بحث هذه المدونة الإلكترونية

مرات مشاهدة الصفحة في الشهر الماضي

السبت، 29 أكتوبر 2016

تلك المسلّة البعيدة-المؤلف كريم النجار


كتب
تلك المسلّة البعيدة


تلك المسلة البعيدة  

المؤلف
كريم النجار
  

 الطبعة الأولى: القاهرة 2009 
دار أدب فن للثقافة والفنون والنشر
بالتعاون مع مؤسسة شمس للنشر والتوزيع
لوحة الغلاف للفنان: مهند العلاق
تصميم الغلاف: كريم النجار

رقم الإيداع: 19410/2008
البحت التائه، التاريخ، وتجربة الحياة اليومية
في ديوان "تلك المسلة البعيدة"   
  
"حسين عجة"
يستوقفنا، قبل كل شيء، العنوان الذي أختاره الشاعر لسفره الكبير هذا، وذلك لأنه يدخلنا من كلمته الأولى ضمن ديوان الشعر العربي في بحثه الواسع، الصعب والمشتت عن بقايا "الأشياء" والكائنات. بحث جديد عن الإطلال. مغامرة أخرى لطرح تساؤلات قد لا يتحمل إيقاعها الحاضر الرتيب والصاخب في آن معاً. ذلك لأن "البحث" هنا لا يكف عن الانشطار، أو أن منهج البحث ذاته يتعمد ذلك الانشطار. فتارة يتوجه المسار نحو الماضي المتواصل العيش، أو الماضي الذي لا يقبل بالوقوف ضمن حركة التاريخ، أي ابتعاده ولو قليلاً عن الحاضر، حتى يتم تناوله وتأمل موقع الضربات فيه، ومن ثم وضعه في موقع التجربة التي تمت معايشتها من قبل. كلا. فهذا الماضي لم يصبح ماضياً بعد. ذلك لأن نوعية وتوتر أحداثه، دمويتها وشراسة دمغاتها، تقدمه وكأنه ماثلاً في كل لحظة من لحظات غيابه. لا على صعيد الذاكرة وحدها، أو كآثار صور بدائية، ممحوة، ترتد في زمنيتها لماضي سحيق وحسب، ولكن لأنها لا تكف عن الامتزاج وتعكير صفاء الحاضر، أو حتى مجراه المسربل العادي. وتارة أخرى، يساورنا الشك بأن البحث برمته منصباً على تشابكات الحاضر، وتفاصيل التباساته اليومية، فيما يبقى الماضي محض خلفية لمعايشة آنية تمحي صوره ورتوشه القديمة، حتى وإن كان ذلك على صعيد المتخيل، أو ما يمكن أن يكون بديلاً له : نحن فقط في الحاضر المحض، بكل ما تنطوي عليه المفردة من رعب وبياض، لا يسمح بظلال أخرى غير تلك التي وضعها لنفسه كحاضر وحسب.

قلنا أن الديوان يستوقفنا بدءً بكلمته الأولى، لا لأنه يضعنا فجأة أمام "البعيد" أو "مسلة" ذلك البعيد، ولكن لأن مفردة "تلك"، وبغض النظر عن استخدامها اليومي وعفوية ما توحي به ضمن قاموس اللغة المُتشكل، تحيلنا بدفعة واحدة نحو أنفسنا، إذا جاز التعبير، لدرجة تولد لدينا شعوراً بأنها وحدها من يتحمل ثقل مسافة البحث، أكثر من "المسلة" ومن ذلك "البعيد" الذي يتم تذكره. أو مسافة البعد المفترضة للبحث عنها، أو لتسميتها وحسب : أن يقال كانت هناك "تلك... المسلة". وبذات الحركة الواحدة، تحيلنا نحو "أشياء"، كائنات، أحداث، عبارات، وجوه، وحتى بعض الأحاديث التي لا نعرف من قالها ومن أصغى لها.

كذلك لا ينبغي، من وجهة نظرنا، التعامل مع مفردة "مسلة" باعتبارها شاخصاً مادياً، يمكن اللجوء إليه، أو أنه كان في يوم ما حاضراً، ومع اندثاره قد ولد إغواء البحث عنه، عند أحدهم. فالمسلة التي يتحدث عنها النجار هي، في الحقيقة، علامة الانفصال، الدالة اللامادية عن الشيء ذاته وما يتجاوزه. أو، بدقة أكبر، المسلة هي الإشارة غير المرسومة في مكان ما، أو التي لم يقم ببعثها كائن ما. أنها الانفصال والانشطار المحض. تلك التي "يتحنط فيها الكلام". تلك التي ترغم الشاعر على القول:
تلك أيامك الخاوية
يتصارع ثوران... في حضرتك
وأنت لاهي بيومك المتأخر
ساعة أو ساعتين
بتعبير آخر، المسلة هي ما لا يمكن البحث عنه. الشيء المولد للخواء ذاته. الخواء الذي ليس بالخواء، بل نزاع؛ والذي يعطي نفسه، في البداية وكأنه بدون منازع، ولكننا سرعنا ما نكتشف "صراع الثيران فيه"، في حضرة ذلك الذي قد يلتفت له ولا يمنحه من زمنه المتأخر سوى "ساعة أو ساعتين" في اليوم الواحد. ظن منه بأنه بهذا يكون قد واجه حجم وضخامة "الفجيعة"، التي سيأتي الحديث عنها لاحقاً. لندخل في العمل : تحمل القصيدة الأولى عنوان "أيامك الخاوية". يبدو أن ثمة ذات تجري مخاطبتها هنا. غير أنها معدومة الوجود. فما يصلنا عنها أو منها، يظل وكأنه منقولاً عما يُقال بخصوصها. من هي هذه الذات؟ سيكون من العجالة القول : ذات الشاعر. وقد يكون الحال هو كذلك، بالرغم من صيغة الحوار الضمني الذي يغطي القصيدة بكاملها. تتشكل إذاً، شيئاً فشيئاً،، لدينا معرفة أكبر عن توزع ميادين الديوان، فبعد الخواء، وتحنط الكلام، نفاجأ بالجوهر المتجذر بذاته، أو الذي يريد "هو" التجذر فيه. لنرى الثمن الذي ينبغ دفعه من أجل ذلك التجذر :
"ليس سواك من أحدٍ
يجمع الغياب".
للوهلة الأولى، نعتقد بأن ذات ما قد تلبست ذلك الجوهر، ومن ثم ستكون قادرة على"جمع الغياب" الذي لا يجمع؛ بيد أن تلاحق الرموز، تناثر المجازات سيضعنا مباشرة أمام :
"جدران تطبق على بذخ
اللون وضوء يتوضأ بالرذيلة".
لا أحد يستطيع، إذاً، تجسيد الجوهر، إدعاء تحمل بذخه، أو قبول لونه الذي سيتوضأ بالرذيلة. ذلك لأن عشق الجوهر لوحده لا يكفي، إذا كان في عزلة كاملة عن الغلاف السديمي الذي يحيط به، أسم هذا السديم قد يكون التاريخ، الزمن، أو شيء ما غريب عن كل ذلك، قد يكون، في العمق، غاية غير مفهومة :
"لغايتك المعلقة بدبابيس الوقت وهيولي الومضة
الأولى
وحده الوقت يفرش جناحيه مثل أله ينازع
الغيم".
النزاع ثانية، الإله الغيم، فيما تمر ومضة الهيولي لكي تعبر غشاء العائق، في بحثها المخبول عن مثيلها، عن كائن أو صفة قد تخلى الكائن عن جسده والصفة عن قيمتها؛ سينفتح الباب أمام شخصية لا يمكن تلويثها لا بتراكمات التاريخ، ولا بما يعلقه الوقت في دبابيس. لنسمع :
الحلاج يهمس بأذنك، لا أحد غيرك سواك
لا صوت يأتي
لا أثر
لا أنين
هسيس يدب بين الضلوع.
بهذا يتجمع ويتكور الجوهر على نفسه، في لغة التصوف. وبالرغم من ذلك، لا يستسلم التاريخ بمثل هذه السهولة، ولا يُفرغ ناسه بلمحة بصر :
عرب هنا، عرب هناك
مر التاريخ بحدقاته المتورمة
(...)
ونام الزمن
في جوف الحوت
الصمت وسيلتك الناهضة
والصراخ تعلمته.

تلك هي صيغة الحوار : ما بين الأنا والآخر. ما بين الأنا والأنا، تحت نظر التاريخ ذو الأحداق المتورمة، والذي ينازع الشاعر حتى الموت للخروج منه، رغم وهم تمسكه به. قد يقال كل ذلك من جزئيات موروث المتخيل الشعبي. وليكن. بيد أن الرحلة لم تتم. إذ سيحاول الشاعر، هذه المرة، عبر وفي لحظة بحثه عن ذلك الموروث، القيام بفعل آخر. السكن أو المكوث في قطب آخر، وها أن قصيدة "أبني بيتي في البحر" تقدم لتعلن لنا ذلك صراحة، وبلغة لا تقبل لا المجازات ولا اللبس :
أبني في البحر بيتي
بيتي من رمال البحر
أسكن بهدأة من الريح والعاصفة
لا ضوء
ولا دخان
يتصاعد من أفواه العتمة والشوارع.

رواية "الحج إلى واشنطن" للمهدي عثمان-إصدارات

_________________________________________________________________________
إصدارات
رواية "الحج إلى واشنطن" للمهدي عثمان


صدرت في القاهرة عن العصرية للنشر في 196 صفحة رواية "الحج إلى واشنطن"
تمتدّ على مجموعة فصول تجعل من الرواية أقرب في هيكلتها لتنظيم النص المسرحي. ولعلّ للعنوان الذي هو اختزال للمضمون دلالة سيميائيّة واضحة في علاقته بالمحتوى تتراوح بين المفهوم الديني والبعد السياسي، وفي الربط بين "الحج" و " واشنطن" دفع للتصادم بين المفهومين والتقاء في نقطة الانفجار.
وهذه المفاهيم تخيّم بظلالها على شبكة العلاقات بين الموجودات في الرواية، حيث تنهال على مخيّلتك أسماء مختلفة متنوّعة لأشخاص وأماكن متباعدة لا يمكن أن تربط بينها غير خيوط الرواية ومخيال الرّاوي في شبكة معقّدة للأحداث مسْرودة سردا عنكبوتيا يمتزج فيه النسق الخطّي بالاسترْجاع وبالاستباق في خيط رفيع جدا.
مجموعة الأشخاص من دول عربية مختلفة يجمعهم التنظيم العالمي للقاعدة، بعض الأسباب الشخصية الأخرى ليقرروا القيام بعمل "جهاديّ" ضد تمثال الحرية في الولايات المتحدة، الذي يمثل رمز الحرية والنظام العالمي الجديد.
وهذا الحدث هو نتيجة لما حصل بعد سقوط بغداد و 11سبتمبر، ونستطيع أن نجد في الرواية ذلك التقاطع بين هذين الحدثين وحادثة تفجير تمثال الحرية، وعلاقة كل ذلك بالقضية الفلسطينية والوضع المتفجر على الحدود اللبنانية الفلسطينية. لنصل إلى فكرة أن ما يسمى الإرهاب العالمي أو الاسلام الجهادي ليس إلا نتيجة لكل تلك الأحداث والوقائع.
وفي الرواية تحضر بوضوح مواقف الراوي من الراهن الحياتي في كلّ تجلّياته ومستوياته: مواقف من العولمة /الفقر/ التنظيمات السياسية/ أشكال النضال/ الأحداث العالميّة الأخيرة/ أحداث 11 سبتمبر ونتائجها/ الحرب على العراق ولبنان، دون أن ننسى الشتات الفلسطيني..
كما تنخرط في الشّاغل اليوميّ الطبيعيّ الحياتيّ (العلاقات الاجتماعيّة والجنسيّة) والهمّ الثقافي. إنها تمارس على القارئ إرهابا لغويّا، وهي تضع على طاولة التشريح الثالوث المحرم: الدين والجنس والسياسة.

مفازات جحيم الرؤيا- ميلود لقّاح

شعر
مفازات جحيم الرؤيا


  
عُصْفُورٌ يـخْرُجُ
منْ عُمْقِ الإسْمَنْتِ
ويخْبِرُنِي أَنَّ الشَّمْسَ
سَتُمْطِرُ هَذَا الْيَوْمَ رَذَاذا
مِنْ فَرْطِ تَوَهُّجِهَا
سَتُحِيلُ الْكَوْنَ صَقِيعاً
لا يُبْصِرُهُ
إلاَّ الرَّاسِخُ في الْعَتَهِ
المْتَعَمِّدُ بِالصَّحْوِ
المتَلَفِّعِ بِالسُّكْرِ الأشْهَى.

مَطَرٌ مِنْ غَيْبِ الْقَيْظِ
وَمِنْ غَبَشِ الْكَابُوسِ الأصْفَرِ:
يَعْرَى الْقَلْبُ
وَلا يُدْرِكُ عُمْقَ الأشْيَاءِ،
وَلا تَتْرَى في الأُفْقِ
صَبَاحَاتُ الظُّلْمَةِ.
مَنْ يُنْقِذُ مَوْتَ الأحْيَاءِ
مِنَ الصَّحْوِ،
وَمِنْ شَبَحِ الأحْلامِ الوَرْدِيَّةِ.
أَسْنِدْنِي يَا قَمَرِي،
وَخَلِيلَ الأرَقِ الثَّاوِي
في رَوْضَةِ كَهْفِ الرُّوحِ...
أَعِنِّي يَا مَطَرَ النِّيرَانِ الملَكِيَّةِ
أمْهِلْنِي بَعْضَ الدِّفْءِ...
ولا تَبْخَلْ،

سَيَصيرُ نَفِيرُ الْقَوْمِ غُرَاباً يَنْعَبُ
في مُنْتَصَفِ الحُكْمِ
وَلا يَكْشِفُ عَنْ بَيْنِ الْغَيْمِ،
وَلا لَيْلَى تَكْشِفُ
عَنْ سَفَرِ الأشْوَاقِ،
فَلا "عُوجُو" تَكْفِي
لِتُدَثِّرَ صُبْحَ الأنْوَاءِ
وتُلغَى مِنْ عَبَثِ الحْرْفِ
لَهَا أَنْ تَلْعَنَ كُلَّ الدِّمَنِ
الْمَنْصُوبَةِ زُورًا
في كُلِّ عَبَاءَاتِ اللاوَعْيِ
وَتُقْصِي نَغَمًا لا يَكْفُرُ
بِالسَّفَرِ الممْتَدِّ
عَلَى بَيْدَاءٍ مِنْ وَرَقٍ
يَعْشَقُ قَيْساً أَوْلَيْلَى

أَوْ يَعْبُرُ بٍالضِّلِّيلِ
إِلَى مُلْكٍ لا يَبْلَى..
هِيَ ذِي بَعْضُ مَفَازاتِ الرُّؤْيَا
تَرْفُضُ أَنْ تَسْتَوْعِبَ
نُعْمًا أَوْ لَيْلَى سَيَّانْ.


حوار مارتن هايدغر أسئلة وأجوبة حول السياسة والفلسفة والتاريخ-ترجمة : حسونة المصباحي

حوار
مارتن هايدغر
أسئلة وأجوبة حول السياسة والفلسفة والتاريخ

ترجمة : حسونة المصباحي



نشر هذا الحوار في المجلة الألمانية الأسبوعية »دير شبيغل« بتاريخ 31 آيار/مايو 1976 بعد أيام قليلة من وفاة مارتن هايدغر ونشرت المجلة التوضيح التالي: أرسل هايدغر في آذار/ مارس 1966 رسالة إلى المجلة يردّ فيها على الذين يتّهمونه بأنه كان على صلة بالنازيّة أثناء فترة صعودها. وكانت هذه الرسالة إشارة إلى أنه كان مستعدّا للإجابة على الأسئلة المتعلقة بهذه القضية. وفي شهر أيلول/سبتمبر 1966 تمكن رودولف اغستاين وغيورغ فولف من التحاور مع هايدغر. وقد أوصى هايدغر بعدم نشر الحوار إلا عقب وفاته قائلا:»المسألة لا تتعلق بكبرياء أو عناد وإنما بعملي هذا الذي أصبح مع السنين أسهل، ويعني في المجال الفكري أنه أصبح أكثر صعوبة«. ويعتبر هذا الحوار الوحيد من نوعه الذي خصّصه هايدغر للصحافة.

ـــــــــــــــــــ

شبيغل: أستاذ هايدغر، لقد لاحظنا دائما أن هناك شيئا ما أثر تأثيرا سلبيّا على أعمالك الفلسفية بسبب أحداث عشتها. ورغم أن هذه الأحداث لم تدم طويلا غير أنها لم توضح بما فيه الكفاية.

هايدغر: تقصدون أحداث 1933.

شبيغل: نعم قبل 1933 وبعدها. نحن نريد أن نضع هذه الأحداث في إطار أكثر شمولا ومنها ننطلق إلى أسئلة تلوح أكثر أهميّة. مثلا: ماهي إمكانيّات الفلسفة للتأثير على الواقع بما في ذلك الواقع السياسي؟

هايدغر: إنها أسئلة هامّة، ولست أدري هل أستطيع الإجابة عليها كلها. وقبل كل شيء لابد أن أقول أنه لم يكن لي أي نشاط سياسي قبل تعييني رئيسا للجامعة. وخلال شتاء 1932 وشتاء 1933 كنت في عطلة وأغلب أوقاتي كنت أقضيها في منزلي الريفي.

شبيغل: كيف استطعت إذن أن تصبح رئيسا لجامعة فرايبورغ؟

هايدغر: خلال شهر كانون الأوّل/ديسمبر 1932 انتخب زميلي فون مولوندورف وهو أستاذ مختصّ في علم التشريح عميدا. وتاريخ بدء العمل في جامعتنا كان يوم 15 نيسان/ ابريل. وخلال فصل شتاء 1932 و1933 كنا تحدثنا أحيانا عن الوضع السياسي وخاصة عن وضع الجامعات، وأيضا عن وضع الطلاب الغامض. وكان رأيي كالآتي: ليس هناك غير وسيلة وحيدة وهي أن نمسك بالتيار الذي بدأ يظهر شيئا فشيئا اعتمادا على القوى البناءة والتي لا تزال حيّة حقا.

شبيغل: كنت اذن تلاحظ علاقة ما بين وضع الجامعة الألمانية والوضع السّياسي في ألمانيا بصفة عامّة؟

هايدغر: لقد تابعت الأحداث بين يناير/ كانون الثاني ومارس/ آذار 1933، وحدث أن تحدثت في شأنها مع زملاء أصغر مني سنّا، ولكن عملي كان مخصّصا في ذلك الوقت لتحليل شامل لفكر ما قبل السّقراطية. وقد عدت إلى فرايبورغ في بداية فصل الصّيف. وقبل ذلك كان الأستاذ فون مولوندورف قد بدا عمله كعميد يوم 17 نيسان/أبريل. وبعد أسبوعين فقط من ذلك أقيل من منصبه بقرار من وزارة التعليم. وربّما كان قرار رئيس الجامعة بمنع تعليق ما سميّ في ذلك الوقت بالمنشور الخاص باليهود، فرصة للوزارة لكي تقيله من منصبه(١).

شبيغل: السيّد فون مولوندوف كان اشتراكيا ديمقراطيا. ماذا فعل عقب هذا القرار؟

هايدغر: يوم إقالته اتصل بي فون مولوندورف وقال لي »هايدغر... أنت الذي يجب أن يمسك برئاسة الجامعة«. قلت له أني لست على دراية كبيرة بالمسائل الإدارية، وعرض عليّ مساعد رئيس الجامعة السيد شارو (علم اللاهوت) أن أرشح نفسي لرئاسة الجامعة ذلك أنّه حسب قوله يمكن أن تعيّن الوزارة موظفا في حالة عدم عثورها على شخص تثق فيه. وجاءني زملاء يكبرونني في السن. وحدث أن تناقشت معهم قبل ذلك حول مسائل تتعلق بسير الجامعة. وقد تردّدت طويلا. وأخيرا قبلت أن أقوم بهذه المهمة، فقط من أجل مصلحة الجامعة إذا ما تأكدت من رضى كل أعضاء المجلس الانتخابي. ولكن شكّي حول مدى قدرتي الإداريّة ظلّ كامنا فيّ حتى أني صبيحة اليوم المخصّص للانتخابات، اتصلت بالزملاء وكان من بينهم فون مولوندورف وشاورتهم في الأمر وقلت لهم أني لا أستطيع أن أشغل المنصب. وعندئذ أعلمني زملائي بأن عمليّة الانتخابات قد أعدت وأنه لا يمكنني سحب ترشحي.

شبيغل: وقبلت طبعًا ما هي الأشكال التي اتّخذتها علاقاتك بالقومّيين الاشتراكيين؟

هايدغر: بعد يومين من بدء عملي كرئيس للجامعة اتّصل بي رئيس الطلبة القوميين الاشتراكيين(2) وكان مرفوقا بزميلين له وطلب منّي السّماح لهم بتعليق المنشور الخاص باليهود، فرفضت. وانسحب الطّلاب الثلاثة بعد أن أعلموني أنهم سينقلون قراري إلى قيادة الطّلاب القوميين الاشتراكيين. وبعد أيام اتصلت بي إدارة التعليم العالي بالوزارة تليفونيا وطلبت مني أن أسمح بتعليق المنشور مثلما حدث في بقية الجامعات. وإن أنا رفضت فإني أعرّض نفسي للإقالة وربما أيضا إلى غلْق الجامعة. وحاولت أن أحصل على قبول الوزير بقراري، ولكنه أعلن أنه لا يستطيع. ورغم ذلك لم أتراجع عن قراري.

شبيغل: نحن لا نعرف إلى حدّ هذا الوقت أن الأمور كانت على هذا الشكل؟

هايدغر: السّبب الحقيقي الذي دفعني إلى قبول منصب رئاسة الجامعة هو ذلك الذي كنت أعلنت عنه في محاضرتي الافتتاحيّة بجامعة فرايبورغ سنة 1929:»ماهي الميتافيزيقا؟« أنّ مجالات العلوم منفصلة وبعيدة عن بعضها البعض والطريقة التي تحلل بها العلوم الأشياء تكون مختلفة عن سابقتها اختلافا شديدا في كل مرّة. أن تعدّد مثل هذه العلوم المشتّتة لا يجد الترابط المنطقي اليوم إلا في ذلك الذي يمنحه له التنظيم التقني للجامعات والكليات، وبين مثل هذه الإختصاصات ليس هناك سوى نقطة التقاء وحيدة، وهي الاستعمال العملي لها. وفي مقابل ذلك فإن تجذّر العلوم في جوهر وجودها شيء ميّت تماما«. وكلّ ما حاولت القيام به خلال فترة رئاستي للجامعة في ذلك الوقت- وحتى الأشكال المتطرّفة التي بلغها اليوم- موضّح توضيحا كافيا في الخطاب الذي ألقيته يوم تنصيبي رئيسا للجامعة.


شبيغل: نحن نحاول أن نكتشف كيف وإلى أي مدى يتطابق هذا القول الذي أعلنت عنه سنة 1929 مع الخطاب الذي ألقيته في حفل التنصيب سنة 1933. نستخرج جملة من إطارها العام: »الحرية الأكاديمية التي طالما تغنّى بها البعض الآن ملغية تماما من الجامعة الألمانية. ذلك أن مثل هذه الحرية ليست حقيقة ولكنها فقط سلبيّة«. ونحن نعتقد أننا على حق حين نتصوّر أن هذه الجملة تعبر عنها تصوّرات ما زالت قريبا منها ومتطابقا معها إلى حدّ اليوم.

هايدغر: اني احتفظ بما قلت. ذلك أن هذه »الحرية الأكاديمية« لم تكن في أغلب الأحيان إلاّ سلبيّة: الحرية في عدم بذل الجهد، وفي عدم انفتاح على التأمّل والتفكير اللذين تتطلبهما الدّراسات العلميّة. وأما بخصوص الجملة التي ذكرتها الآن، فإنها لا يجب أن تقرأ وهي معزولة عن إطارها العام. ففي هذا الإطار العام فقط يمكن للإنسان أن يفهم ما كنت أقصده بالحرية السّلبية.

شبيغل: نعم. ولكننا نعتقد أن في خطابك الافتتاحي هناك نغم جديد خاصة عندما تتحدث بعد أربعة أشهر من صعود »هتلر« إلى الحكم كمستشار للرايخ عن »عظمة وبهاء هذه الانطلاقة«.

هايدغر: هكذا كان رأيي في ذلك الوقت.

شبيغل: هل تستطيع أن توضّح لنا ذلك بأكثر دقّة؟

هايدغر: طبعا لم أكن أرى في ذلك الوقت أيّ حلّ آخر. ووسط الفوضى العامّة للآراء والتيارات السياسية التي كان يمثلها اثنان وعشرون حزبا كان لابدّ من إيجاد موقع قومي وخاصة اجتماعي في الاتجاه لمحاولة فريدريك نومان(3) Friedrich Naumann) وأريد أن أذكر على سبيل المثال بدارسة لإدوارد سبرائغير(4) (Eduard Spranger) تذهب أبعد من خطابي الذي ألقيته في حفل الافتتاح.

شبيغل: في أي وقت بدأت تهتم بالسياسة؟ الاثنان وعشرون حزبًا كانت موجودة قبل ذلك وكان هناك أيضا ملايين من العاطلين سنة 1930.

هايدغر: في ذلك الوقت كنت مهتما أساسا بالمسائل التي وردت في »الوجود والزمن«

(Sein und Zeit) وبالكتابات والمحاضرات التي ألقيتها في السنوات الموالية. أنها مسائل فكرية أساسية على علاقة غير مباشرة بالمسائل القومية والإجتماعية. والمسألة الأكثر إلحاحا بالنسبة لي كأستاذ جامعي في ذلك الوقت كانت مسألة مصير العلوم واتجاهاتها، وفي نفس الوقت تحديد دور الجامعة وعملها. وهذا البحث كان واضحا في عنوان خطاب حفل التنصيب:»اثبات الجامعة الألمانية لوجودها« لم يكن هناك حفل تنصيب تجرّأ على اتخاذ مثل هذا العنوان في ذلك الوقت. ولكن من بين هؤلاء الذين تحاملوا على هذا الخطاب وانتقدوه... قرأ وتأمّل فيه جيّدا وفسره انطلاقا من ظروف تلك المرحلة؟

شبيغل:»إثبات الجامعة لوجودها« في عالم متقلّب ألا يبدو هذا في غير أوانه وفي غير محلّه؟

هايدغر: كيف ذلك؟ »اثبات الجامعة لوجودها« لقد كان هذا يتعارض مع ما يسّمى »بالعلم السياسي« الذي منذ ذلك الوقت، كان مطالبا به داخل الحزب وداخل صفوف الطلاّب القوميين الاشتراكيين. وهذه التسمية »العلم السياسي« كان لها معنى يختلف تماما عن معنى اليوم. انها لا تعني السّياسة في حدّ ذاتها بل تعني ما يلي: إن العلم الحقيقي هو ذلك الذي يكون مفيدا للشعب وملبّيا لرغائبه. وما ذكرته في خطاب الافتتاح كان يتعارض تماما مع هذا الاتجاه »التسييسي« للعلم(5).


شبيغل: هل نحن نفهمك جيّدا؟ هل كنت تريد في ذلك الوقت التأكيد على أصالة الجامعة وحمايتها من تلك التيارات القوية التي كانت تتهددها؟

هايدغر: نعم. وأمام التنظيم التقني للجامعة لابد من أن يكون لإثبات الوجود معنى جديد انطلاقا من التفكير في تقاليد الفكر الغربي الأوروبي.

شبيغل: سيادة الأستاذ. هل نستطيع أن نفهم من كلامك أنك كنت تريد إنقاذ الجامعة بالتعاون مع القوميين الاشتراكيين؟

هايدغر: إن هذا الفهم خاطئ. لا بالتعاون مع القوميين الاشتراكيين. الجامعة لابدّ أن تتحدّد انطلاقا من نفسها وأن تحصل على موقع قويّ وصلب أمام »تسييس« العلم في المعنى الذي كنت وضحته من قبل.

شبيغل: ولهذا أنت ذكرت في خطاب الافتتاح هذه الركائز الثلاث: العمل- الدّفاع- المعرفة.

هايدغر: ليس هناك ركائز. إذا أنتم تأمّلتم جيّدا فإن المعرفة تحتل الدرجة الثالثة ولكن المعنى يعطيها الدّرجة الأولى. ما يجب أن يتأمّل فيه هو أنّ العمل والدفاع مثل كل نشاط إنساني متأسسان انطلاقا من علم ما ومستنيران به وبه يهتديان.

شبيغل: لابدّ أن نتحدث - ثم سوف ننتهي بعد ذلك من ذكر مثل هذه الاستشهادات المضجرة- عن جملة لا تتصور أنك مقتنع بها اليوم. قلت في خريف 1933:»لا يجب أن تكون النظريات والأفكار هي قاعدة وجودك. وحده »الفوهرر« هو الحاضر والمستقبل والواقع الألماني وقانونه«.

هايدغر: هذه الجملة لا توجد في خطاب حفل التنصيب ولكن في الجريدة الداخلية »لطلاب فرايبورغ« وذلك في بداية الفصل الدّراسي لشتاء 1933-1934.

عندما قبلت أن أكون رئيسا للجامعة، كنت أعرف أني لابدّ أن أقدّم بعض التنازلات. أني لا أكتب اليوم الجمل المذكورة. ولم أقل مثلها أبدا منذ 1934.

شبيغل: هل نستطيع أن نلقي عليك سؤالا عرضيّا؟ هذا الحوار وضح الآن أن موقفك خلال سنة 1933 كان يتأرجح بين اتجاهين. أولا كنت مجبرا على قول بعض الأشياء. وهذا هو الاتجاه الأول. ولكن الاتجاه الثاني كان على الأقل أكثر ايجابيّة وذلك عندما تقول: كنت أحسّ أن هناك شيئا جديدا. أن هناك انطلاقة«.

هايدغر: هذا ما كنت أقصده. لم أتكلّم متصنّعا ذلك وإنما لأني كنت أرى حقا هذه الإمكانية.

شبيغل: أنت تعرف أنه انطلاقا من هذه الأشياء اتهمت بأنك كنت على علاقة مع القوميين الاشتراكيين ومع جمعيّاتهم. ومثل هذه الاتهامات التي بلغت الجمهور الواسع ظلّت إلى حدّ الآن دون توضيح. وهناك من يتهمك بأنك ساهمت في عمليّات حرق الكتب التي نظمها الطلاب الهتلريون.

هايدغر: لقد منعت عملية حرق الكتب التي كانت ستحدث أمام مبنى الجامعة.

شبيغل: ثم أن هناك من يتهمك بأنك أخرجت من مكتبة الجامعة ومن منتدى الفلسفة مؤلفات الكتاب اليهود؟

هايدغر: لم تكن لي سلطة كرئيس لا على المنتدى ولا على مكتبته. ولم أرضخ أبدا للأوامر المتكرّرة التي كانت تلّح على ضرورة القضاء على المؤلفات اليهودية. وبعض الذين ساهموا قديما في بعض أعمالي في منتدى الفلسفة باستطاعتهم أن يشهدوا على أننا لم نخرج مؤلفات اليهود وأننا كنا نناقش أعمالهم وخاصة أعمال هوسرل (HUSSERL) التي ظلت تُناقش وتفسر مثلما كان الأمر قبل 1933.

شبيغل: كيف تفسّر اذن أسباب انتشار مثل هذه الاتهامات؟ هل هو الخبث والنميمة؟

هايدغر: بسبب معرفتي بمصدرها، لا أستطيع أن أنكر، غير أن أسباب النّميمة أعمق من ذلك. أن قبولي برئاسة الجامعة ليست الفرصة والسبب الرئيسي لما حدث. ولهذا فإن الجدال يشتعل كلما سنحت الفرصة لذلك.

شبيغل: بعد سنة 1933 كان لك طلاّب يهود. وعلاقتك بالبعض منهم كانت حميمية.

هايدغر: لم يتغيّر موقفي منذ 1933. وإحدى طالباتي وإسمها هيلين فايس (Helen Weiss) وكانت الأكثر نبوغا هاجرت بعد ذلك إلى اسكتلندا، وقد أعدّت رسالتها لنيل شهادة الدكتوراة في جامعة »بال« بعد أن تعذّر عليها القيام بذلك في »فرايبورغ« وعنوان رسالتها: »السببيّة والصدفة في فلسفة أرسطو« وقد صدرت في بال سنة 1942. وفي مقدمتها كتبت المؤلفة مايلي: إن محاولة التفسير الفينومنولوجي التي سأقدم منها الجزء الأول ساعدتني على القيام بها تفسيرات لهايدغر لم تنشر إلى حدّ الآن حول الفلسفة الاغريقية. وها هي نسخة من هذه الرّسالة مع الإهداء وقد زرت السيدة فايس مرات عديدة قبل وفاتها.
شبيغل: كنت صديقا لمدة طويلة لكارل ياسبرس. وبعد 1933 تعكّرت صداقتكما. والشائعات تقول بأن سبب هذا التعكّر هو أن زوجة ياسبرس يهودية. هل تستطيع أن تقول شيئا حول هذا الموضوع؟

هايدغر: كنت صديقا لياسبرس منذ ٩١٩١. وقد زرته وزرت زوجته في »هايدلبارغ« خلال فصل صيف 1933. وقد أرسل لي ياسبرس كل كتبه بين 1934 و1938 مع »تحية ودّية«.

شبيغل: كنت تلميذا لهوسرل الفيلسوف اليهودي الذي كان يُدرس الفلسفة في جامعة »فرايبورغ« وقد أمر بتعيينك بعده في الجامعة. هل تعترف له بالجميل؟

هايدغر: أنتم تعرفون الإهداء في كتابي »الوجود والزمن«.

شبيغل: طبعا. ولكن علاقتك به تعكرت بعد ذلك هل تستطيع وهل ترغب في أن تقول لنا لم يعود ذلك؟

هايدغر: الاختلافات بشأن المسائل الجوهرية احتدت وتفاقمت. في بداية الثلاثينات، راح هوسرل يقوم بعملية تصفية حسابات مع ماكس شلير ومعي أنا بصفة علنية. ولست قادرا على إدراك السبّب الذي دفع هوسرل إلى التحامل على أفكاري الفلسفية علنا.

شبيغل: في أية مناسبة تمّ ذلك؟

هايدغر: في قصر الرّياضة ببرلين تحدث هوسرل أمام الطلاّب. وقد كتب أريك موهسام (Erich Mühsam) عن هذا التدخل في إحدى الصحف الكبرى ببرلين.

شبيغل: الخصومة ليست هامّة في حدّ ذاتها. المهم أنها ليست على علاقة بما حدث سنة 1933.

هايدغر: أبدا.

شبيغل: يقال أنك في سنة 1941 عند صدور الطبعة الخامسة من »الوجود والزمن« تعمّدت حذف الإهداء الأول إلى هوسرل.

هايدغر: نعم ... هذا صحيح. وقد وضحت السّبب في كتابي: (Unterwegs zur Sprache) حيث نجد ما يلي: »لكي أرد على ادّعاءات خاطئة ترددت مرات عديدة، لابد أن أقول أن الإهداء في Sein und Zeit ظل في مكانه في الطبعة الرابعة التي صدرت سنة 1935. وعندما رأى الناشر أن الإهداء سوف يُعرض الكتاب إلى بعض المضايقات، وربّما إلى المنع، طلب مني حذفه فقبلت شريطة أن يبقى على الملاحظة الواردة في الصفحة 38 والتي جاء فيها: »إذا ما تقدم هذا البحث خطوات إلى الأمام في مجال دراسة الأشياء ذاتها، فإن المؤلف يتقدم بالشكر إلى هوسرل الذي ساعده على تطويع موضوعه خلال سنوات الدراسة في فرايبورغ وذلك بفضل حسن توجيهه وقوة انتباهه إلى الأعمال المتعلقة بالفينومنولوجيا والتي لم تجد الفرصة لكي تنشر«.

شبيغل: إذن لا فائدة من أن نسألك هل أنت حقا منعت الأستاذ الشرفي هوسرل من الدخول إلى مكتبة الجامعة وإلى مكتبة منتدى الفلسفة عندما كنت رئيسا للجامعة؟

هايدغر: إنها نميمة وخساسة.

شبيغل: ولا توجد أيضا رسالة يوجد فيها مثل هذا المنع؟ كيف وُجهت مثل هذه التهمة؟

هايدغر: لست أدري.. ولا أجد تفسيرا لذلك. وأستطيع أن أبين لكم استحالة مثل هذه التهمة بذكر حدث ليس معروفا هو أيضا. عندما كنت رئيسا للجامعة أقالت وزارة التعليم أستاذين يهوديين من منصبهما. الأول هو فون هاوزر الذي حاز بعد ذلك على جائزة نوبل... والذي كان في ذلك الوقت أستاذا للطب ومديرا للمستشفى الجامعي. والثاني فون هيفسي وهو أستاذ للفيزياء والكيمياء. ولكني استطعت أن أعيدهما إلى منصبهما بفضل اتصالات قمت بها شخصيا داخل الوزارة. أن أقوم بمثل هذا العمل، وفي نفس الوقت أتصرّف مع هوسرل الذي كان متقاعدا في تلك الآونة، والذي كان أستاذي ومعلمي بمثل هذا التصرّف، هذا غير معقول تماما ثم أني منعت أيضا مظاهرة كان يريد الطلبة وبعض الأساتذة تنظيمها ضد الأستاذ فون هاوزر. في ذلك الوقت كان هناك ما يسّمى بـ(Privatdosenten) (6) (أي الأساتذة بلا كرسي) الذين تجاوزوا الحد وكانوا يقولون:»أنها لفرصة لكي تتقدّم على الأمام«. وعندما اتصلوا بي طردتهم.

شبيغل: أنت لم تحضر دفن هوسرل.

هايدغر: أريد أن أقول أن التهمة التي تقول بأني أنا الذي سعيت إلى قطع علاقاتي بهوسرل ليس لها أيّ أساس من الصحة. لقد كتبت زوجتي في أيار/مايو 1933 رسالة إلى السيدة هوسرل باسمنا وذكرت فيها اعترافنا لهما الدائم بالجميل. وأرسلت هذه الرسالة مرفوقة بباقة زهور إلى هوسرل. وقد رّدت السيدة هوسرل باختصار شديد. وأعلمتنا أن العلاقة بين العائلتين قد انتهت. إن كنت تقاعست عن التعبير عن إعترافي بالجميل وعن احترامي وتقديري خلال مرض وموت هوسرل، فهذا خطأ إنساني ... وقد اعتذرت عن ذلك أمام السيدة هوسرل في رسالة أرسلتها لها...

شبيغل: مات هوسرل سنة 1938. ومنذ فبراير 1934 قدمت استقالتك من رئاسة الجامعة. كيف توصلت إلى هذا القرار؟

هايدغر: هنا لابد أن أتوسّع قليلا في الكلام عن الجزئيات لتجاوز التنظيم التقني للجامعة، أي لتجديد الكليات من الداخل انطلاقا من أعمالها تجاه الأشياء ذاتها. اقترحت خلال فصل الشتاء 1933-1934 تسمية زملاء يصغرونني سنا في عمادات مختلف الكليات وكانت مقدرتهم كبيرة في ميادين اختصاصهم. وهذا دون النظر إلى علاقتهم بالحزب. وهكذا أصبح أريف فولف عميدا لكلية الحقوق وشادوولدت عميدا لكلية الفلسفة وسورغال عميدا لكلية العلوم وفون مولوندورف الذي أقيل من منصب رئاسة الجامعة عميدا لكلية الطب. ومنذ نهاية 1933 اتضح لي أن عملية التجديد داخل الجامعة مستحيلة بالنسبة لي بسبب مقاومة رجال التعليم والحزب لذلك مثلا... البعض من الزملاء انتقدني لأني أدخلت بعض الطلاب إلى مجلس إدارة الجامعة وهو أمر يحدث الآن بصفة عادية. ويوما ما دعيت إلى الوزارة وطلبت مني أن أعوض العمداء الذي عينتهم بزملاء آخرين. وقد رفضت هذا الاقتراح، وهدّدت بتقديم استقالتي إذا ما أصرت الوزارة على ذلك. وهذا ما تم بالفعل. في شهر فبراير 1934 استقلت، وكان هذا بعد عشرة شهور من بدء مهامي كرئيس للجامعة. وقد صمتت الصحافة الألمانية والأجنبية عن هذا الأمر بينما كانت أعلنت عن تعييني بشيء من الضجة.

شبيغل: هل توفّرت لك الفرصة في هذه الفترة لعرض أفكارك حول إصلاح الجامعة أمام الوزير المفوض من قبل الرايخ؟

هايدغر: متى في هذه الفترة؟

شبيغل: أنت تعلم أننا نتحدث دائما عن الرحلة التي كان من المحتمل أن يقوم بها »روست« (Rust) لفرايبورغ عام 1933.

هايدغر: الأمر يتعلّق بحادثتين مختلفتين: بمناسبة الاحتفال بذكرى شلاغتير (Schlageter)(7) في »شوتاو« بمقاطعة »فورتنبارغ«. كان هناك لقاء رسميّ قصير فيه صافحت الوزير. في ما بعد تحدثت مع الوزير في برلين في نوفمبر/تشرين الثاني 1933. وقد عرضت عليه مفهومي للعمل، وللشكل الذي يمكن أن نمنحه للكليّات. وقد أنصت إلي بانتباه حتى أني آملت أن يلقى العرض الذي قدمته وقعا وصدى عنده. غير أنه لم يحدث شيء. وأنا لا أستطيع أن أفهم لماذا يؤاخذني بعض الناس على هذا الحوار مع وزير التربية في حكومة الرايخ الثالث في تلك الفترة التي كانت فيها كل الحكومات الأجنبية تتسارع للاعتراف بهتلر، مانحة إياه الثقة المتعارف عليها في العلاقات بين الأمم.

شبيغل: هل تغيرت علاقتك بالقوميين الاشتراكيين بعد استقالتك من رئاسة الجامعة؟

هايدغر: بعد استقالتي اقتصرت على القيام بعلمي كأستاذ. وخلال فصل صيف 1934، قدّمت درسا في المنطق. وفي الفصل الثاني 1934-1935، درسا حول هولدرلين (Holderlin) وفي سنة 1936 شرعت في دروسي حول نيتشه. والذين كانت لهم قدرة على الاستماع فهموا أن ما قلته في تلك الدروس كان موجّها للقومية الاشتراكية.

شبيغل: كيف تمت عملية تنصيب الرئيس الجديد؟ هل حضرت الحفل؟

هايدغر: رفضت حضور الحفل الرسمي.

شبيغل: هل كان الرئيس الجديد عضوا في الحزب؟

هايدغر: كان رجل قانون. وجريدة الحزب Der Alemanne أعلنت عن تسميته رئيسا بعنوان كبير: »أول رئيس جامعة قومي اشتراكي«.

شبيغل: كيف تصرف الحزب معك؟

هايدغر: كنت دائما تحت المراقبة.

شبيغل: وكنت على علم بذلك؟

هايدغر: نعم: قضية الدكتور هانكه (Hanke).

شبيغل: كيف لاحظت ذلك؟

هايدغر: لقد جاء لزيارتي بعد أن تقدم لمناظرة الدكتوراه خلال فصل الشتاء 1936-1937 وساهم في المنتدى الأعلى الذي أشرفت عليه خلال صيف 1937. لقد أرسلته المخابرات لمراقبتي.

شبيغل: ولماذا جاء فجأة لزيارتك؟

هايدغر: بسبب الندوة التي خصصتها لنيتشه خلال فصل صيف 1937. وقد اعترف لي بعد اطلاعه على الطريقة التي كان يجري بها العمل، أنه لا يستطيع القيام بمهمّه المراقبة وأنه أراد أن يعلمني بذلك حتى أتمكن من معرفة ما يمكن أن يحدث لي في المستقبل.

شبيغل: كان الحزب يراقب بشدّة إذن؟

هايدغر: كنت أعرف أنه ممنوع الكلام حول كتبي... مثلا حول الدراسة التي قمت بها عن نظرية أفلاطون في المعرفة. وقد هاجمت مجلة الشبيبة الهتلرية بخساسة كبيرة محاضرتي عن هولدرلين التي ألقيتها خلال ربيع 1936 بالمعهد الألماني بروما. والذين يهمّهم الأمر يستطيعون العودة إلى مجلة أريك كرياك (Volk im Werden) لكي يقرأوا الهجوم الذي شن ضدّي ابتداءً من صيف 1934. وقد رفضت الحكومة الألمانية إرسالي لحضور المؤتمر العالمي للفلسفة الذي انعقد ببراغ 1934. كما أني لم أحضر المؤتمر العالمي الخاص بديكارت الذي انعقد بباريس سنة 1937. وقد استغربت لجنة المؤتمر بباريس غيابي فأرسلت لي عن طريق الأستاذ بريهياي أستاذ الفلسفة بجامعة السربون لتستوضحني الأمر، ولتفهم الأسباب التي جعلتني لا أكون ضمن الوفد الألماني. وفي جوابي طلبت من لجنة المؤتمر أن تستوضح الأمر لدى وزارة التعليم في الرايخ. وبعد ذلك جاءتني دعوة من برلين تطلب مني الالتحاق بالوفد فرفضتها. وقد بيعت نصوص المحاضرتين »ما هي الميتافيزيقا؟« و»جوهر الحقيقة« خفية ودونما غلاف. وقد سحب خطابي الذي ألقيته أثناء تنصيبي رئيسا، من المكتبات بعد سنة 1934 بأمر من الحزب.

شبيغل: ثم تدهورت الأوضاع بعد ذلك؟

هايدغر: في السنة الأخيرة من الحرب أعفي خمسمائة من أهمّ العلماء والفنانين من الخدمة العسكرية. ولم أكن أنا من بينهم بل بالعكس دعيت خلال صيف 1944 للقيام بأعمال تحصين على نهر »الراين«.

شبيغل: كان كارل بارت (Kart Barth) يقوم بالتحصين على الضفة الأخرى، الضفة السويسرية.

هايدغر: الطريقة التي تمّت بها الأحداث كانت هامة. دعا رئيس الجامعة كل الجهاز التعليمي وألقى خطابا قصيرا محتواه ما يلي: أن الإجراءات التي اتخذها موافق عليها من طرف الأجهزة العليا،

ومن الحزب القومي الاشتراكي. وهو سيقسّم الجهاز التعليمي، إلى ثلاث مجموعات أولا مجموعة لا يمكن الاستغناء عنها، ثانيا مجموعة يمكن ولا يمكن الاستغناء عنها. ثالثا مجموعة يمكن الاستغناء عنها تماما. وكان في رأس قائمة من يمكن الاستغناء عنهم هايدغر وريتر٭.

وخلال فصل شتاء 1944-٥٤٩١، بعد انتهاء أعمال التحصين على نهر »الراين« قدمت درسا بعنوان:»الشعر والفكر« (Dichten und Denken). وكان تكملة لدرسي حول نيتشه أي أنه توضيح لموقفي من القومية الاشتراكية. وبعد الدرس الثاني جندت قي الميليشيا الشعبيّة (Volkssturm) وكنت أكبر سنا من كل المجندين من الجهاز العلمي.

شبيغل: يمكن أن نلخّص الأمور على النحو التالي: في عام 1933، كإنسان ليس منخرطا في السياسة بالمفهوم الضيّق للسياسة، وليس في مفهومها الواسع، أنت انخرطت في سياسة هذه الحركة التي كانت تبدو كأنها انطلاقة...

هايدغر: عن طريق الجامعة...

شبيغل:... أنت انخرطت إذن عن طريق الجامعة في هذه الحركة التي كنت ترى فيها انطلاقة. بعد حوالي عام، أنت تخلّيت عن الوظيفة التي كنت تؤدّيها. وفي درس ألقيته عام 1935، ولم ينشر إلاّ عام 1953 تحت عنوان: »مدخل إلى الميتافيزيقا«:ما يروّج اليوم- ويعني ذلك عام 1935 باسم الفلسفة »القومية الاشتراكية، غير أنه لا يرتبط بأية علاقة مع الحقيقة الدّاخلية وعظمة هذه الحركة (أي مع اللقاء بين التّقنية في مفهومها الكوني، وإنسان العصور الحديثة)، اختار هذه المياه العكرة التي تسمّى »قيما« و»كليّات« لكي يرمي فيها شباكه. هل أضفت هذه الكلمات بين قوسين فقط عام 1953، أي عند صدور الكتاب- ربما لكي تشرح للقارئ عام 1953 أين كانت تكمن بالنّسبة لك »الحقيقة الداخلية وعظمة هذه الحركة«، أي »القومية- الإشتراكية-، أم هل أن القوسين المقصود بهما الشرح كانا موجودين في نصّك عام 1935؟

هايدغر: كانا موجودين في المخطوط، ويقابلان بالضّبط المفهوم الذي كان عندي في ذلك الوقت للتّقنية، وليس بعد التفسير الذي خصّت به التكنولوجيا في ما بعد كـ(GE- STELL) أنا لم أضع القوسين في الدّرس الذي قدمته فهذا يقوم على الإعتماد الذي كان عندي بأن المستمعين الذين كانوا قادرين على إدراك ما كنت أقصده. ولم يكن يهمّني أن يفهم الأغبياء، الجواسيس، والمخبرون شيئا آخر من كلامي...

شبيغل: الحركة الشيوعية بالنسبة لك كانت بلاشك من هذا الصنف؟

هايدغر: نعم، ومن دون أي شك في ذلك إذ أنها هي أيضا محدّدة بالتّقنية الكونية....

شبيغل: النّمط الأمريكي أيضا؟

هايدغر: ما قلته يمكن أن ينطبق على هذا النّمط أيضا. في غضون الثلاثين سنة الأخيرة يمكن أن يتأكد بوضوح أن الحركة الكونية لتقنية العصور الحديثة قوة تحدّد التاريخ، وأن عظمتها لا يمكن الإفراط في تقديرها. وهذه بالنسبة لي مسألة حاسمة لمعرفة كيف يمكن أن نقابل بشكل عام نظاما سياسيّا مع العصر التقني، وماذا يمكن أن يكون هذا النظام. أنا لا أستطيع أن أكون واثقا من أنه سيكون الديمقراطية....

شبيغل: لكن الديمقراطية ليست مفهوما عامّا فيه يمكن أن نضع تصوّرات مختلفة. السؤال هو أن نعرف إذا ما كان تحوّل هذا الشكل السياسي لا يزال ممكنا. لقد تحدثت بعد عام 1945 عن التّطلعات السياسية للعالم الغربي، كما تحدثت أيضا في هذا النطاق، عن الديمقراطية، وعن التعبير السياسي للنظرة المسيحية للعالم وفي نفس الوقت عن الدولة القائمة على القانون. وقد أطلقت على هذه التطلعات اسم »أنصاف حلول«...

هايدغر: قبل كل شيء، اسمحوا لي أن أقول أين تحدثت عن الديمقراطية وعن تلك الأشياء التي ذكرتموها في ما بعد. يمكنني أن أسمّي ذلك بالفعل »أنصاف حلول« ذلك أنني لا أرى في كل هذا إعادة نظر حقيقية في العالم التّقني إذ أن هناك خلف كل هذا، بحسب رأيي، فكرة تقول بإن التقنية في جوهرها شيء يمتلكه الإنسان. وبرأيي، ليس هذا ممكنا. إن التقنيّة في جوهرها شيء ليس بإمكان الإنسان لوحده التحكّم فيه.

شبيغل: من كلّ التيارات التي أجملنا وصفها، ما هو برأيك التيّار الذي يمكن أن ينسجم مع عصرنا؟

هايدغر: بخصوص هذا الأمر، أنا لا أرى شيئا. غير أنني أرى هنا مسألة حاسمة. يتحتّم علينا قبل كل شيء توضيح ما أنتم تعنونه بـ: منسجم مع عصرنا«، وماذا يعني »العصر« هنا، بل أكثر من ذلك، يتحتّم علينا أن نتساءل إذا ما كان الإنسجام مع العصر هو مقياس »الحقيقة الداخلية« للفعل الإنساني، هذا إذا ما كان الفعل الإنساني الذي يمنح المقياس ليس هو »الفكر والشعر« (DAS DENKEN UND DAS DICHTEN) بغض النظر عن الابتذال الذي سقطت فيه هذه العبارة.

شبيغل: من الواضح، أننا حين ننظر، نلاحظ أن الإنسان، في كلّ عصر، لا يتوصّل إلى حلّ مشاكله

أو إيجاد حلول للقضايا التي يواجهها، بآلته وحدها، حتى ولو كان هذا الإنسان مُطلق جنّ. ليس من الإفراط في التشاؤم أن نقول: ليس باستطاعتنا الخلاص بهذه الآلة التي هي بالتأكيد أكبر بكثير، نعني بذلك التقنية الحديثة؟

هايدغر: تشاؤم، هذا لا.. التشاؤم والتفاؤل هما في مجال التفكير الذي نحاوله في هذه اللحظة، لحظة اتخاذ مواقف جدّ قصيرة. لكن التقنية الحديثة ليست »آلة«، ولا علاقة لها بالآلات...


الحداثة مشروع لم ينجز بعد- بقلم : يرغين هابيرماز *


آفاق

الحداثة مشروع لم ينجز بعد
 بقلم : يرغين هابيرماز *

ظهر مصطلح الحداثة كمحاولة للفصل بين عصرين : القديم و الحديث. وكلمة
modernus اللاتينية إستخدمت للمرة الأولى في القرن الميلادي الخامس ، وللتفرقة بين الحاضر المسيحي والماضي الوثني الروماني ، وفي سياق متبدل عبّر مصطلح الحديث ، مجددا ، عن وعي العصر في موقفه من الأنتيك لكي يظهر نفسه ثمرة للإنتقال من القديم الى الجديد. وهناك من يحصر تاريخ مفهوم الحداثة بحقبة النهضة الإيطالية. إلا أنه تفسير محدود للغاية. ففي زمن شارلمان إعتبر الناس أنفسهم ( حديثين )، وكانت هذه الحال في فرنسا القرن السابع عشر. وعامة يتكرر مصطلح الحداثة في تلك الحقب من تأريخ أوربا حين شرط وعي العصر الجديد بقضية إعادة النظر في الموقف من الأنتيك ، وبشكل خاص حين كان يعّد النموذج الذي يمكن إكتشافه من خلال نوع معيّن من المحاكاة. غير أن أفكار عصر التنوير الفرنسي قلبت موازين الموقف ، وأزالت السحر الكلاسي للأنتيك من خلال الإيمان بالعلم الحديث والتطور اللامحدود للمعرفة والتقدم المطلق في الحقلين الإجتماعي والأخلاقي. هكذا ظهر شكل آخر للوعي ( الحديث ). فالحداثي الرومانسي جابه أفكار الأنتيك التي حملها الكلاسيون المحدثون بأفكار عصر آخر وجده في مثالية القرون الوسطى. إلا أن العصر المثالي الجديد الذي ظهر في مطلع القرن التاسع عشر لم يشغل ، كنموذج ، الموقع الدائم. وطيلة ذلك القرن برز من تلك الروح الرومانسية الوعي الراديكالي بالحداثة التي تحررت من جميع الروابط التاريخية المقيّدة. وهذه ( الحداثة ) الأكثر جدة قامت بمواجهة تجريدية بين التقاليد والحاضر، وخاصة النوع الأستيتيكي منها والذي ظهر لأول مرة في أواسط القرن وما زال يفرض وجوده. ومنذها صارت ( الجدة ) ميزة الإعمال المعتبرة حديثة. وهذه بالتالي تفقد موقعها وتصبح بالية حين تظهر جدة أسلوب تال. غير أن ماهو حديث يحتفظ على الدوام بعلاقة ما خفية مع القديم. وعامة فقدت العلاقة بين ( الحديث ) و( الكلاسي ) بصورة نهائية إحالتها التأريخية الملموسة.
و إكتسبت روح وأسلوبية أستيتيكا الحداثة سمات واضحة في أعمال بودلير وبعدها تطورت الحداثة في شتى الحركات الطلائعية كي تصل ذروتها في ( مقهى فولتير ) الدادائي ثم في السوريالية. وما يميز هذه الأستيتيكا تلك المواقف التي يكون جوهرها الوعي المتبدل بالزمن والذي يعبّرعن ذاته بذلك المفهوم المجازي للطليعة التي تجد نفسها قوة تغنم مساحات جديدة ، ومهيأة لخوض مخاطر كشف المجهول الذي يعني في معظم الأحوال ، المستقبل . كذلك فالوعي بالزمن الجديد والذي جاءت به فلسفة برغسون يعبّر وليس فقط عن تجربة ما يمكن تسميته بالحركية الإجتماعية وتجزئية الحياة اليومية ، إذ أن النوع الجديد من القيم والمرتبط بجريان الزمن والأشياء الوقتية غير الممسوكة ، وعبادة الدينامية ، يكشف عن الحنين الى حاضر نقي غير ملوث وبريء وذي ديمومة.. وهذا يفسر الأسلوب التجريدي للموقف الحديث أزاء موضوع( الماضي ). فالعصور المحدّدة ( بفتح الدال ) تكون محرومة من خصائصها الذاتية، والذاكرة التاريخية أبدلت بالفروض البطولية للزمن الحاضر ومعها مظاهر التأريخ المتطرفة. وهذا شعور بالزمن يحصل حين يتطابق الموقف لحقبة التدهور مع ما هو مضاد للتقاليد. كذلك تتوفر النية الفوضوية ، هنا ، في تبديد إستمرارية التاريخ ، وهي نابعة ،بلاشك ، من القوة الإنقلابية للأستيتيكا الجديدة. فالحداثة تتمرد على الوظائف التطبيعية للتقاليد وتستمد قواها من تجربة التمرد ضد كل ماهو قانون. والأكيد أن هذا التمرد لايهدف تحييد المعايير الأخلاقية أو النفعية. فالوعي الأستيتيكي يسهم دائما في اللعبة الجدلية بين الخصوصي والفضيحة العامة. وما يسحره هو الرهبة التي ترافق عملية التعرّض للمقدس، لكنه يتفادى على الدوام النتائج التافهة لتلك العملية. من ناحية أخرى فالوعي بالزمن والمعبّر عنه في الفن الطلائعي ليس لاتأريخيا ن بل قد نقول بأنه موّجه ضد ما يمكن تسميته بالمعيارية الزائفة للتأريخ. فالموقف الحداثي والطلائعي سعى ، حينها ، الى التصرف بالماضي لكن بأسلوب جديد حيث أخذت بعين الإعتبار تلك المقاطع من التأريخ التي أصبحت في متناول اليد ومفهومة بفضل المعرفة الموضوعية للتأريخية غير أنه في ذات الوقت ظهرت مقاومة أزاء التأريخ المحيَّد والقابع في المتحف. وحين يتناول فالتر بنيامين بحث روح السوريالية جاء وصفه لموقف الحداثة من التأريخ لكن بأسلوب ما بعد تأريخي
post – historic ، وضرب مثلا على ذلك بالثورة الفرنسية التي فهمت نفسها بهذه الصورة : الثورة إستشهدت بروما القديمة تماما كما تستشهد الموضة بزيّ من عصر آخر ، والسبب في أنها تحسّس بما هو راهن حين تتحرك في أدغال ما كان يوما ما ، وهذه هي فكرة بنيامين عن الحاضر كلحظة تجل وزمن يحوي نثار الحاضر الرسولي ، وبهذا المعنى تكون ، لدى روبسبير ، روما القديمة أثر الماضي والذي حصلت فيه لحظات تجل.


وكان ماكس فيبير قد حدد الحداثة الثقافية بأنها عملية تقسيم العقل الجوهري
substantial المعبّر عن الدين والميتافيزيقا الى ثلاث مناطق مستقلة وهي العلم والأخلاق والفن. و هي قد تعرضت لأحوال التنوع بسبب تقوض مفاهيم الدين والميتافيزيقا والتي كانت تجعل العالم متكاملا. ومنذ القرن الثامن عشر نظمت المشاكل الموروثة عن الأنظمة العقائدية القديمة بشكل يتيح لها أن تنتظم في مراتب جوهريات محدودة ، وهي الحقيقة والصواب المعياري والأصلية authenticity والجمال. و قد جرى تناول هذه الأمور فيما بعد كمسائل معرفة وعدل وأخلاق أو ذوق. كما كان بالإمكان أن تخضع البحوث العلمية ونظريات الأخلاق والقانون والخلق الفني ونقده ، للمؤسساتية. وكل حقل للثقافة صارت أمامه فرصة الإرتباط بتخصص مهني. وهذا التعامل المهني مع تقاليد الثقافة يكشف عن الهيكل الداخلي لكل بعد من أبعادها الثلاثة. فهنا تظهر مناطق أسماها فيبير بالعقلانية التعرفية – الأداتية و الأخلاقية – العلمية والأستيتيكية – التعبيرية. و أصبح كل شطر منها تحت سيطرة الخبراء المسلحين بالمنطق ، وأكثر من غيرهم. نتيجة لذلك تتباعد الشقة بين ثقافة الخبراء وثقافة الجمهور الكبير. وما تحمله الى الثقافة طرائق النشاط والتأمل يصبح على الفور ممارسة يومية. وأزاء هذا النوع من العقلنة الثقافية ينشأ خطر إفقار الحياة وتعرّض محتوياتها التقليدية الى عملية خفض القيمة.


وكان نموذج الحداثة الذي أعده فلاسفة عصر التنوير في القرن الثامن عشر يسعى الى تطوير العلم الموضوعي و الأخلاق والقانون الشمولي والفن ذي الكيان الذاتي ، وكل ذلك وفق المنطق الداخلي لهذا الحقل وذاك. في الوقت نفسه سعى هذا النموذج الى تحرير الطاقة التعرفية من تلك الأشكال المغلقة والمختومة ولكي توظف الطاقات المتراكمة للثقافة ذات الطابع التخصصي من أجل إغناء الحياة اليومية و تنظيمها بالشكل العقلاني. وكان مفكرو ذلك العصر على إقتناع ( ولم يكن محروما من الإستعراضية ) بأن الفن والعلم يعملان على إخضاع قوى الطبيعة ، بل فهم العالم والذات وتحقيق التقدم الأخلاقي و إحترام السيادة القانونية المؤسسة وحتى بلوغ السعادة، إلا أن القرن العشرين بدد تماما هذا التفاؤل. ففيه حصل التخصص البحت ، أما الأخلاق والفن فصارا حقلين منفصلين وللخبراء فقط، كما إبتعدا عن الإيضاح والتفاهم اليومي. رغم ذلك مازالت راهنة مشكلة الإبقاء على نيات التنوير ومهما كانت غير أكيدة وإلا فليس أمامنا إلا الإعتراف بأن كامل مفهوم الحداثة هو باطل .
ونحن نلحظ ببالغ السهولة في ما يخص الثقافة الفنية ، النزعة الآخذة بالإشتداد ، وهي الحرية المطلقة في تعريف الفن وممارسته. ففي النهضة الإيطالية ترسخ معيار الجمال وهيمنة الأشياء الجميلة، أما في القرن الثامن عشر فقد إكتسب الأدب والفنون الجميلة والموسيقى طابع المؤسسة كمنطقة نشاط مستقلة عن حياة الكنيسة والبلاط. وفي منتصف القرن التاسع عشر ظهر المفهوم الأستيتيكي للفن ( الفن للفن ). حينها بدأت في التصوير والأدب حركة وجد أوكتافيو باث جوهرها في النقد الفني لدى بودلير. فاللون والخط والصوت والحركة كفت عن أن تكون أدوات تقديم للشيء ولأن وسائط التعبير وتقنيات الخلق ذاتها أصبحت مادة أستيتيكية. كذلك فالفن في مرحلته الحداثية، ولنتذكر هنا السوريالية ، قد إنفصل عن الحياة ككل. وكان بودلير ، شأن شيللر
Schiller ، قد أراد خلق يوتوبيا وفاق إجتماعي عمادها الفن لكن بدلا عن ذلك ظهرت علاقات مواجهة ، فالفن صار مرآة نقدية تظهر تلك الصفات في الأستيتيكا والعالم الإجتماعي والتي لايمكن التوفيق في ما بينها. وهذا التحويل الحداثي يزداد زخمه كلما إغترب الفن عن الحياة وتوغل في قوقعته الذاتية. وفي الواقع نجد أن كل محاولات وضع علامة المساواة بين الفن والحياة و بين النظرية والممارسة و بين المخيلة والواقع أو محاولات إزالة الفوارق بين العمل الفني والآخر النفعي بين التظاهر الواعي والفورة العفوية أو الإدعاء بأن كل شيء هو فن وكل فرد هو فنان ونبذ جميع المعايير ، والمساواة بين الحكم الأستيتيكي والتعبير الذاتي عن التجارب ، أن كل هذه الأنشطة كانت تجربة بلامعنى ، بل محض عبث. فهذه التجارب عملت ، عن عمد ، لصالح هياكل الفن التي أرادت ، في البدء ، تصفيتها. وكانت الخطوة الراديكالية صوب رفض الفن قد إنتهت، وياللمفارقة ! ، بالإعتراف بتلك المعايير التي إستخدمتها أستيتيكا عصر التنوير. فالسورياليون أطلقوا ، حينها ، النداء الأكثر تطرفا إلا أن تمردهم فشل بسبب خطأين. الأول هو أن السوريالية حين حطمت أسوار منطقة الثقافة التي كانت قد نالت إستقلالها الذاتي ، بددت محتواها أيضا. و بذلك لم يأت التحرير بأيّ ثمار. والثاني جاء بعواقب أوخم ، ففي التفاهم اليومي ينبغي أن تترابط في ما بينها مسائل معيّنة كالأهمية التعرفية والتوقعات الأخلاقية ، والتعبير والتقويم الفرديين. فعمليات التفاهم او الإتصال تحتاج الى التقليد الثقافي الشامل لمناطق التعرف والأخلاق وممارساتها والتعبير أيضا.
وكان أمرا صعبا حماية الحياة اليومية المعقلنة من الإفقار الثقافي مع فتح ثغرة في منطقة واحدة للثقافة ، وهي الفن ، كي يمكن النفاذ من هناك الى مجاميع للمعرفة ذات طابع تخصصي. وهكذا تتوفر البراهين المعقولة لطرح مقولة إن تحسين الوجود اليومي لايتم إلا من خلال خلق شروط العلائق الحرة بين مناطق المعرفة والأخرى الأخلاقية – العملية والأستيتيكية – التعبيرية.
وما زالت في الغرب إشكالية الحداثة راهنة ، غير أن التركيز يتم على مسائل إصلاحها وتحسينها. وكم من دعوة تقول إنه بدلا من رفض الحداثة ومعاملة موديلها كأمر خاسر ، ينبغي إستخلاص الدرس من أخطاء تلك البرامج ذات البهرج والتي حاولت ، بالأساس ، رفض الحداثة، وبين تلك الدعوات التي تتحدث عن الفن كمثال يومي على المخرج. والواقع أن فن مجتمعات المدن يتوقع أن يكون المتلقي مستعدا فكريا وذوقيا و أنه صار خبيرا ، ومن ناحية أخرى يكون على إستعداد لتوظيف تجاربه الأستيتيكية في قضاياه الحياتية. كذلك بات أمرا واضحا في الغرب أن موديل الحداثة لم يستهلك تماما ، وفي صيغ كثيرة يسعى الى إقامة شتى الروابط بين الثقافة الحديثة والممارسات اليومية التي نجد مصادرها في القيم التقليدية ، إلا أنها مصادر ستنضب إذا إقتصرت على تلك القيم. كذلك فعملية نقد الحداثة الثقافية بطبعتها الغربية هي متقدمة للغاية وبسبب فشل برامجها الداعية الى رفض الفن والفلسفة.
ويصعب اليوم القيام بمحاولات تصنيف للمواقف الغربية من الحداثة ، فكل محاولة تعني تبسيطا لايخلو من المجازفة رغم تبلور الكثير من المواقف وإستقطابها.



والأكيد أن روح الحداثة بدأت تشيخ. وآخر مرة إستعرضت فيها حيويتها كانت في الستينات ، لكن بعدها بعقد واحد صارت الأصداء أكثر ضعفامما كانت عليه قبلها ب 15 سنة. وأوكتافيو باث نصير الحداثة لاحظ في منتصف السبعينات أن طليعة عام 1967 تكرر أنشطة ووضعات الأخرى من عام 1917 وأننا ( شهود موات فكرة الفن الحديث ) كذلك ظهر فيها مصطلح جديد ( فن ما بعد الطليعة ) ، وقيل إنه مؤشر لفشل التمرد السوريالي والدخول الى ( مابعد الحداثة ). وفي الواقع أن هناك تشخيصات أكثر صوابا لأزمة الحداثة بجوهرها الغربي. فمصدر أزمات مجتمعات الغرب يكمن في الفصل بين الثقافة والمجتمع. والثقافة الحداثية تسربت الى منطقة قيم الحياة اليومية وأصبحت الحياة مشبعة بالحداثة. وفي الغرب جعلت الحداثة عواملا مهيمنة من مبدأ التحقيق الذاتي غير المقيّد، والحاجة الى التجارب الخاصة وذاتية الحساسية المبالغ في صقلها. وهناك من يجد أن مثل هذا الموقف يحرر البواعث الهيدونية التي تتناقض مع إنضباطية الحياة ذات الطبيعة الشخصية في المجتمع. والأكثر من ذلك فالثقافة الحداثية لاتتفق البتة مع الأساس الأخلاقي لأسلوب الحياة العقلاني والهادف. وبذلك تلقى المسؤولية كلها عن تداعي الأخلاقيات البروتستانتية ، وهي ذات المظاهر التي أقلقت ماكس فيبير
M. Weber ، على ظاهرة ( ضد الثقافة ). و كان فيبير قد وجد أن الثقافة تتوجه بشكلها الحداثي ، وبصورة عدائية ، صوب اعراف و فضائل الحياة اليومية التي خضعت للعقلنة تحت ضغط متطلبات الإقتصاد وضرورات الأدارة. وفي الحقل السوسيولوجي هناك إقتناع بأن الحداثة قد نضب معينها ، وكل من يجد نفسه طليعيا عليه أن يقرأ حكم الموت على نفسه رغم أن الطلائعية توسع دائرة نفوذها إلا أنها كفت عن أن تكون خلاقة. فالحداثة تسود إلا انها ميتة.
والسؤال الذي يطرحه فصيل ( المحافظين الجدد ) أو ( السلفيين الجدد ) في الغرب إنما يخص السبل الكفيلة بخلق قواعد ونظم في المجتمع تحدّ من الحرية السلوكية وتجدد أخلاقيات السلوك والعمل ، كذلك فبأيّ قواعد جديدة يمكن مواجهة التنميط الناتج من أوضاع مجتمع الرفاهية كي تسود من جديد فضائل المنافسة الفردية ؟. وطبيعي إن قسما من هؤلاء يجد الدواء في الإحياء الديني ..
من ناحية أخرى لابد من القول إن الحداثة الثقافية تخلق تناقضاتها الداخلي. وبمعزل عن عواقب التحديث الإجتماعي نلقى في مفهوم تطور الثقافة ذاته أسبابا للتشكيك بنموذج الحداثة. وهذه حجج بيد من يعلن عن عصر ما بعد الحداثة أو من يدعو الى العودة الى شكل مبهم من أشكال ما قبل الحداثة أو الى رفضها المطلق. ولإزالة اأّّ إلتباس لابد من تكرار مقولة إن فكرة الحداثة مرتبطة تماما بتطور الفن الأوربي غير أن ما يسمى بمشروع الحداثة لايحدد إلا إذا تخلينا عن مسألة التركيز على الفن.


* يعتبر يرغين هابيرماز ( 1929 ) كفيلسوف وعالم إجتماع من أبرز ممثلي مدرسة فرانكفورت وممارساتها في حقل ما يسمى بالنظرية النقدية. ويتبين منحى هابيرماز في أن نظريته النقدية قائمة على أفكار ماركس حول تشخيص مصادر الهيمنة والمرجعية والتي تقيّد حرية الإنسان في المجتمع. والنص المترجم مصدره كتاب هابيرماز ( الخطاب الفلسفي للحداثة
The Philosophical Discourse of Modernity ) من عام 1985 . المترجم



الفوتغرافـي محمد آل تاجر مثل العراق فـي 50 معرضا دوليا وحظي بتكريم 11 بلدا - كربلاء – إيمان العارضي



الفوتغرافـي محمد آل تاجر مثل العراق فـي 50 معرضا دوليا وحظي بتكريم 11 بلدا




كربلاء – إيمان العارضي
بمحاولته لإظهار كرامة الانسان خلال بحثه عن الحقيقة، ثمة توق في فنه إلى التوحد بالآتي، كيف يستشعره، وما مدى علاقته بالواقع؟ هل الروح الفنية غاية تدرك أم وسيلة؟، هل يواجه المؤلف موته عند رسم آلامه أم يتألم حين يرسم موته؟ أم يتوارى خلف أشكاله العارية المتهالكة؟ أسئلة كثيرة اقتنصت فرصة الولوج من خلالها الى العالم السحري لفنان استدعى بعض الارتجالات بجانب السرعة في الأداء لأجل التعبير، دون التقيد بالمنطق الكلاسيكي، ليصبح الواقع هنا ليس نتاجا حسيا بقدر ماهو فكرة جمالية استحالت إلى واقع جمالي، ادخل الحداثة لفنه بطريقة مزج خلالها اللحظة بالخيال عبر التكنلوجيا الحديثة ليتوصل الى الواقع، هل نجح بذلك هذا الفنان الذي كشف عن بعد جديد للواقع الطبيعي - بحدود موضوعة الجسد - من خلال استخدامه لآليات وبرامجيات الحاسوب، والإبحار عميقا في كوامن المرئيات، بعيدا عن القشور، ليقترح شكلا جديدا، من خلال التنقيب في الجوهر، عن طريق إجراءات الحذف والإضافة والتمويه والاستعارة من الأيقون المصور، وصولا إلى الشكل الفني.
وفي حوار مع "العالم" قال الفنان الفوتغرافي واستاذ مادة التصوير محمد آل تاجر، إن" تجاربي هي محاولة لإظهار كرامة الإنسان، هي لحظات "بحث عن الحقيقة" لم تعد تنتهي بالنسبة لي حتى يقتنع المتلقي ان روحهم ووجودهم يغني حياتنا، هو التزام العدسة تجاه مشاعرهم وبرهان لوجودهم الابدي في إيقاع حياتنا اليومي بكل فروقاتهم الشخصية والاجتماعية، خلق تفاعل الاخرين مع لحظات مجتزأة من يوميات"هؤلاء"هي بدء خطوة نحو الاحتراف، حينما نجد تلك "الحقيقة" معا، قد تتحقق لحظتها وبشكل عملي مرحلة للاحتراف الفكري.معزز باحتراف تقني، وقناعتي هي أن الإنسان فقط هو من يخلق حوارا جدليا، بين مشاعر تتجلى في كل صورها في أغلب أعمالي، المجموعة الأولى (البحث عن الحقيقة) في العام 1990، ومجموعة (كتبات على جدار وطن) في العام 2006، وكان (الإنسان والوطن)، ومجموعة (أقنعة الجسد في رحاب الذاكرة) في العام 2006 أيضا، ومجموعة (365 يوم 365 وجه) هذه لوجوه أطفال كانوا ضحية الإرهاب والتهجير القسري، وأنجزت العمل بها في العام 2007، وعرضت في مؤتمر خاص في الأردن".
واضاف آل تاجر "الآن أعيد العمل بها بتقنية جديدة، لأن قراءتي لتلك الوجوه غير تلك التي كانت كصورة فوتوغرافية مجردة، وقت انجازها، فهناك ما يجب أن يضاف، كي يكمل حلقات الأحاسيس الإنسانية لهؤلاء، وللتقنية حضور، كي تصبح عاملا مضافا يصور تلك النقلة لدى المتلقي، ما بين العام 2007 والآن، فالتهجير زمنا ولى ولله الحمد، ولكن هل كان زمنا مجتزأ من ذاكرتهم وذاكرتنا، هذا ما احاول تدوينه من خلال الوجوه".
ويرى آل تاجر أن "دخول التقنيات الحديثة على الصورة في عالم المعالجة الرقمية، أصبح عاملا مضافا، ففي العام 1826 استطاع الفرنسيJoseph Niepce الحصول على أول صورة فوتوغرافية ثابتة، لمشهد طبيعي، من نافذة منزله، واستغرقت تلك الصورة تعريضا ضوئيا لمدة ثمان ساعات، وبعد جهود طويلة ومضنية استطاع أن يثبت تلك اللقطة، وسجلت في التاريخ، كونها أول صورة ثابتة في العالم، وذلك حسب كتاب تاريخ التصوير، بجامعة كمبريدج، وبعد عقود توصل العلم إلى ما لم يكن أن يحلم به نيبيس".
وأكد أن "التصوير الفوتوغرافي يستمد تلك الحقيقة على أنه أكثر الفنون تواصلا مع مبادئ الحداثة والتطور العلمي، ومعالجته فنيا وتقنيا، بتكنولوجيا حديثة يخرجه إلى فضاء أوسع، لفن رقمي أصبح جزءا مهما في تبويب الفنون البصرية والتشكيلية، أحيانا كثيرة، وبكل تأكيد فإنه فن يجمع بين فكر إنشاء وتكوين القطة، مضافا إليه فكر جمال وفلسفة جمالية منجز بفكر تقني وتكنولوجيا معاصرة".
والفنان محمد آل تاجر اختلف عن غيره من الفنانين، ليس فقط بنظرته للأشياء والوجوه وتوثيقها، وإنما في نقطة انطلاقه للعالمية، فعادة ما تكون الانطلاقة لكل فنان من بلده، الذي ترعرع بين تفاصيله اليومية، إلا أنه اختار أن ينطلق انطلاقة أخرى، بعيدا عن بلده العراق، رغم أنه لم يغادره إلا للمشاركة في المعارض التي تقام في بلدان العالم.
وللمصور والفنان التشكيلي العراقي محمد آل تاجر أكثر من 20 معرضا ومسابقة في التصوير الفوتوغرافي، شارك فيها، ونال خلالها عدة جوائز دولية، لم يكن بينها سوى معرضا يتيما على أرض بلده، وهذا ما كان مدعاة للتساؤل الذي كان من الطبيعي أن نوجهه إليه، فأجاب بأن "أغلب مشاركاتي خارج العراق، وأعمل عادة على المشاركة في المعارض الفنية ذات الطابع التشكيلي، وأحيانا أخرى معارض التصوير، التي تنظم برعاية الاتحاد الدولي للتصوير".
ولفت آل تاجر إلى أن له "أكثر من خمسين مشاركة دولية، مسجلة رسميا من أهمها معرض "Trierenberg Super Circuit"، ومعرض "Special Themes"، الذي يقام سنويا، في النمسا، وأعتز بأني المشارك الوحيد في هذا المعرض من العراق طوال الفترة من 2006 وحتى 2010، ولدي شهادة خاصة بذلك من الجهة المنظمة، ونشرت أعمالي في العديد من كتب وكتالوجات التصوير الغربية، إضافة إلى حصولي على العديد من شهادات التقدير والدبلوم والميداليات من النمسا، وإيطاليا، وفرنسا، وصربيا، وإيران، وتركيا، وتونس، والأردن، ولبنان، وقطر، والإمارات".
وعن الأسباب التي جعلته يذهب إلى المشاركات الخارجية، قال آل تاجر إن التجربة المحلية في العراق بات محكوما عليها بالفشل، حتى قبل التفكير في خوضها، وذلك لعدة أسباب، فهي بعيدة تماما عن الهدف الاجتماعي الثقافي، الذي يمنح المصور المساحة الكافية للتعامل بمرونة، مع كل محاولة، للوصول إلى صناعة صورة ذات قيمة إنسانية وفنية.
وتابع آل تاجرالقول، إن "الجمهور المستهدف، والمتلقي الخاص للفن في العراق، اعتاد أن يسجل حضورا متميزا في ساعات الافتتاح، في صالات العرض، ولكن في منتهى الصراحة، فإن حضور وسائل الإعلام، غير المبرر، في كثير من الأحيان، لعدم وجود منْ هو معني بالشأن الفني منها، وإنما الأغلبية غير معنية حتى بأي مشهد ثقافي أو فني" مضيفا "هذا الكم الهائل أصبح سمة مهمة، كونها تسلط الضوء على من حضر من السياسيين، وصولا إلى ضيوف المشهد الثقافي والفني، وقلة ما نجد محررا في صحيفة أو مجلة، يهتم بما يعرض من فن، وهذا ما يجعل الانتشار انطلاقا من المحلية ضربا من المحال، على عكس المشاركات الخارجية، التي تشهد حضورا إعلاميا متخصصا يساهم في صقل وإنجاح تجربة الفنان.
وحول احد تصريحاته الصحفية السابقة التي اتهم فيها الحكومة بأهمال الفن حاولنا إدراك السبب الذي يلمسه قال "أن الاهتمام الحكومي بالفن عموما غير جاد في العراق، لأسباب كثيرة، وفي أغلب الأحيان بسبب ضعف الإمكانيات المخصصة، وعدم قدرة أصحاب القرار على فهم ما يقدمه الفنان عموما، وهناك محددات كثيرة لاتجاهات فنية عديدة، تكاد تكون خطا أحمر لا يسمح للفنان بالاقتراب منه، أو حتى الحديث فيه، وباتت المعارض الجماهيرية التي تنظمها المؤسسات الفنية مرتبطة بمناسبة ما، فهي إكسسوار مكمل لتلك المناسبات لا غير".
ويؤكد آل تاجر أن "الفن في العراق يحتاج إلى متلق حقيقي، يتدرج به إلى منصة متقدمة في "سلم ماسلو"، لا أن يعود به إلى قاعدة الهرم في البحث عن الأمن والأمان، ويجب أن تتراتب بنائية التجربة بجميع عناصرها المختلفة، لتشكل مفهوما وهدفا ناجحا، ومن المهم أن نتذكر هنا بإمعان مقولة كودراي "وجوه الناس أفضل مرآة للمجتمع"، واصفا المسؤولين في العراق بأنهم في واد والفن في واد آخر، وأن وجودهم في النشاطات الفنية لا يتعدى الاستعراض، والذي لا يتوافق منطقيا مع غايات الفن".
وذكر آل تاجر مثالا للفارق بين الاهتمام بالفنان في العراق، وبين غيره من الدول، أنه "في أحد المعارض الدولية، التي أقيمت في أوروبا، كنت أنا وزميلين من العراق مشاركين فيه، وزملاء يعدون على أصابع اليد الواحدة من عدة دول خليجية، وفي الأعوام التي تلت بت أنا المشارك الوحيد من العراق، في الوقت الذي ارتفع عدد المشاركين من كل دولة خليجية ليصل إلى 20، وفي إحداها إلى أكثر من 40 مشاركا".
واعتبر المصور والفنان التشكيلي العراقي محمد آل تاجر أن "السبب ليس في قصور الأداء العراقي المتميز، ولكن في سبل وتفاصيل المشاركة، والتي تكلف المصور أحيانا مبلغ 200 دولار، ما بين تهيئة العمل، وإرساله عبر البريد الجوي، وتفاصيل أخرى، منها رسوم الاشتراك، فالمؤسسات المعنية في تلك الدول قدرت مدى أهمية التمثيل في مثل هذه المعارض، لنقل ثقافات بلادهم إلى الغرب، وهنا لا يوجد من يمثل المصور تمثيلا حقيقيا، وإن وجد فلا يوجد غطاء مالي كاف، أو أسلوب للتواصل، وفق معطيات التكنولوجيا الحديثة".


مدني صالح مقاربات في رؤيته التشكيلية والجمالية-عادل كامل



مدني صالح
مقاربات في رؤيته التشكيلية والجمالية


عادل كامل

     في استفتاء كنت أجريته لمجلة (ألف باء) قبل ثلاثين سنة، تضمن السؤال التالي: من هو ـ في تصورك ـ الناقد التشكيلي، الذي تضعه في المرتبة الأولى؟  فكانت هناك إجابة، من بين الإجابات، لفتت نظري، إذ تم اختيار الأستاذ مدني صالح ناقدا ً تشكيليا ً! فسألت مدني صالح، عن رأيه..؟  لا أتذكر الإجابة الآن، لأنني كنت لا أريد أن أقيده في حقل أخير، أو محدد، خاصة انه كان يكتب في الفلسفة، والنقد الأدبي، ويكتب القصة، والمقامة، والرواية ... فهل كان أستاذ الفلسفة في جامعة بغداد، الذي سمح  للفلسفة أن تغادر جدران الدرس الجامعي، لتعمل في الصفحات الثقافية، في مخاطبة اكبر عدد من القراء، وليس لبضعة طلبة دفعهم الحظ العاثر لاختيار حب الحكمة،في عصر: موتها! ناقدا ً تشكيليا ً؟
     لم تكن ثمة إجابة بنعم أو بلا، فقد كنت كتبت في عام 1985، بعد مقدمة توضح أن مدني صالح من أكثر المنشغلين بالتهذيب، تحديدا ً: بالرقي، وانه لم يذهب إلى السينما، أو المسرح، منذ عشرين سنة! أي منذ أواسط ستينيات القرن الماضي.. وانه زار معرضا ً تشكيليا ً في الجزائر عام 1972، ولم يجد غير الرسام في القاعة! على حد اعتراف مدني صالح لي .. ولكن أستاذ الفلسفة، المنحدر من بيئة تقع في عمق الصحراء، تنتسب إلى موروثات الحقب الحضارية المتأخرة للدولة البابلية ـ الأشورية، والذي نشر في بغداد،  في عام 1955 كتابه الأول [ الوجود ـ في الفلسفة الإسلامية ـ مقارنة ونقد] مع كتاب آخر نشره بعد عام واحد، حمل عنوان [أشكال وألوان] ومن ثم الدراسة في لندن، في جامعة كامبردج، والعودة إلى بغداد، بعد حادث غامض لم يفصح عنه الأستاذ صالح، ألا وهو انه أنجز كتابة الدكتوراه، بإشراف المستشرق (آر بري) ولم يناقشها، بل قيل انه رفض مناقشتها، لأسباب اجهلها!
    هذا كله دفع مدني صالح إلى: فن الكتابة. وفي الوقت نفسه، أمضى سنوات طويلة في كلية الفنون الجميلة، واشرف على رسائل واطاريح للماجستير والدكتوراه، في حقل: فلسفة الفن، وعلم الجمال. أي الحقول القريبة إلى الرؤية في النقد التشكيلي.
     وإذ ْ لم ينشر  الأستاذ صالح دراسة في هذا الحقل، يوضح فيها آراءه في التشكيل، وفي الفن التشكيلي العراقي، فان ثمة إشارات ومقاربات كثيرة متناثرة في كتبه حول الفارابي وخراب الفلسفة والسياب والبياتي وابن طفيل وفي ما بعد الطوفان وفي مقاماته الأدبية والروائية تسمح لنا بتتبع والتقاط شذرات من رؤيته الفلسفية والجمالية بالدرجة الأولى، كرؤية تبلورت بنقد مظاهر الاستنساخ، والاستعارة، والمحاكاة، حيث ظهر ذلك في نقده المتواصل للمتحدثين (المتشدقين) بالحداثة! في الوقت الذي كنت أتقاطع معه ـ بعيدا ً عن الهزل ـ في أحكامه إذ ْ كنت لا أرى أكثر انغلاقا ً من رؤيتنا التقليدية وتحجرا ً إزاء انفتاح العالم وحداثته، الأمر الذي جعلنا نضع الحواجز أمام ابتكاراتها، فلم يعترض علي ّ إلا بنشر مقالة حول مخطوطة لي اختار ـ هو ـ عنوانا ًلها، وأطراها وفق وعيه للحداثة، بصفتها ليست قناعا ً أو انتحالا ً، بل إنباتا ً.  وكانت مقالته بمثابة مقدمة لهذا النص [ ألفية الولد الخجول] الذي فسر الحداثة على نحو مغاير لأكثر مستخدميها تزمتا ً، وادعاءً:  على انه لم يكن واضحا ً إلا بدرجة الغموض، ولم يكن غامضا ً إلا في وضوحه، بصدد موقفه من (الحداثة)! لكنه، كما كتب: " إن شاء الحظ وصدت النية، مع التطوريين ومع أنصار التجديد."  الأمر الذي يوضح منهجه في محاضراته في كلية الفنون الجميلة. فليس مفهوم (التجديد) و (التطور) إلا مدخلا ً لرؤيته في تعريف لا يزيد التعقيد تعقيدا ً، مثلما كان يوصي بتجنب تعقيد الواضح السهل.  فما هو (التجديد) وما هي رؤيته للتطور، في الفنون الجميلة..؟ لم أجد إجابة أكثر صراحة، وضوحا ً، من قوله ـ والحديث كان يدور حول سر جماليات الشعر الجاهلي: " إنها حتما ً كذلك. إنها العادات..إنها الطقوس، إنها التقاليد . انه المعتقد.. انه يحمل مرآة الثقافة التي لم تكن إلا مجمل مرآة الحضارة التي لم تكن إلا مجمل تطورات أطوار (عاد) و (ثمود) و (طسم) و (جدس) و (تهامة) و (نجد) و (الحجاز) والربع الذي لم يخل قط من آيات المجد الحضاري الرصين ..." وقد شخص لي، بعد أن استذكر (عبلة) و (هريرة) و (خولة) و (عنيزة) و (مية) حساسية  المعالجة وجماليتها الفنية، بقوله " إنها التي يكاد فضيض الماء يخدش جلدها إذا اغتسلت بالماء من رقة الجلد، وإنها (فينوس) في (خولة) و (عنيزة) في (عشتروت) وظاهر أمر الأسطورة في باطن أمر الفلسفة، وباطن أمر الفلسفة في ظاهر أمر الأساطير. "
    هذا الديالكتيك، في الرؤية التطورية، يسمح للمبدع، كي يكون مجددا ً، أن: يكون متحررا ً من القيود التي تكبل رؤيته. وان يكون التحرر قائما ً على وعي بالحرية في تقنياتها، وان لا يكون ثمن (التجديد) تكسبا ً إلا في حدود الكسب الحلال، وان تكون فلسفة التجديد قائمة على إعادة التوازن:
ـ بين الإنسان ونفسه
ـ وبين الإنسان ومجتمعه
ـ وبين الإنسان فردا ً ومجتمعا ً من جهة والتاريخ كل التاريخ منذ بداية وعي الإنسان من الجهة الأخرى ضمن حدود اعتماد (الفن) وسيلة لاقتلاع الإنسان من موقع وزرعه في موقع أفضل: داخل دائرة اعتماد الإنسان غاية وقيمة عليا، مستندا ً إلى قانون: إن الوظيفة تبرر الوجود، وإنها السبب إليه، والدليل عليه، والعكس صحيح.
     وثمة مثال اخر ذكره مدني صالح، والحديث يدور عن مقارنة بين الفنون التي انجزها الفنان قبل الاسلام، كالعمارة، والخط العربي، والزخرفة، وباقي الفنون، قياسا ً بالشعر، فذكر: " كانت للجاهلية تماثيل من عمل النحاتين الجاهليين .. لكن هذه تماثيل صار اسمها اصناما ً ولم يبلغنا من خبرها الا انها كانت من الباطل الذي زهق حين ظهر الحق فلم تكن منه التماثيل ولم يكن منه النحت .. لكنك تستطيع ان تقدر انهم كانوا يصنعون التمايل حتى من التمر!"
     لكن الأستاذ مدني صالح، في مجال فن النحت، يرجعنا إلى أصول أقدم، حيث كن النحت الشرقي عامة (والبابلي خاصة) أرقى من النحت الإغريقي ومن النحت المسيحي .. وذلك لأنه  لامتناه بناء على رمزيته. وان الشعر، والنحت الشرقي: " كالرسم، وكالنحت، وكأي من وسائل الأداء لا يصير لامتناهيا ً إلا حين يكون رمزيا ً. والخلاصة أن هناك فنونا ًرمزية وأخرى مباشرة. فإذا كان تمثال (فينوس) يتمتع بالوضوح والواقعية والمباشرة، فان تمثال (أسد بابل) يقول الأستاذ مدني صالح: يدوخ الأفلاك! ثم يتساءل: أرأيت أن أحدا ً رأى أسد بابل، وقال انه صورة من صور تدجين (شمشون) و (هرقل) و (انكيدو) في صورة أسد! فما تحقق في (المعلقات) تحقق في سد مأرب.. وفي العمران ..والجسور وتنظيم القناطر .. وكلها قد بلغت أوجها قبل الإسلام. وان (حداثتنا) لم ترتق بعد إلى جماليات تلك المنجزات. حتى انه، وأنا أسأله عن الحداثة، قال بالنص "أنا لا أتداول مثل هذه الكلمات، ومثل هذه المصطلحات .. حداثة.. قدامة ..عصارة.. عصرنة" ثم قال " أني أولا ً ـ في سؤال حول التجديد " اني أولا ً أتداول كلمات نافعة في الحكم النقدي ومنها صح .. خطأ .. صواب .. جميل ..قبيح .. نافع .. ضار .. عادل ..ظالم .. مشرق .. معتم .. الخ لا حداثة عصرنة .. وعصرانية.. وتحديث التقصير في المعاصر الحداثانية!! " ذلك، في رؤية مدني صالح، أن الفن ليس فنا ً ما لم يكن جميلا ً. والفن لا يكون جميلا ً ما لم يكن عدلا ً عادلا ً. والعدل أساس الجمال والأدب والفن والعلم والحضارة والثقافة، وتاريخ البناء، في الماضي وفي الحاضر وفي المستقبل.  فالجمال، ليس بالمعتقد أو باللغة أو بالملايين، ولا بالدنيا كلها، إنما بالإنسان: الصادق العادل الجميل!
     وإذ ْ كنت أشرت، في (جريدة العراق 10/3/ 1988) أن الأستاذ مدني صالح، يبشر بجمالية نقدية، إحيائية، تنتمي إلى الأرض والتاريخ والأصول .. فقد قال لي  انه قد أنجز نظرية (الأوساط والتمدد) في التشكيل وفي التصميم. وهي تلخص حصيلة دراساته وتأملاته، في علاقة الوظيفة بالأشكال، والأشكال بالوظائف: إنها بلا مستقبل إن لم تكون قادرة على التكيف والمعاصرة بما هو نافع في مجال الانتقال من الجميل إلى الأجمل، على غرار قاعدة من قواعد سنن الحياة الطبيعية ومجرى سير التاريخ.


الخميس، 27 أكتوبر 2016

<iframe src="https://embed.ted.com/talks/alyssa_monks_how_loss_helped_one_artist_find_beauty_in_imperfection" width="640" height="360" frameborder="0" scrolling="no" webkitAllowFullScreen mozallowfullscreen allowFullScreen></iframe>

الثلاثاء، 25 أكتوبر 2016

أختام -عادل كامل











أختام

الختم الرابع


عادل كامل

[" لن أنسى أن أضع بين هذه الوصايا طريقة مبتكرة جديدة في المعالجة، رغم إنها يمكن أن تبدو تافهة بل مثيرة للضحك تقريبا ً، وان كانت ذات فائدة كبيرة في حثّ العقل على مختلف الابتكارات. ويحدث هذا إذا ما رحت تتفحص جدرانا ً ملطخة ببقع مختلفة، أو أحجارا ً من أنواع مختلفة، فإذا ما احتجت إلى ابتكار تصور لمكان ما استطعت أن ترى هناك وبشتى الأشكال مثيلا ً لمناظر طبيعية مختلفة، تزينها الجبال والأنهار والصخور والأشجار والسهول الشاسعة والوديان والهضاب، وتستطيع فوق ذلك أن ترى ثمة معارك مختلفة، وحركات سريعة لأجسام غريبة، وتعابير وجوه، وثيابا ً وعددا ً لا يحصى من أشياء يمكنك أن تجمعها في صورة متكاملة جيدة ...
  فلا تحتقرن رأيي هذا الذي أذكرك به، ولا تجدن ثقلا ً في التوقف مرة أخرى والنظر إلى البقع على الجدار، أو إلى رماد النار، أو إلى الغيوم، أو إلى الأوساخ، أو إلى أماكن أخرى مماثلة، ستجد فيها، إذا ما تفحصتها جيدا ً، من الابتكارات المدهشة ما يحث عقل الرسّام على ابتكارات جديدة سواء في ذلك أشكال معارك الحيوانات والبشر، أو مختلف أشكال المناظر الطبيعية والأشياء المرعبة، مثل الشياطين وأشياء مشابهة، تصبح سبب شهرتك؛ ذلك أن الأشياء الغامضة تحثّ العقل على ابتكارات جديدة"]
ليوناردو دافنشي

[1] ذرائع ـ دائرة الانغلاق

     كأن محركات اليد الخفية، المحمية بجدران الكهف، كانت تتلمس ـ ضمن حدود التجربة أو بدوافعها اللا شعورية ـ خاتمة ما لمصيرها. يد احد أسلافي في أزمنة ما قبل استخدام نظام اللغة، ان التشبث بالوجود، ليس إرادة ذاتية خالصة، إلا ضمن المشهد الكلي. فتلك الأصابع العنيدة التي كان عليها ان تظهر بسالة المخلوقات الأقل إدراكا ً بالنتائج، وما ستؤول إليه عدم المقاومة، كانت تخفي ذريعة أنها لن تقهر... لكن ضد من..ولأية غاية لا يشوبها الظن، أو أسى الفقدان، كانت تتمسك بأداء فعل غير مكلفة بانجازه، ولا تمتلك مبررات استحداثه بالوضوح الذي جعلها تنجزه!
     لم اكف عن النحت، بهذا الهاجس النائي، ولكن بالية رهافة أعادتني إلى نهار الغابات، وومضات رذاذ الماء تحت أشعة الشمس، والى برد المغارات، والى يوتويبيا ما قبل إدراك أنني جزء من أجزاء لن تشكل الكل، لأن الكل سيبقى وحده محميا ً بمسافاته، ومدياته الشاسعة، أو غير القابلة للقياس إن لم اقل غير الخاضعة له، عدت أدوّن في الفصل الرابع، من رواية علي ّ ان أعالج فيها موقف مخلوقات خرجت توا ً من المحو، وليس عليها، إزاء عاصفة كبرى، إلا ان تترك أثرا ً ..!
احد الشخصيات، في هذا الفصل، ـ وهو في دوامة أحاسيس لم تفقده وعيه في ان الفراغ، ليس عدما ً، بل ولا الأخير خال ٍ من الذبذبات، في الأقل ـ بلغ الحالة ذاتها التي كان يحدس ان لها الفعل ذاته. فكتبت تمهيدا ً يلامس لحظة تقدمه في الفراغ، لكن الذي ـ رمزيا ً ـ يعمل بالمشفرات ذاتها التي جعلت سلفي ـ قبل مليوني سنة ـ يحفر في الصخرة أثرا ًيتضمن حضوره في الغياب، وقد بدا له جزءا ً من نظام عمل الدورات، أو الاضطرابات، في الصفر المطلق:
     [ ليس لديّ ما استدل عليه كي أثبته، أو انفيه، ما اذا كنت أفقت، أو أنني مازلت عديم الوزن. الأمر الوحيد الذي لفت انتباهي أنني لم اعد أفكر، ولم اعد منشغلا ً بوجودي أو ما كنت عليه. لم يكن لي وزن، بمعنى أنا لم اعد كتلة. فانا، بحسب الترتيب، بلا أبعاد. الأمر الذي لمحته عابرا ً ان انعدام الوزن لا علاقة له بالفراغ، فانا في مكان مفرّغ، وإلا كيف مازالت تخطر هذه اللمحات في راسي؟
   تذكرت ـ ربما بسبب حبيبات لمعت أمام بصري ـ ان قوة ما سحبت بذور الهواء معها، ولملمت ذرات الزمن، ولم يبق شيئا ً لي، فأنا لا امتلك أداة للمقارنة، أو التعرف، فانا عديم الحواس، وهذا الذي يخطر ببالي، ليس وهما ً وليس امتدادا ً وليس بقايا ... إنما كيف أبرهن ان الزمن اختفىن كالجاذبية، كي أكون محاطا ً بهذا الفراغ ...! استدركت، وأنا اجهل تماما ً ما اذا كنت اعبر من الموت إلى الحياة، أم من الحياة إلى الموت، ولكن الذي لا استطيع معرفته هو أنني كنت اعرف أني فقدت هذه الأشياء كلها من غير اعترض! كانت ثمة قوة ما امتصت، سحبت، جذبت، فرّغت، الهواء، والضوء، والزمن ... لكنني مازلت اجهل لماذا لم تأخذ معها هذا الذي لم اعد أتحكم فيه، مع انه يكاد لا يترك إلا أثرا ً لا يدل عليه، ولا ... عليّ!
    استطيع الاعتراف أنها الأفكار التي طالما خطرت ببالي، لكن من غير صور، أو عمق، أو انعكاسات، أو أصداء. اذا ً أنا لست طاقة، ولست حبة رمل خارجة من الصفر، أو راجعة إليه، وإلا كيف لمحت تحول المدى إلى أشكال تمحو حافاتها حد أنها لم تترك حافة، أو ما يدل على أني كنت لمحتها، ولمحت تلك القوة التي لم تترك، إلا هذا الذي لا استطيع تفنيده، أو إثباته!]



[2]الزمن: حدود متناثرة ونائية
      ما الذي باستطاعتها ان تقوله، اللغة، بنظامها في التعبير، أو بما تخفيه، عبر رموزها، وإيحاءاتها، وصورها، ومشفراتها، وهي جزء من مشهد كلي التحولات: الانبثاق من الموت، وموت كل ما غدا وكأنه سيقاوم الفناء!
    إنها تركت (أثرا ً) وعلامة ما دالة على الحفر/ الانتهاك، وفي الوقت نفسه، أملا ً كامنا ً في آليات لاوعي الكائن الحي بالدرجة الأولى.
   فانعدام الهواء، واختفاء ذبذبات الأصوات، وانسحاب حبيبات الزمن، ونضوب ومضات الضوء،حد انسحاب أو انعدام الفراغ ... كلها لا تدل على لغة، راسخة، مقدسة، أو أبدية. فاللغات، شبيهة بالكائنات الحية، لها حضورها الملازم لها ضمن شروط وجودها، وزوالها. فعدد اللغات التي لا اثر لها، لا كلغة حسب، بل كآثار أو خربشات، بعدد المنقرضات. وعندما أعود إلى (النص) السابق، لم يغب عن ذهني، ان المراقب كان واعيا ً ان أثره، كمصيره، كلاهما بلغا درجة: الصفر/ العدم/ الفراغ غير المنتهي بحدود، لكنه ـ في وعيه ـ كان يمتلك قناعة ما بان الموجودات، لم توجد ذاتها بذاتها، فهي ليست فائضة، قياسا ً بعضها بالبعض الآخر، من ناحية، أو بوجودها في المشهد الكلي غير القابل للحصر، أو ان يكون مادة للوعي. فاللغة ـ كأداة ـ تبرهن أنها لا تقول ما يريد الكائن ان يتخطى حدوده، أي حدود الاستحالة التي وجد نفسه مكبلا ً داخلها، مع انه لم ينس ان الإجابات، أو الحلول، أو الامتداد، أو الديمومة، كلها كامنة في أصل الاشتغال، وفي بناء السؤال.
     ان اثر اللغة، نصا ً شعريا ً أو نثريا ً، أو بينهما، لا يقول الحقيقة أبدا ً، لأنه لا يمتلكها، ولكنه ـ كما في حالة هذا الشخصية ـ لم يستسلم للذوبان فيها. فقد اكتشف ان المعضلة لا تكمن في الزمن ـ المرور/ أو لأن المكان أزمنة تكاثفت ـ بل في الذي سكنه. لكن لغته مازالت هي لغة  من صنع وجود وجد قوانينه أقوى من ان يستبدلها بقوانين مناسبة، أو حتى ان يدحضها بما غذى أحلامه من ومضات، واستحالات!
     لغة ضد الاستحالة، سيبحث عنها، بعد ان وجد ان عناصر الحياة قد سلبت، جرجرت، سرقت، دمرت ...الخ منه. فهو حاول ان يوثق ذلك الذي مأواه قد توارى في الزمن! الزمن الذي لم يعد ينتج المتضادات، حد المحو، بل غدا يخترع لغة ما لوجود طالما سكنه، هو، شبيها ً بالذي لا وجود له، في وجود آثار الزمن، موزعة، ومتناثرة، في ساحة الصراع.

[3] المرآة ـ المسافة
     بلا وعي لا يستثني الرهافة عن آلياته غير القابلة للاستبدال (الحتميات)، لا يتكون الختم من غير مراقبة شاملة، حتى في تأمل ما يبدو محض مصادفة، أو فائضا ً، أو لا متوقعا ً، أو وهماً.
    فإذا كنت كررت، بأشكال محورة، حد التمويه، علاقة الرائي بالمرآة، فقد خطر ببالي السؤال التالي: أيهما يحدق في الآخر الوجه في المرآة، أم المرآة في الوجه! لكن هذا محض مدرج لسؤال: ما المسافة بينهما،ومن ناحية أخرى: أيهما أكثر بعدا ً عن الآخر؟ أتراهما سيلتقيان، أم أنهما لم يفترقا في الأصل...؟
    كان الوجه يعبر عما لا يحصى من أجزاء الأجزاء اللا متناهية كي يتعرف على نهايته. يذهب ليرجع. إنها دورة. لكن هل كانت عناصر المرآة تمتلك الرهافة ذاتها في أداء دورها الآلي..؟ فماذا كانت ترى المرآة في الوجه، عبر المسافة غير القابلة للقياس، أو ان تكون محض ممرات، وكيف باستطاعتي ان احدد دورها..؟
    لبرهة تجاهلت المرآة ـ بصفتها طاقة تجمدت واستحالت إلى جماد، خامة لها سمة الذاكرة، أو الحفظ، ولكنها كانت تتلاعب بالاتجاهات، كما أنها تحتفظ بوجه آخر حصلت عليه بفعل الانتقال وعبر المسافة المزدوجة، فتارة الأخيرة تؤدي دور الجسر، وتارة تؤدي دور الفجوة، وعمليا ً لا يمكن ان تكون هناك حقيقة إلا عبر هذه الازدواجية: التناقض. فالوجه النابض بمكوناته هو غير المنعكس في المرآة، والمرآة لا علاقة لها إلا بحدود أنها كانت تحتجز وجها ً بدا لها مصادفة، وأصبح حقيقة بحدود استحالة ان يكون، هو هو، وإنما الوجه ليس لكائن آخر.
   لكن ماذا عن سطح الماء ...؟الماء الذي يشترك، مع الجسد (ومع الوجه) في نسبة من العناصر، وليس عن الخامة التي بدت منفصلة عن الوجه!
   
[4] الماء: المرآة/ المسافة/ والأثر
     للمرة الأولى لمح الوجه هيأته في الماء، وللمرة الأولى اكتشف ـ في مسلسل التعرف على وجود له خصائصه الموضوعية ـ ما سيحمل عنوان: نرسيس. لكن هل حب الذات حد العشق هو الجانب الأخير من الاكتشاف..؟ ان الماء أدى دور المرآة، وسمح للوجه ان يتعرف على ذاته، ذاته هو، كما هو عليها، وليس كما في عيون الآخرين. فمرآة الماء أداة محايدة، فهل هي محايدة حقا ً، أم أنها ستفتح هوة لن تردم ترسخ عزلة (انفصال) الوجه عن باقي المكونات...؟ مرة أخرى عملت مرآة الماء بازدواجية زاخرة بأسئلة مولدة للإجابات، وبإجابات عملها لن يتوقف عند أسئلة أخيرة. فالوجه تعرف على 1 ـ ذاته 2 ـ وعلى الماء 3 ـ وعلى المسافة ما بينهما. وفي ذات الوقت تعرفت مرآة الماء على 1 ـ عملها 2 ـ  وعلى الآخر 3 ـ وعلى المسافة بين شكلين لهما خصائص مشتركة، ومختلفة في وقت واحد.
     لم انشغل كثيرا إلا بالمسافة وما يحدث عبرها من متغيرات في الوجه، وفي المرآة، وفي مرآة الماء، لأنها وحدها أدت دور الجسر ـ ودور الجدار، ومن ثم لا احد تعرف على الآخر، عن إجابات، وعن أسئلة لا خاتمة لها.
    ألا تبدو المرآة، مرآة الماء، والمرآة التي ستصنع أو تستحدث لأداء هذا الدور، ولتؤدي دور الذاكرة: تكدس أطياف الصور/ وأشباحها/ والصور التي تلتقطها لتتجمع فيها، كما ستتجمع في خلايا الذاكرة، ضمن عمل الدماغ المستحدث، لدى الآخر، كائنا ً حيا ً أو جمادا ً!
[5] العبور إلى الصفر

    فثمة مادة ما لديها خاصية الحفظ، فانا لا اعرف كم تجمعت، في مرآة الماء، وفي المرايا الأخرى، من صور؟ لكن تفكيك الذرة ـ كما اعُتقد أنها اصغر وحدة للقياس ـ لا يفضي إلى خصائص مكان له ثبات جدران: الرأس/ الرحم/ الكهف/ القاصة/ المتحف ..الخ بما هو مشترك بينها في الخزن، وفي الحماية، وفي الاستثمار، حيث يتهدم نسق الديمومة برمته! لا المرآة ستتذكر ما خزنته، ولا خلايا البصر ستحتفظ بما رأت إلا في حدود زمن زوال ما مر بها. فالموجودات وجدت كي تدرك أنها تؤدي دورها في العبور إلى اللا وجود، لا وجودا هي، الوجه أو المرايا، بل استحالة الاحتفاظ بما مر بها، وكنزته، وحسبته أبديا ً!
    فهل يحتفظ الختم ـ التوقيع، الشبيه بالمرآة أو المتحف أو الرحم أو القاصة، بما يتحدى فيه عوامل انحداره إلى المغيب، وهل لديه قدرة الاحتفاظ بالجهد الذي بذل من اجل ان يكون معدا ً سلفا ً، وبحكم القانون، لهذا المغيب؟


[6] جذور ـ   المرآة ومشفراتها

     ولأن الإنسان ليس مجموع مكوناته، إلا لأنه ـ بحسب احد معتقدات الشرق ـ امتاز بحمل (نفس) من الأعالي، وهي، بحدود الكلمات، الآلهة. فالإنسان المكّون من خامات الأرض، وجد هبة من مكان آخر. فهو ليس عناصر تجمعت مصادفة، وقفزت من العشوائية إلى النظام الذي شكله، بل جاء ـ بحسب هذه الومضات ـ حصيلة تداخل، وتركيب، وتوحد. انه غدا يحمل نفسا ً (روحا ً) جاء نتيجة عطف الآلهة على هيأته البدئية، ثم حصل على عمل: خدمتها! خدمة تلك الآلهة تحديدا ً. لكن المسافة ستتسع بين الأعالي والمخلوقات ـ التي حكمت بالعودة إلى عناصرها، وعزل (النفس)، مرة أخرى، عنها!
    تلك (الوظيفة) ستؤدي إلى فجوة. لأن عمل البشر لن يذهب إلى الآلهة، ولا أضاحيه، وفي مقدمتها إراقة الدم البشري، إنما ستذهب إلى بيتها، الذي استولى عليه عدد من أقدم سحرة العالم، كي لا يذهب عمل الإنسان إلى الأعالي، أو إلى من وهبه الروح، بل إلى حفنة راحت تتحكم بالتصورات، والموارد، وبالإنسان نفسه.
     وأختام الأزمنة التي وثقت أقدم أشكال (الاغتراب) تحكي ما هو ابعد من ذلك: الحرية بصفتها فخا ً، غواية، لعبة يذهب ضحيتها الجميع، لكن ضمن جدلية: الصياد ـ الطريدة.
   فالمرآة ستعمل في حدود مساحة كهف الساحر، ومعابده ـ وصولا ً إلى الرأسمالي، وخزائنه في رسم مشهد تطور الصياد إلى زعيم كلفته الآلهة بأكثر الأدوار ديمومة على الأرض: النهب، ومنح العنف مبرراته تزكية لنظام الاحتكار،في أكثر المعادلات استحالة على التفكيك..!
   فما ـ هو ـ حاجة الآلهة الأولى، في أقدم التصورات، لعمل ما تجمع في المرايا، عدا منح الاستحالة منطقها الأرضي لصالح طرف على حساب الطرف الآخر! لكن الذات التي رأت زوالها، قبل ان تراه في الآخر، لم تكف عن البحث في العثور على مبررات أنها ولدت لتمحو ذاتها. فلا خاسر إلا من ربح خسائره، لكن، في ما هو خلف المرآة، ومنحها لغز الأبدي، وقد عاد إلى: الصفر.
[7[ الفجوات ـ تتسع
     فكرت ان للختم الدور المعلن هذا بالإضافة إلى مخفياته. وسأفترض ان للختم ـ وللفنون والثقافات وللدوافع الجمالية ـ دور المرآة، لرائي ناء ٍ. كالمجتمع أو الضمير أو قوى ما لها هذا الدافع. ثم طورت آليات هذا النسق. فثمة ومضات أراها تأتينا من وراء مسافات غير قابلة للقياس: مليارات من السنوات الضوئية، وأكثر ـ لأنني محكوم بحدود أدواتي العملية والمخيالية ـ لكنها تصلنا بعد ان تكون قد فقدت وجودها، معناها وشكلها. وفي الوقت نفسه، هي لا ترى إلا الومضات التي فقدت وجودها برمته، ولم يبق منها، إلا ما هو آت ٍ من وراء المسافات:  لا وجود لمرآة يرى فيها أيا ً منهما ـ هنا ـ إلا ما سيسكن الطاقة، أو في أقاصيها، كالذي سكن المسافات بين الكتل، مدى الانجذاب، الشبيه بالفراغ، بما فيه من ( ! ) من محركات ستعيد إليه أشكالا ً ليس لها إلا متغيراتها، وتحولاتها، بحسب مكونات ما هو ابعد من الختم، والصانع، والمتلقي!
    فلا احد باستطاعته ان يرى الآخر، بمعنى: لا احد رأى. لأن الماضي، وحده هو الجذر الذي لانهاية له في توغلاته، لأن الحاضر  هو ما لم يحدث (يكتمل) بعد، كلاهما، لا يتحدان إلا بما قبل الزمن، وقبل المسافات، وقبل الحركة.
    انه ليس الماضي، بل السابق عليه. الأمر الذي يجعله ان يضع حدا ً للاستحالات، ويتركها تكمل دورتها، خارج ما بين المرايا. فلا احد رأى الآخر إلا وقد اكتملت الرؤية! أما ان تكون قد أؤجلت، بانتظار ان تكتمل، فتلك قضية ستغدو قد خضعت لبرمجة كلية بالغة التجريد، وخارج نطاق الإدراك البشري.

نصوص علي النجار
شهادات وأختام في عصر اليورانيوم
عادل كامل
[1] بذور النشأة والانشقاق
 لم يغادر على النجار مأواه، أو المكان الذي ولد ونشأ فيه، إلا ليكتشف ان الجنين الذي سيتكون، سيتكّون في رحم المنفى. انه افتراض يوازي نهاية ما بعد الحداثة، وكعودة إلى اتجاهات مغايرة للعولمة. فالمنفى ليس اختيارا ً، كالانتحار، كلاهما لا يمثلان إلا إرادة مقيدة. فالبذرة ـ إشارة لتكّون خلايا الخلق البكر ـ التي تولد وتنمو وتنضج وتموت أو تدُفن في أرضها، لا تؤدي إلا دورتها، إنما ثمة بذور ستجد أنها منشغلة بالبرهنة على أنها عنيدة، لا في دحض فنائها، بل لمنح الديمومة اللغز ذاته الذي كونها، أو مازال تعمل بدوافعه.
     كان علي النجار، في بغداد، حتى قراره بالبحث عن أيد ٍ قد تنقذ حياته من مرض عضال، كما يقال، في أي مكان عدا الأرض التي راحت تسحق حياته. كان منشغلا ً بصناعة أختام لم يسمح لها ان تحافظ على منطق الشكل: الصورة، بل ذهب ليبحث ـ ويجد ـ ان الدوافع لن تتوقف عند حد من الحدود. وان العلامات (كأجزاء أعيد بناءها) ما هي إلا علاقة رهافة مهمتها ان لا يدع الجمال فائضا ً.
    كانت أساطيره ومخلوقاته وليدة اشتباك بحثا ً عن الممكن في المستحيل، وربما عن المستحيل في الممكن، فرسوماته لا تمتلك غواية، أو ترف الرسامين الباذخين الذين لا علاقة لهم بما كان يحدث، لا في المكان ذاته ولا في أي مكان آخر من العالم، بل كانت تتوخى تفكيك المرآة وبناء علامات لا مرائية، لكنها ليست من صنع العدم! كانت الحرية، لكل من يدعو إليها، أو يقود الآخرين إليها، تتطلب محكا ً للبرهنة على أنها ليست غواية، أو كمينا ً، أو فخا ً توارت خلفه ما لا يحصى من الدوافع. فالرائي طالما غدا ضحية أحاديات تتحكم بمصيره، لتتركه، في النهاية، بلا مصير!
     أختام تحكي كل ما سيكون حجابا ً بفعل الكلمات (لأننا أسرى لغتنا، وأنظمتها) فالرسام لم يرسم إلا تلك المناطق وقد جردت من الهواء، والماء، ومن الرحمة! فهل باستطاعتي ان أتصوّر أشد (وحشية/ ووحشة) من حياة تتحول فيها (الرحمة) إلى آليات لإنتاج سلع غايتها الربح، وغايتها الأبعد، تدمير الربح نفسه!
     علي النجار استمد ديناميته بهدم نظام ان العالم يتكون من أشياء، وسلع، ومكاسب، لكنه سيديم بطولته بعد ان جردها من هذا كله، بل، ومن البطولة تماما ً. فان تكون بطلا ً، بحكم هذا النسق ـ السياق ـ تكون أقمت مجدك على تدمير الآخر وعلى خسائره، بعد محوه! إنما أقامها كانتماء إلى عالم بالإمكان ان يخلو من حروب الموتى، وحروب لا يقودها إلا الموتى.
[2] الاحتفال باليورانيوم!
     هل باستطاعتنا ان نجد ذلك في نصوص علي النجار، وهي تفكك جحيم الألوان، وقد اشتبكت، ضمن العناصر، بخلق مشاهد لا تحدث إلا في الاستثناءات النادرة، اشتباكات شبه يومية، بل والتي أخذت تتسلل إلى الجميع، والى كل من حاول تجنبها. فالفنان كان يرى استحالة وجود مناطق آمنة، في الرحم، الوطن الذي غدا جحيما ً للإخصاب! هل باستطاعة أختامه ان تهدم أقنعة عالم تحول فيه نظام حرب الجميع ضد الجميع إلى قانون لا ينجو منه احد. ففي عصر البرية، قبل اكتشاف/اختراع النار، وقبل عصر السحر، والمعابد، والأفران النووية، وقبل عصر الشركات الساحقة للقارات، بعد حروب الصواريخ المزودة بأطنان من مواد الفتك، النظيفة!، ومن برامج التفكيك ..الخ في تلك الأزمنة الأقل قسوة، كانت حتى البكتريا  تجد لها مأوى للخلاص،  فقد كانت للرحمة آثار مازالت علاماتها حاضرة وشاهدة ومحمية بين الطبقات العميقة للصخور البركانية!  
     أختام علي النجار مكثت تحافظ على مشفرات الرموز، وعناصرها، حيث الأمل لم يكن وهما ً، إلا بحدود المشاركة، لا بحدود تبادل الاجتثاث، والمحو...! فهي تحكي كم هي بذور الشمس قادرة على إخصاب رحم الأرض! لتقيم عرسا ً، مهما كانت تأويلاته تقودنا إلى مناطق نائية، إنما مازال يمتلك صدى ان الحياة ليست فائضة، أو من صنع العشوائيات، أو أنها محض جذام!
   أنا كتبت ذلك، قبل ثلاثين عاما ً، عندما كنت أولي الآخرين ذات المهمة التي سيضطلع بها صديقي علي النجار، وهو يكرس فنه للاحتفال بنكبات اليورانيوم!
 [3] ـ ملاذ المرارات ـ الحياد المستحيل

     يا له من احتفال...!
 في أيام حروب الحجارة، والسهام، والبارود، والكمائن الصغرى، كان باستطاعة الباحث عن ملاذ ان يتجنب الموت، وان يستعيد حياته، بعد الارتواء من القتل، وسفك الدماء. وحتى أبشع حالات الذعر، لم تكن قد بلغت ذروتها، كي يصبح طلب الموت وحده كالحالم بالحصول على جناح في الفردوس! لأن للنجاة منافذ ليست بلا وجود، أو فقدت.
   ربما هناك تلك الإبادات التي ستستلم إليها الكائنات، قبل ان يتحول الذعر إلى وعي به، والى فرصة تأمل، والى انشغالات فلسفية ... ففي تلك الإبادات، كالبركان الذي يحول نهار الأرض إلى ليل متجمد، أو كسقوط نيزك، أو انخفاض حاد في درجات الحرارة، للحد الذي تتجمد فيه بذور الخلق ...الخ لا فرصة للبحث عن كوكب آخر، أو حتى تخيل إمكانية الحصول على عزلة في الفضاءات البعيدة، لكن درجات الحرارة الباذخة في الارتفاع، كانت تحول العضويات، إلى هواء، والى فراغات، والى ما يشبه الأثير الذي يتخذ أشكالا ً بفعل تجمد العناصر المنصهرة، وتحولها إلى مجسمات!، لكن، لها أشكالها، وتفاصيلها الدقيقة أيضا ً.
    ثمة ذعر ... مازال صداه يأتينا، كرائحة غبار تلك البراكين، والنيازك، ممتزجا ً في الملامح، وفي الهيئات.
   فكانت رهافة علي النجار، لا تكمن في رصد أشكال الانتهاك ـ التقليدية ـ للغالب أو للخاسر، بل للخسران الذي تعرضت إليه الحياة، عبر أزمنتها الطويلة. ولعل سؤال: لماذا تعاقب ارق المخلوقات، هذا العقاب، يوجه إلى الخاسر الأكبر: الصياد أو من سيقوم بدوره. لكن نصوص الفنان ليست إعلانات لصالح طرف ضد الطرف الآخر، وإنما لمنح الفن لغزه، كي يتمتع بهذا الدور الذي لم يفقده بعد!

[4] خلايا تفتك بخلايا
    فهل تراه يحتفل، أم يحتفي، أم يدحض أي مفهوم للاحتفال والاحتفاء، وهو يعيد قراءة نتائج ما ستؤول إليه الحروب، والتصادمات (إن كانت قذرة أو نظيفة)، التي لا تستخدم السهام، والبارود، والخردل، بل تستخدم أكثر أنواع الأسلحة فتكا ً، من غير الم، وربما من غير اثر! الأسلحة التي أصبحت شرعية للاستخدام، منذ هيروشيما، حتى يومنا هذا، لكنها التي أصبحت تخلف آلاما ً، وتشوهات، ولا أخلاقيات انحدر إليها المشهد الكلي، وغدا خارج حدود الاحتمال.
    علي النجار يعنّون برنامجه للعمل الفني لا كإعلان لجماعة مسالمة، أو تنتمي إلى منظمات الخضر، أو الرفق بالحيوان، أو تنتمي إلى فلسفات البيئة (الايكولوجي)، ولا إلى اللا عنف، ولا إلى بعض أنقى الديانات الهندية، التي ترجعنا إلى مفاهيم العدالة، في سومر فحسب، بل إلى ضرب من (الانطولوجيا)، وقد أعاد بنائها بوعي بدا له متحررا ً من قيود المنفى، وما ورثه من مشفرات مدافنه القديمة، ولكنه الوعي الذي يتقمص رسالة ما، غير ربحية، أو تعمل بالأقنعة، تتحدث عن اثر (اليورانيوم) في الأشياء، والنبات، والحيوان، وفي مقدمتها: الإنسان.
     انه لا يمرح، ولا يصنع لوحات باذخة الجمال، للصالات، مع ان الذين يواجهون الموت، يمتلكون أحيانا ً قدرات نادرة على إنتاج الطرائف، بمعنى: الأمل، من غير ارتداد أو لجوء إلى الحميات الوهمية. فهو يحدق في خلايا تفتك بخلايا! فالمشترك هو الانشطار، وهدم برامج الكائنات الحية، ودفع حياة المصاب إلى ذروتها:  لا جدواها، بعد ان أصبحت فائضة.  لكنه يضعنا في مفهوم آخر للانشطار، خاص بالزيادة السكانية (السرطانية)، إزاء ثابت الإنتاج ومحدوديته المالتوسية *،أي إزاء رداءة المعايير المتعارف عليها منذ غدا نظام البقاء للأقوى راسخا ً. انه، عمليا ً، يحدق في حضارتنا المعاصرة، ويعرضها من غير رتوش، أو تزوير.
* ـ دوّن مالتوس في كتابه بحث في مبدأ السكان عام 1798 سلسلتين أصبحتا شهيرتين:
ـ السلسلة الهندسية لتزايد السكان (التزايد الهندسي)
ـ السلسلة الحسابية لنمو وسائل المعيشة (التزايد الحسابي) . مستنتجا ً بضرورة وضع حد لزيادة السكان، لتلافي الحروب. ولكن كارل ماركس فند هذا الرأي، وأرجعه إلى عوامل تخص النظام نفسه، وليس إلى الحتميات. انظر (التنمية صفر) ريموند ريشنباخ/ سيلفن اورفر. ترجمة: سهام الشريف. وزارة الثقافة والإرشاد القومي ـ دمشق ـ  1978  ص7

  [5] لأجل القتل
    ليس لأن اليورانيوم محض خامة إبادة، أو احد عناصر أسلحة الاشتباك، بل لأنه يحكي ـ من غير شروح ـ صمت الحكمة، بل موتها. فعلي النجار حفظ عن ظهر قلب مقولات: موت الفلسفة وموت الفن وموت الإنسان نفسه، لكنه حفظ أيضا ً ان شيئا ًما أقوى من الموت، ليس هو مشفرات بذرة الخلق، بل استحالة تدمير نظامها العنيد بعد! فالرسام يصوّر عالما ً لم يتطرق إليه (المعري) في زيارته إلى العالم الآخر، ولا (دانتي) في جحيمه، لأنهما، لم يمتلكا تصورا ً حول انشطار الذرة وما تكونه من طاقة مروعة على: المحو. لكن المحو النووي، لن يتوقف عند الموت، أو دفع اصلب الفلزات كي تستحيل إلى أثير، بل ستترك أثرها في إنزال اشد التشوهات في الأجنة، وفي المواليد، لأن اليورانيوم، سيعمل ـ كباقي المستحدثات في هذا المجال ـ على تخريب، وتدمير الخارطة الجينية للموروثات التي صمدت في البقاء مع نشوء بذور الخلق قبل مليار ونصف المليار سنة. وقد كان الفيلسوف البريطاني برنارد رسل قد لفت النظر في كتابه (هل للإنسان مستقبل؟) ما يحدثه استخدام هذه الأسلحة، لا في الجسد فحسب، بل في التدهور الأخلاقي أيضا ً. فالفنان يرث ـ وهو يعيد القراءة ـ مشروعا ً لسلوك لا ينحدر إلى عصور الزواحف، والثدييات، بل إلى ضرب من أفعال (الشيطان) التي وثقها المدوّن الحكيم السومري، في نص (العادل المعاقب)، أيوب، ليمثل (اليورانيوم) سلاحا ً دالا ً على أفعال (الشيطان) ـ أو أي اسم آخر للذي يجد في التعذيب تسلية من غير دوافع منطقية، عدا القتل لأجل القتل ـ تحسينات عليه، كي لا يكتفي بالفتك، بل كي يحافظ على ديمومة إنزال شتى صنوف التعذيب. فهو لا يبرر لدوافع اقتصادية، أو من اجل المجد، والزهو بالنصر، أو بدوافع الكرامة، أو من اجل العالم الحر، المتعدد الهويات، الديمقراطي، والشفاف، بل لدوافع ـ كما لفت فرويد النظر إليها ـ ان الإنسان لم يخلق لبناء حضارة، ولا كي يحمل بذورها! مما سمح له ان يعمل على تفكيك النظام (البشري) برمته، جاعلا ً من الموت، كالحياة، آليات لا واعية تعمل خارج الإرادة، ومنطق العقل.
    علي النجار، رأى آثار اليورانيوم، وهي تهدم البيوت على ساكنيها الحياديين، غير المشاركين في جرائم إنسانية، اللهم عدا ركونهم إلى الصمت، وشاهد، عبر بعض الفضائيات، مسلسلات وبرامج ما تركته الأسلحة، لا في مكان واحد، بل في الفضاء الأرضي من القطب الشمالي إلى جنوبه، عبر البحار والغابات والصحارى.
     وعلي النجار، كفنان لم يعد ينتمي إلى ارض، أو قارة، أو منحازا ً إلى طائفة، أو ديانة، بل إلى ذاته، في قرية تحولت إلى أسواق، وأسوار، وفراغات مشغولة بالفضائيات، وبشبكات ألنت، والفيس بوك، في غسل العقول ـ المصابة بالبراءة ـ راح يصنع أختامه، بعيدا ً عن البذخ، وبعيدا عن أقنعة الرفاهية.
[6] الجسد: الشخصي والعام
     بين نصوص الفنان السابقة، ونصوص عامي 2010 ـ 2011، لم يغب الجسد (من الرأس إلى أخمص القدمين)، بل أفصح عن اختيار الفنان، وعن تنوع زوايا المشاهدة. الجسد بصفته امتدادا ً، حدثا ً، ومركبا ً، وأداة معرفة، يغدو في الفن مدخلا ً لعالم آخر، غير السطح، وغير الشكل. فالجسد الذي شهد طفرات، وتحسينات، وتهذياب، مكث يعلن عن محنته: تارة يجتاز العقبات، وتارة لا يتستر عليها، وفي الغالب يكون قد اجتازها نحو أسئلة لا تقود إلى إجابات، بل إلى استحالات.
   في نصوص (اليورانيوم) يترك علي النجار جسده يتحدث عن خفاياه، لا يعلن عن استعراض، أو أناقة، أو تهذيبات جمالية، بل عن الأذى الذي سكنه، حيث أصبح جسده مأوى للأسئلة والإجابات معا ً. فالمطلق ليس بانتظار كلمة تتفوه بها مخلوقات الأرض، المكونة من الوحل والدم، الواهنة، والمبرمجة بحدود منفاها، واستحالة عثورها على خلاص، فلا وجود إلا لفراغ مشغول ببذور وذرات وومضات، وإشعاعات ذات أذى بالغ ـ كأشعة غاما وما يصلنا من المناطق السحيقة من الكون ـ الجسد الذي تحول إلى علامة حضور، في الأرض، منفاه الذي التصق به، وتقيد بغوايته التي لم يخترها، ولم يقدر على تهذيبها،غدا علامة غياب.
     على النجار لم يرسم موت الفن، أو موت الجسد، أو موت الإنسان، بل سكنه، وقلب المعادلة. فجسده غدا متحفا ً، مدفنا ً/ ومساحة للمصائر، وأخيرا ً مشهدا ً له يستعرض فيه عبوره من المجهول إلى مجهول آخر.
     فاليورانيوم علامة (حضارة) استخدم فيها الإنسان كل أقنعته كي يجعلها لا تحكي ما هي عليه: الفتك. الفنان لا يذهب ضحية اختياراته، وأفكاره، وفلسفته، أو ما تبقى من أحلامه، بل جعل وعيه (الفني) شهادة أمام لا احد! لأن المتلقي، في الغالب، شريك في الإثم!


تأملات أثناء العمل ـ وقد سبق أن نشرت حلقات من التجربة تحت عنوان: اختما معاصرة.