعاد قصائد الشاعرة
- أعمدُ الى كتابةِ القصيدة النثرية لكونِها لا تُقيِّدُني بأوزانٍ او قواف فهي تُعبِّر عن حريةِ الجسد الشِّعري وتعددية إحتمالاتِه. تجعلُني أطلقُ العَنان لأفكاري وأحاسيسي فأؤثث بيتي الشِّعري وأزينهُ بالفِكرة والصُّورة والتكثيف والإنزياح دُون قيدٍ او شَرط. فتُصبح قصائدي تَرجمة صادِقة لمشاعري في كلٍ من المبنى والمعنى
• هل يتحول الشعر لديك أحيانا إلى حصان مشاكس؟
- أنا أشاكسُ القصيدة قبل أن تشاكسني، حتَّى عندما يجمحُ حصان الشعر لي، فأنا أنتقي من الكلمات ما أحوِّل فيه القصيدة الى مرآة لأحاسيسي
• اي حزن ينبعث في شعرك حين تتماوج العصافير ويرحل السنونو وتتكسر الورود على سيقانها؟
- حين تَتماوج العَصافير يَنبعِث حُزن الإغتراب بينَ ثنايا روحي فأرى نَفسي ذلك العُصفور التائِه عن غِصنِه وذلك السُنونو المُهاجر عن أوطانِه وتلك الوَردة المكسُورة على ساقِها
• يقال أن بعض الشعراء يكتبون قصائدهم وأن البعض الآخر تكتبه القصيدة فمن أي الشعراء أنت وكيف تولد القصيدة لديك؟
- القصيدة تكتُبني ولا أكتبُها وأشبِّه تجربة كتابتِها بالمَخاض الَّذي يِباغِتُ على حين غرّة.
• في عصرنا كَثر الشُعراء فمن يستحق لقب شاعر وما هي صفات الشاعر؟
- الشاعر يجب قبل كلِّ شيء أن يكونَ انساناً صادقاً مع نفسِه ومع الآخرين. إنساناً عقلهُ نيَّر ويتقدُ ذكاءاً وعلى مستوىً عالٍ من الثقافة والإلمام باللغة العربية وقواعِدها، فتكون مفرداتُه طيَّعة وسلسة وموسيقية. ولا يستحق لقب شاعر من إغترَّ بنفسه وبموهبته وتكبَّر على الناس ونأى بأشعارهِ عن مشاكلهم وهُمومِهم.
• همسة في أذن الشعراء على اختلاف اجناسهم؟
- لا تغتالوا شهرزاد
• ما موقفك من الشعر النسائي واين هي مسيرة الادب النسوي؟
- أنا شاعرة ومازلتُ أُناصر كُلَّ حَرفٍ يُكتبُ بأنامِلِ إمرأة مثلي.
في وطَننا العربِّي لدينا الكَثير من الأديبات والكاتبات اللواتي يُشار لَهُنَّ بالبَنان ويَتم الإشادة بمسيرتهنَّ الأدبيَّة. لكني أجدُ إستخدام لفظ الأدب النسوي نوعٌ من التمييز السِّلبي ضِدَّ المرأة، إذ إنَّه يعد ظلماً أن يُختصَر كُلَّ ما تكتبُهُ المرأة من إبداعٍ وتنوُّع ويُقَلَّص ضِمنَ صوتٍ واحد هو الصَّوتُ الأنثوي، الذي يُنظَر إليهِ مُسبقاً بنظرةٍ نمطية تُلغي هَويَّة الكاتبة وشخصيَّتها.
• رسالة شعرية تريدين أن تقولينها للقارئ العربي؟
- أريد أن يكون الشعر نابعاً من الاعماق وأريد من القارئ العربي ان يتخطى الحواجز الضيقة ليكون قارئاً وناقداً فالشعر روح العصر والشاعر أرضه ونبعه والقارئ الجيد هو من يجد خفايا القصيدة ويستوحي ملكوتها.
• ولدت في البصرة وهاجرت الى الدانمارك حيث اكملت دراستك هناك فما هو تاثير الغربة في كتاباتك؟
- صدَق من قال أنَّ الغُربة كُربة. فرُغم مُرورِ ستةِ عشر عاماً على مَجيئي إلى إسكندنافيا إلا إنَّ طعم الغربة لم يَزدَد إلاّ مَرارة! لا يَمُرُّ يومٌ دون أن أُحِسَّ بأنَّي غريبة ومُختلفة. فأنا نَخلةٌ عراقية لا أشابهُ أشجارَ الصُنوبر في شوارعِ المنفى. في عراقي أكاد أرى نفسي في كُلِّ نخلة مزروعة في أحياءِ بغداد وطريقِ الحِلَّة وبساتين أبي الخصيب. اتماشى مع ألوانِ الشَّوارع وأتحدَّثُ لغة النوارس وأفهمُ موسيقى هديلِ الحَمام القاطِن على ضِفاف دجلة. ولا يمكنني الجزم بأنّ الغربة قد إحتوتني بشكل او بآخر ولا انا احتويتها يوماً، بل نحنُ في صِراع يومي ونكاد نقتلُ بعضنا بعضاً!
• في نهاية الحوار هلاّ سجلت لنا بعضا من قصائدك؟
- الحُلم اليَمانّي
أعِرني فُرشاةَ حُرُوفِك
لأرسِمَ مُدُناً نَحَتَتْ مِنَ الجِّبالِ قُصُوراً
ألبِسْنِي أكالِيلاً مِنَ الفِردَوْس وكِساءاً يَمانِّياً مُطَرزاً بأبْجَدِيَةِ هُدْهُدِ سُلَيْمانْ
إهْدِني كُحلاً حَبَشِيَّاً
وَسِرْ بِي بَيْنَ البُيوتِ المَنْحُوتَة كَقافِلَةٍ مِنْ قَوافِلِ سَبَأْ
خُذنِي إلى مُدُنٍ الذَّهَبُ فِيها كالطِّينِ فِي الشَّوارِعْ أشْجارُها طَويلَة مُذْ بِدأُ الخَلِيقَة
تُسقَى مِنْ جَنَّاتِ عَدنْ إبنِ لِي عَرشاً مِنَ العاج بأرضِ حَضْرَمَوْتْ
فأنا مُذ عَرَفْتُكْ أصْبَحتُ بَلقِيساً
بَغدادُ..
ها هو اليومُ الأخيرُ لي بأحضانِك وبَعده سأتلاشى كالرَذاذ من نَفاثاتِ الطائِرة
ولَن تأخُذَني شَوارِعُك مُجَدَداً لقِبابِ الكاظِمية
ولَن تَدُلَني نَوارِسُك لأبي حَنيفة وضَواحِي الأعظَمِية بَغدادُ يا بَغدادُ كيفَ لي أن أُوَّدِعَكِ وكُلُ نخلةٍ فيكِ تُناديني: لا تَرحلي لا تَرحلي
ففي رَحِيلكِ سَيبكي شَهريارُ في شارع أبي نؤاس وسَتَصُبُّ كَهرمانه الزَيتَ في عُجالة على الأربَعين حَرامِي
حتّى تَلحَق النَّورس الأخضَر قُبيلَ الإقلاع
لا تَرحلي فسيُلقي المُتنبي كراريسَهُ أرضاً
فتِلك اليَمامة المُهاجِرة لم تَلحَق مَوعِده في كُلِ جُمعة
وغادَرت دُونَما سَلام ودُونَما كلام
و حَديثٍ مُطوَّل مع شُعراءِ القِشلة وعازِفي العُود وصانِعي الخَزَف
بغدادُ يا بغداد كيف لي أن أوَدِعَكِ؟ وكل شِبرٍ من شوارِعُك يُناغيني وكل كنيسةٍ من كنائِسكِ تُواسيني
إبقي هُنا .. إبقي هُنا فهُنا إفتَرَشَت حَدائِقُ الزَوراء.. أزهارَها وَسائِداً ورَوَتْ شَهرزادُ حَكاياها قَصائِداً وطَرَّزت بِحَديثِها صَفحاتِ ألفِ ليلةٍ وليلة
عَلّها تَحُطُّ كسَربٍ مِن الحَمام على رَفَّ مكتبةٍ إسكندِنافية
• حاورها : جاسم العبيدي